ديوان رائع يفيض عذوبة بالغزل، ويشع أنفة و حمية حين يذكر مغازيه و وقائعه. وهو على هذا و ذاك سهل هين قريب لا يكاد يضم كلمة متقعرة أو لفظا مستهجنا مما يجب شرحه، بخلاف ما يتوقع من شاعر جاهلي فحل.
هو أول ديوانٍ كاملٍ أقرؤه لشاعر، وعنترة شاعر شاعر، ولو لم يقل في شعره كله سوى: ولقد ذكرتُكِ والرماح نواهلٌ / مني وبيض الهند تقطرُ من فمي فوددتُ تقبيل السيوفِ لأنها / لمعت كبارق ثغركِ المتبسم لكفاه شعراً. شعرهُ عذبٌ سلسٌ سهل في حين، وموغل في تعقيه الزمن الجاهلي في حين من ناحية المفردات التي صاغتها البيئة؛ لكن هذا بمنأى عن الانتحال في بعض ما أورد في الديوان من غير شعره، يتضح هذا من النَّفَس. لا ريب أن شعر عنترة يستحق أن يُقرأ كما هي قصته المعروفة؛ خصوصاً أنه صاحب إحدى المعلقات السبع، أو العشر في روايةٍ اخرى.
لشعر عنترة طعم خاص، فشعره يرسم صورة هي في حقيقتها البحتة صورة مرعبة وأحيانًا مقززة، لكنه يرسمها بطريقة شاعرية رومانسية وكأنها تحفة فنية عالية الجودة. فها هو يصف خصمًا له مضرجًا بدمائه ويحتضر محركًا أطرافه ألمًا ورعبًا بالأبيات التالية:
وكم من فارسٍ خليت ملقى خضيب الراحتين بلا خضابِ يحرك رجله رعبًا، وفيهِ سنان الرمح يلمع كالشهابِ
ومرد ذلك، باعتقادي، أن الفروسية، وفروسية عنترة بالذات، هي الموضوع الأساس الذي تخرج منه باقي التفريعات. فهي أشبه بالكورال الموسيقي، لذلك تجد كل ما يطبع فوق هذه الخلفية حماسيًّا رومانسيًّا يشعرك بالفخر والحماس والتذوق الجمالي. فعنترة المثال الأعلى للفروسية في عصره والعصور التي تلته حتى لقد ترسخت صورته في الوجدان الجمعي.
أما الأغراض الشعرية التي يطرقها فهي نفس الأغراض التي كان الشعراء يطرقونها في عصره من غزل ومديح ووصف، مع بذخ عالٍ في الوصف والتصوير، مع تضخيم فخم لصورته المعنوية والجسدية لتجعله الأبيات الشعرية كأسطورة الهلاك لأعدائه، فتراه يقول:
إني لأعجب كيف ينظر صورتي يوم القتال مبارز ويعيش
ويصل به الحال إلى وصف نفسه بالمنية فيقول:
وأنا المنية وابن كل منية وسواد جلدي ثوبها ورداها
وعلى الرغم من هذه الصورة المرعبة والعنيفة، تجد جانبًا آخر رومانسيًّا رقيقًا شاعريًّا يهزمه فراق الأحبة بلا قتال أو مبارزة، فيردد بأسى:
أقاتل كل جبار عنيد ويقتلني الفراقُ بلا قتالِ
على أنني في الخاتمة أود أن أورد رأيًا شخصيًا وهو استنتاج خاص بي بخصوص عنترة والكثير من شعراء القدماء، وهو أنني أعتبرهم موضوعات أكثر مما هم شخصيات حقيقية بالصورة التي نعرفها. فاعتقادي هو أن شخصيات مثل عنترة وقيس بن الملوح كانت لهم قصصهم وربما عدة قصائد تناقلتها الأجيال، لكن تمت أسطرت تلك الشخصيات لدرجة أنها أصبحت موضوعًا. والعرب كانت أمة شفاهية ترسم تاريخها وشخصياتها بأثر رجعي مستمر. فعنترة مثلاً أصبح موضوعًا جاهزًا يمثل الفروسية القوية وسواد البشرة الذي تنمروا عليه، فرفعته أفعاله وباقي الخصائص الثابتة. وكذلك قيس الذي جن بليلى وهام في الصحراء يكتب شعرًا مبالغًا فيه، مشققًا غيوم التشابيه والمجاز لأجلها. هذه الموضوعات الثابتة ينظم الرواة عليها القصائد، فتبقى القوية منها لتتناقل كأثرٍ، ويضاف إليها قصائد وأبيات من رواة آخرين. وسبب ذلك برأيي أنه من غير المبرر والمعقول أن ينسب شخص لنفسه أبيات يصف فيها سحقه لجيوش جرارة أو يبكي محبوبة وهمية، فيقومون بنسب ذلك الشخص للشخصية الأسطورية. والمثال قريب لما يفعله البعض حاليًا من نسبة مقولاتهم الشخصية لدوستويفسكي والإمام علي وهتلر وصدام حسين وغيرهم. لذا فإن أغلب القصائد هي للرواة الكبار كحماد الراوية وغيره، وليس للشخصيات أنفسها، وقد غربلت تلك القصائد على مر الأجيال ولم يبق منها سوى الأقوى.
هأنذا أقف موقف الدكتور طه حسين من الشعر الجاهلي ! في بعض القصائد لم اقرأ العنعنة المزعجة او لم يذكر لها نسباً !! " فإذا ما الأرضُ صارت وردة مثل الدهان " لِم لم يعترض العرب و هم اكثر الناس حفظاً لأشعارهم علي القرآن بهذا البيت , ثم لِم لم يذكر لهذه القصيدة نسباً ثم ما كل هذا التشابه بين شعر عنترة و القرآن ولم لم يعترض العرب ثانية ؟ اما الاشعار فمواضيعها متاشبهة ! يا عبل يا عبيل يا عبلة الحروب و الصوارم الهذبر و الليث "رمتِ الفؤاد مليحة عذراء بسهام لحظٍ ما لهُنَ دواءُ" "أشارت إليها الشَمسُ عند غروبها تقول اذا اسود الدُجي فاطلعي من بعدي " " أتاني طيفُ عبلة في المنامِ فقبلني ثلاثاً في اللثام " " و النقع يومَ طِراد الخيل يشهد لي و الضرب و الطعن و الأقلام و الكتبُ " ألم يقل المتنبي " الخيل و الليل و البيداء تعرفني و السيف و الرمح و القرطاس و القلمُ " ؟ لا ريب في ان هذا الشعر عظيم منحولاً كان ام صحيح النسب إلا انني مللت منه بسبب التكرار وكما قال الأديب طلعت زكريا : الواحة كلها مفيهاش غير عبلة ؟ مفيش شادية و نادية و عايدة ؟
في ظني، أن الخطيب التبريزي، خير من شرح الشعر العربي شرحًا يسيرًا يقرأه المبتدأ ليتعلم والخبير ليستزيد، وهو في شرحه لديوان عنترة يتبع هذا البرنامج، وقد زاد عليه مجيد طراد، من أعد الشرح للطباعة، هوامشًا جمع فيها تعليقات معجمية أو من شروح أخرى يستكمل بها ما ظنه نقصًا عند التبريزي، كما أضاف أيضًا هذه المقدمة الماتعة للديوان، والتي قدم فيها لعنترة، وسيرته الشعبية، ثم ألحق الشرح بترجمة عنترة عند الأصفهاني، ولو أضاف ترجمة التبريزي لكان أوفى.