قريةٌ مزروعةٌ في النسيان، يهزّ أديمها انفجارٌ غامضٌ لجسمٍ مجهولٍ سنة 1977، فتتحوّل فجأةً إلى عُلبةٍ مُحكمةِ الغلق يعيش فيها كلّ قرويّ ملحمته الخاصّة: المتمرّدون المضطهدون يطلبون الحريّة والطغاة المستبدّون يُحكمون قبضاتهم على الأرواح والأعناق. لكنّ خيط السّرد لا يتقدّم إلّا ليعود بنا إلى الوراء، فتُلقي الرواية الضوء على عشريّةٍ قاسية تمتد من نكسة حزيران سنة 1967 إلى لحظة وقوع الانفجار وانقلاب وجوه القرويّين إلى سلاحف.
حدثٌ واحدٌ في «النجع» ترويه ثماني شخصيّات مختلفة، تُشكّل مرويّاتها فسيفساء الحكاية تشكيلاً ساحرًا. أمّا قاع الرواية فمساءلة سرديّة للنّكسة وما تلاها من أوهام بالسيادة والنصر. فمَن يكتب التاريخ الحقيقيّ: الجزمة والبندقية وسلاسل الحديد أم صرخات التمرّد التي لا تموت؟ وما الّذي يوقظه فينا العام 1977؟ موت المعنى والفنّ أم عبث المصير والسلام الزائف؟
أليست قرية «المناسي» استعارةً كُبرى لجيلٍ من الممسوخين؟
مهما كانت الإجابة فحسبُ «صلاة القلق» أن تجمع في خيطٍ واحدٍ: تناثرَ الدلالة ومتانة الحَبْك.
محمد سمير ندا، مصريّ الجنسية، ولد في مدينة بغداد عام ١٩٧٨، وقضى سنوات الطفولة الأولى في بلاد الرافدين، لتتشكّل طفولته على إيقاعات الحرب العراقيّة الإيرانيّة. عادت أسرته لتستقرّ في مصر في القترة بين عاميّ ١٩٨٤ و١٩٩٠. عقب ذلك شدّ والديه الرحال مجدّدًا، غربًا هذه المرّة، ليقضي مرحلة صباه في طرابلس-ليبيا، حتّى عادت أسرته لتستقرّ في مصر مجدّدًا عام ١٩٩٦.
تخرّج في كليّة التجارة، وعمل محاسبًا في المجال السياحي، حتّى استقرّ به الحال في منصب ماليّ وإداريّ في إحدى الشركات العاملة في مجال السياحة والمطاعم. له أخّين هو الأوسط بينهما. متزوّج منذ عام ٢٠٠٨، ولديه ولدين.
والده هو سمير ندا (١٩٣٨-٢٠١٣)، الأديب المصري المتفرّد الذي لمع نجمه في ستينيّات القرن الماضي، وقدّم للأدب المصري قامات أدبية شابة آنذاك؛ مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهما. كما قدم عدّة أعمال روائيّة وقصصيّة ومسرحيّة متميّزة، علاوة على فيلمين تسجيليّين عن حرب الاستنزاف. اصطدم مشروعه الأدبي والفني بالتضييق الأمنيّ والسياسيّ في الستينيّات والسبعينيّات نتيجة دفاعه عن حرية الفكر، ومعارضته للأنظمة الحاكمة. كانت هجرته الأولى من مصر عام ١٩٧٤ إلى المملكة العربيّة السعوديّة، ثم توالت الهجرات إلى العراق، وليبيا، مرورًا بمحطّات عربيّة أخرى قصيرة. أحدث طفرة صحفيّة في جريدة "عكاظ" ومجلة "اقرأ" السعوديّتين في السبعينيّات، وعمل في إذاعة "صوت سوريا" في العراق وكتب في مجلة ألف باء العراقيّة. اختتم حياته المهنيّة كمستشار إعلاميّ للسفارة السعوديّة في ليبيا.
تخرّجت والدته في كلية الآداب - قسم اجتماع وعلم نفس، والتحقت بالعمل في وزارة الثقافة المصريّة، وتدرّجت وظيفيًا حتى تبوّأت منصب مدير الإدارة الثقافيّة في قصر ثقافة مدينة بنها، قبل إحالتها للتقاعد فور بلوغها سن المعاش.
النشأة في مثل هذا المناخ الثقافي، وتنوّع الثقافات المكتسبة والمعارف الحياتيّة إثر التنقّل بين أكثر من بلد عربي، علاوة على طبيعة عمل الأب، ودوافع تنقّله من وطن إلى آخر، هي الأمور التي شكّلت وجدان المؤلف، لينشأ شغوفًا بالقراءة، مدافعًا عن الحريّات، مهتمًا بكتابة الشعر والأدب.
صدرت روايته الأولى "مملكة مليكة" عام 2016، كما صدرت روايته الثانية "بوح الجدران" عن منشورات إيبيدي في مطلع عام 2021 فازت روايته الثالثة "صلاة القلق" في يونيو 2024 عن دار ميسكلياني، وفازت بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لسنة 2025
صلاة القلق، العمل الثاني الذي أقرأه للصديق محمد سمير ندا بعد روايته بوح الجدران، وهو الثالث في ترتيب أعماله الروائية المنشورة. صدرت صلاة القلق عن دار ميسكلياني في حزيران من العام 2024.
تتناول هذه الرواية " نجع المناسي"، كفضاء مكاني لأحداثها. حيث تنفتح السماء على انفجار يُلقي بجسم غامض يحط في أرض النجع، ليتحول بعدها إلى مكان معزول لا يغادره ساكنوه. ينتشر وباء في النجع عقب سقوط هذا الجسم فينتج عنه سقوط شعر الرأس والحاجبين لساكنيه، مما يجعل ملامحهم كما السلاحف.
لا أريد أن أذكر في مراجعتي تفاصيل لأحداث العمل، لأنني بذلك سأفسدُ على القراء متعة التنقل في حقول هذه الرواية وربط خيوطها واكتشاف أسرارها. لا أريد أن أبخس قراء هذا العمل حقهم من الدهشة، وهم يغوصون في جمال هذا العمل وفرادته. لذلك، سأكتب انطباعي عن هذا العمل، والحالة النفسية التي وضعني بها.
هذا عمل لا تستطيع تركه من أولى صفحاته وحتى ختامها. عمل يجعلك تتساءل ما الذي حدا بالكاتب ليجعل "صلاة القلق" عنواناً لعمله. ما هي هذه الصلاة؟ وكيف تُؤدى؟ وما الذي حدا بأهل النجع لأداء هكذا صلاة؟ مرورا بالاستهلال، والذي يعطيك مؤشراً على أنك ستعيش حالة مختلفة بين سطور هذا العمل. يقول لك الكاتب من خلال الاستهلال ويلخص لك ما ستقرأه في الصفحات الـ 354 القادمة.
هذه رواية عن صناعة الطاغية وكيفية اختطافه للعقول. كيف يحاصرك بأكاذيبه حتى يضمن خنوعك وتحقيقك لمصالحه. عن الحرب وويلاتها، الحرب التي تسرق الأبناء فلا يعودون. الحرب التي تستكثر عليك حقك في أخذ أبنائك في حضنك بعدما هشمتهم على الجبهات، ولا تمنحك إياهم، ولو كانوا جثامين، ليهدأ قلبك بدفنهم فتعرف أنهم ينامون الآن بسكينة بين أحضان أمهم الأرض.
هذه رواية عن الحب، حتى لو كان مسروقاً في زحمة الفقدان والموت. عن تمجيد القادة، حد نصب تماثيل لهم وتأليهها " نحن شعوب ينقصها كل شيء إلا سير الزعماء الأسطورية!"
ما يميز هذا العمل وبصراحة: كل شيء. هناك اختلاف واضح في عمل محمد هذا. قرأت له "بوح الجدران من قبل". كان عملاً جيداً، ولكنه ليس كصلاة القلق. لا أقصد بذلك أن أقارن أعمال محمد ببعضها، وأن أفاضل أحدهما على الآخر، فلكل عمل مناخه الخاص وظروفه التي على أساسها خرج للنور، وإنما كان القصد أن أذكر كم أنَّ صلاة القلق عمل متفرّد في كل شيء: لغته، ثيماته، أسلوبه وتقنياته. هذه النقلة النوعية في الطريقة التي أخرج بها محمد عمله هذا، إنما تدل على أنه كاتب متمكن، وكاتب يتقن فن الدهشة.
عليَّ القول أن ذائقة محمد في الأعمال الروائية تختلف عن ذائقتي، فعلى الرغم من أنه يجمعنا حب الكتب والقراءة، إلا أننا أقطاب متنافرة فيما يتعلق بما يعجبنا أو لا يعجبنا من الأعمال، وهذا طبيعي جداً، فلكل شخص ذائقته ومعاييره في تقييم ما يقرأ. نادراً ما نتفق على إعجابنا بعمل معين. لكن، مما لا خلاف عليه، أنَّه كاتب جميل ليُخرجَ عملاً بهذا الألق، وحتماً لن يكون آخر الأعمال الجميلة.
كما ذكرتُ سابقاً، فهو عمل متفرّد بكل شيء، تحديداً المواضيع التي طرحها والأسلوب الذي كتب به العمل، لكن مما أعجبني جداً كان اللغة. اللغة كانت "متمكنة، عميقة، وذات رمزيات عالية. هناك الكثير من العبارات والجمل التي استوقفتني ورددت في سرّي:" الله الله.
هذا العمل الثاني بعد "رباعية الخسوف" لإبراهيم الكوني الذي شعرتُ وأنا أقرأه أنني لا أريد له أن ينتهي. "صلاة القلق" تشحنك بالفضول واللهفة لتعرف مصير الشخصيات ومسار الأحداث، لكنها في نفس الوقت تعطيك شعوراً بأنك لا تريد ترك هذا العمل، وكأنكَ بالانتهاء من قراءته ستنفصل عنه ولا يجمع بينكما طريق مرة أخرى. بعد رباعية الخسوف، لم أرتبط عاطفياً بعمل روائي مثلما ارتبطتُ بصلاة القلق. من أفضل ما قرأت من أعمال.
أورد هنا بعض الاقتباسات، للإشادة بجمال التعبير وجزالة الألفاظ ومتانة اللغة:
"أتساءل: كم نيزكاً يستلزم الأمر حتى تتكون لدينا ذاكرة جديدة؟ كم قتيلاً ينبغي أن يسقط، وكم حرباً يتوجب أن تأكل أبناءنا حتى تروي العجائز تاريخاً مغايراً لما يروينه اليوم؟" ص58
" لماذا ترتضي الدولة أن يعيش في ربوعها بشرٌ حُرموا العلاج وتساووا مع الدواب في استلاب الحقوق؟" ص158
"بيد أن الحرية لا تفيض من أنفاس المذعورين. والأكوان لا تُخلقُ تحت الحصار، والأحلام لا تراود المأسورين داخل الصناديق المعتمة." ص187
"آمن الناس بقداسة الصنم، حتى اقتنع الصنمُ ذاته بقداسته فشرع يتجوّل بين رعيته ويعيث في ديارهم رعباً ومجوناً." ص278
" لا شيء غير الحرب يقدر على أن يجعل الغياب أمراً عادياً طالما ظلّت طبولها تدق. ذلك سحر الحرب الأبديّ، ذريعة كل طاغية، آلته التي تكمم الأفواه وتمسخ الأحلام من دون أن يطلق رصاصاته أو يرفع عصاه." ص317
" نحن شعوب ينقصها كل شيء إلا سير الزعماء الأسطورية!" ص327.
تحديث: وصلت صلاة القلق في السابع من كانون الثاني للعام 2025 للقائمة الطولية لجائزة البوكر. ألف مبروك للصديق محمد وكل التوفيق. وقد وصلت صلاة القلق للقائمة القصيرة يوم الأربعاء الموافق التاسع عشر من شباط للعام 2025 🌹
وقد فازت صلاة القلق في جائرة البوكر العربية للعام 2025. ألف مبروك لمحمد هذا الفوز المستحق جداً، وألف مبروك عودة البوكر لمصر الحبيبة❤️❤️
" كم نيزكاً يستلزم الأمر حتى تتكون لدينا ذاكرة جديدة ؟ كم قتيلاً ينبغي أن يسقط، وكم حرباً يتوجب أن تأكل أبناءنا حتى تروي العجائز تاريخاً مغايراً لما يروينه اليوم؟ "
في نجع المناسي ذلك النجع الذي لا تعرفه الخرائط ولم يسمع عنه أحد والذي تمت إحاطته بالألغام تحت حجة حماية الأهالي مما زاد من عزلته ونسيانه فلم يخرج منه أحد ولم يستطع أحد الدخول سوى أفراد من الحكومة تتعامل مع شخص واحد في النجع هو ممثل الحكومة وهو خليل الخوجة ثم سقط من السماء نيزكاً أصاب الناس بعدها بوباء الخوف والقلق وتساقط شعر رؤوسهم وحواجبهم ثم تبدأ تظهر كتابات على حوائط البيوت تتحدث عن أفعال واتهامات لأصحاب البيوت فأصبح الجميع يخافون ويحذرون من بعضهم البعض خاصة مع جهل الغالبية العظمي من سكان النجع .
"أيعود المقاتلون إلى ذويهم خارج حدود النجع ؟ أم تطحن رحى الحرب الأرواح والآمال والوعود كما هي حال أرضنا هذه ؟ هل نحن حقًّا جديرون بحمايةٍ تلتف حول رقابنا لتحجبنا عن أنظار العدو ؟ وهل الناس خارج النجع هم المأسورون ؟ هل نحن الأكثر حظاً وقد شُمِلنا بالحماية عبر سياج من نار ؟ لماذا إذن نتوق إلى القفز فوق هذه الألغام بالذات ؟ هل يُرَاد بنا الاستواء تحت ظل واحدٍ تحدده الحكومة فيحترق كل من يجرؤ على ترك مساحة الأمان المخصصة له ؟ "
من خلال حديث ثمان شخصيات نتعرف على شخصيات النجع ومخاوف أصحابها والأحداث في النجع .. فكيف يتعامل الأشخاص مع بعضهم البعض خاصة بعد ما حدث وكيف يتعاملون مع فقدانهم لشعورهم وحواجبهم و كيف كانوا يتعاملون من قبل أيضا خاصة بشأن عدم عودة أبنائهم من الحرب ؟
"لقد تجسد القلق كوحش يطوف بنعومة فوق أسطح دور النجع، كأنه خرج من الحَجَر المضئ الذي سقط من فوهة العدم ليغير مجرى الحياة ."
انا بقالى كام كتاب مش بكتب مراجعات وبضيف تقييم بس هنا كان في حاجات لازم اتكلم عنها فكان لازم اكتب خاصة أن انا مش عارفة في حد علق على النقطة دى قبل كده ولا لأ بس عن نفسي هي حاجة كانت مستفزة جدا بالنسبالى .
ص ٧٦
" فما من عاقل يهزأ بقول الله ( وإنى باعث بينكم ناصراً يوم يظن الناس أن لا خليفة من بعد الرسل ) ربما قصد النحال ان المقصود ب ( ناصر) في كتاب الله ليس ذاته الزعيم جمال عبد الناصر ، لكن الخمر أذهبت عقله فادعى أن الأية مدسوسة على كتاب الله، ناسياً او متناسياً أن الله حافظ للذكر أبد الدهر. لقد كفر النحال إذن بكتاب الله كله حين اظعى ما ادعاه ..."
《ملحوظة الكاتب : الآية الواردة غير صحيحة تم دسها بين الآيات السماوية من قبل المنتفعين لتمجيد الزعيم وفق سياق الرواية.》
مينفعش تحت اي منطق او اى مبرر حتى لو كان الخيال إنك تكتب حاجة زى كده ،انك تكتب نص وتقول بعد كده كملحوظة أن دى آية غير صحيحة وتم دسها بين الآيات السماوية لتمجيد الزعيم !! انت نفسك قلت بعدها على لسان الشخصية ان ربنا حافظ القرآن من اي تغيير فمش منطقي ابدا أن يبقى في نسخ محرفة من القرآن وفيها آية او آيات لتمجيد الزعيم ، احنا مش محتاجين حاجة زى دى ، ممكن تقول وتنتقد التمجيد بأي شكل ممكن إلا انك تقول انهم حرفوا القرآن لأن دي حاجة مش هتحصل مش عشان مفيش بشر هيفكر في كده بس عشان ربنا حافظ القرآن من التحريف والحمد لله . فدي نقطة ضايقتني جدا ومكانش ليها أى داعي نهائي في الرواية كان ممكن التمجيد يكون من خلال كلام الشيخ مثلا إنما اللى حصل ده تجاوز غير مقبول ونقطة سودا بالنسبالى في الرواية ملهاش أى مبرر ممكن اتقبله .
وجملة تانية :
"الطفل في احشائها ينتظره غد عظيم ،سيكون نبيا يبعثه الله في من بقى من الناس ليبشرهم بالانعتاق. سيكون أول نبي يبشر بالحرية ولا ينشغل بالمجد والفتوحات والرايات المرفوعة على أسنة الرماح ونصال السيوف ، نبي ولدت معجزته قبل أن ينبت في احشاء امرأة انقطع طمثها ، فما للسحر ولا لتبريكات الشيوخ القدرة على إحداث المعجزة ،هي يد الله التي خضرت بوراً "
ص ١٧٧ ، ١٧٨
بجد لو النقطتين اللى فوق ده حصلوا من كاتب ملحد انا كنت هضايق أكيد برضه بس هقول ان ده شئ متوقع منهم ومعتادين عليه بس ان كاتب عربي ومسلم يكتب حاجة زى دى ؟!!
اوقات بيكون في تجاوزات سواء من كاتب عربي او غربي مقبولة مش لأن الكلام نفسه مقبول لكن لانها بتناسب الشخصية زى مثلا كلمات شخص ملحد أو انفعالات شخص في وقت غضب ويأس مثلا وفي الوقت ده بيكون الكلام معبر عن الشخصية وبيقدم رأيها الشخصي بس تحريف القرآن عشان نقول اننا بنمجد الزعيم !! أو الكلام ان الانبياء جايين ينشغلوا بالفتح ورفع الرايات ؟! ده كان غير مقبول بالنسبالى وده رأى ومشاعري وانطباعاتي الشخصية .
ملحوظة :
انا متفهمة ان ممكن الكاتب هنا كان عايز يوصل لأى درجة ممكن الب��ر يوصلوا في تآليه الحاكم او الرغبة في إستغلال جهل الناس وتزييف الحقايق للتحكم فيهم لدرجة توصل انه يحرف القرآن بس ده ميمنعش انى انا مقدرتش اتقبل ده كمثال .
النقطة التانية اللى ضايقتني إن الكاتب أسلوبه كويس كنت أوقات بحس ان النص ممكن يكون ماشى بسلاسة وفي نفس الوقت قوى بس أغلب النص كنت حاسة ان النص متكلف بزيادة وبدون أى داعي .
جذبتني الرواية في البداية وقررت التجاوز عن تكلف النص لأندمج مع احداث الرواية لكن مع استمراري في القراءة كان الملل يتسرب لي خاصة ان مع كل راوي جديد لا توجد أحداث جديدة تُذكر ، نتعرف على الشخصية ومشاكلها الشخصية لكني لا أشعر أن هناك شئ جديد يُضاف ، شعرت أن عدد الرواة تجاوز الحد لو كانوا أقل لكان أفضل كما أنى لم اندمج مع أى شخصية أو انجذب لها . وحتى النهاية لم تكن مرضية لي .
ومن هنا اتعلم أنى مشتريش كتب عشان مكتئبة وعايزة أدلع نفسي تانى ... 😁😂
صلاة القلق، رواية تأخذك من سجّادة الطمأنينة والسكون الى صحارى القلق، من الأجوبة الباردة الواثقة الى الأسئلة الصعبة والإحتمالات المفتوحة، من افتراضات الحقيقة الناصعة الى أطياف الشكّ والتساؤل.
لماذا أهدى الكاتب روايته الى جموع الصامتين؟ هل لأنه يخاطب جيلًا قد أصبح تحت التراب ام لأنه يخاطب جيلًا يملأ الغبار حناجره فيخشى الكلام.. يصمت، ثم يموت وهو يعيش! من هنا، اعتقد ان النصّ متصلٌ بشكلٍ عضوي بالحاضر، بالآن ولو أنّه يتكلّم عن فترةٍ انقضت وعادت كما يعود كلّ شيء في هذا الجزء من العالم.
النصّ مقسّم الى ثمان جلسات، سيتضح سبب تسميتها مع ختام النص، وتناوبت، في الظاهر، أصوات متعددة على السرد، وصوت واحد في الحقيقة يروي كلّ الأحداث. هذا التجريب كان خطرًا لأن القارئ سيتسآل في منتصف القراءة عن شبه التطابق بين الأصوات وسيجد جواب تساؤله مع ختام النصّ، هناك سيجد ايضًا سبب تكرار بعض الأحداث بسبب حالة الراوي النفسيّة. أسلوب ممتاز وجريء.
حمل النصّ ثيمات وأفكار عديدة، تنوّعت ما بين السياسة والدين والآراء الاجتماعية وتجوّلت ما بين اليمين واليسار. من الحرب والكتابة والدكتاتورية والرقابة والدعاية الى الثورة والحريّة والموسيقى. لكن قوّة النص، برأيي، تكمن في تلك الثيمات المختبئة بين السطور كقتل المختلف (ما فعلته وداد) والخوف منه. حرية الإختيار وتقرير المصير (شواهي). التيه ما بين الرغبة والأمومة (شواهي وحكيم) وغيرها..
اللغة كانت ناضجة وجزلة، لا تنظير وتعقيد لغوي داخل هذا النصّ، لغّة تأثرت بالفضاء السردي بشكلْ واضح فاتخذت الكثير من مفرداته وسكبتها داخل الجمل المركّبة.
أمّا ميزة هذا النص، بالإضافة الى اسلوبه، فهي القدرة على تأويله وفهمه بعدّة طبقات وعدّة توجهات: فهذا النصّ قد تكون أحداثه كلّها جرت في عقل حكيم فقط، وقد تكون جرت فعليًا ربطًا بإسم الطبيب في ختام النص. هذه الأحداث يمكن انها بدأت في مستعمرة "جذام" واكتملت في خيال الراوي. وهذا النصّ أيضًا يحمل قدرًا كبيرًا من الرمزية فقد يصبح النجع دولةً (وتصحّ دولًا)، والتمثال رئيسًا (وتصحّ ملكًا)، حيث يتم قتل اي ابداع جديد ومختلف، حيث تموت الأحلام في مهدها، حيث تبقى الحريّة فعل نشازٍ وحيث الحلول لا تكمن إلّا بالغرق أكثر في الماضي!
يبقى السؤال، هل نحن مستعدون لهجر النجع (السجن) وتخطي حقول الألغام (المصاعب) من أجل الوصول الى عالم جديد؟ أيمكن للغريزة ان تتفوق على العقل في إدراك معنى الحرية، امّ انّه الخوف سيبقى يقيّدنا فنموت وننسى في "نجع المناسي"؟!
زمن راكد و قرية منسية و موت لم يعد راغبا في زيارة هذه القرية و ألم بل الكثير من الألم . يتوزع العمل على فصول حملت أسماء شخصيات و بدأت بمقاطع غنائية لعبد الحليم حافظ و هوامش كاتب جلسات و تقرير حالة وتدور حول نجع حذف من خارطة الدولة يعيش على وقع القلق و الخوف بعد سقوط جسم غريب من السماء هناك من رجح أنه شهاب أو مذنب وهناك من أقسم أنه قمر صناعي تحطم خارجا عن مساره و هناك من أكد أنه لا يهتم لماهيته لكنه لعنة من الله لأنه تسبب بسقوط شعر و حواجب السكان رجالا و نساء و حولهم إلى سلاحف في بطئها و في شكل رأسها لكن اللعنة لا تتوقف هنا بل تضاف لها فضائح تنشر على جدران منازل سكان النجع نتعرف عليها عبر الفصول باعتبار ان العمل مكتوب بتعدد الرواة الذين يتناوبون على الحكي و على كشف المستور عن الخطايا التي يمكن أن يقوم بها الإنسان في الخفاء كالزنا و القتل و التعدي على المحارم و اشتهاء البهائم و ذلك في تعاقب و في ترابط بالأحداث التي عرفها النجع المعزول عن القطر بحاجز من الألغام و حاجز من الأوهام و حيث صلاة القلق هي الحل لرفع اللعنة. العمل يقدم ثيمة السلطة و صناعتها و كيف أن الحقيقة لا وجود لها خارج السلطة أو من يمثلها و هي هنا حاضرة مع خليل الخوجة الناطق باسمها و الكاهن الأكبر لعبادة الزعيم الخالد و الذي يقدم لقرابين من الشباب لتغذية نار الحرب الدائمة و هي أيضا حاضرة مع الشيخ أيوب الذي يحتكر الوساطة الدينية . العمل مكتوب بلغة سلسة و عذبة في مستوى واحد تتلمس خطايا شخصياتها المختلفة : شواهي الغجرية/نوح النحال/زكريا النساج /عاكف الكلاف/محجوب النجار/محروس النجار/حكيم /خليل/الشيخ أيوب و هذا التوحيد في مستوى اللغة له ما يبرره في البناء الحكائي للعمل و هذا ما سنكتشفه 😉😉. العمل و ان كانت أحداثه في نجع مجهول الا أننا نجده حاضرا في مجتمعاتنا المحاطة بالاوهام و الممتلئة بالخوف و بذهان دائم . الرواية تقرأ مع أغاني عبد الحليم حافظ كخلفية موسيقية و تقرأ أكثر من مرة لأن لها أكثر من مستوى . متحمسة للعمل القادم😍😍😍😍
اللغة جميلة، فكرة سرد الأحداث من زوايا شخصيات متعددة بديعة، النهاية مدهشة لكن هل يمكن لرواية أن تحصل على جائزة البوكر بدون إباحية أو زندقة؟ طبعًا لا ومحمد سمير ندا اختار الثانية وملأ روايته بتطاول على كلام الله ومقام الأنبياء وحقائق الدين تحت ذريعة "السياق"
كانت الرواية ستكون من أجمل قراءات العام، لكنني لا أقدّم "الأدب" على التأدّب مع الله وكلماته ودينه
قرأتُ رواية صلاة القلق مؤخرًا، ولم أستطع إتمامها في البداية. شعرت بشيء من التشتت والبرودة، فتوقفت. لكن بعد جلسة نقاش مع بعض الأصدقاء، منحتها فرصة أخرى... وأنهيتها، ليس بدافع الاستمتاع، بل من باب الإنصاف.
لست ناقدة محترفة، إنما قارئة تبحث عن المعنى، لا تلهث خلف الترند ولا تنجرّ خلف ضجيج الصخب. وهذا ما رأيته في هذا العمل، الذي – رغم لغته الجيدة – لم يقدّم لي جديدًا على مستوى الفكرة أو العمق.
أولًا: المعلومات التاريخية
تضمّنت الرواية إشارات إلى وقائع تاريخية وأحداث سياسية، لكنها طُرحت من زاوية أحادية، متحيّزة، ودون أي إحالة إلى مصادر موثوقة. على سبيل المثال: ذُكر الصراع في فلسطين بطريقة تختزل القضية، وتُحمّل طرفًا واحدًا كامل المسؤولية، دون تناول السياق الكامل أو تعقيدات الواقع. والأدب – حتى وإن كان تخييلًا – لا يبرر نشر تصورات مشوشة في زمن امتلأت فيه وسائل التواصل بالشائعات. الرواية ليست وسيلة لتكرار خطاب مضلّل، بل فضاء لطرح الأسئلة، لا تعميم الأجوبة.
ثانيًا: غياب الحبكة وضعف البناء الدرامي
أكثر ما أربكني هو غياب حدث محوري يشدّ القارئ أو يمنحه لحظة دهشة. كنت أترقّب أن يحدث ما يوقظ الشخصيات، كأن يستيقظ البطل من غيبوبة، حاملاً قصة تغير مجرى الرواية. لكن شيئًا من هذا لم يحدث. بقي السرد على وتيرة واحدة، بلا تصعيد درامي، كأن الزمن يمضي دون أثر، والشخصيات تعبر النص كظلال.
ثالثًا: الشخصيات... بلا روح
ظهرت شخصيات كثيرة، بعضها بدا واعدًا في البداية، لكنه سرعان ما اختفى دون أثر. لم يُمنح أحد منها هدفًا واضحًا، أو تطورًا نفسيًا مقنعًا. وكأن الكاتب رسم ملامحها ثم نسي أن ينفخ فيها الروح.
اللغة الجميلة... والمفككة
لا يمكن إنكار أن بعض المقاطع كانت بلغة فصيحة جزلة، فيها صور شاعرية وتعابير ملفتة. لكن المشكلة كانت في الترابط. كثير من الجُمل بدت وكأنها جُمعت لتُعجب، لا لتُعبّر. مثل عبارة: "سقط الوقت من جيب الحياة"، وهي جميلة لغويًا، لكنها جاءت في سياق لا يخدم المعنى، فبدت كجملة معلّقة، بلا وظيفة.
في الختام:
رواية صلاة القلق تمتلك لغة أدبية، لكنها تفتقر إلى التماسك والصدق المعرفي. لم تُقدّم جديدًا، ولم تُحدث أثرًا. ورغم نواياها الطيبة، بقيت أسيرة الزخرفة والتكرار، ولم تلامس جوهر التجربة الإنسانية. وأقول هذا لا من باب التقليل، بل من باب التقييم الصادق في زمن تُطغى فيه الضوضاء على الجودة.
- في رواية "الحقيقة ما قبل الأخيرة" (إن صحت هذه الترجمة للعنوان الإنجليزي الأصلي) للكاتب الأمريكي فيليب ك. ديك، تندلع حرب عالمية ثالثة، تفنى الحياة على سطح الكوكب (كالعادة عندما يتعلق الأمر بعمل أدبي أو سينمائي أمريكي)، فيبني البشر مستوطنات محصنة تحت الأرض، حيث يعيشون ظروفا مزرية، مطالبين بالعمل القسري في مصانع مهمتها إنتاج روبوتات مكلفة بمواصلة الحرب المستعرة فوق سطح الكوكب، بين "إمبراطورية الغرب" وعدوتها "إمبراطورية الشرق"، لا يحركهم في ذلك سوى الخطابات الحماسية المتلفزة للزعيم، الذي يبشرهم في كل مرة بقرب انتهاء الحرب وبالتالي العودة إلى السطح الذي سيعود ليصبح قابلا للحياة. كالعادة (مصداقا لقوانين رحلة البطل أو الضرورة الحتمية للخروج من الجنة/الجحيم) يضطر أحد القابعين في الأسفل إلى الصعود إلى الأعلى، فتكون المفاجأة الصادمة: انتهت الحرب منذ زمن بعيد، وتحولت الأرض إلى جنة خضراء، تعيش فيها حفنة من المليارديرات والتقنيين، فيما تسهر على خدمتهم تلك الروبوتات التي صنعها الكادحون تحت الأرض، أما الزعيم فمجرد صورة وهمية جرى التلاعب بها، ولا وجود له على أرض الواقع... صدرت الرواية عام 1964، في سياق صدامات الحرب الباردة (خاصة ما بعد أزمة الصواريخ الكوبية واقتراب العالم من حافة الحرب النووية)، وبدت صرخة احتجاج من الكاتب، مقدما جملة أفكار سيطورها فيما بعد في عمله الأشهر والأبرز "الرجل في القلعة العالية" الذي تر��م إلى العربية (عن دار المدى) وتحول إلى مسلسل مميز للغاية. - في رواية "بيريتوس مدينة تحت الأرض" للكاتب اللبناني المختفي ربيع جابر (بالمناسبة: أين اختفى؟)، يكتشف أحد أبناء بيروت أن عددا من اللاجئين الفارين من أهوال الحرب الأهلية اللبنانية قد قرروا بناء مدينة سرية تحت الأرض. تضع الحرب أوزارها فيما فضلوا هم البقاء هناك، بل إنهم واصلوا حياتهم بشكل "طبيعي"، وتناسلوا، وربما تغيرت بمرور الوقت بعض صفاتهم البشرية الطبيعية، لكنهم وجدوا في موقعهم الجديد خير تعويض عن مدينة دمرها أعداؤها بيد أبنائها (هل اختار ربيع اللحاق بشخصياته إلى مدينته المتخيلة، بعيدا عن صخب بيروت وتناقضاتها؟) صدرت الرواية بدايات عام 2006، وكان واضحا أنها كتبت في سياق ما بعد اغتيال الحريري وخشية الجميع من عودة شبح الحرب إلى بلد يتلاقى جماله الفطري مع إنهاكه المتجذر. - عندما اندمجت مع فضاء "نجع المناسي" في رواية "صلاة القلق" للكاتب المصري محمد سمير ندا، وجدتني حائرا بين تفاصيل الروايتين السابقتين، فهل يمكن إلحاق هذا العمل بالرواية الأولى، حيث كان إبعاد حفنة من البشر عن العالم إجباريا ضد رغبتهم، أم عن "طيب خاطر" كما في الرواية الثانية؟ الأقرب ربما أن "صلاة القلق" تقع بين المنزلتين، إذ نقرأ ضمن المتن أنه لا وجود ل "نجع المناسي" أصلا على الخرائط، لا المدنية ولا حتى العسكرية (المأزق المكاني)، كما أن النجع يعيش زمنا آخر خاصا به (صحيفة بدائية في نجع يتخبط معظم ساكنيه في دوامة الجهل والأمية)، مما يتأرجح بين التاريخ البديل (ماذا لو) والعالم الموازي (المأزق الزمني). وفي الروايتين المذكورتين "بشر" يبحثون عن أبسط حقوقهم في البقاء على قيد الحياة، أما في "صلاة القلق" فهناك قبيلة "مسوخ" لا يعترف بوجودها أحد، جثث أموات لا تنتظر سوى الدفن... - في دلالات حضور تمثال عبد الناصر في أحداث الرواية، انقدت مباشرة إلى بنية التخلف، كما وصفها الراحل مصطفى حجازي في كتابه المرجعي "التخلف الاجتماعي – سيكولوجية الإنسان المقهور"، عندما قال إن: "الإنسان المقهور يراهن على خلاصه على يد الزعيم المنقذ دون أن يعطي لنفسه دورا في السعي لهذا الخلاص، سوى دور التابع المعجب المؤيد دون تحفظ، والمنتظر للمعجزات."، وما رمزية فحولة التمثال في "صلاة القلق" إلا دفع بهذا "الإعجاز المنتظر" إلى حدوده القصوى (وهو ما رأيناه سابقا أيضا في مجموعة من الإبداعات اللاتينية الموسومة بأدب الدكتاتوريات، التي استحضرت فحولة الزعيم، وأحيانا "عجزه"). المثير للتأمل هنا أن الجدل حول "انتقاد" الحقبة الناصرية (من الزعيم إلى أدواته) (خليل الخوجة في الرواية) يجسد تماما ما تحدث عنه الراحل حجازي، ما دامت المعضلة المتكررة دوما هي في التعامل مع الزعماء بمنطق الشيطنة التامة أو التقديس المفرط، ونزع الصفة البشرية التي تقول (ببساطة شديدة) إنه قد يصيب أو يخطئ (بغض النظر عن الأثر الطويل لإنجازاته أو كوارثه). - فيما يتعلق بمفاجأة النهاية، أو "التويست"، لا أنكر أنني توقعته بسهولة عندما سمحت لعيني بالتلصص على مراجعات بعض الأصدقاء قبل قراءة العمل (وإن حاولوا إخفاء هذا التويست تحت بند "بدون حرق")، لكن هذا لم يمثل في العموم عائقا أو مشكلة بالنسبة لي، بل بالعكس، ساعدني أكثر على التركيز مع الأحداث، وقد أذهب بعيدا بالقول إنه لا وجود ل "تويست" أصلا، ما دامت الرواية تبدأ في الصفحة الموالية للإهداء بتوجيه خاص حول دور الكتابة في الاستشفاء النفسي، ما يعني بالتالي أننا كنا أمام "رنجة حمراء" تلعب دورا مضللا أمام حقيقة واضحة منذ البداية، لا صدمة تقلب كل شيء رأسا على عقب، وبالتالي فإن "وحدة الأسلوب" لدى الشخصيات جميعها كان مفهوما ومبررا، وحتى لو لم يفسر سبب ذلك في الفصل الأخير لما مثل ذلك أي مشكلة بالنسبة لي. - شيئا فشيئا، تبين لي مع توالي الصفحات أن كل "جلسة" تنتهي بوجه ضبابي لما ارتكبته الشخصية (ربما) من خطايا في الخفاء. (أهوال الاغتصاب والقتل والشذوذ إلخ...) عندما أيقنت أن الأمر يتعلق بسبعة شخصيات (أو ثمانية؟)، توقعت استثمار الكاتب في الكبائر (وفق المفهوم الإسلامي) أو حتى الخطايا (وفق المفهوم المسيحي) السبع (رمزية الرقم 7)، ما قد يمنح البناء قوة أكبر (من وجهة نظر شخصية طبعا)، لكن هذا لم يحدث (أو ربما لم تنتبه له قراءتي الأولى، بما قد يستدعي قراءة أخرى ثانية. - وعلى ذكر الرمزية، فطبقات التأويل في الرواية متعددة، منها ما هو واضح (فحولة التمثال كما أسلفت، أو الإجهاز على المختلف في إصرار وداد على قتل الأجنة "المشوهة) ومنها ما هو مضمر (النيزك؟)، وقد نذهب أبعد من ذلك ونضع عامي 1967 و1977 بالذات ضمن مجهر البحث عن تأويلات "خفية"، وقد تتكشف لنا هنا أشباح رسائل أخرى مضمرة (لو كان فهمي صحيحا: لماذا لم تتمكن شواهي وحكيم من مغادرة النجع مع ما يحمله ذلك من مغزى إلا عام 1977 بالذات؟) (لماذا استحضرت المرأة الوحيدة المبصرة في رواية العمى لساراماغو في تتبعي لشخصية شواهي؟) لكن موضوع التأويل كالعادة يبقى نسبيا وحمال أوجه، قد يمنح أي عمل جمالية إضافية، فيما قد تنحو المبالغة فيه منحى تحميل العمل الأدبي ما لا يحتمل (تذكير آخر برواية نمور كافكا لمواسير سكلير وسخريتها من هذا الموضوع بالذات، وفظاظة همنغواي في قوله إن البحر بحر والشيخ شيخ في رواية الشيخ والبحر، فلا داعي أحيانا لتحميل النصوص ما لا تحتمل...) - إضافة أخيرة (أو كلام فارغ زائد عن الحاجة؟): مع بداية الصفحات الأولى، ومحاولتي تخيل النجع والترعة والمناخ الصحراوي، خاصة مع الجهد الذي بذله الكاتب في تقديم تلك البيئة بكل تفاصيلها (بما استدعى وضع هواش للشرح أحيانا)، استحضرت ذاكرتي "مكتبة" أفلام ومسلسلات مصرية شاهدتها من طفولتي، ولا أدري لماذا اختارت هذه الذاكرة اللعوب فيلم "عرق البلح" لرضوان الكاشف، وبطولة شيريهان، رغم اختلاف السياق والأجواء بين الفيلم والرواية طبعا، ثم فوجئت بتخصص شواهي في تحضير عرق البلح في حانتها، فابتسمت...
أرى في صلاة القلق عموما رواية عن ذوات عربية منفية داخل ذاكرتها و"هزيمتها" (ما معنى الهزيمة؟ وما معنى الانتصار؟)، تبحث عن خلاص قد يكون سرابا. عمل يتقاطع مع أبرز نماذج الرواية الرمزية العالمية والعربية (الرمزية الواعية لا الاستعراضية)، دون أن يفقد نبرته المحلية أو لغته الغارقة في أدق التفاصيل. رواية تستحق القراءة أكثر من مرة، لا لالتقاط مفاتيحها فحسب، بل لإعادة اكتشافها من جديد، كل مرة، عبر زاوية "قلق" مختلفة....
رواية "صلاة القلق" للكاتب "محمد سمير ندا"، الرواية الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية 2025.
تدور أحداث رواية "صلاة القلق" في نجع المناسي؛ ذلك النجع الساقط من حسابات الخرائط والحكومات، ولم يكن ذلك كافياً، فسقط من السماء نيزكاً، جعل البشر أشبه بالسلاحف، فسقط شعر رأسهم وحواجبهم، فتم زرع ألغام حول النجع، ليُصبح الخروج منه على قيد الحياة مستحيلاً، فقط تلك السيارات المموهة هي ما تخرج وتدخل، حافظين للطرقات وألغامها، ربما لأنهم من زرعوها؟ ربما! يُصاب قاطنو النجع بالقلق والخوف، تبدأ الأحداث في اتخاذ منحنى أعنف عندما تبدأ الكتابات السوداء على الحوائط، كتابات تدل على أفعال وجرائم فعلها أصحاب البيوت الموصومة، ومن خلال ثمان جلسات/ شهادات أساسية، يتبعها شهادة أخيرة، نتعرف على شخصيات النجع وما جرى فيه.
يُمكن أن تأول هذه الرواية من خلال تأويلات متعددة، فأنا قد وجدت فيها ما يُشبه رواية ديكتاتور، ذكرتني بالروايات اللاتينية قليلاً، وفيها ما يُشبه رواية حرب، وما تفعله الأنظمة وقت الحروب، وذلك الاستغلال لموارد الشعب وأمواله ونهبه، بل والتمادي في ذلك ونهب أبناءه ليكونوا حماة الوطن ويرموا بهم في التهلكة والموت، وفيها نقد لاذع لسياسات "جمال عبد الناصر" بالطبع، نقد تشعر من كثرة تكراره وتهويله أنه بمثابة ثأر شخصي، أو هكذا أدعي، فربما المتخصصون في العصر الناصري يُمكنهم الإدلاء برأيهم بشكل أفضل وأدق، أما أنا فقد استطيع تقبل كل ما ذُكر.
أما ما لم أستطع تقبله؛ أولاً، الفذلكة اللغوية على طوال السرد، شعرت أن الكاتب يختار كل كلمة بعناية بتكلف واضح، وفي أوضاع كثيرة جاء ذلك على حساب جماليات النص واللغة، فتشعر أنك تجر عيناك على الكلمات بصعوبة، وبالطبع جاء ذلك نتيجة مباشرة للثمان مسودات والمراجعات والتدقيقات العديدة التي مرت بها عملية كتابة الرواية، مما جعل لغة الرواية عصية ومنيعة، وحتى بعدما أنهيت الرواية لم أتماهى مع اللغة تماماً، وإن كنت لا أنكر أن هناك مواضع كانت مميزة ومختلفة عن باقي الرواية، لكن طغى جانب الفذلكة والتكلف بشكل أكبر. بالإضافة بالطبع، إلى نهاية الرواية، التي ضربت مفك في كل أحداث الرواية، وهذا ليس بمثابة حرق على الإطلاق، فمن أول صفحات الرواية، نعرفها وإن كنت تجاهلتها قليلاً وتناسيتها قليلاً، ولكن، عندما اصطدمت بها مرة أخرى في النهاية، وهو الحل الأكثر كليشيهية في نهايات الروايات، والحل الذي لا أستسيغه على الإطلاق، وبعض الخطوط التي لم تُقفل بشكل جيد بما فيهم خط الرواية الأساسي، وكأن كل ذلك مجرد أحداث هامشية لنقل وجهات نظر وأفكار عن تلك الحقبة والحروب والديكتاتور، وذلك ما يُمكن أن أتقبله في نوع روايات أخرى، ولكن ليس في نوع هذه الرواية، فلماذا بنينا كل ما حدث، ونحن لن نقوم بإكمال البناء أو تشطيبه؟ أيضاً، أشعر أن اسم الرواية "صلاة القلق" لم يكن مُعبراً كفاية عن الأحداث، ولم يحرك الأحداث بشكل أكبر لتعنون به الرواية.
ختاماً.. ربما لو كنت دخلت الرواية بتوقعات مرتفعة لكان تقبلي لها أقل من ذلك، ولكن توقعاتي في الأساس لاقت ما وجدته في الرواية، ولا ينفي عن ذلك أن الرواية قد تجد مُحبيها ومُريديها كعادة أي رواية جائزة، وهي بكل شك تحتوي على بعض الأفكار الجدلية والمُثيرة للاهتمام، ومن المهم أن نتفكر فيها ونحللها، وبعض الإسقاطات السياسية والدينية والاجتماعية المُلغزة والواضحة، وأدعي أن لو هذه الرواية كانت رواية ديكتاتور فقط دون تفرعات أخرى، لكانت أفضل مما هي عليه، كانت تجربة مُحيرة ومُربكة بالنسبة لي، ولكنها تظل تجربة مهم أن نخوض صفحاتها.
قرية نائية تعرف بالمناسي ، تنعزل عن بقية الشعب، منسية و أهلها مهمشين،ملهين في حياتهم أو مطالبهم البسيطة. أصابت القرية هزات بشظايا لم يعرف مصدرها مما جعل القلق هو العنصر المُهيمن على القرية.
سلطة كاذبة تحكم القرية، يتمثلوا في شخص يأمر و ينهي كما لو أنه إلهه. السلطة تمثلت أيضا” على هيئة تمثال يرمز للتعبد و الإلهية ضد طلبات الشعب. سنجد القرية كثير من الرموز و الإسقاطات التي اتسمت في عصر جمال عبد الناصر و لكن ممكن نعيد وضعها في حياتنا الحالية. رمز السلطة الكاذبة “الخوجة خليفة” ، تمثال عبد الناصر و هيبته التي اهتزت عند كسره ووضعه بلا رأس ليحل محله في التسلط و الحكم الخوجة. سلطة الدين التي تعكس أوامر الدين، مجرد شكل آخر للسلطة متمثلين في الشيخ أيوب و قبله الشيخ جعفر.
شواهي: رمز الشهوانية التي يلجأ إليها الناس لتفريغ شهوانيتهم بالأفعال البذيئة. وداد: مبنية على حب الناس و لكنها تؤد الأطفال. نوح النحال :يرمز إلى خلاص الناس من الخوجة.
الإعلام الزائف الذي يشع الأقاويل الكاذبة متمثل في جريدة “صوت الحرب” . عامل الخرافة و الحكايات و الزور ، هي رمز الإشاعات الكاذبة سواء تبثها سلطة القرية “صوت الحرب” أو حكايات عادية تتلقفها الآذان.
سؤال خفي : هل القلق ، هو سمة العصر؟ هل دائما” المواطن يشعر بالقلق و توتر و عدم أمان نتيجة الحروب و بالأخص الحرب بين العرب و إسرائيل على مدار سنون ؟ القلق من مستقبل مبهم يغلف العرب !
فلسطين، هي رمانة ميزان حال العرب قديماً أيام النكبة ٤٨ و النكسة حتى الآن، من خلالها نرى حال العرب و انتكاساتهم و مدى ضعفهم.
جاءت اللغة فصحى بانتقاء كلمات منمقة جعلت الجمل كما لو أنها قافية شعر “وزن و قافية” . جمال اللغة و قوتها، يربط الجمل ببعضها البعض ، جعل السرد متماسك و مترابط .
عنصر التشويق نتيجة الحبكة المترابطة بين أصوات الشخصيات، يجعلنا نريد أن يحكى لنا أكثر عن القرية.
دمج الواقع مع الفانتازي ، جعل الأحداث أكثر متعة. أثناء قراءتي تذكرت رواية جورج أوريول "مزرعة الحيوان"، تماثل طريقة الطرح المشكلات العصرية للمجتمع.
أحببت أغاني عبد الحليم و مقاطعها لتوحي بواقعية الزمن و بالجرمافون و في نفس الوقت قرية فانتازية منسية في الواقع .
برز الكلمات المضادة بين الفقرات للتأكيد على طرح الفكرة مثل :- النور* الظلام الجهل* العلم القرية* خارجها الخوجة:سلطته” * الشعب سلطة الحاكم*سلطة الدين
حملت النهاية كثير من المفاجأت الغير متوقعة، لتقلب موازين الرواية. أستمتعت بقراءتها و في انتظار القادم بشدة .
تجدون في ما يلي: 1. رأيي الذاتي و إنطباعاتي بعد قراءة الرواية 2. مراجعة تحليلية 3. إقتباسات ------------------------------------------------ 1. رأي ذاتي:
🔹Mitigée et perplexe 🥴🤕 هذا شنوة حسيت كيف كملت قراءة الرواية. من ناحية فما أفكار و إسقاطات و طرح لقضايا هامة و من ناحية أخرى حسيت إنو ضاع المعنى في وسط الخبصة إلي عملها الكاتب 😅 الرواية لا تفهمها رواية حرب، رواية ديكتاتور، رواية واقعية سحرية، رواية سياسية، إجتماعية، فلسفية، تجريبية،... الكلهم تلقى منهم et à force d'en vouloir faire trop ضاع المعنى و المبنى في هذه الرواية
🔹حسيت إلي الكاتب خمم في برشا روايات و إستسقى منهم و هذا إلي وصلي إلي ما فماش authenticité في الرواية كينها ما هيش حاجة خارجة منو علاكا ضاع في كتيبتها و زاد تأكدلي الشعور هذا كيف عرفت إلى الرواية الأصلية تعرضت لإعادة تحرير أكثر من مرة، هنا أتساءل فعلا، ما الذي تبقى من بصمة الكاتب !!!!!
🔹بالنسبة للغة متكلفة و منمقة جداً إلى حد الفذلكة التي لا تحتمل. الأسلوب احيانا يعتمد على الإسقاطات و التلميحات ألى درجة إني قلت الرواية هاذي عبارة على تمرين ذهني حقيقي لفك شفراتها و بيان ما قرئ بين السطور و احيانا أخرى تلقى أسلوب مباشراتي ألى حد السذاجة.
🔹بالنسبة للشخصيات، الرواية هي قائمة أساسا على الشخصيات و تفتقر إلى الأحداث و هذا كان عامل أساسي إني ما حبيتهاش من كثرة ما حسيت بالملل و انا نقرأ في les monologues الطوااااال و إلي تعاودت فيهم نفس الحكايات في أكثر من موقع بما يحيسسك بملل فظيع 😩😩 و رغم الي الكاتب في آخر الرواية أشار إلى هذه النقطة و شرحها إلا أن هذا الشرح لم يشفع للرواية بالنسبة لي، تبقى في الأخير إختيار الكاتب الحر في إختيار الشكل المناسب لعمله الإبداعي.
🔹للاسف ما حسيت بحتى نوع من التناغم مع الرواية و مع الشخصيات، ما مستنيش، ما أثرتش فيا، ممكن الشخصية الوحيدة ألي حسيت ناحيتها بالتعاطف هو النحال خاصة مع الظلم الي تعرض له، الباقي ما تفاعلت مع حتى شخصية. بالطبيعة كرهت شخصية الشيخ أيوب و خليل الخوجة، متوقع، و هنا نحب نشير لتوظيف التشبيهات الدينية بالأنبياء و الرسل بصراحة كانت فجة.
🔹ختاما، عندي مدة كبيرة و علاقتي بالأدب العربي المعاصر ما هيش أحسن حاجة، حبيت نعطي لروحي فرصة و نحاول نتصالح معاه إلا إنو الأكيد موش هذه الرواية إلي باش تصالحني مع الأدب العربي، هاذي زادت نفرتني. و لكن هل ندمت على قراءتها؟؟؟ لا خاصة مع تجربة القراءة الجماعية، حبيت برشا تبادل الأفكار إلي صار، ممكن هذه كانت النقطة المضيئة في عملية القراءة بالنسبة لهذه الرواية لدرجة إني فكرت نزيدها في التقييم 😅 لكن في الأخير إستفتيت قلبي، قلت نقيم حسب الي حسيتو و انا نقرى، للأمانة لم أستمتع بالتجربة فكان هذا التقييم.
🔹بالنسبة للبوكر العربية نقطة إستفهام كبيرة جدا، ليست أول خيبة أمل و الظاهر أنها لن تكون الأخيرة. أعود إلى حبيب قلبي يوسا بضمير مرتاح، زايد ما يفهمني كان هو .
-------------------------------------------------
2. مراجعة تحليلية
"صلاة القلق": حين يختلط الدين بالوباء، وتُصاب الجماعة بالذعر.
📌 الفكرة العامة:
🔹 رواية "صلاة القلق" تنتمي إلى أدب ما بعد النكسة، حيث يتداخل السياسي بالديني، والشخصي بالعام، ضمن فضاء روائي خانق يشبه مصير شخصياته. "نجع المناسي"، القرية المنعزلة في صعيد مصر، تصبح صورة مكثفة لوطن معزول، خاضع لسلطة زائفة، تتجسد في شخص "الخوجة" و"الشيخ أيوب".
🔹تتحول الرواية إلى كناية عن بلد جريح أصيب بالجذام، ليس كمرض جسدي فحسب، بل كرمز للفساد، والانهيار الأخلاقي، والخيانة التي تتستر باسم الوطن والدين. في هذا الفضاء تتوالى جلسات الاستجوابأو الاعتراف التي تدفع القارئ لاكتشاف وجوه القهر، وتُعرّي الشخصيات أمام ذاتها وأمامنا.
🔹يبرز عنصر التشظي الزمني واللغوي كاستراتيجية روائية مقصودة: اختلاط الأزمنة (النكسة، ما بعد النكسة، حرب 1973) يُظهر أن الهزيمة لم تكن لحظة، بل حالة ممتدة. اللغة بدورها تتراوح بين السرد الواقعي والجمل التأملية/الرمزية، ما يخلق إحساسًا مستمرًا بالقلق، تمامًا كما يوحي العنوان.
📌 غلاف الرواية:
🔹اللوحة التي تحتل مساحة الغلاف تُظهر وجوهًا مشوهة، غير واضحة المعالم، تتداخل فيها الألوان والملامح، مما يعكس: 🔹القلق والاضطراب النفسي: تشويش الوجوه يوحي بحالة ذهنية مأزومة، كأن الشخصيات في الرواية تعيش فقدانًا لهويتها أو أزمة وعي. 🔹فقدان الفردانية: التشابه والذوبان بين الوجوه يرمز إلى طمس الخصوصية في ظل سلطة ما أو مجتمع خانق. 🔹الخوف من المواجهة: الوجوه لا تنظر مباشرة إلى القارئ، وكأنها تتهرب من نظرته، مما يوحي بالخجل، أو الإدانة، أو الانكسار. 🔹الأحمر: لون القلق، الدم، التوتر، وربما الثورة أو الصراع الداخلي. يظهر في وجه إحدى الشخصيات وكأنه يصرخ أو ينزف. 🔹الرمادي والأسود: يطغيان على الخلفية، مما يعمّق الشعور بالكآبة والتلاشي والانمحاء. 🔹كتب العنوان بخط حر، غير منتظم، وكأن الكلمة نفسها تهتز أو تضطرب، مما يعكس توترًا بصريًا ينسجم مع مضمون الرواية. 🔹العنوان يوحي بمفارقة بين قداسة "الصلاة" وقسوة "القلق"، مما يشير إلى صراع بين الروحي والوجودي، أو بين الإيمان والاضطراب النفسي.
📌 المكان والزمان: العزلة كمصير جمعي
🔹تدور الأحداث في قرية منفية عن التاريخ، نجع المناسي، خلال مرحلة سياسية مفصلية: من زمن المد القومي الناصري إلى نكسة 1967، ثم ما بعدها. هذه الخلفية ليست مجرد مسرح محايد، بل كيان روائي حي، تتكثف فيه معاني العزلة، القمع، التعتيم، وانعدام الأمل.
📌 الحجر الناري والوباء: رمزية العذاب الجمعي
🔹ينزل حجر ناري من السماء، وتتفشى بعدها أعراض غامضة تُسقط شعر رؤوس الناس وحواجبهم، كأنهم يُجردون من ملامحهم وإنسانيتهم. يعكس هذا الوباء الروحي والجسدي انهيار العقد الاجتماعي، وتفشي الشك، وانفراط المعنى، ليغدو "القلق" ديانة جديدة لها طقوسها وكهنتها.
📌تفكيك الشخصيات: رموز أكثر منها أفراد
🔹 الشيخ أيوب: نبي القلق وزعيم الطقوس المحرّفة يتجلى أخطر أشكال تحريف الدين في شخصية الشيخ أيوب المنسي، والذي ابتكر أو بالأحرى إبتدع صلاة القلق، صلاة بلا ركوع أو تشهد، بلا تسليم أو طمأنينة، صلاة تختزل فيها الطقوس إلى طقوس الخوف و الطاعة. ينصّب نفسه وسيطًا بين العباد والخالق، ويستخدم الدين كأداة لشرعنة الخوف، وليس لمواجهته. تحريفه للقرآن ليس لغويًا فقط، بل وجودي وأخلاقي. يمثل تحالف الدين مع السلطة، لا لهداية الناس، بل لترسيخ القهر باسم الرب.
🔹 خليل الخوجة: الوجه الآخر للكاهن، مندوب الدولة والقدر يمثل الخوجة السلطة الرسمية للدولة القمعية، وجه عبد الناصر في النجع. هو المطبعة والجريدة والسجل ووكيل الحرب. كل شيء يمر من خلاله: العقاقير، الأخبار، الجثث، وحتى الأمل. الرجل الذي قتل زوجته ليمنع انتشار خبر وفاة الزعيم، وقطع لسان ابنه كي يخفي جريمته، يصبح مركز الطواف الجديد لأهل القرية، كعبة كاذبة في صحراء الحقيقة. هو مندوب النظام، الواجهة السياسية للنكسة، الزعيم البديل الذي يحتكر الغذاء والمعلومة. زوجته هربت، وابنه ولد في ذكرى يوم الهزيمة، مما يرسخ رمزية فشله الأخلاقي والوجودي. خطابه الموالي لعبد الناصر يبدو كأنه خشبة خلاص في مستنقع الفشل، لكنه في الواقع أداة قتل معنوي وجسدي للنجع.
🔹 نوح النحال: صوت المقهورين، وصدى الضمير المكسور نوح هو الحائر، القلق، الممزق بين قريته والقاهرة، بين انتمائه للوطن وتمرده على السلطة. من خلاله تطرح الرواية تساؤلاتها الأعمق: كيف يمكن لوطن عذّب أبناءه أن يطالبهم بالدفاع عنه؟ وكيف يمكن للحرية أن تزدهر في ظل الطاعة العمياء؟ لقد حطّم تمثال الزعيم، لكنه لم ينجُ من وباء الانتماء المبتور. هو المثقف الذي ضيّعته الأنظمة، يتنقل بين المدن والقرى، بين المعتقدات والانكسارات. ابنه مراد يصبح ضحية "الوطن"، بينما هو نفسه يحطم تمثال الزعيم في محاولة أخيرة للتحرر من الوهم.
🔹 شواهي: الجسد المنبوذ والمقدّس شواهي هي الغجرية التي تمثل الهامش، الرغبة، الطهر، والاختلاف. عيون الجميع تلاحقها، لكنها الأنثى الوحيدة التي لم يُصبها الوباء. رمز للأنوثة المطلقة والعزلة الحارقة، تحمل في داخلها الحلم بعالم بلا ألغام ولا رجال جوعى، ولا تماثيل ولا دين مشوّه. لم يُكتب شيء على جدارها، وكأنها خارج نظام الإدانات والخطايا، كأنها الناجية الوحيدة. هي رمز للحرية الموءودة، للجمال المتروك في صحراء الوباء. لم يُصبها الجذام، لكن المجتمع قتلها بطريقة أخرى: بنظراته، وشهوته، وصمته. رغبتها في "فارس" يحملها بعيدًا عن أرض الألغام والقلق، تجعل منها صوتًا خافتًا للحرية الأنثوية التي لم تُكتب لها الحياة.
🔹حكيم ابن الخوجة: شاهد الخراب الصامت في صلاة القلق، يصبح حكيم مرآة القلق الجمعي وذاكرة النجع المشوّهة. تتزامن ذكرى مولده مع يوم النكسة، وفقد صوته بعد أن قطع أبوه لسانه إثر قتله لأمه، فصمت جسده وتكلمت الجدران بكتاباته الغامضة. كان الذكر الوحيد الذي نجا من الوباء في نجع المناسي، المكان المحكوم بالوباء، والجنون، وتحريف الدين. عُدّ مجنونًا، لكنه في الحقيقة راويًا عليمًا يفضح المسكوت عنه من خلال جلسات الاعتراف العارية. سمع الأغاني، وعرف الأسرار، وعشق الغجرية شواهي، لكنه اختار الهرب في لحظة الحقيقة. حكيم هو الابن غير المرغوب فيه، الناجي المشكوك فيه، الحامل لأسئلة لم يجب عنها أحد: "متى تحين ساعة الرحمة؟ وأني يُحاسب المفسدون؟"
🔹 شخصيات الجلسات: فسيفساء القهر والصمت والتشهير ▫️الجلسات الثمانية في الرواية هي محاكم رمزية، تفضح المستور، وتعرّي النفوس: ▪️محروس الدباغ الذي يغتصب ابنته المعوقة. ▪️وداد التي يُتهم بيتها بالموت والعار. ▪️عاكف الكلاف الذي يُشاع عنه نكاح الغنم. ▪️محجوب النجار المتهم بالعقم. ▪️زكريا النساج الذي قُتل ليخمد صوت الحلم الفلسطيني، وليتحول جسده إلى شعار على الجدار. ▫️هذه الكتابات على الجدران تحوّل القرية إلى مسرح للعار، والجدران إلى صحف خائنة، والبيوت إلى أقفاص لفضائح مُختلقة أو حقيقية، لا فرق.
📌صلاة القلق: الطقس المضاد للمعنى، دين جديد لسلطة خائفة
🔹الصلاة التي ابتكرها الشيخ أيوب هي جوهر الرواية. ليست عبادة، بل انكسار، ليست تسليمًا لله بل للخوف. صلاة بدون ركوع لأن الكبرياء يمنع، وبدون تشهد لأن الاعتراف سقط، صلاة اختُرعت للنجاة من وباء خلقه المصلّون أنفسهم.
🔹"صلاة القلق" ليست طقسًا تعبديًا، بل هندسة قهر نفسي، صمّمها الشيخ أيوب ليؤكد سلطته. صلاها الناس كما يُصلّون في الأنظمة القمعية: من دون وعي، من دون ركوع ولا سجود، خالية من أي معنى إلا الطاعة.
🔹هي صلاة لا ترفع البلاء، بل تُبقيه. إنها مرآة للواقع: طقس بلا روح، عبادة بلا خشوع، إله مزيف في هيئة سلطة.
🔹الشيخ نصب نفسه وسيطًا بين الناس والله، وبهذا أعاد إنتاج الخوف بشكل روحي، محولًا الدين من مساحة خلاص إلى أداة سيطرة. وهذا التحريف يتماشى مع خطاب الرواية العام حول كيف تستغل الأنظمة الدين والإعلام والثقافة لتبرير القمع.
📌الثورة التي أكلت أبناءها: خيانة الحلم
🔹الرواية تقول بوضوح: الثورة، حين تنقلب على مبادئها، تقتل أبناءها. من الثورة التي حلم بها الفلسطيني زكريا موسى، إلى الحلم المصري بـ"العدالة والحرية"، نجد الخيانة في كل ركن: ▪️جدران البيوت تحولت إلى لوحات تشهير. ▪️الدين استُخدم لإرهاب الناس. ▪️الزعيم الذي من المفترض أن يوحّدهم، يفتك بهم. ▪️خليل الخوجة قتل زوجته كي لا تذيع نبأ وفاة عبد الناصر. لقد أصبحت رمزية الزعيم أهم من الحقيقة نفسها، أهم من الحياة. حتى الأطفال في النجع ماتوا وهم يحلمون بمغادرة القرية عبر بوابة الحرب، لا التعليم. لقد تحولت الحرب إلى طريق "النجاة"، في مفارقة مأساوية.
📌 اللغة والسرد: تشريح للروح الجماعية
لغة الرواية تمزج بين الشعرية العالية والتقريرية الرمزية. الإيقاع بطيء، متأنٍ، كما لو أن الزمن نفسه فقد إحساسه بالاتجاه. الشخصيات تتحدث بلغة تشبه الاعترافات، أو الوصايا، أو حتى الكوابيس.
📌رمزية أغاني عبد الحليم حافظ في الرواية
في الرواية، يُمثِّل صوت عبد الحليم حافظ الخلفية الموسيقية لعقدٍ كاملٍ من الوهم، حيث يُصوَّر موته عام 1977 كرمزٍ لانهيار الحلم القومي وانكشاف الحقيقة أمام سكان "نجع المناسي"، القرية المتخيلة التي تعيش في عزلةٍ عن العالم تحت تأثير دعايةٍ مضللة. تُوظِّف رواية صلاة القلق أغاني عبد الحليم حافظ كرمزٍ للحلم القومي والوعي الجمعي في الحقبة الناصرية، وتُسلِّط الضوء على التناقض بين الواقع والوهم. من خلال هذا التوظيف الرمزي، تُقدِّم الرواية نقدًا عميقًا للسلطة والدعاية، وتُبرز كيف يمكن للفن أن يُستخدم كأداةٍ للهيمنة أو للتحرر.
📌خاتمة و تلخيص:
🔹في رواية "صلاة القلق"، ينقلنا الكاتب إلى قلب الصعيد المصري، إلى قرية نجع المناسي المحاصرة بالصحراء والألغام والخوف، حيث لا شيء يبدو بريئًا: لا الدين، لا السلطة، لا حتى الخلاص. تحفر الرواية عميقًا في تربة الاستبداد، وتكشف كيف يتحول البشر إلى ضحايا وهامانات وكهنة في معبد الخوف الكبير.
🔹صلاة القلق ليست فقط عن القلق، بل عن استحالته. رواية عن جماعة منهارة، تتنازعها الآلهة الزائفة، ويطوف أفرادها حول كعبة لا يسكنها الله. فيها يتساوى القاتل والضحية، وتتداخل حدود الدين بالسياسة، والجنون بالحقيقة، والحب بالخوف. رواية تكتب شهادة وفاة الزمن الناصري، وتشيّع جثمان الأمل الشعبي، في موكب مليء بالعار، والتماثيل، وصلاة لم تُسجد فيها الجباه.
------------------------------------------------
3. إقتباسات:
💬"طالت الليالي كأنها ليل واحد ممطوط."
💬"راح شكه يتعاظم تجاه كل شيء و يتساءل عن ذلك الإله الذي خلق نجعا منزويا كنجعهم هذا، ثم أسلم مفاتيح السماء و مصائر العباد إلى رجل مجهول الأصل مثل خليل الخوجة و إصطفاه ليحل محله، كنبي بعثه في قوم نسيهم ببقعة ممحوة من السجلات."
💬"تعجب بعض السامعين من تفرغ المصابين لنحت التماثيل لمن زج بهم في الحرب."
💬"الوطن كأم و نداؤه أكثر قداسة من دموع البشر."
💬"وباء القلق يجرده من إرادة المواجهة"
💬"لم أستوعب أن وحيدي أمسى الآن مدافعا عن وطن عذب أباه و نكل به تحت جناح الظلمة، قبل أن يقتاده هو إلى جبهة حرب من دون وجه حق."
💬"بدأ الوطن أكثر جمالا و أشد تعلقا بشغاف القلب حين خلعت عنه عباءة الزعيم."
💬"رجوت من الله أن يجعل مني قديسا كذلك الذي شق الترعة في رواية الأسلاف، قديسا يبشر بالحرية، و يقيم بين الناس فلك الخلاص، قبل أن تدور دائرة التاريخ فيدهمهم سيل جديد."
💬"الجميع مدينون للخوجة، و الرجل في حقيقة الأمر مشكور لأنه يقبل بالبيع الآجل، حتى و إن إتهمه رجل كالنحال بأنه يحكم سيطرته على الناس عير لي أعناقهم بالدين."
💬"خطب في الناس عن صلاة واجبة تذهب الشر و تدرأ وباء القلق."
💬"يوم أضاءت سماء النجع بغتة، تصورت أن الله يلتقط للناس صورة من عل، و الويل كل الويل لمن حصلته الصورة و هو يرتكب معصية أو خطيئة."
💬"أصدق الحب ما كتم."
💬"إستنتجت أن مطلبي غير جائز. الجريدة إذن قدر و مصير لا مفر منه و لا سبيل إلى إجتنابه، تماما كالحرب."
💬" كل شيء يمر من خلال الخوجة، هو كعبة النجع التي نحج إليها. بشر ملعونون صفدوا في قيودهم و أجبروا على الطواف حول بيت لايسكنه الله. كل أسباب إستمرار الحياة لدى خليل الخوجة، المؤن و العقاقير و الأخبار، سجلات الموت و الوفاة ملك يمينه. الخطابات تصل إليه و ترسل من خلاله، هو محطة السكة الحديد التي لم يرها الناس، هو الميناء الذي يبحر بأبنائهم إلى فراغ لا نهائي، هو المرفأ لقوارب النجار المهملة، هو المطار الذي تنطلق منه الطائرات للإغارة على مواقع العدو، هو القطار الذي فقد صافرته، هو صاحب العربة الزرقاء المعطوبة، و هو من يملك إصلاحها إذا شاء."
💬"الناس في نجعنا ما بين ناقم و خائف و راضخ، كل ما يفعلونه هو أنهم يواصلون الطواف حول كعبته."
💬"لكن المسؤولية التي أحنت ظهره خلال الأسابيع الأخيرة تدفعه إلى مقاومة الإنهيار. مسؤولية التوسط بين الخالق و العباد بغية رفع البلاء تقصم ظهره، و كل أمله أن تؤتي صلاته المبتكرة ثمرها خلاصا و إنعتاقا."
💬"أريده فارسا....، أريده حرا، يقتلعني من هذه الأرض المأسورة ليزرعني فوق وسادته...، في عالم آخر لا يعرف الألغام و التماثيل و الأوبئة، عالم بسيط لا يثقل هواءه القلق، و لا تمطر سماؤه الحجارة، و لا تمتلئ طرقاته بعيون تعري و تخمش و تجرح، عالم لا يقتل فيه النساج، و لا يعرف عجز الشيخ أيوب، و لا دهاء خليل الخوجة، و لا جنون النحال المكلوم، عالم للناس فيه صوت خفيض، و عيون عامرة بالقناعة و الإستحياء، يطوف فيه الصبية و الصبايا بضفاف أحلام غزلها بعضهم حول بعض، من دون أعراف تمنح و تبيح، و أخبار تسر و تذاع."
💬"لم أؤمن يوما أني إمرأة محظوظة ، على النقيض، ربما كنت منحوسة أختزلت سنوات عمرها بين قافلة غجر و أرض محاصرة بالخوف."
💬"أعجيب أن أشعر بالخوف و أنا أدرك أني لم أوذ أحدا؟"
💬"...أو التوجه إلى المسجد حيث تختلق صلاة بكر لم تسجد فيها الجباه قبل اليوم."
💬"الحق قادم، و النور ظاهر، و الخير مآل الحكايات كافة، كل النهايات ستكون سعيدة، و كل الأشداق ستمتلئ بضحكات الرضا و الحبور."
💬"يتصفح نوح الوجوه القلقة، باتوا جميعا يحملون وجها واحدا، لهم القسمات ذاتها التي لا تبدي أي دهشة."
💬"الحقيقة لن تأتيهم و هم جالسون أسفل منبر الشيخ. و الخداع وحده قادر على طي صفحات الأمل في عقولهم."
💬"إنهم يعيشون كما يعيش القتلى في إنتظار رصاصات تدمغ موتهم."
💬"و كنت أتمادى في نسج الخيال، فأتساءل: و لماذا لا يموت الزعيم قبل ذلك فينطفئ فتيل الحرب؟"
💬"يطاردني ذلك الرجل بنظراته العدائية الحادة، لاأعرف أيوجه نظراته إلى العدو أم إلي أنا أيضا، لمجرد أني لا أصدق كلماته و لا أشاركه الحلم، فلا أؤمن بنبوته؟"
لم تعجبني لا سياسيا ولا روائيًا. نسخة ٢٠٢٥ من شيء من الخوف لكن أضعف كثيرًا. كثير من التكرار والحفلطة البلاغية. فكرة النيزك والوباء كلحظة فارقة لا تكشف نفسها في مسار الاحداث ولا في تركيبة الشخصيات وإنما يضطر الكاتب مرات ومرات ليكتبها في فقرة مكررة ليذكرنا بحرب ١٩٦٧. اذا كان هناك سياسة في قرارات البوكر فهي اولى الروايات المرشحة لتعبر عن ذلك خاصة في توقيت مثل الذي نعيشه وسياسة كالتي تتبعها الدولة المضيفة للجائزة. تلائم تماما أفكار الدولة الوظيفية في اعتبار مواجهة اسرائيل حربا وهمية لا يعود منها الابناء بلا ذنب اقترفوه وتقنعنا ان الفلاحين كرهوا عبدالناصر الذي اعطاهم الأرض وان كل حب له كان نتيجة خداع شيطاني جوبلزي وان من انتزع الأرض منهم ثانية هو امتداد عبد الناصر. الفكرة التافهة التي يتبناها ليبراليو المعارضة الذين يحصرون مشكلتنا في السيارات المموهة. ثم يعود الكاتب ليكذب على الهواء قائلا إنه لم يقصد عبدالناصر وليس ضد الحروب التي تحرر الأرض.
في روايته الصادرة عن دار ميسكلياني – تونس ��لعام ٢٠٢٤ وعبر ثماني أو تسع شخصيات، حسبما ترى ألاعيب السرد التي صاغ بها الكاتب روايته، وبمروياتهم جميعًا يختبر الكاتب «محمد سمير ندا» عدة فرضيات وإن بَرَزَ بشكل جلي ثنائية الخنوع وفرض السيطرة على العقول.
في نجعٍ مُتخيل لم تعرفه الخرائط الرسمية لصعيد مصر، يُدعى «نجع المناسي» يُحاصر سكانه بحزام من ألغامٍ يفصل بينهم وبين الواقع، بل وبين الحياة، وخاصة بعدما ظن الجميع أن انفجارًا قد وقع في سماء النجع، أرجعه البعض لسقوط نيزك من الفضاء، فانعدمت الحياة، واستمر انقطاع كل سبلها لعشر سنوات كاملة بداية من لحظة الإدراك الأولى ١٩٦٧ خاصة بعد نكسة الخامس من يونيو والتي تزامنت مع دوي الانفجار المجهول، والتي أيضًا انقلبت انتصارًا حقيقيًا داخل النجع.
استخدم الكاتب تكنيك تعدد الرواة ليشكل العالم الذي امتاز بخصوصية اللحظة التاريخية المأزومة، ولشيء ما بدأ كل مروية بفعلٍ مغاير تمامًا لواقع النص والنجع ألا وهو «الاستيقاظ»، ويمكن قراءة النص بكليته كصراع بين الخنوع واليقظة، إذ يستفيق صاحب الحكاية من نومه، أو غفلته، ليشرع في استيعاب كم هائل من التغيرات التي حدثت في ذاته وفي عالمه الخاص والعام. فثمة حدثٌ ما، قلق لا يمكن لأحد القبض عليه، لكنه يغلف الهواء، ويذوب في الماء، فأهل النجع جميعًا أصيبوا بعلة ما، وباء أسقط شعر الرؤوس والأبدان، وبدل ملامح الوجوه لتصبح منكمشة كرؤوس السلاحف. اثنان فقط أخفق مسعى الوباء في النيل منهما «حكيم» الصبي بلسانه المبتور و«شواهي» الراقصة الغجرية!
يُساءل الكاتب المحرمات الثلاثة في بلادنا العربية طوال الرواية «الدين، السياسة، الجنس».
ارتكز النص بالأساس، خاصة في عنوانه، على مساءلة للدين، فالصلاة التي ابتدعها «الشيخ أيوب» إمام المسجد وشيخ النجع وابن «جعفر الولي» العائد من الموت، هي سلطة ما سنّها الشيخ لينقلب الناس على أنفسهم، فالجُرم في نفوسهم الضالة، التي لم تعرف إلى الله سبيلًا، وما النيزك والوباء سوى عقاب يستحقه أهل النجع كما استحقه المفسدون في أساطير الأولين.
وهنا يظهر الدين كأداة في يد السلطة، وكسلطة في حد ذاته، فيبدل تكوين العقول، ومنطق التفكير، فتشعر دائمًا بالذنب، وبأنك تستحق العقاب، وبأنك مُلام، ولكن ليس من منظور يدفع نحو العمل للتغيير، لكنه منظور يثبط الهمم، يدعو فقط إلى الانعزال، البعد عن التفكير، النقد، العمل الجمعي، تجنب الاشتباك مع الواقع وتجنب مساءلته.
وليس هذا فحسب، فللدين خصوصية في النص، وفي العالم العربي عامة، وهناك سردية ما تسيطر على الدين، وتتعارض بالكلية مع التصور الحديث للدولة، والعمل السياسي، وهي تجنب الاختلاف والدعوة الدائمة نحو توحيد الصف، واعتزال الفتن، رغم أن العالم الحديث، والقديم أيضًا قائم على الفتن، فطالما وُجد صراع ما بين تصورات حول شيء ما، والواقع والتجارب في كل العالم تثبت ألا سبيل للخلاص إلا الخوض في تلك الصراعات، واختبار كافة التصورات ليبقى من يصمد ويفيد البشر. والدين أي دين مهما كان، في لحظة مهده كان فتنة، ثورة لخلق عالمٍ أجمل.
وأخيرًا، التلاعب بالوعود الأخروية للدين، يجعل الناس أكثر صبرًا وتقبلًا للواقع لأن نعيمًا ما قادم لا محالة، تَقَبُل يتحول مع الوقت إلى انسحاق تام أمام قسوة هذا الوقع، ويزيد الهوة الفاصلة بين لحظة المأساة الراهنة ولحظة الحُلم أو التغيير.
السؤال المُحرّم الثاني في النص هو سؤال الوعي السياسي، عبر شخصية «خليل الخوجة» الواصل الوحيد بين أهالي النجع والعالم الخارجي، صاحب الراديو الوحيد، والجريدة الوحيدة «صوت الحرب». وهنا تتشعب المسؤوليات والإدانات، يفرض «الخوجة» سلطة ما بدءًا من «التموين» فهو من يشتري كل ما ينتجه أهل النجع، وهو من يبيع لهم كل احتياجاتهم، هو من يحدد سعر البيع وسعر الشراء، هو من يقتطع نصيب «المجهود الحربي» من أموال الأهالي، وربما كانت له صلة باليافطة التي كانت سببًا في عزل النجع عن الواقع من حوله، رُسِمَ «خليل الخوجة» ليكون سيد هذا النجع.
ومن جهة الأهالي هناك خنوع مفرط، انبطاح لم يكسر ركوده سوى بعض المحاولات الفردية التي فشلت جميعًا، ويبدو لي أن هذه هي سُنة الحياة وقانونها، فالعمل لا يكون ناجحًا إلا جماعيًا. وعبر طيف واسع من النضالات لن ترى إلا ذلك التكتل الجمعي، بداية من حروب التحرير ومقاومة العبودية والحركات النسوية وصولًا إلى الحركات الخضراء التي تدق جرس إنذار أزمة المناخ. أما العمل الفردي، فيبتعد كل البعد عن الواقع، ويتحول إلى تراچيديا يمكن أن تكتب كمأساة وأحيانًا كملهاة.
وهنا مساءلة أخرى حول مسؤولية الأهالي، ويبدو أن الكاتب بذلك الوباء الذي حولهم إلى مسوخ أدانهم بقدرٍ ما، وكذلك يبدو جليًا أن للحرية والكرامة ثمنًا، ولن ينالهما إلا من يقدر بشجاعة على دفع ذلك الثمن.
نلاحظ كذلك أن «ندا» أدان «الشيخ أيوب» و«خليل الخوجة» بواحدة من أكثر الإدانات ذكاء وبعدًا عن الفجاجة، وهي الحرمان من الصوت الخاص، فلم يسمح لهما بسرد حكايتهما الخاصة بضميرهما الخاص، وكأنه يقول لهما «أخذتما الحق عبر طول الرواية/ الحياة للكلام ولم نرَ منكما شيئًا يستحق السماح».
والسؤال الثالث عبر الرواية، هو سؤال الجنس، وحرية الجسد، والذي بدا خلال الرواية أن الكاتب لم يستقر على مسعى محدد بشأنه، أو لم يملك إجابة واضحة حوله، فالكاتب وعبر شخصية «شواهي» الغجرية الراقصة صاحبة الخمارة، التي يرتادها كل رجال النجع، رسم شخصية مستهلكة ليست بأصالة وتميُّز بقية الشخصيات التي تعبر عن سؤال مركزي في النص، ولمحورية دور «شواهي» كان مفترضًا أن تكون أكثرهم فرادة.
يتم التعرف على «شواهي» عبر المرويات إلى أن يحين دورها كسادس شخصية يسمح لها بالحديث. الاستهلاك جاء من الرغبة المفرطة في جسد «شواهي» من كل رجال النجع، وهذه الفكرة ليست أصيلة، وراجت في أفلام المقاولات لعدد ممن عُرِفن بنجمات الإغراء «نادية الجندي» وغيرها. لكن الأزمة لم تقف عن ذلك الحد، فبعد تصدير صورة «شواهي» كحرة منطلقة لا تأبى بأحكام النجع الرجعية، وحين جاء دورها لتحكي قصتها، جاءت القصة خاضعة بالكلية لذلك المنطق الرجعي، بالحديث حول الطهارة والشرف والعذرية، وكل ذلك من المفردات التي تتعارض مع الثورية التي رُسمت بها، ومع النضالات حول حرية الجسد.
لكن ومع شخصية نسائية أخرى ستشعر أن ثمة محاولة للكفاح تترنح بين الجديّة والتشوّه، والاعتراض الغاشم على المفروض حتى وإن كان القدر بمفهومه الديني.
«وداد» أو قاتلة الأطفال المشوهين، بفلسفة لن تقدر أبدًا ما دمت طبيعيًا على التعاطف معها، لكن شيئًا بداخلك لن يقدر على مقاومة مرورها إليك، فهي تسعى لما تراه طبيعيًا، وترفض ما عاداه، ربما مدفوعة برغبة الأمومة التي حرمت منها، ربما هي فلسفة عن الوجود الإنساني وكيف له أن يكون منضبطًا خالصًا، للدرجة التي ترفض إصبع زائد بكف اليد، فهذا الإصبع تشوّه لم ولن يُفرض له أن يوجد. ويتطور الرفض إلى النجع وأهله وتبني «شواهي»/ الثورة.
كانت تلك الأفكار الرئيسة الثلاث التي رأيتها في النص الحافل بالثيمات والأفكار، كالتي مررها الكاتب عن الصراع العربي/ الفلسطيني، بالضبط كما قرأت العربي/ الفلسطيني، عبر شخصية «موسى الريماوي» والد «زكريا النساج»، وبدا أن الكاتب أرتد بالزمن لما قبل استغلال القضية الفلسطينية سلبًا وإيجابًا، إذ عاد للحظة الأولى «نكبة ٤٨»، حينما شارك «موسى» في الحرب، وأشار الكاتب في أكثر من موضع إلى ذلك المشترك النقي الممتد بين العرب، قبل تشكل ما يعرف بالوعي القومي، في سنوات حكم ناصر، تلك النقاوة التي تم تعكيرها عبر استغلال الدكتاتوريات لها، من ناصر إلى أبنائه صدام والقذافي وغيرهم، واليوم يتم التنصل من تلك الأرض وكأنها لا تعني أحد في شيءٍ.
هذه الرواية طُبخت على مهلٍ، لم يبخل الكاتب عليها بوقته، أعاد كتابتها عدة مرات، اعتنى بكل ما فيها، استخدم تكنيك مميز في السرد، أجاد في تمييز أصوات الرواة عبر روح كل شخصية، ورؤيتها لما حولها بفلسفتها الخاصة التي تجتذب شيئًا وترفض غيره، وإن كان لي اختيار درة بالنص، ستكون ذلك التمايز بين الرواة، رغم الكثرة وتقارب درجة الوعي. كذلك رصع الكاتب النص بلغة عذبة وفريدة في رشاقتها، وإن عابها عدة جمل حوارية بدت حمولتها أثقل من وعي الشخصيات وقدرتهم على القول، وكذلك بعض الاستطراد في بضع مواضع، لكن تغلب «ندا» على كل ذلك بألاعيب سرده الممتعة، والجوائز التي تراصت للقارئ بنهاية النص والتي تجعلك تتشكك في كل ما قرأت، وترغب في إعادة قراءة النص بأكمله وفقًا لشرطه الجديد.
بعض الاحيان نقرأ شعرا او كتابا او مقالا او ربما كلمة قالها شخص ما او جملة من القرآن وكلها تثير فينا شجنا لم نكن نعرف أنه موجود في داخلنا. هل تأتي هذه الشجون من القلب او من العقل؟ كيف نستمع إلى اغنية وسطرين منها فقط ونكتب ٢٠ صفحة. ما الذي يحرك مشاعرنا ويشعل قريحتنا؟
من كتب اول كتاب؟ وماذا كانت الاسباب التي دعته للكتابة؟ هل استلهم اسطره من أحد؟ ام جلس مع ملَك أو ربما جلس مع احدٍ من الأجسام التي لا نراها وقرر ان يكتب؟ طالما تمنيت ان اعرف!
لنرجع إلى هذا الكتاب الغريب! عندما تقرأه تحس ان الاشخاص والنجع والسلاحف تحيط بك وتصرخ انقذنا انقذنا! انه ليس كتابا كنت سأقرأه لأنه لا يندرج تحت قائمة ال فيكشن التي اقرأها عادة ولانه سيندرج تحت قصص الرعب ولهذا السبب لن يظهر تحت مجهري! ولو انني لم انظم إلى جلسة المناقشة لما عرفت عنه. طريقة الكاتب تجعلك لا تترك الكتاب أبدا. تخيل الاتي: انت في السماء ولديك منظار تسلطه على هذا النجع وترى الناس واحدا واحدا في نفس الوقت وكلٍ يحكي قصته في نفس الوقت. والراوي الحكيم هو الذي يستطيع ان يباعد بين الأصوات ويسجلها.
هذا كتاب يتحدث عن منطقة اسمها النجع في مصر ! والاسم يعني : النجع أو الكَفر أو القُريَّة أو الدَّسْكَرة أو العِزبة هو نوع من المستوطنات السكانية. (ويتنوع تعريف النجع بحسب البلد. وهو عادة ما يشير إلى مستوطنة صغيرة، بها عدد صغير من السكان في منطقة، لا يزيدون في العادة عن 100 ، أو عنصر من مستوطنة أكبر أو بلدية.)
المتحدثون: الشيخ أيوب المنسي نوح النحال محروس الدباغ وداد عاكف الكلاف محجوب النجار شواهي زكريا النساج جعفر الولي ( والد الشيخ أيوب) الذي دفن وبعدها رجع للحياة حكيم ابن الخوجة ( وهو كاتب القصة) الشيخ أيوب مخترع صلاة القلق
ولكن المفاجأة تأتي في النهاية. هنا تحدث الراوي الحكيم بنفسه عن نفسه وتتمنى لو انك لم تقرأ القصة.
نعيش الان في نفس الحرب تلك! وتتوالى الحروب علينا ولا نعرف متى سنبدأ بالشعور بالأم��ن. هل خلقنا لنشعر بالخوف طوال أعمارنا؟ هل نتبع الشيخ أيوب ونصلي صلاة القلق؟ ربما
(دخلت القصة في القائمة القصيرة للبوكر ٢٠٢٥) لقد فازت القصة بجائزة البوكر ٢٠٢٥
اقتباسات:
لكن الافواه باتت مطبقة، والعيون مشرعة على السماء حيث أغشاها ضوؤها العظيم
لا أقدر على استرجاع ما حدث طوال الايام التي قضيتها بعينين مغلقتين على الهلع. فقد قرر عقلي ان يسقط الاحداث من ذاكرته وارتأى أن الاحتفاظ بذكريات كتلك كفيل بنبذ الحياة برمتها
وهكذا طوقت الحرب الشباب بسياجين، سياج خوف يقبع في الصدور، وسياج ألغام يُكبل رغبتهم في الرحيل
لماذا يبحثون عن الخلاص في طيات عباءة الشيخ، وينبشون الهواء بحثاً عن معجزةٍ تفسر تغيّر الاحوال؟ يسلمون عقولهم لخرافة الولي قاهر الموت، فينحنون أمام ولده المرتعد،ويترك،ن غدهم رهين دكان الخوجة. يبتسمون لمرأى آثار عجلات السيارات المموهة أمام داره، ويتلقفون من القصص والاخبار بإيمان ورضا، وقد ربط كلٍ منهم منديلا على جبينه أو إعتمر طاقيةً حسبها تحجب صلعته.
“ولدك هالك أيها النحال، ذلك مصير من يؤون بينهم قاتلاً”
يومها عرفت للخوف لوناً رمادياً، أو ربما هو لون اسود مشوب بحمرة النار
تسائل آخرون عن صحة إقامة الصلوات لدرء القلق! قد خلت من ذكرها كتب التفاسير ، فكيف للشيخ أن يعمم مناسكها؟ وكم ركعة تكون؟ وأي آيات تتلى؟ وأي أدعية تُقال؟
يقول خليل الخوجة بأن الالغام لحماية النجع من المتسللين، فهل يُعقل أن يظل المشمول بالحماية أسير خيمته، لا يجرؤ على خطو أمتار خارج عُمدها/ أمَا آن الاوان لنستعيد سيرة الاجداد، فنمضي بين الدروب جوّالين، نحمل اوطاننا فوق سنام جمالنا؟
فما من شاب خرج للحرب وعاد إلى النجع منذ ما يزيد على عشر سنوات. منذ نصر ٦٧ لم يعد أحد!
لماذا ترتضي الدولة أن يعيش بين ربوعها بشرٌ حُرموا من وجود طبيب بشري يعالج الشيوخ والاطفال؟ لماذا ترتضي الدولة أن يعيش في ربوعها بشرٌ حُرموا العلاج وتساووا مع الدواب في استلاب الحقوق؟
وأثق أن الزعيم عبدالناصر لا يعرف ما نعيشه اليوم. حاولت أن أكره الزعيم أكثر من مرة، لكني لم استطع.
قبلت رأسها، وعدت الى النفق، مقرراً ألا أعود إلا لاصطحابها حيث تلد النبي على الجانب الاخر المضيئ من العالم
تدور بي الارض فأفقد الوعي ولا اسقط. أفتح عينيَّ فأعي أني كنت منذ البدء شجرة مورقة مثمرة ، شجرة ذاتجدعين، وما نسح بينهما لم يكن سوى علم فلسطين
طفقت أتصفح الوجوه الموشومة بالفقد والاشتياق الى غائب لا يعود، وشعرت بألفة وقد أحاطت بي مشاعر الافتقاد وانعكست في عيون الجميع
أفلا تكون الحرب هي من جلب الشؤم إلى الديار؟، وما أنا إلا كبش فداء بريئ؟
أتجود عليَّ المصائر بالخلود إلى نوبة راحة أجرد فيها مخيلتي من هاجسها الدائم بأن الحرب في نجع المآسي لا تزال مستمرة؟ وبأن صلاة الشيخ أيوب ما زالت تنتظر المصلين؟
منيت نفسي منذ أنهيتها في منتصف أبريل أن أكتب ما لم يعجبني فيها بتفصيل في نقاط مرتبة، لكنني ما زلت لا أجد سعة نفسية ولا وقتية لذلك، فأستسلم الآن.
فكرة القرية المعزولة غير جديدة وتطبيقها هنا لا بأس به، لكن الشخصيات جاءت متشابهة إلى حد أنني لم أميز بينها، خاصة مع تقنية السرد متعدد الرواة فكنت أضطر للرجوع إلى الفصول السابقة لأتأكد أنني لا أقرأ على لسان نفس الشخصية.
أما الفصول الأخيرة التي من المفترض أنها تفسير لوحدة اللغة فلم تقنعني، كان من المفترض أن أكتشف بنفسي إجابة سؤال اللغة لكنني شعرت أن الكاتب هو الذي يقدم شرحًا مباشرًا لخياراته في كتابة الرواية، هذا إلى جانب عدم منطقية أن يمتلك حكيم متواضع التعليم لغة عالية كهذه.
يبدو السرد في رواية محمد سمير ندا "صلاة القلق" مخلصًا للحظته التاريخية وحكايته البعيدة شديدة الخصوصية، فليس ثم أي محاولة لإسقاط الماضي على الحاضر، ولا صنع رموز كاشفة للشخصيات التي يتم تناولها والحديث عنها في مجتمع القرية/الرواية، ولكن كل ذلك لا ينفي بالضرورة أن تكون الرواية أمثولة للعالم، إذ كل حكاية قابلة للتأويل، بل وكلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية، كما يشير إلى ذلك الكثير من الدارسين والقراء على السواء.
رغم أن التجربة التي ينطلق منها الروائي المصري محمد سمير ندا في روايته "صلاة القلق" (دار مسكلياني) تبدو واقعية تعود إلى التاريخ تحديدًا لحظة النكسة 1967 في مصر وما تلاها، إلا أن القارئ سيفاجئ بأن ثمة بناء أسطوريًا وفانتازيًا تقوم عليه الرواية، التي تحكي عن قرية مصرية، نجع المناسي، التي انعزلت عن العالم، بل وأوهم سكانها أن انتصارا مصريًا تحقق في ذلك العام بدلا من النكسة، وظل الناس لعشر سنوات أسرى ذلك الخيال/الوهم، الذي ساهم فيه عدد من الشخصيات التي استطاعت أن تفرض سيطرتها على القرية بدءا بخليل الخوجة الذي أصبح بمثابة وزير إعلام النجع والمتحكم في كل ما يصل أهلها من أخبار ومعلومات، أو أيوب المنسي الشيخ الذي يبرر ويقرر ما تدور فيه القرية من أحوال حتى يصبح وسيلتهم لتقبل الأمر الواقع والرضا والتسليم التام به.
((عقلي جراب حاوٍ فقير سقطت منه أغلب الحيل فانفض من حوله الأطفال، ومع ذلك فبعض المشاهد القديمة احتلت مساحة ضخمة من الذاكرة المثقلة ذاتها، شواهي، طفلة وصبية وامرأة، تحتل المساحة الأكبر، فرحتها بالأقراط والسلاسل ورسوم الحناء، سعادتها بجلبابٍ جديد أو قطعة قماشٍ ملوّنة مهداة من عروس تطلبها للرقص في عرسها))
من خلال شخصيات القرية المختلفة، نتعرف الى ذلك العالم الذي يغرق في الخرافات والأساطير الى درجة أن أبناء أهل القرية يغيبون في حربٍ لا يعرفون تفاصيلها، ولكنهم يستسلمون لمشيئة الأقدار، ويروي الكاتب ببراعة كيف يستسلم البسطاء لهذه القوى، وكيف تؤثر على حياتهم، بل إن بعضهم يعلم يقينا أن الخرافات والأساطير تحيط به لكنه لا يملك إلا أن يخضع لها. ندور بين شخصيات نوح النحال ومحروس الدباغ ووداد الداية وشواهي الغجرية والشيخ جعفر الولي وغيرهم، ومع كل شخصية تتكاثر الحكايات وتتشابك حتى تغرق القرية في ظلام لا يظهر منه أي ضوء.
يبدو اختيار تعدد الشخصيات/الأصوات الخيار الأمثل لمثل هذه الحكاية، وعرض تفاصيلها، من وجهات نظرٍ مختلفة، ولكن على الجانب الآخر يبدو الرهان على تمايز هذه الأصوات صعبًا، فاللغة التي كتب بها ندا الرواية شديدة الشاعرية، والقارئ سيلاحظ على الفور أنه ليس ثمة فروق كبيرة أو جوهرية في اللغة بين النجّار والنساج والغجرية مثلاً، بل حتى ولا الولي، في الوقت الذي تعمّد ترك الخوجة بلا صوتٍ خاص، فالجميع يتحدثون عنه ولكنه لا يملك ناصية الحديث، ولا يخصص السارد له فصلاً خاصًا أسوة بغيره، من جهة أخرى قد يبدو ذلك تعمدًا لوضع المهمشين في القرية موضع البطولة والصدارة، رغم أن القرية/النجع والأحداث التي تدور فيها هي البطل والمحرك الأساسي في كل حال.
يمزج محمد سمير ندا بين الواقع والفانتازي، فثمة نيزك يضرب القرية ويحوّل وجوه أصحابها فتصبح كوجوه السلحفاة، ويقر الشيخ بأن ذلك غضبٌ من الله على أهل القرية، ويفرض عليهم صلاة خاصة بطقوس محددة يسميها "صلاة القلق" ويستجيب له الكثيرون، وهكذا تنشيء الرواية عالمها الموازي للواقع، الذي يكشف عن الكثير مما يدور في عالم اليوم، حتى لو لم تفرض على الناس العزلة ولم يقهرهم سلطان ظالم.
((الكتابة توفر كل صنوف العناء، إذ تجنب المرء التردد واللعثمة، وتحرر من سطوة نظرات المستمع، خلف الورق تتوارى مشاعر وتختبئ دموع وتحتبس صرخات، ربما كان لها أن تشتت الأسماع، وفوق ذلك ترتب الأحداث، وتكتسي الحكاية بالهدوء.
جرّبت كل شيء، مضيت والوطن جنين ينبض في أحشائي، لم أعرف كيف ترسم حدود الأوطان بالألغام ولافتات التحذير، والأسلاك الشائكة، ولأي غايةٍ تسال من أجلها شلالات الدم بغير حساب، وطني الذي أذكره اختطفه خليل، ووطني الذي أصبو لمعانقته مايزال جنينًا يتنقل بين حجرات الذاكرة، يبحث عن مخرج ))
يأتي فصل ما قبل النهاية بعنوان "هوامش كاتب الجلسات" ليضع القارئ في الصورة شبه الكاملة لمواقف وأحداث الرواية من وجهة نظر الكاتب، ويبدو فيها أثر الروائي، وما فعله معنا وبنا منذ بداية الرواية، وانتقالاته بين الشخصيات والأحداث، رغم معرفة القارئ الأولى بالحدث الأساسي الذي أصاب القرية، إلا أنه يتطلع لمتابعة الحكايات ومواصلة القراءة أملاً في الفهم، لماذا جرى ما جرى؟ وإلى أي شيءٍ سيئول كل ذلك، حتى تأتي المذكرة النهائية وكأنها المكافأة التي يقدمها الكاتب للقارئ الشوف الذي حرص على متابعة كل تلك التفاصيل وربط المواقف والأحداث سويًا.
تجدر الإشارة إلى أن رواية "صلاة القلق" هي الرواية الثالثة لمحمد سمير ندا، صادرة مؤخرًا عن دار مسكيلياني، ووصلت إلى القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية 2025.
أحب الروايات التي تجبرني على إنهاء قراءتها ، أتمم القراءة اليوم في شهر رمضان و لم أفعل ذلك إلا عنوة ، يمر حكيم الفتى الأخرس في صحوي و نومي يضع ورقة أمامي و يسألني " ألا تريد أن تعرف المزيد ؟ " أجيبه أن بلى ، افتح الرواية و أكمل القراءة ، لا اسمع الأصوات من حولي و كأن هوة فتحت تحتي فأقع داخل نجع المناسي ، يأتي وقت أشعر أن القلق الذي اعتراني يكفي و تتملكني شفقة على الكاتب بما اثقل روحه ليخرج مثل هذا النص البديع ،رواية أكثر من رائعة
8 شخصيات مختلفة تتناوب على رواية الحدث، كل منها تحمل زاويتها الخاصة، وذكرياتها، وشكوكها. معا، تشكّل هذه الأصوات فسيفساء حكائية مدهشة تُعيد تركيب السرد وتفككه في آن
منذ العتبة الأولى تُغرينا الرواية بوعدٍ لافت: قرية معزولة تتكلّمها الأساطير أكثر مما يتكلّمها الناس، جدرانٌ تُفصح عن الخطايا، وشيخٌ يبتدع «صلاة» لتهدئة هياجٍ داخليّ يعصف بالجماعة. الفكرة براقة بما يكفي لتُولِّد رواية جيدة، لكن التنفيذ كثيرًا ما يذهب بها إلى منطقة الوعظ المباشر والتنظير الثقيل واللغة المعاد تكرارها وتداولها بشكل ممل ، وكانها تدور في فلك واحد لا يتغير ابدا ..
تعدد الأصوات يبدو في ظاهره تقنية لإثراء المنظور، لكنه عمليًا لا يمنحنا ذواتًا مختلفة وملموسة التباين؛ الأصوات تتشابه في نبرتها ومعجمها وفي ميلها إلى الشرح والتأويل، حتى تكاد تسمع الشخصيات كلّها وهي تنطق بلسان «المؤلِّف العارف». تتقدّم الخلاصات قبل الوقائع، والمعنى قبل المشهد، والرسالة قبل الإنسان. ومع أن الفانتازيا – «الكتابة على الجدران» و«الصلاة المبتدعة» – توفر أدوات رمزية قوية، إلا أن النصّ يضغطها حتى الإفراط ..
لغة الرواية مطواعة ورشيقة في جُملها القصيرة، لكنها مشغولة بتفسير نفسها طوال الوقت. قليلٌ هو المشهد الذي يلتصق بالذاكرة وقليل ما يحفزك على التأمل والمشاركة في روح الرواية ..
أما الإيقاع فمشكلة الرواية الأكثر فداحة: الأحداث بطيئة إلى حدّ الركود، والبطء هنا ليس «تأنّيًا فنيًا» يُنمّي التوتر، بل تباطؤًا يستهلك الطاقة الدرامية. كثير من الفصول تُدار كتمهيد لشيء كبير سيقع «حالًا»، ثم لا يقع أي شيء 😅 هكذا بكل بساطة؛ أو يقع على هيئة تقرير بارد يقفل الباب بدل أن يفتحه ولا تتخيل ان يزيد ذلك جوعك للمعرفة بل يستفزك ويحيرك قدرة الكاتب العجيبة على كل هذا الالتفاف حول نص مكرر وقوالب نفسها على لسان أفندي جديد لا يختلف عن سابقه الا بالاسم والجنس .. تتكرر الحلقات نفسها بصيغٍ متقاربة (همسٌ عن الخطيئة، إشاعةٌ، خطبةُ شيخ، صمتٌ ثقيل) دون تصعيدٍ فعليّ يُبدّل موازين القوى أو يُعرّي الشخصية من قناعها. هكذا يتحوّل القلق – الذي يفترض أن يكون نبض الرواية ومحركها وفنها – إلى حالة سكونية تُعاد صياغتها بألف طريقة ولا تتحرك خطوة إلى الأمام..
على مستوى الشخصيات، نحن أمام نماذج أكثر مما نحن أمام بشر: الشخصيات تشعر انها قوالب متشابهة الى حد عقيم، لو حذفت الاسماء ربما وحرفت بعض التفاصيل الصغيرة لعجز القارئ عن معرفة ان الرواية تروى على لسان أكثر من شخصية.. ثم ان الشخصيات تبدو لك شخصيات لا تنتمي للمكان ولا الزمان ، انها شخصيات تأملية مجردة تحكي بلغة أدبية مشدودة ولا تعكس واقعها ولا عمقها، تخيل ان سيدة ستينية بسيطة تناقش قضايا فلسفية ووجودية غير منطقية ، تشعر ان الشخصيات قوالب فقط ومعبأة بأفكار غيرها وهي افكار الكاتب طبعا، تكاد ترى رأس الكاتب يخرج لك من النص ويقول أنا هنا ..
الخلاصة: «صلاة القلق» رواية طموحة تملك بذرة أثرٍ كبير، لكنها تفرط بها بين خطابيةٍ تُثقِل الرمز، وشخصياتٍ تُستخدم كمنابر، وإيقاعٍ بطيءٍ يهبط من التأنّي إلى الركود... القلق هنا فكرةٌ قوية، نعم، لكنه لا يتحوّل إلى تجربةٍ حية تُلهب القارئ، لم اشعر بذلك القلق الا في لحظات متباعدة وهشة .. الحاصل ان الشخصيات جامدة، الاحداث نفسها تطبخ مرة بعد اخرى ، التفاصيل لا تكاد تختلف، القلق حالة باهتة .. وتبقى الجوائز العربية تمنح لرغبات فئة (كهنوتية أدبية) تعيش في برج عاجي متعجرف كريه وذو صوت نشاز لا يربطه شيء بالقارئ العربي .. أنا لا أعمم لأن بعض الرواية تستحق ولكن أغلب الترشيحات لا ترقى حتى إلا أن تباع في بسطات يوم الجمعة..
وأخيراً انا مع فكرة الاقتباس واخذ افكار روايات اخرى والبناء عليها ولكن بما أنك تقريبا اخذت جل فكرة الرواية من روايات أخرى معروفة فعلى الاقل اجعلها افضل واقوى وليس أن تكون رواياتك نسخة مشوهة !!
يسقط جسم من السماء على نجع المناسي بصعيد مصر 1977 ليصيب أهلها بوباء عجيب تسقط فيه حواجبهم ويسقط شعرهم ويصيروا مثل السلاحف وفي سرد بوليفوني يعود للماضي في أغلب الأوقات تروي ثماني شخصيات قصة النجع منذ بدايته التي غرق فيها الأجداد من جراء سيل جارف مرورا بواقع النكسة والعقد الذي تلاها بعد أن صار النجع معزولا بالألغام والأوهام التي تحاصر أهله وحرم من معرفة الحقيقة عن الحرب ... يرمز جمال عبد الناصر بوضوح لوهم الزعيم المخلص الزائف والذي يقود شعبه لهزيمة نكراء وسط أبواق إعلامية مضللة وسلطة كذوبة وحرب لا تضع أوزارها تأخذ الأولاد والأمل ومعنى الحياة برمتها كما جاء في سرد حكيم لطبيبه المعالج : أنا ابن زمان الصوت الواحد والنبرة الواحدة والنشيد الواحد والصحيفة الواحدة فهل تعيد التناغم والتجانس بين هذا العالم البري الكاذب ورجل مثلي عاش بلا صوت ولم يعرف من ألوان الصوت سوى نغمة واحدة؟ وكل شخصيات الرواية رمزية حيث تمثل النماذج التي تبني المجتمع من حيث الخلفيات والمهن مع التركيز على شخصية خليل الخوجة والغموض الذي يكتنف ماضيه والأسلوب المريب الذي أصبح من خلاله رمزا للسلطة الأكبر في النجع التي تتحكم في مصائرهم وتحجب عنهم الحقيقة والثورة التي يقودها نوح النحال وهو من القلة القليلة التي اقتبست من نور العلم والتي تقتل في مهدها وتحرق الجميع في غضب أعمى وجامح وسكان النجع المقموعين ليسوا ملائكة حيث تفتضح زلاتهم فوداد القابلة قررت قتل أي مولود غير طبيعي لأنه في رأيها لا يستحق الحياة وسيكبد أهله المشقة والكلاف يعاشر بهائمه والدباغ يعاشر ابنته المعوقة والجنين في بطن عنايات من حمل سفاح كما أن النساج قد مات مقتولا وتأتي شواهي كرمز آخر كبير في الرواية فهي كارمن النص الغجرية التي ترفض القيود وتسعى للحرية ولا ترضخ لأهل النجع بل تأسرهم بسحرها وأنوثتها وهي الوحيدة التي غادرت النجع بدون خوف من الألغام وهي التي تنقذ حكيم في النهاية وتدله على طريق النور والحرية وإن كان حكيم يفتقر لقوتها وجرأتها والنجع الذي لا يقع على خريطة الدولة ولا يدخل ضمن نطاق رؤيتها أصلا ليس فقط مصر بل هو الوطن العربي كله الذي قيدته أوهامه ومخاوفه وفضائحه وقضي على ثوراته بالفشل ولعل كلمات شواهي هي أفضل وصف لحالهم: من نكون؟ أنكون نحن التوسلات التي ضلت طريقها إلى الله صحفا مزقتها نسائم الصحراء فطمرت حروفها بعيدا عن أعين الرب؟ لم تكن لنا عناوين ولن تكون لنا يوما فنحن قوم نحيا أسفل خارطة تبسطها الحكومة أمام القادة على طاولة الحرب لا يبصروننا ولا نلمح حتى ظلالهم لكننا نختنق. الرواية هي قصة ما أطلق عليه المؤرخ خالد فهمي الهزيمة المستمرة فنكسة 67 لم تنتهي بعد بل أصبحت الواقع العربي المعاش بصور مختلفة وتمثال الزعيم الذي حاول أهل النجع في ثورتهم العمياء إغراقه وحرقه أغرقهم وأحرقهم جميعا معه كما لو كان لعنة أبدية أصابت تلك الشعوب وكما لو كانت المقادير قد كتبت أن تكون نهايته هي نهايتهم أيضا ... كتاب يستحق البوكر ويستحقها عن جدارة
مراجعة رواية #صلاة_القلق للكاتب المصري #محمد_سمير_ندا المرشحة #القائمة_القصيرة_للبوكر_2025 📝 :
📝رواية مذهلة، باذخة، راقية ومنفردة على جميع الأصعدة. تجربة استثنائية في كل شيء ،في اسلوبها وسردها وحبكتها ولغتها وتيماتها وبناء شخصياتها ورموزها، تتجاوز المألوف والنمطيّة و تغوص بك في مزيج ساحر من الكتابة والابتكار ليشكّلا نسيجًا روائيًا متفرّدًا يأسر القارئ من الصفحة الأولى حتى الأخيرة. تلاعب محمد سمير ندا بنا منذ البدا،تلاعب بالأزمنة والامكنة وخاصّة التواريخ فأصبح الخيال يتمازج مع الواقع وصار القارئ يبحث عن حقيقة شافية يؤمن بها من وسط هذا التاريخ البديل الذي صنعه لنا وجعلنا نعيشه بكل تفاصيله.
📝تدور أحداث الرواية في قرية "نجع المناسي" ،قرية لا يعلم بوجودها احد ، ممحوّة من السجلاّت ، مقصيّة خارج الوطن ، في مكان كأنّه توقّف به الزّمن. وتتراوح احداثها بين سنة 1967 إلى سنة 1977 حيث تدور حرب ضروس منذ حوالي 10 سنوات ولم تصل بعد إلى حدود هذا النجع الموجود في الصّعيد. يقع حدث يخلّ بكلّ الموازين منذ سقوط جسم غريب يبدو كنيزك ،كحجر ناري او قمر صناعي او سهم بُعث على عدوّ اللّه يُخلّ بنسق الحياة سنة 1977، فينتشر وباء بين الاهالي سقطت به شعورهم وحواجبهم وبدوا أشبه بالسلاحف كمسوخ وإستفحل فيهم القلق والتوتّر والفزع والرّهبة والخوف من المجهول وساد الشكّ في ما بينهم فراح كل فرد يخاف من الآخر وحتّى من أقرب النّاس لديه ولم تعد حياتهم كما كانت من قبل الإنفجار. قبل هذه الحادثة أصبح النّجع مطوّقا على الحدود من قبل الجيش بحزام من الألغام ولا يمكنهم عبوره حتّى إنتهاء الحرب وبعد تواتر الأنباء عن محاولات العدوّ التسلّل إلى الصّعيد عبر عمليّات إنزال جويّ فأصبحوا مقطوعين عن كلّ اخبار مكتوبة أو مسموعة.صلتهم الوحيدة بماوراء الجدار هو "خليل الخوجة" الممثّل الرّسمي لنجع المناسي ويقوده بمباركة من الدّولة فلا تُعرف الاخبار إلاّ عبره وهو الوسيط الوحيد بينهم وبين العالم الخارجي وذلك منذ أن اعلن الزعيم تنحّيه سنة 67 قبل سنوات.فقد تعطّب الراديو الوحيد الموجود لدى الخوجة عن العمل منذ ذلك الإعلان وتوقّفت الجريدة الوحيدة 'صوت الحرب'عن الصّدور فهو لم يعد يقوم بطباعتها ولم يعُد الاهالي يسمعون أي شيء لمعرفة مصائر أبنائهم الذين لم يعودوا منذ 10سنوات والذّين أرسلوا إلى الحرب منذ بدايتها.نجع غريب لا اخبار تصلُه،لا طبيب ولا بيطريّ ولا فردا من أهاليهه يقرأ حرفا واحدا. الغريب في الامر أنّ الوباء نال من الكلّ إلا من "حكيم"الأخرس المقصوص اللّسان إبن "خليل الخوجة" وشخص آخر سنعرفه مع تقدمّ الرواية.فما السبب؟ 70 عائلة غاصت في حالة م�� الذّعر الدائم ومماّ زاد الطينّ بلّة غياب القابلة الوحيدة في النجع "وداد"عن الأنظار و"شواهي" الغجريّة صاحبة الحانة الوحيدة إذ يجهل الكل مكانهما ومقتل 'زكريّا النسّاج'بالترعة.إلى جانب ظهور عبارات وعيد وتهديد بالموت وتنبؤات سوداء كُتِبت على جدران البيوت كلّها إهانات ولعنات وفضح للمستور ما عدا حائطي 'شواهي' وزكريا النساج' و اخيرا راس تمثال يبدو للزّعيم 'جمال عبد النّاصر' الذّي صار يجوب الاماكن كلّها وبراقبهم بعد أن كان مكانه في صدر دار الخوجة وكُسِر. فيسعى شيخ النجع وإمام المسجد الوحيد"أيّوب المنسي"لتهدئة روعهم وإخفات قلقهم بدعوتهم للمسجد لصلاة جماعيّة دعاها بصلاة القلق. فما هذا الذي حلّ بالنّجع أ وباء؟أ لعنة؟أ عقاب إلاهي؟أ إنتقام؟وهل من وجود لصلاة قلق من الأساس؟ من خلال ثماني روايا،شهادات وإعترافات لشخصيّات مختلفة نكتشف الاحداث وما وراءها بشكل عجيب فمنهم النّاقم ومنهم الخانع والرّاضخ والعاجز والخائف والحيادي والمسالم والثوري المعارض والباحث عن الخلاص الفردي فهل هذا القلق الذي يجمع بينهم حالة فرديّة او كونيّة؟ من المتسببُ في القلق ؟هل الإنسان نفسه ؟هل الحروب؟هل التّاريخ المطمور؟هل السلطة والسياسات؟ هل الدّين وتاويلاته؟ام الكلّ معا؟هل القلق هو مرض العصر.هل يمكن ان يكون القلق الذي يسود الشعوب المهمشة هو السلطة ومنبعها السلطة والطغيان سواءا كانت سلطة تاريخيّة او سياسية أو سلطة دينية تجعل من شعوبها في حالة جمود وركود وخمول فكري و عجز وعدم قدرة على التفاعل والإنتاج؟
📝رواية إنفردت في بنيتها ككلّ بدءا من تعدّد أنواعها الأدبيّة فهي تجمع بين الديستوبيا و الفانتازيا والواقعيّة السحريّة في آن واحد بشكل متقن وفنيّ تتميّز بتقنيات الادب ما بعد الحداثي وأساليبه وبذلك يكون الكاتب قد كسر الهياكل النمطية السرديّة التقليديّة. كعناصر ديستوبية يوجد ذاك المجتمع السوداوي المظلم المتمثل في النّجع،مجتمع مختلّ تملأه الفوضى وهناك غياب للحريّة المتشكلّة في الحصار القائم عليها،مجتمعا يبدو مقموعا يحكمه شخصان بإيديولوجيّاتهم السياسيّة والدينية والمتمثّلين في الخوجة والشيخ أيوب،هناك سيطرة من خلال إقتطاع الاموال للدّعم الحربي والمونوبول في التجارة المستحوذ عليه شخص واحد،الرعب من المراقبة فصورة راس التمثال الذي يراقب تستحوذ على أفكار الاهالي و تذكّرنا بصورة 'الاخ الاكبر يراقبكم'برواية 1984 لجورج اورويل،مجتمع لا تعليم فيه يعمّه الجهل،يمجّدون الدولة والسلطة بمساوئها ،وجود ذلك الشخص الوحبد المتمرّد والمشكك "نوح النحال'وآخر عليم 'حكيم'واخيرا الوباء الذي إستفحل فيهم وجعل منهم منهارين. وشملت الرواية خاصيات فانتازيّة حضريّة ومظلمة بوجود عوالم غير واقعيّة كالاجنّة الكثيرة التّي تولد مشوّهة بثلاث عيون او بستّة أصابع ،كالمراة التّي تحمل وهي عاقر،كالنجع ككلّ الذي يبدو مجهولا للعالم الخارجي فظهر كعالم خيالي، موازي،وجود السحر والشعوذة في شخص 'وداد القابلة' أو القوى الخارقة ايضا في شكل التمثال. اما ككونها رواية بعناصر واقعية سحرية فذلك يبدو جليا من جعل تلك العناصر الخياليّة والخارقة بالرواية كجزء واقعي طبيعي في الحياة اليوميّة خاصّة بذكر التواريخ وبتقبل الشخصيات لما يحصل لها وتلك الغرائب رغم قلقهم وخوفهم وبذلك فإن محمد سمير ندا إستخدمها كأداة لنقد الواقع السياسي والديني هنا بطريقة رمزية وخيالية. 📝الحبكة كانت رائعة ،حيث تلاعب الكاتب بالقارئ بالمفاجآت الممتالية حتىّ آخر صفحة من الرواية.فقد وضع لنا الإطار الزّماني والمكاني منذ البداية ومنذ الإنطلاق نتعرّف على الشخصيّتين المحوريّتبن المحرّكتين للاحداث 'الشيخ'و'الخوجة'.من ثمّ حدث النّيزك والوباء وتصاعد الاحداث بذلك وحالة عدم حصول الاهالي على إجابات شافية ويتداخل الرواة ليبرزوا وجهات نظرهم وتبلغ الاحداث ذروتها فجأة بخبر وفاة عبد الحليم ووقعه على 'حكيم' ومن ثمّ ذلك الإنحدار والنّسق السّريع وتتالي المفاجآت وصولا إلى النهاية المفتوحة ،لكن هذه الحبكة مرتبطة إرتباطا وثيقا بالسّرد الذّي كان من أبرز نقاط القوّة في العمل.كان السّرد عبارة عن مراوحة بين راو عليم الذي يقدّم لنا الاحداث وراوي مخاطب ورواة مختلفون يروون لنا وجهات نظرهم في ما يحدث وبذلك غدت رواية بوليفنيّة تتنوع الآراء والمواقف فيها وليس هناك صوت واحد أو رأي واحد يوجه السرد، بل أصوات تتنافس، أي تمتاز الرواية بسرد غير خطّي غير زمني تسترجع فيه الشخوص بعض الاحداث الهامّة والذكريات التي أثّرت فيها من خلال قفزات زمنيّة. 📝البناء إستثنائي وهو جزء لا يتجزّأ عن الحبكة والسّرد.فتقسيم الرواية كان مذهلا ويرتبط إرتباطا وثيقا بالشخصيات ايضا،يجعل القارئ يتساءل عن هذا التقسيم وخلفيّاته ليكتشفه في نهاية الرواية. يستهلّ الكاتب الرواية بتقرير طبيب معالج خطّه سنة 1988 يعبّر فيه عن لزوم الكتابة لمريضه لكي لا يقع في عوالم بديلة،بدى الامر لا علاقة له بالرواية بتاتا لأنّه إثره تماما يقدّم لنا الراوي العليم فيها الإطار المكاني في صفحة منفردة وحدث سقوط الجسم ب"نجع المناسي".ثمّ نجد إثره مقطعا لأغنية وطنيّة لعبد الحليم حافظ ويبدأ تقسيم الرواية الغير نمطي معنونا بشكل يجلب الإنتباه أوّل قسم 'سهم الله في عدوّ الله'وتشدّك العبارة الأولى "إستيقظ الشّيخ أيّوب المنسي صباح اليوم ،فلم يجد راسه بين كتفيه"فيحسّ القارئ بالعوالم الغرابيّة التي تنتظره،إثرها في شكل جلسات وليس فصول تتوالى خمس جلسات متتالية للروّاة 'نوح النحّال'والثانية 'محروس الدبّاغ' والثالثة ل'وداد'والرابعة ل'عاكف الكلاف'والخامسة ل'محجوب النجّار'بعد الجلسة الخامسة نجد قسما آخر يحمل عنوان 'سهم الله لم يصب عدوّ الدّين'و الجلسة السادسة ل'شواهي'يليها قسم يحمل عنوان 'مناسك صلاة القلق'وبعد الجلسة السابعة ل'زكريّا النسّاج' قسما يحمل عنوان 'الثورة تلتهم الثوّار'والذي يبدو ذروة الرواية،إثره الجلسة الثامنة والأخيرة ل'جعفرالوليّ' الذي يعتبر شخصيّة حاضرة غائبة بما أنّه والد الشيخ أيّوب ،ذلك الرجل المبارك ذو الكرامات وذو المعجزات وقسم تحت عنوان إستشارة طبية وقسم 'هوامش كاتب الجلسات'لنعرف حقيقة هذه الجلسات ولماذا كانت معنونة بجلسات وليست بفصول ،إثره صفحة من جريدة بها مقال عن تمرّد بمستعمرة للجذام وأخيرا 'تقرير حالة' يخطّه طبيب سنة 88 لنربط الاحداث باول صفحة بالرواية ويجدر الإشارة إلى أنّ كلّ قسم تسبقُه مقاطع لأغاني وطنيّة للفنان الراحل عبد الحليم حافظ.بناء نُسج وحيك ببراعة ليكتشف القارئ تدريجيا الوقائع ويربط بينها إلى أن يصل النّهاية بذلك إعتمد محمّد سمير ندا في بنائه للنص وبطريقة ذكيّة تقنيات الادب ما بعد الحداثي ويظهر ذلك خاصّة بالرّبط بين البناء والشخصيّات في آن واحد. 📝الشخصيّات كانت معقّدة وتحمل العديد من الرّمزيات في طبائعها،في أسمائها وفي مهنها فحملت العديد من الرّموز والدلالات لتشكيل القضايا المطروحة وعرضها وقد إستعان محمد سمير ندا في ذلك أسلوبا إستخدم فيه العديد من التّعابير المجازيّة والتشابيه والإستعارات ممّا أضفى شاعريّة وأسلوبا ذو نظرة فلسفيّة. الحوارات القليلة والجمل كانت ذات دلالات تورية Antiphrase ساخرة بطريقة ما وتحمل معاني معاكسة خاصّة في ما يخصّ النصّوص المأولّة من مرجعيّة دينيّة. هناك نبرات ساخرة ،لاذعة لبعض الشخصيّات السّاخطة كنوح النحال وزكريا النسّاج. وقد ظهر الأسلوب الما بعد الحداثي في تقنية الكولاج او ما يسمىّ بالتّجميع والتّركيب،فعلى القارئ أن يجمّع الأفكار من مختلف الرواة ليكوّن رواية واحدة واضحة.يحمل أيضا النصّ تناّصا برجوعه إلى التّاريخ في شخصيّة 'جمال عبد النّاصر'و'عبد الحليم حافظ'وخاصّة الإستناد إلى المرجعيّات من النصوص الدينيّة وقصص الانبياء مع إدخال بعض التّعديلات او الحفاظ عليها في الأسماء بداية وفي الآيات لاحقا وبذلك اظهر الكاتب مهارته في المحاكاة. فنجد اغلب الشخصيّات تحمل اسامي انبياء وتعكس طباعها في بعض الاحيان أ'يّوب' و'نوح' و'زكريا':النبي أيوب عليه السلام كان مثالا في الصبر على البلاء، حيث صبر على فقدان أولاده، وفقدان ممتلكاته، ثم صبر على مرضه الشديد بينما أيوب الرواية صبر على الولد الذي طالما تمناه ولم يحصل عليه وعلى الوباء في نفس الوقت . زكريا عليه السلام ومن خصاله الصدق والتفاني والإيمان وزكريا الرواية صادق ونزيه. نوح عليه السلام هو أحد الأنبياء وهو الذي أرسل إلى قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام ويمارسون الفساد. يُعتبر النبي نوح عليه السلام رمزًا للصبر في الدعوة والتفاني في نشر كلمة الحق وهذا بالضبط ما كان يدعو إليه نوح الرواية الذي لم يستسلم في دعوة اهالي النجع إلى عدم تصديق ما يحوم حولهم وعدم تاليه التمثال وعدم إتباع الخوجة وكل ما يجعلهم يحيدون عن الطريق الصحيح. وزوجة النجار 'عنايات' العقيم وتنتظر مولودا كتلميح وضعها بوضع مريم العذراء "بقيت اهمي على صدرها وهي تهدئني مقسمة ان لم يمسيها بشر غيري ؤأنا اهز رأسي مصدّقا وجازما.هذا الجنين نبي لا ريب....فما عنايات سوى بتول اخرى أنبت الله في احشائها جنينا من عدم"(ص203) وجعفر الوليّ الذّي عاد من موته بعد دفنه فبدى كأنّه يُبعث من جديد كالمسيح. وحكاية نوح والطوفان التي ذُكرت في الرواية اكثر من مرّة تعبيرا عن الخلاص والنّفاذ. "منذ سنوات وسفن الخلاص مشدودة إلى وتد العجز ،وسفينة نوح التي يشيدها النحال لا تجد.كفايتهامن الركاب.....لكنّ أغلب الناس لا يفقهون"(ص91) وخطاب نوح في الاهالي بدا شبيها بالآية التي نزلت بالقرآن الكريم التي تعدّ من آخر ما نزل من القرآن:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا" (المائدة: 3) يقول نوح في الصفحة 254 "اليوم اتممت رسالتي ،وبلّغت امانتي،وارتضيت نهاية كتبها الله لي منذ صرختي الأولى" مع تلاعب بالمفردات ومرادفاتها. قصّة نبي الله يونس الموجودة في الجلسة الخامسة لمحجوب النجّار. وعبارة 'سهم الله في عدوّ الّدين' مدخل الرواية وتعني محاربة الله لأعداء الدين في صورة شخص ما. وهناك العديد من الامثلة الاخرى بكامل الرواية. وبالطبع مناسك صلاة القلق ككلّ التي جعلها محمد سمير ندا تبدو وكانها حقيقية وموجودة. والعديد من الآيات القرآنيّة المذكورة وهي لم تكن إعتباطيّة بالمرّة بل لتسليط الضّوء عن سلطة الدين وتأثيرها في الأفراد إن تمّ تأويلها لصالح السّلطة او لأغراض سخصيّة. 🕊️نقطة اخرى ومن أهم النقاط هي التّواريخ وخاصة المتعلّقة بالتاريخ. أولا تاريخ نكسة مصر لسنة1967 (حرب الأيام الستة)نكسة 1967 عندما شنت إسرائيل هجومًا مفاجئًا على المطارات والقواعد العسكرية المصرية، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من سلاح الجو المصري على الأرض وهزّت مكانة الزعيم عبد النّاصر مما جعله راغبا في التنحيّ،الذي اصبح في الرواية تاريخ نصر وفرحة لأنّها كانت خطة لعبد الناصر لبتمكن من هزيمة العدوّ وكان تاريخ إنتفاضة مصريّة عربيّة دمّرت كلّ حصون العدوّ محرّرة كلّ الاراضي الفلسطينيّة المحتلّة في اليوم التّالي لخطاب التنحي. ثانيا في التاريخ ما تلى النكسة هو إعادة بناء الجيش وحرب الاستنزاف (1967-1970) بعد ان بدأ عبد الناصر في إعادة بناء الجيش المصري والاستعداد لحرب جديدة ضد إسرائيل،بينما في الرواية هي فترة مازالت تخقق فيها مصر إنتصارات وتستنزف قوى العدوّ. في الحقيقة جمال عبد الناصر توفيّ سنة 1970 بينما في الرواية يعرف كل اهالي النجع أنّه على قيد الحياة ومازال يقدم إنتصارات بينما كانت تلك فترة حكم السادات والتي تحقق فيها نصر 6اكتوبر 1973 الذي لم يُذكر. الحدث الوحيد ذو التاريخ الصّحيح هو موت عبد الحليم حافظ سنة 1977. اخيرا خاصيّة أخرى للادب ما بعد الحداثي هو ذلك الطابع الذي يبرز تناقضات في النص'التشريحيّة'او ما يُنعت بالتفكيك الدريدي نسبة للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا فقد إعتمد على اسلوب فكٌك فيه التّناقضات والتعدديّة والإزدواجيّات في الرّوايات المختلفة للشخوص والمفاهيم الموجودة في شخصيّاته الثماني او بالأحرى العشر إن أضفنا 'خليل الخوجة'وأيوب االمنسي' وفحص العلاقات بينها لنتفطّن ونكتشف اخيرا أنّه صوت واحد ،فالمهمّش،المغيّب كان منبع واصل كلّ الرّواية. 📝بالتعمّق في الأسلوب والبناء نفهم بناء الشخصيّات ورمزيًاتها امّا بالإمعان في الاسامي او في ادوارهم وحرفهم. -أيوب المنسي :يمثّل الدين والسلطة الدينيّة،ذلك الذي يكون معصوما من الاخطاء والفساد بما أنّه الوريث الوحيد لصاحب الكرامات والمعجزات، الذي يستحوذ على عقول الناس ويوهمههم بأن الزعيم عبد الناصر ذكره الله في كتابه الكريم وعن ثواب الجهاد في سبيل تحرير الأرض وحماية العرض ومكافاة الخالق بالجنّة وحتّى وإن اخطأ في قراءته وتاويله للنصّ القرآني الكل يتبعه ويؤمن بكلامه. -الخوجة الذي لا نعرف لا اصوله ولا من أين أتى ويصبح تدريجيا ثريا يمثّل الدولة والسلطة السياسيّة والفساد،يمثّل أداة السّلطة في تنفيذ التّعليمات،واجهة للحكومة والسياسة،يشيع وبروّج ما يريد لإيهام الشعب،هو الذي يستغل الأهالي وامالهم في لقاء ابنائهم فيدفعون له ححصا للمجهود الحربي مما يدّخرون،يتاجر بهموم الناس ويتلاعب بمشاعرهم ،يكبّل اهالي النّجع بالديون بما أنّه المصدر الوحبد للتجارة والبيع والشراء،يبيعه الناس محاصبلهم ومنتجاتهم فهو صورة للفساد والسلطة والطغيان . -حكيم :إبن الخوجة المقصوص اللسان الاخرس،الوحيد الذي يقرأ ويكتب ويسمع الأغاني،إسمُه رمزيّ يوحي بالحكمة والرزانة والوعي،صورة حكيم المقطوع اللسان إنتاج او ما تنجبه السلطة فهو إبن الخوجة،السلطة تنجب ابناء واعين ومتعلمين لكن صامتين ،اخرستهم السلطة لمعرفتها بوعيهم الفائق و تفاديا لاصواتهم الثائرة والواعية. -شواهي:اجمل نساء النجع،الكل يتمنّاها هي لا تمثّل فقط الرغبة والشهوة والنشوة والفرحة، تجسيم للأمور الدنيويّة بل تمثّل الامل والحلم والمنشود الذي لا يطاله احد. شواهي التي يحاول الكل تدنيسها ولا يطولونها وقد اتت كحلم منشود وسط الرواية. -وداد: قابلة النجع الوحيدة رغم افعالها تمثلّ الحياة ،فهي التي تحاول ان يكون ابناء النجع مثاليين،لا تشوبهم شائبة . .فالنسوة المتكلمات إثنتين وكلاهما تمثّل الحياة بطريقتها. -نوح النحّال يمثّل الخلاص ،فهو يعلم اكثر مما يعلمون لكونه عاش فترة خارج الحصار ويعرف مساوئ السلطة والدين من تجربته الشخصية . -محروس الدبّاغ وعاكف الكلاف و محجوب النجار وزكريا النسّاج كلّهم يطمحون للخلاص بطريقتهم ويمثلون أصناف الشعب وتعاملهم مع السلطة. واخيرا جعفر الولي الذي يمثل المعتقدات التي تسيطر على عقول الناس. كل الشخصيات تكلمت وكلّها ذكرت قصّتها ولكن يجمع بين كل القصص رابط رفيع هو ذكر السلطة والدين اي الخوجة وايّوب الذان لم نسمع لهما صوتا. كلّهم عبّروا عمّا يجول بخاطرهم ووجهات نظرهم لكن يأتي في آخر كل فصل من الفصول ما كُتب على جدران الراوي نفسه فتفضح مساوئه وخطاياه وتضع القارئ امام تساؤل آخر أهذه حقيقة المتكلّم أم إيهام؟اهو جزء من المنظومة الفاسدة ككلّ؟ -التمثال يعبر عن سلطة الزعيم التي تسيطر على العقول وتجعل منه إلاها وقدوة "آمن النّاس بقداسة الصنم ،حتى إقتنع الصنم ذاته بقداسته فشرع يتجوّل بين رعيّته ويعيث في ديارهم رعبا و مجونا" ( ص278) الملفت للإنتباه أيضا أن الشخصيّات كلّها أصحاب حِرف (نحّال،نجّار،كلاّف،نسّاج.،دبّاغ)إلى جانب القابلة،لا يوجد من هو صاحب مهنة يسترشد بها الناس كطبيب او محام او غيرهم بل مفقودين تماما . كلّ الشخصيات بأسمائها ومهامها وادوارها وعلاقاتها رمزيّة والرواية ككل مشحونة بالرّمزيات
📝المواضيع التي طرحها الكاتب كثيرة وغنيّة فهو يسلّط الضّؤءعن كيفيّة خلق الزعماء وتأليهها ،عن وعود اصحاب السلطة الهاوية والكاذبة. عن ذريعة الحرب التي تمثل ذريعة كل طاغية. عن السلطة المراوغة والتزييف والإقناع بغير المعقول. عن الصمت والسلبية لدى الافراد ،عن إلتزامهم بالحياد يأسا من الاوضاع التي لم تشأ ان تتغيّر وخشية السقوط في معاداة الوطن. عن القمع والمراقبة والمساءلات والإستعلامات والمعتقل والتعذيب والخيانة التي تعترضنا في شخصية نوح النحّال. زرع الفتنة بين الجموع لصالح المصالح الشخصيّة. عن مفهوم الوطنيّة والعروبة لدى الشّعوب القمعيّة. عن المشايخ وتعليم المشايخ وتأثيرهم. عن الخرافات والمعتقدات البالية الرّاسخة في عقول البسطاء عن التجارة بالشباب وإرسالهم للموت بدافع مصالح سياسية. عن الجهل والأميّة والحرمان من التعليم الذي يخلّف أفرادا لا تميّز الحروف وتجعل منها فريسة سهلة للأقوى وللألاعيب السياسية والدينيّة. عن الإعلام الزائف وغرسه لأخبار واهية حد التصديق. رضوخ الدين للسلطة والنفاق في العلاقة بينهما كأيوب والخوجة 📝عبر توظيف شخصياتها وأحداثها، تقدم الرواية رؤية نقدية للسلطة والدين والتاريخ. فلطالما مثّلت العلاقة بين السلطة والدين نقطة أساسيًة في تكوين المجتمعات وتوجيه آراء الأفراد. فالسلطة السياسية دائما ما تسعى إلى توظيف الدين كأداة لتعزيز شرعيتها والسيطرة على المجتمع، بينما يستخدم الدين السلطة لنشر مفاهيمه و لترسيخ نفوذه،رغم انّ العلاقة بينهما مذبذبة كما الحال بين أيّوب والخوجة،فأيّوب له نقمة دفينة نحو الخوجة لكن بحاجة إليه ،فكأن العلاقة هي علاقة الأصدقاء الأعداء.هذه العلاقة المعقدة قد تتخذ صورا متعددة، تنعكس بين التكامل والتعاون، أو الصراع والتنافس، مما يؤثر بشكل مباشر على الشعوب وأفرادها الذين يروحون ضحاياهما في تشكيل وعيهم وفي توجيه سلوكهم وفي تشكيل هوياتهم وخياراتهم وهذا ما يظهر عامة في اغلب الشعوب العربية. فالنجع إنما صورة مصغّرة لواقع الشعوب. 📝بذلك تلاعب محمد سمير ندى بالتاريخ وخلق تاريخا مغايرا ينقد فيها حال الشعوب التي راحت كدمى للسلطة والدين.
📝القلق تلك الحالة النفسية التي تستحوذ على مشاعر الأفراد بدرجات متفاوتة والتي تتجسم في التوتر والخوف إنما هي إلا استجابة طبيعية للشعور بالضغط ولها عدة آثار سلبيّة .القلق اصبح مرض المجتمعات المعاصرة واصبح الفرد يتشبّث بأيّ نوع من الخلاص في هذه الحالة لكن بأيّ حبل يمكنهه التشبّث؟
رواية مشحونة بالقلق ولن يخرج منها القارئ كما دخلها حتما.
📝احببت كثيرا شخصيّة نوح النحّال و فصل شواهي المشحون بالرمزيات عن فلسطين وتحريرها، ففلسطين المنشودة هي اولى خيبات الشعوب العربية ما دامت محتلّة و فصل زكريا النساج وآخر الرواية التي تجعلك تعيد كل حساباتك إسم الطبيب الذي يدعى "سعدون زكريا " الذي يقلب كل الموازين ويجعلك تقع في فخ الواقع والخيال،بين التاريخ الحقيقي والتاريخ الوهمي وتجد نفسك امام رواية مفتوحة رواية مخادعة فيها تلاعب كبير بالتاريخ ،التاريخ البديل الذي ينعكس في كامل الرواية ويوهمنا باحداث غير حقيقية حد وقوع القارئ نفسه في الفخّ الذي يبدو أن اهالي نجع المناسي قد وقعوا فيه بما أنّ الراوي العليم يشير "والأحداث قد تكون مستمرّة حتّى كتابة هذه السّطور"
📝أنهي بإقتباس :"أتساءل :كم نيزكا يستلزم الامر حتّى تتكوّن لدينا ذاكرة جديدة؟كم قتيلت ينبغي أن يسقط ، وكم حربا يتوجّب أن تاكل أبناءنا حتّى تروي العجائز تاريخا مغايرا لما يروينه اليوم؟ متى يكون لدينا تاريخ يقفز فوق يِير السيل والشهب والحرب والغرق ،وحكايات تؤسّس لذاكرة تُسقط من صفحاتها صورة الشّيخ الوليّ ، وخليا الخوجة وتمثال زعيمه الجائل بين العقول المذعورة؟ متى يصبح لدينا جريدة تعجّ بصور ملوّنة للأطفال في الغيظان ،والصبايا في الأعراس ،جريدة تنقل لنا صور فلسطين المحرّرة ،وتغيب عنها صور الحرب والدبّابات،ومفردات القتال المقدّس"(ص58)
📝رواية ثرية جدا وغنية على جميع الأصعدة،هناك الكثير والمزيد ليناقش ويحلّل ،إضافة إلى الإقتباسات الرائعة. انصح قراءتها بشدّة.
الجماعات الإنسانية كلها تقوم على عوامل متشابهة من علاقة صريحة تجمع بينهم، وأدوار إجتماعية ومعايير محددة، ولا يخرج عن هذا النسق جماعة من الجماعات. وفي صلاة القلق قدم لكنا الكاتب محمد سمير ندا، نموذجاً لمجتمعين إنسانيين، ولكن.... اندمج فيه الواقعي بالمتخيل، بدرجة ستتبين معها لاحقاً أن صفات هذا المجتمع تنطبق على الإثنين، ويالها من مفارقة.
كفر المناسي، كفر في صعيد مصر، اُدخل في عزلة قهرية منذ نكسة 67 وإلى مالا نعرف، أحاطوهم بالألغام، ومنعوا عنهم الأخبار ولا يعرفون خلف نجعهم شيئاً. فلماذا؟؟؟؟ بدأت أحداثه معنا بعد مرور عشر سنوات أي سنة 77، وسقوط نيزك من السماء، تبدل من بعدها حال الناس وأصابهم وباء غريب، انقلبوا بسببه مسوخاً، وذلك بعد انقطاع اخبار ابنائهم عنهم منذ انتصار 67 -هذا ما قالوه لهم- ليبدأ في هذه السنة بداية الأحداث.
فلس/ طين ستظل رمانة الميزان في كفر المناسي هذا، والذي سمي هكذا في إشارة مناسبة صفة وحالاً. سنجد أن فلس/ طين حاضرة وبقوة، سواء في ذكرها، وانتظار الأهالي لابنائهم الذين ذهبوا ليحرروها، أو في شخصية زكريا النساج هذا الرجل فلس/طيني الأصل، والذي غيبت الحرب ابنائه الثلاث، وتحاول السلطة الحاكمة بالنجع أن تتغاضى عن بطولات ابائه في المقاومة. ولهذا صوره الكاتب بأنه مات حراً مقتولاً في الترعة، ولم يصيبه الوباء مثلهم. بل أن مقتله جاء على يد تمثال الزعيم، والذي في نظري هو تجسيد لكل الحكام الطغاة، وأيضاً إشارة واضحة لمقتل هذا الشعب معنوياً على يد معاهدة ال��لام.
تغييب الوعي وخداع المجتمع قد تقوم السلطة الحاكمة بخداع مجتمعاتها بشتى الطرق، وتزييف وعيهم لإخفاء الحقائق، لأسباب عدة وها هنا في كفر المناسي، عزلوا المجتمع، وأخذوا الأبناء عنوة، وأوهموهم بالنصر وقت النكسة، بل أوهمهم بقداسة الزعيم وأنه لا يموت، وبأن الحرب مازالت مستمرة، وأن الأبناء قادمون بتحرير فلسط/ين.
"آمن الناس بقداسة الصنم حتى اقتنع الصنم ذاته بقداسته، فشرع يتجول بين رعيته ويعيث في رعيته رعباً ومجوناً" وهنا نجد تورية ومثال صريح للمجتمعات التي تأله حكامها، وتصم آذانها عن الحقائق ولاتصدق سوى زعيمها، قتنقلب الهزيمة لإنتصار، وتغلق عليهم السلطة الأبواب ليظلوا في عزلة إجباربة، بحجة الحماية، والتمجد ببطولات زائفة. فلما يحدث هذا كله؟
وجدير بالذكر أن الكاتب تلاعب بنا أيضاً وأغرقنا بين الواقعي والمتخيل 😁😁😁
الجهل والحكمة والصراع الأزلي: منذ البداية وهناك صراع دائر مابين الجهل والتعليم. فالنجع هو ثلة من الجهلاء، الذين ساعدت القوة الحاكمة المتمثلة في الخوجة، على إبعادهم عن التعليم، فأصبحوا مع الوقت لا يفقهون شيئاً ليتم السيطرة عليهم، والوحيد الذي أصرت أمه على تعليمه، قُطِع لسانه لكي لا يقول الحقيقة. إذن الرواية هنا تناقش أهمية الجهل في عمى المجتمعات وتغييب وعيها، وعزلها عن الواقع. في مقابل الحكمة والعلم متمثلة في حكيم، وهو هنا الناجي الوحيد من وباء النجع كرمزية آخرى على أن المعرفة هي الناجية بأصحابها في أي زمن، وكأن الوباء هنا هو وباء الجهل، وهو الذي أصابهم بما أصابهم. "نحن قوم تحيا أسفل خارطة تبسطها الحكومة أمام القادة على طاولة الحرب، لا يبصروننا ولا نلمح حتى ظلالهم لكننا نختنق" وأيضاً بجانب المعرفة، هناك الفن متمثلاً في شواهي فليس مصادفة أن يجعل الكاتب حكيم وشواهي هما الناجيين الوحيدين.
ولكن برغم هذا، نكتشف أن هذا الوعي، تأثر بهذا المجتمع بشكل كبير، فأصبح وعياً منقوصاً، معرفة غير سوية، تحتاج للتأهيل، وللرعاية وللبوح لتتعافى. فهل يتضرر الحكماء بغباء مجتمعاتهم؟
الدين أفيون الشعوب ليس من باب المصادفة أن تكون بالرواية شخصيتين فارقتين في أهل النجع جعفر الولي وابنه الشيخ أيوب فالدين هو عنصر أصلي في اللعب بالعقول بجانب الجهل فجاء الولي الذي نجا من الموت وهو يحلم بشواهي فجعلوه صاحب كرامات والشيخ الذي يستقبل القبلة فيحلم بشواهي ويحرف آيات من القرءان لتأييد الزعيم، ويخترع صلاة القلق ليزيد الناس ضلالاً. وكيف لا والدين هو وسيلة من الوسائل التي يتم التلاعب بها للسيطرة على المجتمعات.
التلاعب بالقارئ هذا النص الأدبي - صلاة القلق- من أبدع ما قرأت في الحقيقة، وأمتع ما قرأت، تلاعب بنا الكاتب في مستويات مختلفة من السرد، بدءاً برواة ذاتيين، يتخللهم راو عليم يعطي بعض الإشارات ويفسر ماهو مخفي، ليفاجئنا بأنه ليس هذا ولا ذاك وأنك أمام راوٍ غير موثوق فيه، وأنك بداخل عقل أحدهم، لتفاجئ مرة آخرى بأنك أمام حقيقة آخرى- ورغم هذا فاستهلال الرواية كان عنده الحقيقة ولكن بعقل غير واعٍ لم نلتفت إليه -🤐 في تلاعب مقصود، يجعلك تتمايل طرباً من كم المفاجئات، وأيضاً اعجاباً بين تشابه الحدثين، وأعراضهم، وظروف الحياة وكأن التأله والعزله والخداع وغش الناس، عندما يكون لتغييب الحقائق يصبح مثله مثل الوباء الذي يؤدي لطمس الوجوه.
شخصيات حية برغم خلل الحقائق ورغم هذا فالشخصيات جاءت حقيقية جداً، ولا أعرف كيف جعلهم الكاتب متوائمين، لينطبقوا على الواقعين بهذه الدقة وكيف لم نلاحظ ونستغرب أفعالهم، ونجد لها تفسيراً في الآخر، فلم نقف عند طمس الوجوه، واقتنعنا بالوباء، وعزلهم عن المحيطين بهم، وغرتنا الحرب لنجد الحقيقة الغائبة، لقد اقنعنا كلاً منهم بمأساته، فتعاطفنا مع وداد وصدمتنا أفعالها، وقلوبنا ذهبت مع محجوب النجار ونفقه، وإيمانه بجنينه ومحاولات انقاذه والكلاف وعلاقاته بغنمه، والدباغ وابنته المعاقة فتسائلنا من منهم استحق الوباء هذا، ومن منهم لا.
وأخيراً كان لغياب شواهي ووداد عندي غياب للمستقبل والحياة وهو بالفعل مصير هذا النجع.
هذا هو الأدب، عبارة قلتها بعدما انتهيت من قراءة هذه الرواية الرائعة، التي لم أرى فيها عيباً سوى أنها انتهت
لو سئلت عن رواية عربية تمثّل ذوقي الأدبي لغة وموضوعا وفنا، سأرشّح بكل تأكيد (صلاة القلق) لمحمد سمير ندا، لأنّ فيها كل ما أطلبه أو أرجوه أو أتمناه عندما أمسك رواية ما وأشرع أقلّب صفحاتها قارئا. استيقظ الشيخ أيوب المنسى صباح اليوم ولم يتحوّل إلى حشرة عملاقة لأنّه ليس غريغور سامسا، ولكنه "استيقظ فلم يجد رأسه بين كتفيه"، بهذه العبارة الصادمة يبدأ فصل الرواية الأول سهم الله في عدو الدين، ليؤكد على ما أشارت إليه المقدمة من أنه في البدء سطع ضوء عظيم مزق أجفان النيام تلاه دوي هائل في نجع المناسي، ولا يهم إن كان الانفجار قد سببه سقوط نيزك أو شهاب أو قنبلة ما، بقدر ما يهم الوباء المصاحب أو النتيجة التي أصابت سكان ذلك النجع المعزول في مصر والمحاط بالنار والألغام بداعي الحرب مع العدو بين ١٩٦٧ و ١٩٧٧، فتحولت رؤوس الناس إلى أشكال الحصى الملساء أو السلاحف الحليقة بلا شعر يغطيها ولا حواجب فوق أعينها رجالا ونساء، والملفت أنّ جميع القرويين كانوا نياما كالأموات في غفلتهم فيستيقظون ليحكوا وجعهم، وتتقاطع مروياتهم لتشكل نسيج العمل أو كتلته، في خضمها حديث عن الوطن والانكسار ومأزق الانتماء وسطوة المصالح وسلطة الخرافة، وتمكن التخلف، والجهل بالدين وغيرها، إذن فهي رواية فيها رواة متعددون بدأت وانتهت بتقرير الطبيب المعالج الذي يمسح عنها الغرائبية بمنديل الطب النفسي، تصدّرت الفصول أغاني عبد الحليم حافظ، ثم جاءت بلغة شيقة عالية مدهشة برأيي، ثماني جلسات كل واحدة منها يرويها بطلها، وخمسة عناوين بلسان الراوي العليم، ثم الهوامش في النهاية، اختلف الرواة الثمانية بالفكر والرؤية واتفقوا باللغة العالية وكأنّ ساردا ما وحّد لغتهم وأخرج الرواية من أسلوب تعدد الرواة، إذ كيف للأميّ مثلا أن يكون بليغا، وكيف لمن لا يحسن القراءة أو الكتابة أن يجيد لغة شاعرية ويستعمل البيان بصوره والبديع بسجعه في سرده، وأنّى له صوت المثقف أو فلسفة المفكر مثلا؟! بدأ النص بشخصية الشيخ أيوب ابن الشيخ جعفر الولي العائد من الموت وقد كان أيوب هذا الأفيون المخدّر الذي مثّل عجز رجل الدين وانقطاعه عن واقع الناس فحاول أن يبتدع صلاة تنجي أهل النجع من قلقهم، ولم يُمنح صوتا يسرد، مثله مثل خليل الخوجة الغريب الذي مثّل السلطة تاجرة الحروب مع سياسة الحزب الواحد في تغييب عقول الناس وإلهائهم بتقديس الصنم وإخفاء الحقائق عنهم وإخضاعهم إلى شعارات رنانة لا تعنيهم، وقطع ألسنتهم ربما كما جرى مع ابنه حكيم، فاحتكر الخير لنفسه، وعاقبه الكاتب بأن أخفى صوته. وأمّا الرواة، فمنهم من رمز للتمرد والثورة ضد الدين والسلطة فاتهم بالجنون كنوح النحال مذ ساقوا وحيده للحرب ولم يعد، ومنهم من مثل السذاجة في الفكر والانحراف في الاخلاق، كمحروس الدباغ وعاكف الكلاف، ومنهم الحالم الباحث عن الخلاص بطرق قد لا تؤدي، إلا أنه يأمل بغد مختلف كمحجوب النجار، ومنهم المختلف الذي وقف بوجه ممثل السلطة فقتل كزكريا النساج، ومنهم الداية وداد التي نصبت نفسها يدا لله وشواهي الغجرية الباحة عن الحب، والطريف أن غامضا ما كان يكتب على بيوت الجميع ما يفضحهم على الرغم من أن أغلب سكان النجع أميون. الرواية مدهشة. التقييم: ٩.٥/١٠
الرواية تم ترشيحها للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وهذا كان أحد الأسباب اللي شجعتني أبدأ فيها. الفكرة عجبتني كثير، والبداية كانت مشوقة. حسّيت أن طريقة تقديم الشخصيات كانت حلوة ومختلفة، وشدتني من البداية. الكاتب عنده لغة قوية، ومفرداته غنية وواضحة، ويبين عليه متمكن من أسلوبه.
لكن بصراحة، حسيت اللغة كانت معقدة أكثر من اللازم. صحيح الأسلوب أدبي وجميل، لكن الكلمات الثقيلة والتراكيب الصعبة جعلت القراءة غير سلسة و معقدة. ومع وجود عدد كبير من الشخصيات والأحداث، حسّيت نفسي ضعت وما قدرت أتتبع الأحداث بسهولة.
ما أقدر أقول إن الرواية سيئة، بالعكس أكيد في ناس ممكن يناسبهم هذا النوع من الكتابة، لكن بالنسبة لي، ما كانت تجربة ممتعة. يمكن الأسلوب ما ناسبني، أو يمكن التقديم ما كان واضح، بس ما قدرت أندمج معها مثل ما كنت أتمنى
تخيل ماذا لو حدث ما لم يحدث ؟ .. في عالم برع الكاتب في خلقه ، سطر أحداثه بروية و ذكاء ، و رسم شخصياته بإتقان ، لتحكي عن نجع المناسي ، تحكي عن سلطة السياسة و الدين ، عن زرع الخوف و القلق لضمان الخضوع و الإستكانة ، خلق الوهم ، تزييف الحقائق ، التلاعب بالشعارات و العواطف و اتخاذها كستار بغية تحقيق المصالح . عالم امتزجت فيه الحقيقة بالخيال ، الواقعية الشديدة بغرابة الفكرة و الطرح ، اللغة السهلة المفهومة مع عمق الأثر و براعة الوصف .
رحلة ممتعة ، مربكة ، تخطفك بشخصياتها و عوالمها ، تقرأها بتأني لتجد نفسك تلهث وراء أحداثها محاولًا فك ألغازها ، فهم إسقاطاتها ، و تخيل نهايتها ... هي رحلة بحق فاقت توقعي و خيالاتي .
من انت يا محمد سمير ندا؟ اي طفل ك��ت؟ اي حكايات سمعت؟ اي لسان خاطبك و اي عوالم سكنتها حتى تتحفنا بهذا العمل العملاق؟ شوّشت هدوؤنا يا اخي ولا من صلاة قلق نتلوها لنعود ذلك القارئ الآمن الذي لم يطالع بعد روايتك. رواية؟ يعجّ المعجم بشتى المفردات لكن تعجز كلها عن الإيفاء بحق هذا العمل الذي يستحيل اختصاره في إسم أو مقال. ذكرني اهل نجع المناسي في قصة Truman , بطل البرنامج التلفزي الامريكي الذي عاش سجين جزيرة زائفة و حياة مصطنعة. كذا هو النجع، حدوده الغام و أُفُقُه صحراء. عرض دون جمهور. شخصياته لا تعلم انها مجرّد ادوار ثانوية في مسرحية كتبها الخوجة، "كعبة النجع". وحدها وداد ربما، تفطنت او كادت إلى الخدعة: "ربما كان الكون برمّته صورة متحركة التقطها الله للناس منذ ملايين السنين". او لعل محجوب هو من ادرك حقيقة النجع، وطن العقاب: صندوق خشبي حبس فيه الجهل و الخوف والترهيب اهله. ولكل فزّاعته، حرب يشهرها الخوجة، "فبالحرب وحدها يغدو المتاح مأمولا تتنازعه الامنيات"، او وباء ينزله الله على قوم عصاة "فيختلق الشيخ ايوب صلاة بكرا لم تسجد فيها الجباه قبل". و إن كانت رسالة محمد سمير ندا في صلاته هي الاتية: الحهل المدقع هو اكبر سجن و اشد عقاب و اوحش عزلة. حررت كلمات حكيم الاخرس ألسنة الصامتين، "نزلاء العتمة و الأسر الدائمين." أسيرو الزعيم الواحد والدين الواحد و الخطاب الواحد. صلاة القلق عمل مبهر لغة وأسلوبا. رمزياته تكاد لا تعد. عمل جريء لانه اختار طريقا وعرا، لا مجال فيه للسهولة و الاستسهال. عمل احترم القارئ، بل و توقع منه الكثير. فكان عليه ان يفك الرموز و يحلل و يقارن و يطابق و يفكر ويتأمل و يستسيغ. انهكتنا يا محمد وأمتعتنا. فهنيئا لك البوكر. و إن لم تكن، فبوكر محبتنا و امتناننا و عرفاننا.
في هذه الرواية، لا حضور لأبطال من لحم ودم كما نعرفهم، بل يتصدّر القلق المشهد منذ الصفحة الأولى، متربّعًا على عرش البطولة ككائن خارق، يتسرّب من بين أصابع الكاتب كما يتسرّب الوباء من شقوق الأرض، وربما من صدره المثقل بقضايا الأمة، إلى الحروف والكلمات التي تبدو وهي تُقرأ كأنها متشنّجة، تلهث للانعتاق، تمامًا مثل شخصيات الرواية، قبل أن تتسرّب بدورها إلى أعماق القارئ، وتضعه في رحلة محفوفة بالاضطراب حتى آخر سطر. وحتى بعد أن تطوي الكتاب وتضعه جانبًا، لا يتركك القلق وشأنك؛ يظل يطاردك كظلٍّ لا ينفكّ عن صاحبه. في "صلاة القلق"، حتى البهائم والطيور والأشجار مصابة بالقلق، وكأن الفرح والضحك قد مُحيا من قاموس الحياة. أليس القلق هو الهواء الذي يتنفّسه المواطن المقهور، حتى لو أكل وشرب وضحك ملء شدقيه؟ ما سرّ هذا القلق الطاغي الذي يخنق الأجواء؟ أهو هابط من السماء، أم نابت من الأرض؟ أهو قدرٌ يُسلَّم له كما يُسلَّم للموت، أم عدوّ يجب أن يُحارَب بلا هوادة؟ وأي موقع تحتله السلطة وسط هذا الطوفان من الاضطراب؟ كيف يهنأ بالأمن من يزرع الخوف تحت كل قدم؟ فالسلطة هنا غارقة في قلقٍ أشدّ، قلق الخوف من الوعي، ومن شرارة التمرد التي قد تقتلع عرشها وما يتبعه من امتيازات لا تُحصى. تجري الأحداث في قرية مجهولة تُدعى "نجع المناسي"، لا وجود لها في أي خريطة، وكأنها وُلدت محرومة من أبسط مقومات الحياة. والأسوأ أنها محاصَرة بحقول ألغام، جعلت أهلها سجناء لا يعرفون مدة حكمهم. لكنها، على غرابتها وعزلتها، تمتد رمزيًا لتغطي كل أرض وطأتها أقدام الاستبداد، وكل شعب سحقه الجبروت. وحده الراديو يتسلّل من خلف الأسلاك، ليبث أخبارًا مُنتقاة على مقاس الزعيم. وكأن هذا لا يكفي، يتعرّض أهل القرية لمسخ غريب بعد سقوط نيزك، فتسقط شعورهم وحواجبهم، وتُخمد فحولتهم، لتبقى وحدها فحولةُ الزعيم حيّة لا تموت، حتى لو كان تمثالًا من حجر. وهل تعجز السلطة عن استحضار "نيازك"ها الخاصة لمسخ الشعوب وإخصائها؟ في هذا النجع، كما في كل مكان في العالم، تتجلى بوضوح ثنائية: السلطة والدين، اللذان يتناوبان على غسل العقول. ـ "خليل الخوجة"، ممثل السلطة، لا يتنفس أحد في القرية إلا بإذنه، يسيطر على الإعلام عبر صحيفته الوحيدة "جريدة صوت الحرب"، التي تُفرض على الجميع رغم تفشي الأمية. لا بيع ولا شراء إلا من خلاله، ولا ربح إلا ويأخذ منه نصيبًا، حتى كان "النسّاج" الذي رفض دفع "ضريبة المجهود الحربي" عبرةً بموته. ـ "الشيخ أيوب"، ممثل الدين، يحلل ويحرم باسم السماء، ويبتكر صلاة خاصة لعلاج القلق، فيصبح الخلاص مرهونًا بصلاته المبتدَعة. فهل هناك فرق حقيقي بين الاستبداد السياسي والديني؟ أما الزعيم، فحضوره أبدي، في كل بيت، في كل عقل، ولو عبر تمثال مقطوع الرأس والذراع. الزعيم قوي لا يُهزم، حتى في ضعفه، فكيف إذا كان منتصرًا دائمًا؟ في نجع المناسي، كل شيء مسخّر للحرب، الأموال والأولاد والكتب المقدسة، حتى القرآن قد يُحرّف ليحمل اسم الزعيم. فالحرب ذريعةٌ تمسح بها السلطة عارها وتُسكِت الأصوات، حتى لو كانت حربًا لا وجود لها إلا في عقول المخدوعين. أما الاختلاف، فخطيئة لا تُغتفر. و"القابلة وداد" تجسيدٌ ليد السلطة التي تخنق المختلف قبل أن يكبر. وماذا عن الوعي؟ أليس هو الوجه الأعمق للاختلاف، ذلك الوجه المنبوذ الذي تزدريه السلطة كما يزدري المرء العمى؟ أليس هو الريح التي تهز عروش الطغاة الهشة؟ أليس "نوح النحال" ضمير النجع النابض، يقاتل ويحرّض على التمرّد، حتى استحق أن تُلصق به وصمة الجنون؟ ثم من أحمق ـ في عرف السلطة ـ أكثر من رجلٍ يحاول أن يبعث الموتى من سباتهم؟ لكن، وسط هذا الخراب، يظل للغريزة حضورها؛ فالمواطن المقهور يحتاج إلى غجرية لعوب مثل "شواهي"، إذ لا سلاح أخطر من الشهوة لتخدير الشعوب. وعلى جدران البيوت، تتوزع رموز غامضة، كأنها توقيع سري يثبت أن السلطة تعرف ما يجول في قلب كل فرد وما اقترفه من خطايا، تمامًا كما في عالم "الأخ الأكبر" الذي يراقبك حتى بعد موته بسنين. أما تقنيات السرد ولغته، وشخصية "حكيم" وباقي الشخصيات، فأتركها لفضول القارئ، لتظل متعة الاكتشاف حيّة في ذهنه.