رغد قاسم's Blog

April 7, 2024

شعرية القص في "سقوط" رغد قاسم

جريدة الدستور- ناصر أبو عون

من محاريب المختبرات الطبيّة؛ حيث يمكنها رؤية الإنسان من داخل جسده، والإبحار في كُريات دمه على متن قارب له مجذافان من نور، تتأمل البغدادية "رغد قاسم" صنع الله، ثم تخلع نفسها الأمّارة بالسوءِ على شطآن الرّوح؛ وتضع سنّ قلمها في محبرة الحريّة؛ لتعيد كتابة سيرته الأولى يوم أن كان صفحة بيضاء بلا خطايا.

في قصة (سقوط)، ومن مطلع شمس الكلمة الأولى، ترتدي الكاتبة، شخصية الراوية تارة، وتارة أخرى تستعير شخصية البطلة لتتداعى في الحكي، وتُدْخِل القاريء عنوةً، في طقسها، وتمسك قلبه بقبضة يدها، وتجرّه على سلالم البيت صعودا إلى سطح الحقيقة؛ ليُشاهد الوجع وهو يتسرسب كخيط من الألم في جسد القاريء/جسد البطلة/ جسد القاصة/ جسد الرواي العليم/ جسد الراوي المتخفي/ جسد العروبة المغتصب في دهاليز العولمة والأمركة ودمها المهراق على مذبح الحرية؛ (..هذهِ هي أنا بلا شك، وهذا هو جسده فوق جسدي، في الغرفة المظلمة، جسدهُ يشع حرارة و جسدي يتعرق من شدة البرد، البرد الذي يجُمد أطرافي كأنني جثة، أتذكرّ هذا اليوم، أتذكرُ هذهِ الليلة. لِمَ أنا خارج الصورة؟ لِمَ أقف خارج الكتلة اللحمية التي هي جسدي؟ أقترب منه، أنظرُ في وجهه؛ وجهه الذي ينظر إلى الجانب الأيسر حيث أقف بلا صورة، و هو يعتلي صورتي الجسدية التي تدفنُ وجهها بين الوسائد، لا أستطيع أن أرى ملامحه، كما لا يستطيع هو رؤيتي).

ومن خلال قصة (سقوط) تتبدى لنا صورة قصصية بِكْر تضعها الكاتبة - الشابة عُمرا وقلمًا - في مبتدأ مجموعتها لتستدرج القاريء في المنطقة المحايدة ما بين الواقع والإبداع، وبقلم بريء من القصديّة، ومتجرد من مهارة نصب الفِخاخ، تأخذه أسيرًا إلى ساحتها الإبداعية، وتسرد على أذنيه تعاويذ شعرية ليواصل السير مغمض العينين في مراعي نصوصها، وتتوسل في تحقيق هذه الغاية بمجموعة من الأدوات الفنية المُغرية، التي يسيل لها لعاب القاريء النَّهم، ومن أهم هذه الأدوات: القدرة الفائقة على شعرنة القصة، واستقطاب الصور البيانيّة المتحركة في فضائها ضّاجةً بالمغاير والغيريّ، ومشحونة بالمجاز المتضفر مع السّرد داخل جسد النص القصصيّ. (أقفُ حاسرة الرأس في منتصف الشارع، البرد يتسلل إلى داخل ثوبي الخفيف كما لو أنّ سرب من النمل يود التهامي، قدماي بلا نعل، أغطس في بركة وحلٍ، و كلاب تنبح في البعيد، و أصوات الأشجار يحركها هواء ثقيل و هي تقاوم الهواء و تصارعه متشبثة بجذورها، أما أنا فأنا فأنا أقف بساقين ضعيفين لا يقويان على حملي).

في هذه المجموعة القصصية الصادرة عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق وفي إطار مسابقة للمبدعين الشباب، يستطيع القاريء العادي، لا الناقد الحاذق فحسب اكتشاف المناطق المتخفية ورءا الظلال بين أعمدة البنية السردية داخل كل قصة، فضلا عن براعة القاصّة – وربّما ذلك راجع لتخصصها الطبيّ – في التكثيف اللغوي، وتوظيفها البارع والفطريّ لاستراتيجية المفارقة في نهاية كل قصة، والقدرة الفائقة على الهروب من المباشرة، والقفز بذهنية القاريء الذي أخذته – بإرادته لا بغواية نصوصها فقط - أسيرا داخل لجّة المجاز، قبل أن يفيق في المساحة المحايدة والصفحة البيضاء بين القصص من إبرة المُخدر الإبداعيّ، هذا إلى جانب القدرة غير العادية التي تتمتع بها القاصة على تضْبيب فضاء النّص بغيوم شفيفة من السخرية المُرّة، والمهارة الخاطفة في الإحالة إلى الترميز الشفّاف، الذي يكشف ما خلف غلالته من أحداث دون أن يجرح الصورة القصصية بمشرط المباشرة، فضلا عن نجاحها في تضفير العديد من الأجناس الإبداعية داخل نسيج القصة، والاشتغال البارع على أنسنة الشخوص والتعاطف معهم داخل وحدة الموضوع.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 07, 2024 06:59

April 19, 2020