المعرفة والتعاسة
تُربط المعرفة عادةً بالتعاسة. والمعرفة، مع أنها في المنظور العام أمرٌ جيد، إلا أنها تُبيِّن للإنسان أمورا كان الأنسب جهله بها. إن المعرفة تبرز الجوانب السيئة المحيطة بالإنسان في الحياة. ولما ان كانت الجوانب السيئة كثيرة، وهي في معظمها تتعلق إما بأناس آخرين (لا يمكن إصلاحهم!) أو بقَدَرٍ (لا يمكن تغييره)، فإن المعرفة حينها تضحى جالبة للتعاسة. المجانين والحمقى، أولئك الذين يؤخذون على أن حظهم من المعرفة ضئيل، يُنظر لهم على أنهم سعداء. ينطبق الأمر ذاته على الحيوانات (البهائم) فهي تأكل وتتناسل، وليس لديها هموم نفسية ولا معرفية. الأطفالن بهذا المنوال، هم أيضا سعداء. يشتكي المفكرون من المعرفة؛ فتراهم يتذمرون منها ومن العقل الذي جعلهم قادرين على المعرفة، وهم يتذمرون بالكلام (الثرثرة) والتهكم (السخرية) وسرد قصص الآخرين غير العارفين الذين ينالون حظا من الحياة أكثر منهم (الحسد)، وهم يشربون المسكرات ليزيل عنهم العقل ولو لفترة زمنية بسيطة.يُركِّز الأدباء مثلا على موضوعة القلق والحزن، قلق الكتابة الذي ينخر معداتهم ويأكلهم من الداخل. الأرق الذي يمنعهم من النوم. ثمة ربط بين القلق والكتابة الجيدة. لننظر مثلا لحالة الكاتب في رواية "زوربا" التعيس نوعا ما في مقابل زوربا الذي يعيش الحياة بلا زيادة في التفكير. التعاسة المعرفية ليست محض افتراء؛ فالمعرفة توسع النطاق المكاني والزماني للمشاكل المحسوسة. فهي تخبرنا ان ثمة مشكلة ديكتاتورية في أمريكا اللاتينية مثلا، وهي تخبرنا عن معركة خسر فيها من ننتمي إليهم في حقبة تاريخية متقدمة، وهي تتيح لنا المقارنة بيننا وبين الآخرين الذين قد يصدف أن يكونوا أفضل منا في أمور معينة. مع هذا فالتعاسة لا يمكن ان تُحسَب بعدد المشاكل؛ فمشكلة واحدة كبيرة هي أكثر تنغيصا من مشاكل كثيرة صغيرة وبعيدة.والعمال مثلا، بأخذهم بعيدين عن المعرفة النظرية، ليسوا أكثر سعادة: إن طبائع أعمالهم لها سيئاتها وأكدارها. والحق أن التعاسة ليست صنوا للمعرفة، إنها طبيعة من طبائع البشر أو بعضهم، وهي أكثر مثولا في بعض المهن وعند بعض الفئات المنكوبة. المعرفة، في رأيي، لا تبرر التعاسة. قد تكون التعاسة مرتبطة بالمعرفة عبر مفكرين متشائمين مثلا، أو عبر موظة ثقافية سائدة (مفكرو وكتاب ما بعد الحرب العالمية الثانية). المعرفة هي في ذاتها لذة، وتعقبها والبحث عنها هو تعقب للذة، بالتالي، نيلها، او نيل جزء منها، ينتج لذة، ويهيئ الحصول على السعادة.
Published on June 18, 2011 00:55
No comments have been added yet.
حسين العبري's Blog
- حسين العبري's profile
- 32 followers
حسين العبري isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.
