من القديم المتجدّد

أحب التدوين، وأفضّل الكتابة في كرّاسات بدلًا من الألواح الإلكترونية والشاشات.

وعلى الرغم من وجودي في موقع جودريدز منذ ٢٠٠٩، إلا أنني لم أفكر بالكتابة في مدونة الموقع -أعتقد أنها خاصية للمؤلفين فقط- إذاً فقصص الأطفال و"شيَرَة الهمبا" فتحت لي هذا الباب، لم أطرقه.. ولكنه مفتوح، والفضول يدفعني للدخول.

وكتسخين قبل البدء في التدوين، سأنسخ ثلاث تدوينات كتبتها في مدونتي الشخصية ما بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٤، أحب أن أشاركها القرّاء في جودريدز.



-١-





مشهد استراق النظر إلى السماء

قدماي ساقتني إلى موقف الباص.. لمحت ظلال ثلاثة أشخاص.. لم أركز على ملامحهم.. ذهني مشغول -بل هو متشتت!- لا أستطيع التفكير فالجوع يمزق أحشائي.. أخرجت الهاتف -الذكي- وبلمسات خفيفة.. تنقلت في المكتبة الصوتية.. ثم المكتبة المسيقية.. في الوقت ذاته فردت سلك السماعة وثم سحبته و-شبكته- بأذني! لماذا لم أشتر سماعة بلوتوث.. حياتي  ليست بحاجة إلى تعقيدات الأسلاك!! لمست الهاتف -الذكي- لأسمح له بالصراخ في أذني كي يعلو صوته في رأسي فوق صوت معدتي.. ألتفت يمنة ويسرة.. ثم سألت نفسي.. لماذا تتلفتين؟! الباص لن يأتي من اليمين والشمال! طريقه واحد ومنتظم.. سيصل من اليمين -انتهى!- 


ولكنني لم أستطع أن أنظر إلى اليمين مطلقا.. أنزعج عندما أرى الجميع ينظر في ذات الاتجاه.. فتركت النظر إلى اليمين والشمال.. ثم رفعت رأسي لأسرق نظرة نحو السماء.. ففي وسط لندن.. أنت لا ترى غير الجدران.. وعليك أن تذهب إلى حديقة ما لتوسع نظر بؤبؤ عينيك.. أجد في النظر إلى الأعلى متعة غير طبيعية.. ربما لأنني أقضي جل وقتي ووجهي أمام شاشة الكمبيوتر أو بين دفتي كتاب!! صحيح.. من الجيد والممتع أن أرفع رأسي.. لا أسمع إلى ضجيج الموسيقى..  يبدو أن الأنغام ترفع بصري أيضا!! بلأنظر إلى السماء شاردة الذهن.. وعقلي اللاواعي يرقب وصول الباص.. 


في لحظة صمت.. لم تزد عن الثلاثة ثوان.. هي ثواني انتهاء أغنية وبداية أخرى.. سمعت قرع عصا على الطريق.. في الحقيقة.. أنا لا أدرك إن كانت أذني من سمعت الصوت أو أن عيني عقلي اللاواعي التي كانت تنظر جهة اليمين في انتظار الباص هي من رأت المشهد أولا! اعتدلت في وقفتي واستقام وجهي يمينا وتركزت حواسي كلها نحو القادم من اليمين.. لقد تضاعف عدد الواقفين عندما كنت شاردة الذهن.. ولكن بالرغم من ضوضاء الشارع لاتزال طرقات العصا على الطريق مسموعة.. لاحظت أن عيون الوجوه الملتفتة يمينا في ترقب الباص قد إلتصقت بالعصا.. كنت قد كتمت الهاتف -الذكي- مع بداية مشهد العصا.. في لمحة سريعة إلى شاشته انتبهت أنه قد مر من الوقت حوالي أربع دقائق..  ارتطمت العصا بعمود معلومات خطوط الباصات تفاوتت ردود فعل المتجمدين من تلويحة يد سريعة تراجع قدم والتفاتة رأس.. تغير سير العصا قليلا.. ولا تزال أعين الرؤوس ملتصقة بها متناسية اليمين!! عندما وصلت العصا أمامي.. إذا بإمرأة شمطاء في الخمسينات من عمرها تخترق المنتظريين لتلحق بالعصا فتمسك بذراع الضرير.. متسائلة إن كان يمانع في أن تسير معه.. وفي حركة لا إرادية.. ظلال الثلاثة أشخاص وأنا معهم.. تحركت نحو العصا.. سرنا خلفهما -السيدة والضرير- ثم توقفت.. وأعدت النظر.. لأسمع أحد الرجال يهرول إليهما ويقول "إلى أين تتجهان؟؟ أنا ذاهب من الطريق نفسه.. سأرافقكما" نظرت نحو الجهة الأخرى وسمعت كل صوت همس وذبذبة في الطريق.. فقلت.. "١٠ دقائق تفصلني عن المكان سيرا على الأقدام وأنا مبصرة!" ثم اتجهت يسارا 




-٢-




استيقظ ذات صباح على أصوات .. وكعادته الفضولية.. أبى إلا أن يعرف المصدر.. نهض من سريره.. وفتح نافذته.. هبَّت نسمة صباح فمسحت وجهه.. لكنه ارتعد خوفاً فقفز على سريره فكرسيه الذي لم يتوازن عليه فتأرجح هاويا على الأرض فزحف ليختبأ تحت سريره مغمضا عينه بشدة وكاتما على أذنيه بكفّيه كي لا يسمع تلك الأصوات!! 


دخلت الأم مسرعة كي تطمئن على ابنها بعد ما أحدثه من جلبة في ذلك الصباح.. "ماذا جرى لك؟!؟!"


فتح عينيه وصرخ مستنجداً "أمـــاه!!!! هناك من يقذفني ويرجمني دون ذنب مني إلا فتحي  النافذة كي أعرف ماذا يجري!!"


هرعت الأم غاضبة لتنظر من فعل ذلك بابنها.. فابتسمت.. والتفتت إليه.. وبحنو الأم ونبرتها الهادئة.. قالت: "يا بني.. إنه الغيث!"


ظهر من تحت سريره قائلاً "كيف هو الغيث، يا أمي؟!"


"هو مطر غزيرٌ قطراته كبيرة ينبت الزرع ويبهج القلب وتقبل الدعوات.. فلا تقلق هو خيرٌ يابني.."




-٣-



هل تعرف أن الدمى تمرض؟؟؟ راقب لعبة طفلٍ مريض.. أو لعبةً في يد طفل حركي مفعم بالحيوية والنشاط..
اللعبة تمرض لمرض صاحبها.. وتنام بنوم صاحبها.. وتنشط بنشاطه!! هي حالة واحدة.. تلك التي تمتلك فيها اللعبة حياتها.. تلك اللحظة.. التي تغفو فيها عين صاحبها خطأً!! تخيَّل تلك اللحظة.. نعم تخيَّلها تماماً مثل ما نرى في الرسوم المتحرِّكة..
كيف عرفت ذلك؟؟ رأيته "بأم عيني" كما يقول رائد أدب الرحلة ابن بطوطة*.. في ذلك اليوم.. أصبت بإعياء شديد.. احمرار وجنتاي لم يكن طبيعيا.. ولم أعد قادرة على الوقوف.. شعرت بالحرارة تحرق جسدي كله بلهيبها.. ارتديت أخف ثيابي.. واستلقيت على السرير.. أبحث عن النوم بين وسائده.. لم أنم.. ولكنني "تناومت!!"

كانت نافذتي مفتوحة.. يدخل منها النسيم عليلا كنسيم يوم ربيعي.. عيناي مغمضتان.. غير أنني كنت أسمع كل ما يدور حولي.. أحب لحظات القيلولة التي تعيد للإنسان نشاطه.. ولكن عيناي لم تغف.. ونشاطي لم يتجدد!! تغافلت عن النار المشتعلة في جسدي وفكري.. وحاولت الاستمتاع بالنسيم البارد.. والانصات للأصوات التي وجدت سبيلها إلى جثتي الهامدة..
كنت أسمع كل شيء.. خطوات المارة.. وعجلات السيارات.. في الحقيقة.. كلما ركزت في أصواتها.. كلما تمكنت من تحديد سرعتها و "وزنها!" تبادر إلى مسمعي صوت أطفال يلعبون في الحديقة المجاورة.. وكان من أجمل مااستمعت إليه.. حوار أم مع طفلها.. كانت تحاوره كما لو أنها تحاور شخصا ناضجا.. ولو لم أسمع صوته.. لاعتقدت أنها تتحدث مع أحدهم بالهاتف.. أو ربما.. تشاهد من تحب في "سكايب" .. أحيانا.. أحب هذا النوع من التقنيات.. وأحيانا أكرره.. لحظة!!!! إنني أسمع صوته.. أسمع صوته مجددا.. إنه يقترب!! أحب صوته عندما يصل لمسمعي وأنا مستلقية في الصباح.. لا أبالغ عندما أقول أن سبب انتقالي لهذا المكان هو استقباه لي!!

إنه يقف عند نافذتي يغرد.. كنت مستهلكة ولا أستطيع أن أرفع رأسي.. أحب تغريد روبن** حاولت أن أنهض كي آتي بشيء ليأكله.. هو يعرف أنني أنتظره.. ويعرف أنني دائما ما أحتفظ له بالطعام.. في ذلك اليوم.. لم أستطع النهوض.. جسدي كان أثقل من أطنان الحوت!! حاولت جاهدة ولكنني لم أتمكن حتى من أن أرفع سببابتي!! فجأة.. شعرت بحركة في الغرفة.. ركزت في الصوت.. ولكنني لم أتمكن من تمييزه.. وجهي يقابل أطراف الستائر.. لا أستطيع الاتفات.. فآثرت البقاء كما أنا..
أسمع تغريد روبن يقترب.. لا!! أنا الآن أسمع قفزاته قادمة نحوي.. عيناي مفتوحتان إلى حد الجحوظ.. أنظر من طرف عيني.. الصوت الغريب يقترب أيضا.. كأنه يحاور روبن.. رأيت روبن يلتقط فتات الخبز الذي كنت قد عزلته ليلة أمس لأقدمه بنفسي له.. لمحت طرف ثياب الشخص غريب اللهجة.. ثوب وردي.. تتناثر فيها ورود صغيرة بيضاء.. أطرافه دانتيل أبيض.. استجمعت كل قواي وقفزت من مضجعي!!

الظلام يخيم في المكان.. لا أثر لروبن.. ولاهمس في الشارع.. ثيابي تشبعت من العرق.. نهضت للاستحمام.. لبست ثيابا تدفئ جسدي.. الهواء كان أبرد من البرودة ذاتها.. فاتجهت نحو النافذة لأغلقها.. الفتات!!! هناك آثار لفتات خبز روبن.. هرعت نحو طاولة الطعام لأتأكد.. لاأثر لفتات الخبز .. دارت عيناي في أرجاء المكان.. لا شيء.. سوى دمية بثوب وردي مزركش بالورد الأبيض الصغير على أطرافه دانتيل أبيض.. تقبع فوق مدفأة المنزل التي لم أستخدمها في حياتي..

-----
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 05, 2020 06:33 Tags: أرشيف-مدو-نتي, أقصوصة
No comments have been added yet.


مُدوّنة اليازية خليفة

اليازية خليفة
عن الهدوء العاقل الذي لا يظهر إلا عندما أخطّ بالقلم
Follow اليازية خليفة's blog with rss.