مشى في أرضٍ لا زرع فيها (تنهيدة الكامل)

كامل فرحان صالح تنهيدة الكامل تنهيدة الكامل by كامل فرحان صالح اللوحة لجبران خليل جبران
كامل فرحان صالح *
إلى أرواح ِ منْ عبرُوا
قال لي: اكتبوما أنا بصانعِ كتابة. أشربُ الدخانَ بنهمٍ، وأعملُ حتى يتعب التعب. ولا أنامُ كابن آوى، غير أني لا أصرخ في الليل. ربما أصاب بالأنين بالنعاس... بالملل، غير أنني أحاولُ أن أبقى كاملًا وصالحًا كأسماءٍ منقوشةٍ في لوح محفوظمرة زارني قال لي: ما تشتهي؟قلتُ: الفرح. ثم صمت،قلتُ: الراحة. ثم صمت،قلتُ: النساء، ثم صمت،قلتُ: الصحة، ثم صمت،قلتُ: الحياة،...
تأملني كثيرًا، وقال لا أحيي الأمواتأدركتُ أني ميتٌ، فاستيقظتكانت الشمسُ غانيةً وأنا تعبٌ تعبٌ، لا أقوى على النظر
***
قال: اكتبْقلتُ: أكتبُ عن أصدقاءٍ لا أراهم لا أعرفهمقلتُ: أكتبُ عن أصدقاءٍ في واقعٍ أثيري، تجمعُ كلماتُنا صورتَنا المحلاة باللغة، واللغةُ خيانةقلتُ: لا أقدروبكيتُ وضحكتُ وبكيتُ وضحكتُ حتى إني نسيتُ متى ضحكتُ ومتى بكيتُوكان يتأملنيثرثرتُ كثيرًا تلك الليلة، والقنينةُ تكبر تشبهني في النقصان وأشبهها في المشي على قوسِ قزحوعندما شربتُ الموت شعرتُ أن ثمة «أسود» يسيرُ أمامي، التفتُ كنبيّ عاد، لكن لم أتحولْ إلى ملحٍ. رماني في النارِ، لكن لم أتحولْ إلى بردٍ وسلام. كانت تشويني، وأنا أضحكُ كنجمةقلتُ: الأصدقاءُ ليسوا حروفًا، ليسوا لغةقلتُ: أين هم الآن؟قلتُ: أنا ازدادُ وحدةً، أزدادُ اتساعًا في الأنالا أحد يرانيقال: أراكَ فاصمتْ، وتأملنيقلتُ: لا أراكَامنحني عينيك. الحياةُ تذوبُ من أمامي، وأنا منسيّ هنا في أرضٍ لا زرعَ فيها. ناسُها بيضٌ وسود، وأنا رماديٌّ، وأنا زهريٌّ وأنا أخضر وأنا جنونُ الألوان
قال: اصمتْقلت: وهل يصمتُ من في فمِه صحراء؟
نسيَ أن يغضبَ، فضحك وضحكتُ، ونثرتُ كلامًا كثيرًا في الأثير. وغنيتُ: «تفاصيل»، و«زوروني كل سنة مرة»...
***
أنت هل تقرأني الآن؟أنت انزعْ نعليك، وأنت تطأ المكان، ثمة نبيٌّ هنا، نسيت زوجة فرعون أن تحملَ قماطه، فتاه في النهر، وتاه، ولم يصل. حتى الفينيق الكبير لم يكنْ سوى دجّال، والفرعون لم يلحقْ أحدًا، ولم ينكشف البحر على شيءإنّها الرؤيا، فافتحْ قلبكَ، واتبعني، فلن تصلَ إلاّ إلى الصمت***
تعبانأين صلاتك؟
***
قلتُ: أين أنا الآنلم أسألْ أحدًا، وانتظرتُ. العتمةُ تتسعُ، والعينُ لا ترى سوى السؤالانتظرتُ. كان الجلدُ يتفتقُ، والروحُ تكنسُ أيامَها...قلتُ: لا أقدرُ أن أثرثرَ الآنقال: اصمتْقلتُ: أمهلني لألقي التحيةَ على ورود وفاطمة وأمضيقال: أسرعْقلت: انتهيت، فخذني إليك
***
قال: ارفعنيقلت: يداي أرضقال: تأملنيقلت: لا أرى سواي
مشى وفاح حديث الزعفران: «المجد لي في الأرض، وفي السماء»
***
هلع قلبي. بعثر شراييني، وفي غفلة منه ومني، دلقت دمي على صمتي ووقفت:الأبواب كثيرة. أيهما بابيعادقال: اعبرنيقلت: لا أقدام لي. فوقعتقال: قلت اتبعنيقلت: ثمة عزيزة هنا واسمها فتحيةقال: لتأتي إذا شاءت
***
قال: افرح أيها الغبي أنا. العرس قائم وأنت تولول كالنساء، الكؤوس تفيض بالحياة، وأنت ترتع الموت. ما بك؟قلت: الأيام تنسل كحبل الفضيحة، لا أقدر على حمل الأسرار، أنثر مساماتي كقمح ملعون، أسعى كمنبوذ، أفطر على شمس لا تضحك، وأتوسد ليلًا لا يستيقظقال: آلمتني اصمتقلت: ألم ترحل؟قال: الرحلة رحلتقلت: إذًا، لنمكث قليلًاقال: لا أطيق مكانًا
***
ليتني قربك أرقيك من القلق والقرف، وتنثر روحك في روحيقال: نسيت أن تقول: قلتوما أنا إلا قول في قول، دعك مني وأدخلني فيك أشعر بالبردقال: أنا أرتجف ماذا أفعل؟قال: هذا خالد اسألهقلت: هو الودود كطيبة السلوى، وهو الجالس على تلال النقاء كرسول بلا أخطاءقال: افرح إذنقلت: لا اقدرلا... «فالفرح ليس مهنتي»
***
وقال: متعبقلت: بل أجرّني ناحية السديم هناك حيث التلاشي
ونزلتونزلت. ورأيتني أعوم كجثة في سماء. لم أتنفس لغة. لم أجدل هذه الحياة لأندمَ على سيرة لم تكتبأخذني إليه ونهرني. خلتني جبلًا لا يبرح الخروج، يشتهي تينًا وزيتونًا وقليلًا من الزيتلملمت رغباتي المنسابة. طويت بعضي، وفي زاوية الأرض دسست «أناي»مشيت دوني، فاض مني الفراغونزلتكانت القلوب تشتهيني لتنبض. كانت الأرواحُ سادرةً تتملاني لأكونها، لكزتها بيدي، وخرجت ثم استدركت فدخلتوفي الوسط توقفت لم أعد من هنا ومن هناكمن في الشمال ومن في الجنوبكنت شرقًا وغربًا وهذه الريح ليست ليتوسدت ارتباكي، ونزّ مني ظلّيانحنيتُعامًاعشرةثلاثين عامًاألف عامألفي عامكنت أنحني والأيام تعيرني غبارهاجمعتُ غزلان الغابة. قلت: اخرجي عليك الأمانمنحتُ الأشجارَ جسدي
وقلت: اكتسي دفئي وأثمري
ونزلت لم أعد ما كنته. لا جسد لي لا روح لا ظلونزلت، ولم يعرفني. وقفت أتأمله ولم يرني. صرخت كثيرًا لم يسمعني. كان قلقًا. كان يبكي. وخلته يصلياتخذت صخرة. التفت إلى هديل وانتابني الهذيانقلت: أنا أهذي، وهذا الدليل
***
آآآآآآ ه هذبحتني كيوم يأبى الحضور. شمسك ذوّبتني، وما أنا إلا شمع وبخورابتعد قليلًا. لم أعدْ أحبكقلتُ: وأنا كذلكهممتُ بالغرق. شربتُ غصّتي وارتفعت. لم أعدْ أراهنورٌ لملم شظايا الغيابدسّ شيئًا في قلبيكان صدري يفيض بالزبيبِ واللوزِ وحبّ الرمانكان وجودي فيه يحررني. يهبني الهواءكان صمتي عبره صلاةكان أنا وكنتهلا شرايين لي لأنسىأذكرُ الآن حبّي له، حبّه ليأذكرُ الآن ماءَه المنساب على شعريأذكرُ الآن قلقي عليهتركني هنا دون اتجاهفي متاهةٍ بلا نوافذ. الاتجاهات جدران، والأرضُ خاليةٌ من رقصتي
صرختُ بما تبقى لي من لغة: أريدُ الخروج. أريدكَ فيّصرختُ، وصرختُ، وصرختُتلاشى صوتي. كنتُ صوتي. كنتُ صمتي
***
يا ورود ها هو القديس خبزُهُ جسد، ودمُهُ في الكؤوس، وفي العشاءِ الأخير نسوا أن يصلبوه
***
قال: يا سيدي ها هو البحر، وها هي السماء تنتظر عبوركقلت: وها هو قلبي يفيض بالخروج. الأمكنة تنبذني، وليس في المكان جذع نخلةقال: أغمضْ عينيك، وهزّ رؤيتيقلتُ: الفراغُ بردٌقال: هزّ دفئيقلت: هذا الدرب ليس ليقال: لا حجّة عنديقلت: هات شرايينك لأعبر هذا الوجع. هذا التعب
خلتُ نفسي حبيبًا، وخلتُ نفسي صديقًا، وخلتُ نفسي وردًالكن يا سيدي لم أكنْ سوى عابر في روح ينثرها، وتتلاشىلا أحد يعرفني. لا أحد يسألني. لا أحد يمنحني شربة ماء.
هات قلبك
قال: لا ضلع لي، إنما حبرٌ وصمتقلتُ: حتى أنت يا أنا!
***
للحظات لمحت قاسمًاوقلت: يا قاسم لتعرف الجواب تأمل غربتي
***
قال لي بحدّة: اكتبْ. نعم اكتبْقلت: اللغة...قال: لا تكملقلت: أثرثر كثيرًا. متى أصمت؟قال: الرحلة جاهزةقلتُ: والقنينة انتهت بعدما تركتُ شيئًا لنصرةِ أحمد ويُوسف، والأحبّة كُثر
***
ها هو الكامل يلملم عشبه
قال: أدخلني الآن أنا أنت. أنت أناوقال: عبرْتُكَ وعبرْتَني، فالحس ما تبقى واسقنيوقال: أحشائي فاضت بك. ما أشهى دفئكوقال: أشعر بالجنة فيّوقال: ما حاجتي الآن للتوبةوقال: طهرتني. طهرتنيلنصعد على جبل حرمون حيث كل شيءوقال: ها هي الشام، وها هو الجليل، وها هو لبنان، وها هي الصحراء، وها هي الدنيا تحت عينيكوقال: لكن النعجة أتت، ولا يد لي لأذبحكوقال: حلمي أنت، ولم أسنّ سكينةً يومًالنأكل هذا الزاد، وننتظر ماذا سيفعل
***
لم يكن غير ما كان. انتزع مني حَبّ الرمّان وكمشة عطر وصلاةوقال: الحكاية انتهتوقال ثانية: الحكاية انتهتوقال: انتهت
حنيتُ رأسي، وخرجتُ منه إليه. لم تكن في الجبل نخلة، ولا شجرة زيتون، ولا من يطهرني. كنت مدنّسًا بحبّه وصمتهلم أسمعه. لم أعد أتملّى عينيه، جبينه، شعره، أذنيه. نسيت ملامحه. سكنت في بيت المزاجبلّلني الملل والتعبكنت أحصي حبوب الدنيا وأمواتها. وفي النوم يهجرني النوم.وأسألني: هل يجدي البكاء الآن!
***
الدربُ شوكٌ يطوقني، ومن دمي يفرّ الأصدقاءوكان يضحك، وكان يمشي لا يرى سواهوفي بستان يهوذا زرع أولى الخياناتقلت: المعرفة تواضع، المعرفة تلمّس ألم الناس. ولم يسمعنيكنت مصلوبًا، ولم أنتبهكان الشوك يعبرني. ولم أنتبهكانت المسامير تُقبّلني. ولم أنتبهكنت أصليكنت أحبهمكنت وانتبهتلم تكن سماء أرمي إليها يقيني. لم تكن أرض تضمّ مائي، وبطرس لم ينتظر الديك حتى ينكرني
***
قال: اخرجْقلتُ: ...قال: اخرجْقلتُ: ...قال: اخرجْقلتُ: وردتي هنا زرعتها ربيعين
ضحك عاليًا، وضحك
قال: لم تعدْ منك بل عليك. فانتقِ عطرَ أيامٍ خلت، اغرسْها في روحِك وانكسر. لملم أصص خيبتكَ، واخرجْ
التفتُّ... كأنّ العرسَ ليس لي. كأنّ الكأسَ ليس لي. كأن العمرَ ليس لي.التفتُّ لأتسربل بغصّة.وقبل أن...قلتُ: الآن هات يدك.
7 آذار / 8 نيسان 2004 - 2003
* نشر هذا النص لأول مرة تحت عنوان: لا يد لي لأذبحك - تنهيد الكامل. ثم نشر بهذا العنوان لاحقًا، في كتابي: خذ ساقيك إلى النبع - الصادر في العام 2013
facebook - 2010
كامل فرحان صالح - Kamel Farhan Saleh
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 07, 2023 01:15 Tags: تنهيدة-الكامل, شعر, كامل-صالح
No comments have been added yet.


Kamel Farhan Saleh's blog

كامل فرحان صالح
هذه مدونة كامل فرحان صالح
وهو شاعر وناقد وأكاديمي لبناني
Follow كامل فرحان صالح's blog with rss.