حُبٌّ بحُكم العادة
في يوم ما، قبل 2006:
دخلت إلى ملعب المدرسة المسقوفالمعتم، ثم مشيت إلى آخره وعيناي تغرقان بالدمع. يميناً صنابير تسيل مياهها إلىحوض ضيق بموازاة الجدار، ويساراً نوافذ كبيرة تطل على الملعب الصيفي الكبير. أمافي مواجهتي فنوافذ طويلة تطل على الأشجار التي تغطي سفح التلة حيث تتربع المدرسة.
غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداها أخيراً، ثمتقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظات الماضية الثقيلةالتي كادت ألا تنتهي.
*
لدينا فحص نظر اليوم في المدرسة. بين كل فترة وفترة؛ يأتي وفد طبي من الدولةالكريمة، يبشرنا بطُعم جديد نتاجه إبرة في الكتف أو قطرة مريرة نتجرعها دون حولمنا أو قوة. أما فحص النظر هذا فبدعة جديدة! ما لهم ولعيوننا؟
اصطففتُ ورفاقي أمام الغرفة التي انقلبت من فصل دراسي إلى عيادة طبيب عيون بينليلة وضحاها، أو قل بين حصة دراسية وأختها..
وبدأ الوافدون يخرجون تباعاً بالفوز المظفر، وكأن فحص النظر اختبار وقد أعدّواعدّتهم جيداً قبل المعركة. لم يقل أحد ما الذي في الداخل، كأن لكلٍّ قدره، ولا غشفي المسألة.
حان دوري فدخلت بتردد المقصّرين، وانتظرت توجيهات الحاضرين، ثم مثل المنام أنهيتما عليّ وصرت في رواق المدرسة دون أن أدري كيف خرجت. ولأن النتيجة لم تكن مُرضية،أنستني تفاصيلَ العملية، لكن ما لم أنسَه أبداً سؤال ظل يرن في رأسي سنيناً عديدة:"هل لديكم ضعف نظر في العائلة؟"، فهززت رأسي إيجاباً، قلت"أبي"، فهز رأسه واثقاً : "إذن بالوراثة". وانقلبت الدنيارأساً على عقب في عيني. خرجت هائمة على وجهي لا أدري أين أذهب أو ماذا أقول.
توجهت إلى الملعب "الشتوي"المسقوف، غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداهاأخيراً، ثم تقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظاتالماضية الثقيلة التي كادت ألا تنتهي.
لم تكن مشكلة أبداً أن النظاراتسترافقني بعد ذلك اليوم سنوناً عديدة، ولا أنني أشترك مع والدي بالأمر، لكن ما كبرفي قلبي وعقلي في آن: "كيف سأخبره بالأمر دون أن أحزنه!"
**
2011
جالسةٌ في كرسيي عند الطاولة الأولى قبالةطاولة المعلمة. تشرح المعلمة وتستفيض، وأركز أحياناً ثم أشرد. أنزل نظاراتي الطبيةحيناً، ثم أعيدها إلى وجهي. أتابع ما تقوله المعلمة باهتمام، وأجيب كلما اقتضتالحاجة على سؤالها.
لم أكن يوماً من المهتمين بالعلامةالكاملة، بقدر ما كنت أهتم ببذل قصارى جهدي. ولم يكن يعنيني أن أكون الأولى فيالفصل، بالرغم من تصنيفي مع التلاميذ النجباء. ولا أخفيكم سراً، قد يكون عدم سعييلذلك لعدم إيماني بقدرتي على المنافسة. لم أحاول فلم أفشل. ولكنني عند هذه المعلمةبالذات، أحببت التفوق وألفتُه. كان سهلاً ممتعاً، فسعيت إليه.
وفيما تشرح المعلمة، وأتابع، كما كلرفاقي في الصف، أنزلت نظاراتي الطبية، ثم أعدتها عدة مرات. لا أذكر لمَ، قد يكونلاحتقان في أنفي، أو ضغط في أذني، أو انزعاج من احتكاكه بحجابي، أو ارتباك دون أيسبب..لكنني أذكر تماماً أنها أربكتني كملاكم لا يدري من أين تأتيه اللكمة التالية..وفيما كانت تدور معركتي الخاصة، كان يسير شرح الدرس بسلاسة لا يعكر صفوه ضجيج صراعي..
ولأنني مهما كنت منشغلة، أُبقي علىسمعي مع المعلمة لربما باغتتني بسؤال ما، وإذ بها تضرب مثلاً للطلاب عن صاحب معمليطلب موظفين للعمل لديه، ثم تتبعه بالسؤال التالي:
"هل يا ترى سيوظف صاحب المعملأشخاصاً يرتدون نظارات طبية، بحيث يضيعون نصف الوقت في تعديل وضعيتها؟ أو يختار منلا يرتدي نظارات حتى يزيد الانتاجية؟؟"
كانت تلك المرة الأولى التي أنزل يديفيها إجابة على السؤال، بدلاً من رفعها للإجابة عليه.
**
2014
غرف كثيرة، رائحة تعقيم، بلاط براق،لون أبيض ناصع كيفما اتجهت، وصراخ آنسةٍ يشق صمت الحاضرين، مصدره غرفة قبالتي.اُدخِلتُ غرفة أو اثنتين، تصوير مقطعي وغيره من الفحوصات اللازمة قبل الإجراء الأخير،ولحظات وداع بطيئة لنظاراتي وعدساتي اللاصقة في آن، يعكر صفوها توقعات الألم لعدةأيام مقبلة.
حين حان دوري ودخلت، لم يكن هنالك ما يثير الهلع. بل بالعكس.. سرير أسود عاديجداً(وربما الجيد في الأمر أنه لم يكن أبيض اللون)، ماكينات بسيطة لا يبدو عليهاأثر التعقيد.. لا رائحة لدماء أو مصل في الأجواء.. كل ما في الأمر انتظارُ دقائقحسب ما تقول الممرضة. طلَبَت مني أن أتمدد على السرير ثم حيّتني على جرأتي.ثبَّتَتْ جفناي بملقط وأنزلت بضع قطرات مخدر فيهما ريثما دخل الطبيب. وجّه إلىبؤبؤاي تِباعاً شعاعاً أحمر ثم شممت رائحة احتراق بسيطة. لحظات، ثم خرجت من الغرفةمرفوعة الرأس، تعلو أنفي نظارة أيضاً، لكنها هذه المرة شمسية...
**
ما الأجمل من استيقاظة هادئة، لا يعكرصفوها شيء، ولا حتى اضطرارك لوضع النظارة حتى تستطيع تبيان عقارب الساعة قبالتكبوضوح؟
تدخل أشعة الشمس دونما استئذان عبرستائر الغرفة، تتعارك مع أغصان شجرة المشمش الطويلة بلا غلّة، ثم تنساب علىأعيننا، فإن لم توقظنا بنورها، فعلَت بحرارتها المرتفعة.
**
أسير في الجامعة مع صديقة تشاركتُوإياها سنوات دراسة عديدة، قبل أن نتشارك تجربة "الفراق" عن النظاراتالطبية. ترتدي كلتانا نظارات شمسية لتمنع الضوء القوي ونسمات الهواء من الوصول إلىأعيننا في إجراء قسري ريثما طابت من العملية، فيما تصل إلى آذاننا تعليقات بعضالطلبة إذ يستغربون همساً وجود نظارة شمسية على وجه إحدانا التي لا يعرفُ ولا يخصُّهأمرُها دوناً عن غيره.
**
2017
تتوالى قطرات الترطيب التي سمعناكثيراً عن ضرورة الالتزام بها عدة أشهر، وتتوالى الأيام. تتكرر الصباحات الجميلة،وغيرها الممتعضة.. كما ساعات الدراسة الكثيرة.. ويُتعب العينينَ الشوق...
في زيارة تالية بعد سنتين أو ثلاث،يزفّ الطبيب الخبر. عيناك تعبتان. "جيد أن التعب ليس في قلبي"، أحدثنفسي. يكتب لي وصفة طبية "للاحتياط"، وأضحك في سرّي، هذه فرصتي للانضمامإلى لابسي النظارات الطبية بطريقة ألطف، بعد أن أصبحت النظارات "موضة"منذ سنوات.. وتحديداً بمجرد أن خلعتها.
**
2022
"أظن أن عيناي تتعبان أكثر من ذيقبل ليلاً"، أحدّث زوجي فيما أقلّب بعض الأوراق.. أو ربّما تسبب حملي الأولبضعف في نظري.. "قد أنبأني الطبيب ذات مرة أن الحمل يسبب ضعف النظر.."
أحاول أن أريحهما بعد استعمال الشاشاتالإلكترونية. أمضي بعض الوقت وأنا أتأمل البنايات من نافذة المنزل. أتساءل في سريإن كان هذا يعوض عن "النظر إلى المساحات الخضراء البعيدة".. إن الأمرأشبه بالتداوي بالأعشاب بالمقارنة مع منتجات علم الصيدلة. "هذا المتوفر بكلحال".. أزفر ثم أعود إلى عملي...
**
2023
"ما رأيكَ أن تفحصَ عينيك؟ سآخذموعداً لي ولك"، قلت لزوجي فيما أحدّث قائمة الواجبات الأسبوعية.. وقبل أنيهزّ رأسه بالإيجاب، كان الموعد قد ضُرب.
هذه المرة حفظت درسي جيداً. لامفاجآت. لن يتهم أحد عيني بالتقصير، ولن يمس أحد الأسباب الجينيّة.. لن نتطرأ لهذاالموضوع أصلاً... أجريت بعض الاتصالات مع أهلي أتأكد من تفاصيل العملية التي سبقوأجريتها، وأخذت نظاراتي التي بالكاد أستخدمها لربما طلب رؤيتها الطبيب الجديد.
وبعد انتظار طال -كما يطول كلانتظار-، والإجراءات الروتينية التي يتطلبها الأمر، وصلنا إلى كرسي العيادةالمنشود. جلس زوجي على كرسي المحاكمة، فيما أنتظر جانباً دوري بتوتر الطالبةالنجيبة، التي تدعي أن المركز الأول لا يهمها ثم ترمقه بعين المُحب، ولم يطل الأمرحتى صدر الحكم بالبراءة.
"وضعُكَ مستقر"، قال الطبيبلزوجي ثم أشار إليّ للتقدم.
جلستُ على الكرسي جلسة المعتاد علىالامتحان، العارف لكل الأسئلة. قدمتُ رأسي ووضعت ذقني حيث يجب. نظرت بعيني اليمنىحيث أشار الطبيب بإصبعه، وركزت جيداً نظري بالعين الأخرى حيث طلب. توقف الزمنللحظات لا يرمش فيها جفناي انصياعاً للأوامر، ضوء يُشعّ تماماً في منتصف المدى.. ثمانتهى.. أسندت ظهري قليلاً إلى الوراء.
"ارمشي قليلاً،.. تمام، أعيديذقنك إلى حيث كان، انظري إلى إصبعي هنا.. لحظات وننتهي، لا ترمشي بعينك.. همم.. أنهينا"
"يبدو أن علينا أن نعيد الفحص معتوسعة للبؤبؤ للتأكد من النتيجة"، قال الطبيب،
"لقد أجريت عملية لعيني منذ عدةسنوات.."
توالت الأسئلة والإجابات، لم تكن كتلكالتي درست. لم يتّهم أحد جيناتي هذه المرة، بل انصب اللوم على مسار العمليةالأولى... ولكن الشعور بالخيبة كان ذاته.
غادرنا العيادة، بصحبة وريقة تستقدمصديقاً قديماً جديداً: نظاراتي الطبية. نظارات تعود بدون لوم أو عتاب، تماماًكأشياء كثيرة تغيب ثم تعود. قد لا نفرح لعودتها، ولكننا لا نأسف لوجودها.. بل ربمانفهمها أكثر، وقد يكون لها نصيب من الحب يوماً ما، حبٌّ نكتسبه بحكم العادة، لابحكم العقل والقلب.
حنان فرحات |بيروت، رأس النبع
22-6-202312:24 بعد منتصف الليل