سنوار مان!.. حاشية على رثاء أبي إبراهيم!
في مؤتمر الذكرى الثالثة للهيئةالعالمية لأنصار النبي ﷺ، أنشد شاعر الثورة اليمنية فؤاد الحميري أبياتا بديعة يقولفيها:
شتان بين الشك والإيمان .. وشهود زورٍأو شهيد عيانِ
سقطت بطولة هُولِيُود وسحرُها ..وعَلَت بطولة تلة السلطانِ
هم مثلُ سوبرمانهم أكذوبة .. لكننا –صدقٌ-كسِنْوَرمانِ
(1)
كأن الغرب يشعر نقصا فظيعا في البطولةوالأبطال، فلم تزل آلته الدعائية تنهمر علينا بالأبطال المُخترعين الزائفين؛ فكمنشأنا ودرجنا على روايات هؤلاء وأفلامهم، فإذا الأطفال والناشئة يستلهمون أمثلة:سوبر مان (الرجل الخارق)، سبَيْدر مان (الرجل العنكبوت)، وأنواعًا من الفرسان فيكل موطن وسبيل. وإذا الكبار والكهول يستهلكون أصنافا من المقاتلين والأبطال الذينفرغوا من مهمات الأرض فطفقوا يحاربون في النجوم والكواكب والعوالم الموازية أويتصدون لغزو الكائنات الفضائية لهذا العالم!
قد كثرت القصص المخترعة والخيال العلميمن بعد ما تضخم التفوق الأوروبي حتى لم يعد يرى له في هذه الأرض قرينا ولا منافسا!
وتأمل في هذا ترى صدق ما أقول؛ فأيبطولة يفخر بها المرء إذ يستطيع أن يقتل، بإلقاء القنابل وهو في طائرة تعلو آلافالأميال على قومٍ من العُزَّل الذين لا يطالونه، أو حتى يقتل وهو في مركز للتحكموقد أرسل طائرة مُسَيَّرة يتحكم فيها كما يتحكم في الألعاب الإلكترونية، يرى الناسمن حيث لا يرونه، ويفتك بهم من حيث لا يدركونه؟!.. فمن كان هذا حالُه، وقد تجرد فيمعاركه من معاني البطولة، كان لا بد لأدبائه وروائييه وأهل الدراما والسينما فيهأن يخترعوا له أعداء فوق البشر، يأتونه في الأرض أو يذهب هو إليهم في السماء ليتمّله القتال الذي فيه معنى البطولة!!
وأشدُّ ما ترى فيه هذا النقص لدىالغربي هو الأخلاق؛ فإن الغربي مجرم منافق، وذلك أمر أصيلٌ في طبعه، لا سيما منذاعتنق العلمانية، فالأخلاق عنده وسيلة وأداة لا أكثر، يستعملها وينتهكها في تمكينتفوقه، وقد يفعل هذا في نفس الوقت واللحظة.. وقد ابتكر الغرب في منظومته السياسيةوظيفة "المتحدث الرسمي"، وهذه الوظيفة يتولاها أكثر الناس مهارة فيالتعامل مع المآزق الأخلاقية؛ فإن أردت بلوغ هذه الوظيفة فكن وقحا فصيحا، وكنباردا ماهرا في تغطية المواقف اللاأخلاقية بغلالة من الشعارات الأخلاقية، كن قادراعلى إنكار الشمس!
لهذا ترى الغربي حريصا على الأخلاقشغوفا بها، وذلك في رواياته وقصصه ودراماه وسينماه فحسب، يحاول بهذا أن يغطي نقصالأخلاق في طبعه، وتجرده منها في واقعه! مَثَله في هذا كَمَثل الذي يتعاطىالمخدرات ويدمنها لأن جسده قد توقف عن إفراز مادتها، فهو شغوف بها لأنه فاقدٌ لها،متشوق لها لأنه فارغ منها، حريص عليها لأنه عاجز عن استنباتها من نفسه مثل كلالأسوياء الأصحاء!
وحال هذا يكون أشد بؤسا وأشد حقدا وأشدتغيظا حين يرى مادة البطولة كلها قد جُمِعت في عدوّه، وليس يعرف طهر الفتاةالعفيفة إلا التي ارتكست في الفاحشة وأدمنتها، وليس يتغيظ الجبان إلا إذا أبهرالناسَ الشجاع، وليس يُفتضح البخيل بمثل ما يُفتضح إذا ظهر إلى جواره الكريم!
(2)
والحمد لله كثيرا، فقد جُمِعت في أمتنامادة البطولة، حتى كأن أمتنا نبع من البطولة المتفجرة المتدفقة، أبناؤها يقاتلونفي الساحات قتالا غير مسبوق ولا مشهود، قتال من لا يملكون شيئا في مواجهة منيملكون كل شيء!!
ماذا يكون معنى البطولة ومعنى الشجاعةومعنى البسالة ومعنى الإقدام إذا لم يكن هو مشاهد اقتحام المقاتلين المحاصرين منذسبع عشرة سنة في القطاع المعزول لأقوى دولة مدججة بالسلاح، وإعطائها صفعة مدوية انكسرتفيها سُمْعتها الأمنية وتضعضعت فيها هيبتها العسكرية؟!
كيف يمكن أن نصف البطولة والشجاعةوالإقدام والبسالة إذا لم نستعمل لذلك مشاهد الحافي الذي يخرج من فتحة نفق ليضععبوة ناسفة على الدبابة الأكثر تسليحا وتدريعا في تاريخ المدرعات؟! أو ذلك الذيقُطِعت ذراعه فكان يرمي بذراعه الثانية قذائف الهاون على عدوه، أو ذلك الذي سقطأمامه صاحبه الأول ثم الثاني فالتقط السلاح الوحيد ليواصل المعركة المحسومة بلاتردد؟!!
كيف نصف معنى الصبر والثبات ورباطةالجأش إذا لم نستعمل مشاهد أهل غزة من الشيوخ والنساء والصبيان وهم يعيشون المصائبالكبرى التي ينهار الناس لأقل من عشر معشار معشارها؟! ولئن نسيت فلست أنسى طبيبةتابعة لمنظمة غربية جاءت إلى غزة بعد جولة حربية فدُهِشت لأنها لم تر في غزة ماتراه في الغرب من مظاهر الانهيار والصدمة بعد الحرب!! فصارت تتعجب وتستغرب وقد ضربأهل غزة عقيدتها العلمية في الصميم، فلم تعد تدري: هل هؤلاء من البشر؟ أم أن العلمالذي درسته والتجربة التي خاضتها كانت خرافة وزيفا؟!!
ثم انظر وتأمل.. كيف اجتمع المشهدانمعًا في البقعة الواحدة!!
انظر إلى الجند المدجج بالسلاح، الذييلقي بأطنان الحميم من الطائرات البعيدة، ويستعمل أحدث التقنيات ليخوض بها الحرب،ثم هو يضرب المثل في قذارة الأخلاق، وفي التمتع بقتل النساء والأطفال والحيوانات،وبهدم المساجد والمستشفيات، وإذا شكَّ في وجود عدو له في مكان نفَّذ ضربة تقتلحوله مئات من البشر، ثم إذا اقتحم بيتا استخرج ملابس نسائه فلبسها الجنودوصَوَّروا أنفسهم بها؟!! ثم انظر إلى وليِّهم الغربي كيف لا يتوقف عن إمدادهمودعمهم، وهو الذي أسال أطنانا من الحبروأكواما من الأوراق في التنظير لحقوق الإنسان والحرب والأسرى... إلخ!
(3)
ولقد شاء الله تعالى أن يجتمع في مشهداستشهاد أبي إبراهيم يحيى السنوار هذا كله: البطولة الإسلامية المتدفقة حتى الرمقالأخير، والقذارة الصهيونية الصليبية الغربية المتلمظة الحقودة حتى الانتقامالأخير:
. مقاتل يقاتل فوق ظهر الأرض، بنفسه!
. أشعث أغبر باذل كل جهده، كما يحبربنا ويرضى
. وحيد بعد تفرق صحبه، أو هلاكهم معهأو دونه!
. صامد صلب حتى اللحظة الأخيرة! لم يجدإلا العصا فقذف بها يقاتل!
. ملثم حَرَمَ العدوَّ أن يتعرف عليهلئلا يُعتقل فتكون مذلة ومهانة له، وتكون مكسبا ومفخرة للعدو!
. جريح ينزف، لكنه ربط ذراعه الجريحبفمه ويده الأخرى، بحبل ليحول دون استمرار النزيف!
. لا هو في نفق (وليس عيبا لو كان) ولامتدرعا بالأسرى (وليس عيبا لو فعل)
. يصطحب عدته في القتال: سلاح.. ومعهاعدته الروحية: كتاب في الأدعية، ورقة في الأذكار، مسبحته.. وحبَّاتٌ يستعملهاالناس لتعطير الفم، فلا تدري أكانت له لذلك الغرض فتكون دليلا على نظافة وطيب، أمكانت له غذاء ضعيفا لم يجد سواه، إذ هو مقاتل محاصر؟!
وأما عدوُّ، فظهر على هذا النحو:
. مجرم يضرب بقذيفة الدبابة مقاتلاجريحا ليس بيده إلا العصا!
. جبان يتخوف من مقاتل واحد فيرسلبطائرة مسيرة تستكشف شأنه!
. مرعوب قضى يوما قبل أن يجرؤ علىاقتحام المنزل المتهدم فوق المقاتل الوحيد الذي فرغت جعبته!
. خبيث دنيئ سرق الجثة ثم هدم الدار!
وقد شاء ربك مزيد فضح لهذا العدو ومزيدبث لكرامة السنوار، إذ أذيع هذا كله على يد العدو نفسه، ولا أحد يدري، لعل الشهيدكانت له مناقب أخرى ظاهرة لكن العدو حجبها وكتمها!!
(4)
كان الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر قدأنشد، ربما قبل ثلاثين سنة أو يزيد، قصيدته البديعة التي يقول فيها:
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة..
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة..
صفق إبليس لها مندهشا وباعكم فنونه..
وقال: إني راحل.. ما عاد لي دور هنا..دوري أنا، أنتم ستلعبونه!
أكلما نام العدو بينكم رحتمتقَرِّعونه؟!
وغاية الخشونة أن تهتفوا: "قم ياصلاح الدين".. حتى اشتكى مرقده من تحته العفونة!
كم مرة في العام توقظونه؟ أيطلبالأحياء من أمواتهم معونة؟!
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترمواسكونه..
لأنه لو قام حقا بينكم.. فسوف تقتلونه!!!
نعم.. لو كان صلاح الدين قد قام لكانمصيره كمصير السنوار، أو حازم أبو إسماعيل، أو إسماعيل هنية، أو غيرهم ممن امتلأتبهم السجون والمنافي والقبور!!
فلو أننا ذهبنا نقرأ التاريخ ونطالعسيرة صلاح الدين، ثم ارتددنا بعدها فجئنا ننقد أنفسنا وتجربتنا ونتأمل في واقعنالكان لزاما علينا أن نقول: ما بلغ صلاح الدين ما بلغ من التحرير والنصر إلا بعد أنانتهى من الخونة الذين كانوا يطعنونه في الظهر، فما استقام لصلاح الدين تحرير بيتالمقدس إلا حين كسر الأمراء الذين حكموا بلاد الشام وكانوا حلفاء للصليبيين وعقبةفي طريق التحرير!
ولقد حاول صلاح الدين أن يتجنب طريقكسرهم، وأن يتألفهم، وأن يعدهم ويمنيهم ويعظهم ويرجيهم، فما استطاع.. هذا وهوالمعروف بأنه المثال في الرحمة واللين والعفو، حتى لقد أخذ عليه بعض المؤرخينإفراطه في العفو والصفح! فلئن كان هذا المغالي في العفو والصفح قد عجز عن أن يجدطريقا لتحرير بيت المقدس قبل أن يكسر الخونة الذين ثووا في ظهره، فكيف بغيره؟!
ستظل البطولة التي تتفجر بها أمتنامحبوسة طالما بقي الخونة، فإن تفجرت وتدفقت رغما عنهم فستبقى مطاردة لتنتهي مغدورةمذبوحة!
وهذا هو الطريق..
هذا هو الطريق الذي تهدي إليه بطولةالسنوار الشهيد..
(5)
لما رجعت إلى البيت بعد انتهاء مؤتمرالهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، وقد كنتُ ممتلئا بأبيات فؤاد الحميري عن"السنوارمان"، وجدتني أمام قصيدة أخرى طازجة؛ فعرفت أنه بينما كانصاحبنا الشاعر اليمني في إنشاده، أخرج الشاعر الفلسطيني المعروف تميم البرغوثيقصيدته الأعظم في رثاء السنوار، وتلك قصيدة من بديع الكلام والنظم، وتحتاج وقفاتووقفات، ولا قليل عليها إذا أقيمت لها مجالس الشروح والحواشي، أتركها هنا، تحينالفرصة قادمة إن شاء الله..
قال تميم:
ألا كم كريم عده الدهر مجرما .. فلماقضى، صلى عليه وسلما
أبو القاسم المنفي عن دار أهله ..وموسى بن عمران وعيسى بن مريما
أتعرف دينا لم يُسَمَّ جريمةً .. إذاضبط القاضي بها المرءَ أُعْدِما
صليبٌ، وقتل في الفراش، وعسكر .. بمصر،وأخدود بنجران أضرما
وطفل وديع بين أحضان أمه .. يراوغ جيشافي البلاد عرمرما
وقلَّ نبيٌّ لم تلاحقه شرطة ..وأشباهها في كل دهر تصرما
فمن جوهر التوحيد نفي ألوهة الـ ..ملوك، لذا لا زال دينا محرما
وفرعون والنمرود لم يتغيرا .. بقرنيْنأو ربطات عنق تهندما
ونحن -لعمري- نحن منذ بداية الـ ..خليقة، يا أحبابنا، وهما هما
مُسَيَّرة في شرفة البيت صادفت ..جريحا وحيدا يكتسي شطره دما
قد انقطعت يمناه وارتض رأسه .. فشدَّضمادا دونه وتعمما
وأمسك باليسرى عصا كي يردها .. فكانتذبابا كلما ذُبَّ حَوَّما
وما أرسلت إلا لأن كتيبة .. من الجندخافت نصف بيت مهدما
وقد وجدوه جالسا في انتظاره .. أظن -ومنتأخيرهم متبرما
ولو صوَّرت تحت اللثام لصوَّرت .. فتىساخرا ردَّ العبوس تبسما
تلثم كي لا يعرفوه لأنهم .. إذا عرفوهفضَّلوا الأسر ربما
ولو أسروه، قايضوه بعمره .. لذاك رأىخوض المنية أحزما
فلم يتلثم كي يصون حياته .. ولكن لزهدفي الحياة تلثما
فقل في قناع لم يلف لسلامة .. ولكنشعارا في الحروب ومعلما
وقل في جموع أحجمت خوف واحد .. وفيجالس نحو المشاة تقدما
أتى كل شيء كي يسوء عدوه .. ولم يأتشيئا في الحياة ليسلما
رمى بالعصا جيش العدو وصية .. لمن عندهغير العصي وما رمى
رمى بالعصا لم يبق في اليد غيرها ..ومن في يديه العسكر المجر أحجما
غدا مضرب الأمثال منذ رمى بها .. لكلفتى يحمي سواه وما احتمى
جلوسا على الكرسي مثل خليفة .. يبايعهأهلوه في الأرض والسما
فذلك عرش يرتضيه ذو النهى .. وذاك إمامقبلة السعد يمّما
هنا يصبح الإنسان دينا مجردا .. ويصبحدين الناس شخصا مجسما
أتعرف إن الموت راوية الفتى .. يقوللحقٍّ أم لباطل انتمى
يعيشالفتى مهما تكلم ساكتا .. فإن مات أفضى موته فتكلماالموقع الذياستشهد فيه يحيى السنوار يعرف بحي "تل السلطان" في مدينة رفح.