سيد قطب.. وُضِع له القبول في الأرض!
سيد قطب.. رجل عاش القرآن بروح عالية وفكر محلق، ثم سكب معانيه بقلمأديب مشرق..
ثم قدم روحه ثمنا لكلماته، فكساها ألقالشهادة ورفعها لمرتبة السيادة.. فسيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه،فقتله..
(1)
لست أعرف رجلا وُضِع له القبول فيالأرض بين المسلمين على اختلاف بلادهم واتجاهاتهم كما هو الحال في الشهيد القرآني سيدقطب رحمه الله، فإن المسلمين وأهل العلم يُعَظِّمونه في بلادٍ ما أشد التباينبينها في فهم أهلها للإسلام وفي أخذهم به!
وأسوق على ذلك أقرب الأمثلة؛ فإن سيدًاكان مُعَظَّمًا في مصر والجزيرة العربية وفارس وأفغانستان وتركيا، وما أعجب هذاوما أغربه، فكيف يجتمع في تعظيمه أهل البيئة السلفية مع أهل البيئة الشيعية معالأحناف الصوفية الأشاعرة والماتريدية؟!
لقد ترجم كتبه إلى الفارسية رأسالشيعة: علي خامنئي، وأرسل يتشفع فيه رأس السلفية: عبد العزيز بن باز، وكانت تطبعكتبه في البلديْن العدوّين المختلفين في كل شيء: السعودية وإيران!!
وفي تركيا، حدثني الشيخ نور الدينيلدز، وهو ممن ترجم كتب سيد قطب إلى التركية أن الناس في تركيا، وفي الزمنالعلماني الذي كاد الدين يذبل فيها، قد انثالوا على بيته وحرصوا على مصافحته ولمسيده لما عاد من عمرة عرفوا أنه فيها التقى الشيخ محمد قطب، شقيق الشهيد سيد قطب!!
وإذا تركنا المتعصبين والمهاويس في كلاتجاه حركي، فلقد التقى على توقير سيد وتعظيمه الاتجاهات الحركية في بلدانهاالمتباعدة: الإخوان المسلمون والسلفيون والجماعة الإسلامية في الهند وباكستانوجماعة الدعوة والتبليغ، وكثير من المتصوفين!
ولدي انطباعٌ من طول القراءة للرجلوعنه، أتحوط الآن في تسجيله مستعملا ألفاظ الاستدراك، فأقول: كاد يكون الموقف منسيد قطب علامة ودليلا على موقع الرجل: هل هو في معركة الإسلام والأمة أم هوخارجها؟!
وأن يكون خارجها فليس يعني ضرورة أنهعدوٌ أو مفسد، فقد يكون كذلك، وقد يكون جاهلا أو مغفلا أو ساهيا لاهيا عن معركةالإسلام في هذا العصر. وذلك أني أفتش في رأسي فلا أكاد أعثر على رجل مهموم حقابمعركة الدين والأمة في هذا العصر إلا وكان له موقف يُعظِّم فيه سيد قطب ويحبه،مهما كانت عنده من ملاحظات جزئية وتفصيلية!
وأما رؤوس العداء لسيد قطب، أولئكالذين اتخذوه غرضا وهدفا، فما من شك في أنهم من أعداء هذه الأمة الصرحاء، سواءٌأكانوا عالمين بهذا قاصدين له، أو كانوا من الغباء والغفلة والجهل بحيث استعملهمأعداء الأمة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
إن من يقرأ في تراث الشهيد القرآني لايداخله شكٌّ في أن هذا العقل الكبير وهذا القلب الغيور وهذا القلم الأصيل قد استفرغوسعه في بيان محاسن الإسلام ونقض أباطيل الكفر والجاهلية، وأنه سعى ما وسعه السعيوانتهت به طاقة ذي القلم في أن يثير قلوب الناس ويستحث عقولهم ويوجِّه أبصارهم إلىهذا الحل الإسلامي الرباني، الحل الوحيد الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعالجما في حياتهم من المشكلات والمعضلات والعثرات.
فما يقرأ ذلك الكلامَ قارئ مخلصللإسلام إلا ويتسرب إليه حب الشهيد، ثم ما يطلع أحد على سيرته وحياته إلاويُعَظِّمه، فلك أن تعرف أنه كان رأس الوقوف في وجه الطاغية الجبار الذي خدعالملايين حتى محضوه حبا خالصا وشغفا جنونيا بفعل سحر الإعلام وطغيانه! أقصد: جمالعبد الناصر، الذي تهيأت له من الظروف ما لم يتهيأ مثلها لغيره حتى صار زعيم العربقاطبة في عصره، وكان لهم من الطغيان وضروب التوحش والتعذيب ما لم يكن للعرب عهد بهفي سائر تاريخهم. فالذي كان يعيش في زمانه إن كان عبقريا ذكيا قوي النظر فأفلت منطغيان سحره، فما كان أندر أن يكون روحا صلبة أبية صخرية فولاذية تتجرأ فتقتحممخاوف بطشه وتنكيله. ولذلك اختبأ أكثر الناس، ولم يُعرف في مفكري مصر ومثقفيها –علىكثرتهم- من تجرأ على الوقوف في وجه عبد الناصر إبان سطوته وجبروته، اللهم إلا سيدقطب!
ولقد قيَّض الله للشهيد من يحفظ إرثهحتى انتشر وطغا وذاع في العالمين، ولقد رأيت من كان يحفظ "في ظلالالقرآن" وهو أربعة آلاف صفحة من الصفحات الكبيرة التي ضُيِّق فيها الكلاموحُشِر، (وقد طُبع بأخرة في ستة آلاف صفحة)، وما ذلك إلا لأن الحملة كانت عاتيةعلى كتب الشهيد وتراثه، حتى قدَّر بعض الحريصين أنه لا بد من حفظه في الصدور!
(2)
مما يثير الألم في النفس أن يكون العدوالغريب أحسن فهما وتقييما لرجال الإسلام من أولئك المحسوبين المنسوبين للإسلاموالدين..
يذكر الشيخ فايز الكندري، الأسيرالمحرر من سجن جوانتانامو الأمريكي، أنه قد "صرح لي أحد المحققين بكل وضوح أنأخطر شخصية على الغرب خلال القرن الماضي هو سيد قطب".
وتلك شهادة خطيرة وعظيمة أيضا في حقالرجل، بل وهي مرتبة يتمناها المسلم، فأن تكون أخطر شخصية على الغرب إنما يعني -بالتعبيرالقرآني- أن تكون أكثر الذين يطئون موطئا يغيظ الكفار!
وليس هذا خافيا، ولا هو بالأمر الذييُقال في الدهاليز والأروقة فحسب، بل قد ذكر نفس هذا المعنى ثعلب السياسةالأمريكية الأشهر، هنري كيسنجر، ذلك المؤرخ والمفكر والسياسي الداهية الذي تولىمقعد مستشار الأمن القومي وظل مُعَظَّمًا فيهم إلى أن مات بعد أن جاوز المائة عام!
كيسنجر في كتابه "النظامالعالمي"، يرى أن الشهيد سيد قطب قدَّم الإجابة المفصلة عن الأسئلة التي لميُجب عنها حسن البنا، وأن إجابة سيد قطب هذه هي "الطبعة الأعمق والأكثرنفوذًا لهذه النظرة" الإسلامية الثورية. وقرر كيسنجر أن كتاب معالم في الطريقإنما "هو بيان حرب على النظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصًا تأسيسيًاللحركة الإسلاموية الحديثة".
ومضى كيسنجر يشرح التناقض الجذري بينالرؤية الإسلامية التي يقررها سيد قطب، وبين النظام العالمي القائم على مجموعة منالدول المعلمنة والمُقَسَّمة قوميا وعرقيا، فيقول:
"الإسلام، بنظر قطب، نظام كونيشامل يوفر الصيغة الصحيحة الوحيدة للحرية؛ التحرر من حاكمية بشر آخرين، عقائد منصنع الإنسان، أو "روابط دنيا قائمة على العنصر واللون، على اللغة والبلد، علىالمصالح الإقليمية والوطنية - القومية" (أي سائر الصيغ الحديثة الأخرىللحاكمية والولاء مع بعض ركائز بناء نظام وستفاليا). تمثلت رسالة الإسلام الحديثة،برأي قطب، في إطاحة ذلك كله والاستعاضة عنه بما عده تطبيقًا حرفيًا، عالميًا آخرالمطاف، للقرآن. وكان من شأن تتويج هذه السيرورة أن تتمثل بـ "بلوغ حريةالإنسان على الأرض - جميع البشر عبر كوكب الأرض". كان من شأن هذا أن يكملالعملية التي أطلقتها الموجة الأولى للتوسع الإسلامي في القرنين السابعوالثامن"، "العملية التي يجب أن تصل عندئذ إلى الجنس البشري كله في طولالأرض وعرضها، نظرًا لأن هدف هذا الدين هو الإنسانية كلها وفضاء حركته هو الأرضكلها"... كان قطب، ذو الاطلاع الواسع والشغف الشديد، قد أعلن الحرب على الوضعالعام - حداثة علمانية بفظاظة وتمزق إسلامي، كما جرى تصديقهما من قبل تسوية ما بعدالحرب العالمية الأولى الإقليمية في الشرق الأوسط... كتلة الأفكار هذه تمثل عكسًاشبه كلي وقلبًا لنظلم وستفاليا العالمي. لا تستطيع الدول، بنظر أنقى طبعات الحركةالإسلاموية، أن تكون المنطلق المناسب لأي نظام دولي لأن الدول علمانية".
ويحظى سيد قطب بأهمية خاصة لدىالغربيين، لا سيما الباحثين في الشؤون الأمنية والحركات الجهادية، وفي حدود مااطلعت وعرفت فقد ندر أن جرى تناول سيد قطب وفكره بإنصاف في الكتابات الغربية،والنادر هنا بمعنى أني بعد البحث والسؤال والتعقب لم أعثر إلا على خمسة بحوث غربيةقيل إنها تنصف سيد قطب، لكن لم يتيسر لي الاطلاع عليها.
(3)
بقي أن يُقال: هل كانت أفكار سيد قطبمتطرفة تخصه؟ أم هي الفكرة الإسلامية ذاتها قد عبَّر هو عنها، بلغته وأسلوبهوقلمه؟!
ليس أسهل من إجابة هذا السؤال منالإشارة إلى ما وُضع للشهيد وكتبه من الانتشار والقبول في الأرض، كما ذكرنا فيمطلع هذا المقال. إذ ليس يمكن أن يروج في عالم المسلمين ما هو شاذ عن دينهموإيمانهم وأفكارهم! لا سيما في هذه الأمة التي قدر الله أنها لا تجتمع على ضلالةوأن ما يكون حسنا فيها فهو عند الله حسن!
كذلك فقد ذكرنا أن كافة أهل العلمالمعتبرين الذين تكلموا في سيد قطب، فهم بين قسميْن: إما أنهم عظموه ووقروه بلاتحفظ، أو أن تحفظاتهم واختلافاتهم معه كانت في أمور جزئية يسع فيها الخلاف أوتُغمر في بحر فضائل الرجل! فيكون الرأي النهائي لهؤلاء الناس أن الرجل من أهلالإسلام بل من ساداتهم والمبرزين فيهم.
وأي شيء أبلغ في الشهادة للرجل أن نجدبعض أعدائه يسرق منه كلماته، كما فعل علي جمعة –المفتي الأسبق في مصر- وشوقي علام –المفتيالسابق- فقد رُصِد لكل منهم مقالات نقلوا فيها عن الشهيد دون أن يذكروا اسمه، ومافتئوا يطعنون فيه وفي أفكاره.
ومما ينبغي أن يذكر هنا، للدلالة علىالأمر، أن وزير شؤون الأزهر في الحقبة الناصرية، وهو نفسه أستاذ الفلسفةالإسلامية، الدكتور محمد البهي، سجل في مذكراته لقاءً له بعبد الحكيم عامر (أقوىرجل في مصر وقتها)، وفيها سأله عن رأيه في كتاب معالم في الطريق، فقال الرجل:"أجبته عن تقييمي لكتاب "معالم على الطريق" بأني كنت أتمنى أناالذي كتبته. هاج ووقف من جلوس. وقال: كيف تقول ذلك والصحافة كلها نددت به؟ قلت له:إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى. وما تقوله الصحافة عنه: شيء سياسي لادخل له إطلاقا في تقييمه".
وحتى الشيخ العلامة الكبير، فقيهالعصر، يوسف القرضاوي، مع ما كان له من الخلاف مع الشهيد، لم يسعه في الإجمال إلاأن يقول: "سيد قطب أحد عظماء الرجال في أمتنا,في تاريخنا الحديث والمعاصر, هو مسلم عظيم، إذا قِسْنا العَظَمة بمقياس الإنسانية,وهو أديب عظيم، إذا قِسْنا العظمة بمقياس الإبداع في الأدب والنقد الأدبي، وهوداعية عظيم، إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه، وهو عالم ومفكِّرعظيم، له أثره في العلم والفكر، إذا قسْنا العظمة بمقدار الاستقلال في الفكروأصالة العلم، وهو أيضًا مسلم عظيم، إذا قسنا العظمة بالبذل والتضحية في سبيلالله. وحسْبُنا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها".
بل حتى البيئةالسلفية التي يمكن القول بأنها أكثر البيئات العلمية تدقيقا في الألفاظ وعنايةبهذا الباب، إلى الحد الذي تقع فيه المغالاة، نجد عالما سلفيا كبيرا مثل الشيخ بكرأبو زيد، وفي مقام النقد والاستدراك –كما في كتاب: معجم المناهي اللفظية- لا يسعهإلا أن يجمل القول في الشهيد فيقول: "في كلام سيد قطب -رحمه الله- وفي بعضتصانيفه مما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيلتوضيحه للناس. ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية؛ ففي بعض المسائل الفقهيةكحديثه عن حق العمال في كتابه: "العدالة الاجتماعية" أخذ يكتب بالتوحيد،وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذهالخلفية في الواقع قد جدّد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنَّا نلمس أحياناًأن له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائلالتي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها".ولقد نقلتُ من هذا الموطن الذي هو في مقام الاستدراك والنقد، ولم أنقل من رسالتهالذهبية في الرد على ربيع المدخلي، فإن كلامه فيها كان في سياق إنصاف الشهيدوالتحدث بمآثره!
رحمالله الشهيد سيد قطب.. وبلغه منازل الصديقين والشهداء والصالحين.. وألحقنا به علىخير أجمعين!كان من تدبيرالله العجيب أن اخترنا موضوع هذا العدد من المجلة عن الشهيد سيد قطب لموافقة صدورالعدد ذكرى استشهاده، ثم بعدها بيومين فحسب جاء الخبر بموت ربيع بن هادي المدخلي،رأس الضلالة الذي اتخذ الشهيد سيدًا هدفا وغرضا، والذي كان رأس فرقة فتنة وضلالةالتي عرفت بالجامية وبالمداخلة. والزمان بيننا، وستكشف الأيام من الخبيث الذيسيذهب كلامه جفاء ويجتث من فوق الأرض، ومن الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض، ويؤتيأكله كل حين بإذن ربه!
فايز الكندري،البلاء الشديد والميلاد الجديد، ص211.
هنري كيسنجر،النظام العالمي، ص124 وما بعدها.
د. محمدالبهي، حياتي في رحاب الأزهر، ص133.
د. يوسفالقرضاوي، في وداع الأعلام، ص84
د. بكر أبو زيد،معجم المناهي اللفظية، ص211