كذبة المساءات

أين تقضي المساءات؟ هذا السؤال مبني على افتراض أن أجمل ما في المدن الحديثة هي المساءات.. يقال إن فروقا كثيرة تفصل بين القرية والمدينة الحديثة.. فالقرى بسبب بطء إيقاع الحياة فيها، والروتين اليومي المتكرر وقلة عدد البيوت وتقارب أهلها في العادات والأفكار، بسبب كل ذلك تتمتع القرى بحميمية بين أهلها، يعود الرجل من عمله مبكرا، يدخل بيته وينجز مهامه القليلة، ثم يخرج للجلوس على عتبة بابه منتظرا جيرانه، ينظر إلى أطفاله، والمرأة مثله، تطرق باب جاراتها والفتيات يلعبن في سكك القرية، الكل يتحدث والكل يربي، والكل يغفر، الأحاديث متكررة ومملة، لكن القرية تفتقد إلى المساء، وإلى الجديد، وإلى الحيوية، الحياة فيها تتقدم ببطء، لذلك يكون مجال الطموح فيها محدودا، لأن التحدي يكاد يكون معدوما.


أما المدينة الحديثة – لاحظوا أني أقول الحديثة – فهي سريعة الإيقاع، مليئة بالصخب والتحدي، ففي كل اتجاه تجد خطوات، المبتدئ في كل فنّ يجد مكانا له، ويجد كذلك مكانا للمحترفين والهواة، تفرز المدن (مجتمعا مدنيا) يؤلف نفسه بنفسه، تتشكل في المجموعات ذات الاهتمام المتشابه، وبالتالي تمتلئ المدينة بالحيوية، والتحدي والطموح، العمل في الصباح، والجمال والحياة في المساء، مع مغيب الشمس تمتلئ المدن بالمسارح والفعاليات الفنية والثقافية في كل فن وفي كل اتجاه، يحق لكل مجموعة من الأفراد أن تحول أحلامها إلى واقع، يحق لكل فرد أن ينشئ منبره للحديث والكلام، ليس لأنه يملك مشروعا يستحق الاهتمام، ولكن لأنه يريد أن يقول شيئا، يريد أن يعبر عن ذاته من خلال وجوده، هذا هو المعنى البسيط والأولي للمجتمع المدني الذي يتشكل وينمو بشكل طبيعي.


لكن يبدو أننا في مدننا نعيش حالة وسطى، حالة ابتعدنا فيها عن حميمية ودفء القرية، وانتقلنا إلى المدينة، بصخبها وسرعتها وطموحاتها وتحدياتها المهنية والوظيفية، لكننا علقنا في المساءات، ففي الصباح وفي أوقات العمل يكون الإيقاع سريعا، أما في المساء فلا نشعر في الحقيقة بجمال المدينة، كل شيء صامت وهادئ، سكون قاتل رغم حركة السيارات، الناس تخرج من بيتها إما إلى مطعم لتأكل وتشرب، أو إلى مقهى لتأكل وتشرب أيضا.

هل تستطيع أن تستشعر مدينة (حديثة) لا تعرف المساءات! إنها في الواقع يجب أن تكون مجمعا سكنيا داخليا لإحدى الشركات الكبرى، العمل في الصباح والراحة في المساء لأجل العمل في اليوم التالي، ربما نحن نعيش هذه الحالة في الواقع، مع أن تشبيهي ليس دقيقا، فحتى تلك المجمعات السكنية تشعر بواجبها الأخلاقي والإنساني تجاه منسوبيها فتقيم لهم مساءات تليق بهم.

نحن في مدننا نعمل ونعمل ونعمل (قد تكون عبارتي مجازية فربما نحن نعمل دون انتاجية).. ثم ننسى أحلام طفولتنا يوم أن كنا نرسم ونغني ونكتب.. لذلك لا نعرف أين نذهب في المساء.. لا توجد فعاليات ثقافية ولا مجموعات تجمعها اهتمام واحد، وربما توجد لكنها لا تستطيع إشهار نفسها ولا اتخاذ مقر دائم لها، لأنه لا يوجد نظام يشرع وجودها.

لا أملك أن أمسك قلمي عن المقارنة بين مدننا ومدن تجاورنا، دبي وأبوظبي والدوحة والمنامة، والتي يكون الهرب إليها بحسب طول الإجازة وقصرها، فكلما طالت الإجازة قطعنا كيلومترات أكثر للحصول على مساءات أجمل، لماذا يعد الأطفال قبل النساء والرجال السفر إلى جيراننا أكبر مكافأة لهم، ولماذا نشعر بمتعة عائلية يفرح فيها الجميع هناك .. ليست المساءات معجزة أو تحديا حضاريا كبيرا، لكنه مجرد إيمان بحق الفرد أن يجد ذاته بعيدا عن تعقيدات الأنظمة والقوانين.

سأكون أكثر صراحة وأقول إن هاجسا أمنيا يزداد من كل فعالية شبابية تقام في الآونة الأخيرة، ويبدو أننا نمضي إلى مزيد من غياب المساءات والفعاليات والتوجس منها، وإن كان هذا يبدو مطمئنا في الظاهر، لكنه لا يعني بحال أن يكون مطمئنا على المدى البعيد، إن المدن الخانقة لشبابها تكون غريبة عنهم، وإن إحساس الشاب بفقد الثقة به وبعدم الإيمان برغباته التي قد تبدو صغيرة، يجعله يشعر بضعف الانتماء، وهو ما لا يرغب به أحد.

لن أستطيع أن أتجاهل ما حدث في اليوم الوطني، من اعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، فهل يستحق هؤلاء (الشباب) مثل هذه المساءات وهذه الحرية!! وفي ظني أن المشكلة هي في غياب هذه المساءات، فالشاب لا يراها إلا مرة في السنة، وبالتالي يحولها إلى تنفيس عن المكبوت، وهو من ناحية أخرى لا يعرف كيف يتصرف في في ليالي الفرح، لأنه لم يحسن ذلك، أو لم يتربَّ على ذلك، فحياة المدينة تحتاج إلى تربية، والتربية ممارسة كما أن الوطنية ممارسة وليس كتابا في مدرسة.


 


رابط المقال في صحيفة اليوم

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 26, 2012 06:13
No comments have been added yet.


مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.