فريدا كاهلو .. الفرد أولا
في المكسيك ومن أب ألماني وأم مكسيكية ولدت فريدا كاهلو سنة ١٩٠٧م، كانت مشيتها غير اعتيادية بسبب شلل الأطفال الذي أصابها وعمرها ست سنوات، مما سبب تشوها في قدمها، ربما كانت هذه أول معاناتها لكنها لم تكن الأخيرة، تعرضت لحادث في باص المدرسة مع صديقاتها، فأصيبت بكسر في الحوض وبجرح غائر في البطن، وتضرر عمودها الفقري.. أخبرها الطبيب أنها لن تكون قادرة على الإنجاب، واضطرت بعدها أن تمكث في سريرها عدة شهور، ولك أن تتخيل كيف ستقضي الأوقات مع مزاجها الحاد الذي عرف عنها.
بدأت الرسم وعمرها اثنتا عشرة عاما، لكنها لم تكن محترفة، ولم تجد معلما جيدا يوليها العناية، وحين كانت ترقد في سريرها دون حراك، وضعت لها أمها مرآة في السقف لترى نفسها، فانشغلت بالرسم.. الذي كانت تقضي وقتها وتأملها فيه.
كانت فريدا ترسم نفسها .. تحكي الواقع وتروي ما يحدث وما تحسه من ألم ومعاناة، كانت تحول صورة الحياة والموت في ذهنها إلى عمل فني غير معقد، تحكي في رسوماتها تجربتها الذاتية، وتعبر عن سخطها ورضاها، وألمها وحزنها، بكل وضوح ودون مواربة.
استطاعت بعد ذلك أن تترك السرير، وخضعت لخمس وثلاثين عملية جراحية، منها سبع عمليات متتالية، أصابتها الغرغرينة في رجلها اليمنى فاضطر الأطباء إلى بترها، وعادت مرة أخرى إلى السرير لسنوات، تتنقل عليه في حالات الضرورة.
شخصية فريدا جزء مهم من هذه الحكاية، كانت جميلة، واختارت لنفسها سمة حرصت على إظهارها حتى في رسوماتها، كانت تبقي على شاربها الخفيف، وحاجبها الغليظ المعقود عند المنتصف .. حرصت على إظهار ذلك في رسوماتها، ولم يفقدها هذا الشكل أنوثتها، لا في رسوماتها، ولا حتى تلك النظرة الحادة التي كانت تبرز فيها في الصور الفوتوغرافية، بل كانت تبدو كفلاحة من جنوب المكسيك، مفعمة بأنوثة طاغية.
الموضوع الرئيسي لرسومات فريدا هو فريدا كاهلو نفسها، هي ترسم نفسها بأشكال مختلفة، قد تكون بحاجة إلى البحث قليلا في محركات البحث في الانترنت عن هذا الاسم، لترى تلك الرسومات التي أخذت اهتماما ورواجا عالميا مفاجئا في الفترة الأخيرة.
تزوجت من فنان مشهور اسمه دييغو ريفيرا، اهتم بها وعلمها بعض المهارات، قضى جزءا من وقته يتنقل بين معارضه في نيويورك ومدريد وباريس، وكان شيوعيا ينشر أفكاره من خلال فنه، بينما لم تكن فريدا كذلك رغم أنها شيوعية ومهتمة بالشأن السياسي، تحدثت عن أفكارها في بعض رسائلها، لكن رسوماتها كانت بعيدة عن هذا المجال.
لم يعرف العالم فريدا ويحتفي بها في حياتها، كما احتفى بزوجها دييغو، يقال – وهذا مدهش – أن زوجها تنبأ بأن الجيل القادم سيهتم بفريدا ويتجاهله، وأن لوحات فريدا وأسلوبها الفني سيلقى رواجا كبيرا، على عكس أعماله الفنية.
اليوم تتحق توقعات دييغو، ويتنبه العالم فجأة إلى فنانة مغمورة في الكسيك، ليس ذلك فحسب، بل أصبحت فريدا ملهمة لكثير من الأفكار حول المرأة في العالم، وأصبحت ملابسها أسلوبا جديدا في الموضة.. وكذلك صورها المنتشرة على الملصقات والبطاقات البريدية.
نحن هنا بين نزعتين مختلفتين في التصور تجاه الإنسان، النزعة التي كان ينطلق منها دييغو كانت تهتم بـ(الفكرة)، وتسخر العمل والحياة والعلاقات وحتى الهوايات والفن .. وكل الممكنات لها، كان التمركز حول الفكرة هو شعار القرن الماضي، خصوصا في بداياته، سواء كانت الفكرة الشيوعية أو الليبرالية أو القومية أو حتى الإسلامية، أما النزعة التي كانت تنطلق منها فريدا كاهلو، فهي نزعة ذاتية، تهتم بالفرد وحاجاته، كان إبراز ما يحبه الفرد وما يطمح إليه وما يعانيه وما يتألم منه، هو الأهم في رأي فريدا، وكانت حماقات الإنسان وأحلامه التي لا تستحق الذكر هي أولى ما يجب أن تتناوله الأعمال الفنية.
حاول أن تلحظ الفرق بين رسومات دييغو الذي يعبر عن طبقة العمال الذين يعانون فساد النخبة الحاكمة، وعن رسمة فريدا لنفسها، التي تعبر عن صرختها في سريرها، ويجب أن تلاحظ أيضا أن دييغو لم يكن ضد أحلام الفرد، ولا مؤيدا لانتهاكها، كما أن فريدا لم تكن أنانية، لكن دييغو غلب أهمية الشأن العام، وفريدا غلبت أهمية الإنسان الفرد الذي يشكل عالما متكاملا بذاته، بعكس دييغو الذي يتحدث عن الجماعة والمصلحة العامة.
أي النزعتين أقرب إلى الصواب؟ أو كيف استطاع دييغو أن يتنبأ بشهرة واعدة لزوجته، وبتراجع الاهتمام بأعماله الفنية؟! قد يكون لذلك علاقة بالأجيال، فجيل الأجوبة الحاسمة الشاملة يعقبه جيل الأسئلة والعودة إلى التجربة الذاتية، ربما لسنا أمام صواب وخطأ، بقدر تعاقب الأجيال.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 182 followers
