لستُ حـرًا

دائمًا ما نسمع الأسئلة المتعلقة بالقدر، هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟! هل نحن نمضي إلى ما نريد؟! أم أننا في صندوق مغلق نتوهّم الحركة يمينًا وشمالًا.. كالنملة الصغيرة التي تضعها على طاولة أمامك تنظر لها وهي تمشي بحريتها، وأنت في الواقع تسيطر عليها؟!


يعتقد بعض الفلاسفة أن جميع الفلسفات البشرية والدينية عجزت عن تفسير القدر، ولست أستبعد هذا لأن جزءًا منه يتعلق بالقدرة والمشيئة الإنسانية وهذا ما نقدر على فهمه، وجزؤه الآخر يتعلق بالمشيئة والعلم الإلهي، وهذا ما لا نقدر على فهم ماهيته، لا ندري كيف يعلم الله تعالى ما يكون.. وكيف يعلم الممكنات التي لن تحدث في يوم من الأيام.. شيء لا يمكننا تصوّره.. لذلك يصعب علينا فهم المنظومة كاملة، لكن ليس هذا ما يشغلني في الواقع، إن ما يبعث فيَّ القلق أمر آخر، أمر مرتبط بتكويني الداخلي، بطبيعتي التي لا أنفك عنها، ولا أستطيع التخلص منها.


تبدأ حياتنا بالحالة الجنينية، لا ندري بالتحديد هل ورثنا عن أمهاتنا بعض الأفكار أم لا، نسمع عن دراساتٍ طبية هنا وهناك، لكن لا ندري عن صحتها، ربما لا يرث الطفل الأفكار لكنه يرث حب شخص ما وكره شخص آخر، كأن يسمع أصواتا في بطن أمه، ثم يرث شعورها تجاه تلك الشخصيات، هذه العواطف بحد ذاتها ستجعل الطفل يشعر بانتمائه إلى البيئة التي وُلد فيها، سيفتح عينيه على الحياة برضا أن تكون عائلته هي بوابتها، وهي مفتاحه لأعظم جدليات التاريخ، معرفة الخير والشر.

يولد الطفل وهو لا يدري هل في الحياة ما هو أوسع من حضن أمه، أو أجمل من الاستجابة لتبادل الضحكات معها، ومنها تبنى ثقافته، ومع بداية تعلمه الكلمات تكون اللغة وهي الأشد سطوة في تكوين الأفكار قد بدأت تمارس سلطتها، الدين والعادات والتقاليد والمبادئ، والتصورات الوجودية المختلفة، بل حتى التفاصيل الصغيرة التي تؤثر في ثيمة تصوّرنا تجاه الحياة يرثها الإنسان من بيته، فالطفل السمين في بيت يمتلك حساسية مفرطة من السمنة، تجعل سمنة هذا الطفل جزءًا مهمًا من تصوّره للحياة، بينما لن يؤثر ذلك في عائلة أخرى لا تلقي بالًا للشكل أبدا، فخيبة أمله ستكون منعطفًا مهمًا في تكوينه الوجودي الخاص به، وصاحبة الصوت الجميل في ثقافة تعتز بهذه الموهبة ليس كصاحبة الصوت في بيئة ترى الانشغال بجمال الصوت عملًا تافهًا، لكل منا ثيمته الوجودية الخاصة به، والتي تتشكّل بتشابك معقد ومتين مع كل ما حوله.

حين نكبر قليلًا تختلط فطرتنا بالثقافة.. من الصعب جدًا أن نحدّد الخط الفاصل بين الثقافة والفطرة التي ولدنا عليها، لذلك ننسب إلى الفطرة كثيرًا مما هو في واقعه عادات وتقاليد وتصوّرات خاصة بنا، السؤال هنا عن مدى قدرتنا على الانفكاك – أو التمرد – عن هذه الثقافة التي ولدنا عليها، ما هي القدرات التي نملكها لأجل ذلك، ربما سيصيب هذا السؤال بعضنا بالاستفزاز، حسنًا.. ما رأيك لو طبّقنا هذا السؤال على غيرنا، ما هي قدرة أصحاب الثقافات الأخرى على التمرد على ما ولدوا عليه، على الثيمة الوجودية التي صنعوها لأنفسهم عبر زمن طويل، دون وعي تام لتلك العملية المعقدة والصعبة؟!

كم هي نسبة البشر الذين رحلوا عن ثقافتهم إلى ثقافة أخرى.. وأعني بالثقافة كل ما يتعلق بها؟! لا توجد عندي نسبة، ولكننا نستطيع أن نتفق على أنها أقل من القليل ذاته، بل حتى لو نظرنا إلى الفلاسفة الذين شغلوا أنفسهم بالبحث عن الحقيقة، فإن نسبة مَن تمرّد منهم على ثقافته، وانتقل إلى ثقافةٍ أخرى نسبة ضئيلة لا تُذكر.

نحن لا نملك القدرة على التمرّد الكامل، لقد صنعنا ثيمتنا الخاصة بنا، وليس من السهل أبدًا كسرها، لأن زمن الطفولة لا يعود، والحالة الجنينية لا تكون إلا مرة واحدة، ونحن ندّعي الحرية، لكننا نتحرّك في هامش صغير للغاية، وهذا الهامش هو ما نتخاصم عليه، فكّر قليلًا في الهامش الذي تتحرّك فيه، بالنسبة إلى ما لا تستطيع التخلص منه، ستجد أننا مدّعون للحرية.

هذه الفكر تصيبني بخيبة الأمل في كثير من الأحيان، أني لا أستطيع رؤية الثقافات الأخرى إلا من زاوية الثقافة التي ولدت عليها، لكم تمنيت أن أحيا حيوات كثيرة، في كل واحدة منها أولد بثيمة مختلفة لأرى كيف ستكون الحياة، كيف ستكون أشد الثقافات بُعدًا عني لو أني ولدت في أحضانها.

لا أشعر بأن أحدًا أو جهة تتدخل في اختياراتي، أشعر بقدر من التخيير يجعلني متصالحًا، لكنني قلق من كل ما هو في داخلي ولا يجعلني أرى الأشياء إلا بمنظوري الخاص.. أنا مقيّد في داخلي بقيود لا أستطيع الفكاك منها.. هذا ما يقلقني.. وهذا ما يجعلني أتواضع أمام ادعائي الحرية والموضوعية.


 


رابط المقال في صحيفة اليوم

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 29, 2012 06:09
No comments have been added yet.


مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.