على خطى هاجر.. من أجل المعنى

مناسك الحج تفتح مجالاً واسعاً للتفكير والتأمل، ففي حين تعد ركن الإسلام وإحدى شعائره الكبرى، قد تبدو غير معقولة عند الكثيرين، خصوصاً عندما نتحدث عن العقل الغربي المادي، فالسؤال عن الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات، من الأسئلة الملحة عند العقل الحداثي.


يذكر علماء الاجتماع الديني ومن يهتمون بدراسة الظاهرة الدينية أن الطقوس في كل دين غير معقولة – عند العقل المادي-، لكنها مع ذلك ذات أثر كبير على الفرد والجماعة، بمعنى أن السبب غير مفهوم ولا معقول، بينما الأثر يمكن فهمه وقياسه ومعرفة أثره، ويختلف أثر الطقوس إيجاباً وسلباً بحسب كل دين وتصوراته.

يذكر الروائي البرازيلي باولو كويلهو أنه حين كتب روايته (حاج كومبوستيلا)، استبدل طقسين فيها بممارسات حسية مشابهة، حتى تكون أقرب إلى ذهن القارئ وأيسر في الفهم، فجاءه عتب كبير من معلّمه لهذا التغيير، وقال له: «قد تكون ثمة طرق أسهل وأسرع، لكن هذا لا يهم، فالأهم هو أن الحكمة (الطقوس) ينبغي ألا تتغير»، تستمد الطقوس قوتها دائما من قدمها وثباتها، ولذلك لا تخضع للتطوير، بل يلحظ علماء الاجتماع الديني أنها كلما كانت أقدم كانت أكثر وأعمق أثراً.


كلمة (طقوس) توحي بلامعقولية متطرفة، وروتينية بالغة، ولذلك لم ترد في الإسلام، وإنما سمّاها نسكاً وشعائر، وهي توحي بمعنى إيماني وروحي عميق ومختلف.

حاجة الإنسان إلى النسك دائمة وملحة، ثمة شيء فينا يريد ذلك، ثمة حاجة تضغط علينا تريد هذه الأفعال، والعجيب أنه متى ما تخلّى الإنسان عن شعائره الدينية بحجة أنها أفعال غير معقولة تحايلت النفس على ذاتها واخترعت طقوساً أخرى، أورد المنفلوطي في أحد كتبه قصة شاب إنجليزي جاء إلى قبر حبيبته زيارة ووفاء لها، ورأى بجواره شاباً يابانياً جاء أيضا لزيارة ما يبدو أنه عزيز عليه، وفي يده إناء فيه طعام محضر للتو، ووضعه عند القبر، ثم جلس قليلاً ومضى بعد أن ترك الطعام، التفت الإنجليزي إليه وقال: «هنا في بلاد الغرب والعلم والعقل، ألم يخطر ببالك لحظة ما فائدة أن تضع طعاماً لميت؟!» قال ذلك الشاب: «ومن سيشم الورد الذي نثرته على قبر حبيبتك!».

كثيرة هي أفعالنا غير المعقولة وفق العقل التجريبي المادي، لكن النفس لا تحسب الأمور بحسابات المختبرات العلمية، ثمة حاجات أخرى نحن بحاجة إلى تلبيتها.

في النسك والشعائر أسرار وحكم، ومن الصعب جداً بل من المستحيل أن نحيط بها، لأنها حالة إنسانية، وتجربة ذاتية، أو هي سلوك الإنسان للصراط المستقيم، والسلوك والبحث عن الطريق والمضي فيه هو تجربة إنسانية محضة، ليست ثمة كرة بلورية نورانية تسمى (الحج) يغمس فيها الإنسان نفسه فيخرج طاهراً مطهراً، بمعنى أن الحج ليس نهراً مقدساً، وإنما هو أفعال، والفعل حالة بشرية، وبالتالي سيختلف معنى العبادة من إنسان لآخر، بحسب هدفه وغرضه من القيام بالفعل، واستعداداته النفسية لأجل ذلك، ومن هنا جاء حصر العمل بالنية في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات)، فأعمالنا تجيء وفقاً لنياتنا.

المعنى هو حصيلة احتكاكنا بالوجود، وهو أثر أفعالنا، وهو الأثر الديني للنسك والشعائر، ولكل منا معنى ينتجه من تدينه، ونحن لسنا كبعضنا، ولسنا اليوم كحالنا في الأمس، فالإنسان بحد ذاته معطى جديد يضاف للتاريخ والوجود في كل لحظة، وبالتالي ستكون المعاني الناتجة عن احتكاكنا بالوجود معاني مختلفة ومتجددة دائماً وأبداً.

في الإسلام ننطلق من مبدأ أن الله غني عن عباده وعن عبادتهم، فأفعالنا تعود علينا بالنفع أو الضرّ، وبناء على هذا سيكون أثر الشعائر عائد علينا بالفائدة وربما على الحياة بكاملها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وعلينا أن نفكر في هذه الفائدة، ونتأمل فيها، علينا أن نلتفت ولو قليلاً إلى المعنى الذي ينتج إثر قيامنا بأفعال الدين.

تعود شعائر الحج في أصلها إلى فعل إبراهيم عليه السلام، كما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في البخاري، حين ذهب مأموراً إلى مكة.. ذلك الواد المنقطع الخالي من الزرع.. تاركاً زوجه هاجر وابنه إسماعيل مع قليل من الماء والزاد.. ثم مضى وهو يدعو الله عند الثنية.. فلما نفد الزاد وبكى الرضيع.. مضت هاجر تسعى بين جبلي الصفا والمروة تبحث عن أمل أو صوت من بعيد.. وتمضي القصة في العثور على بئر زمزم.. في قصة استثنائية خالدة.. وتجربة روحية تتفجر بالمعنى.. ولذلك خلّدت وبقيت شعيرة للمسلمين، ليبقى احترام التجربة الروحية الذاتية، وتقدير المعنى الذي يعثر عليه الإنسان في سلوكه الصراط المستقيم.


 


رابط المقال في صحيفة اليوم

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 24, 2012 08:22
No comments have been added yet.


مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.