مستقبل الدين.. حديث ذو أشواك
يلقى الحديث عن الإصلاح الديني اهتماما واسعا في العالم، وهو في الحقيقة حديث عن مستقبل الدين أكثر من كونه دعوة إلى إصلاح ديني أو إلى الاستمرار في علمنة المجتمعات، فمن النظريات التي كانت محل إجماع لا يمكن نقضه تلك التي تتحدث عن انحسار الدين وانتشار العلمنة، بمعنى أنه كلما تقدم الزمان واتجه الناس نحو المدينة الحديثة وكلما عمت التقنية، فإن ذلك سيعني أن الدين سينحسر ويتراجع، لكن هذا الإجماع تزعزع كثيرا بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وبدلا من الحديث عن (موت الدين)، صار الحديث عن (تحديث الدين)، وبدلا من الحديث عن مقاومة الدين للعلمانية ومن ثم انحساره، صار الحديث الآن عن تحديث الدين وإعادة تشكيله.
هناك نظريات كثيرة وسيناريوهات متعددة لمستقبل الدين، كيف سيكون؟ ما شكله؟ وما خصائصه التي تميزه؟
من المهم أن ندقق النظر قليلا فيما قلناه، فقد كانت أكبر الثغرات في النظرية الأولى التي تدعي انحسار الدين أنها اعتمدت على المثال الغربي، صحيح أنه في الغرب كانت الحداثة تسير باتجاه العلمنة، وكانت المدنية تسير بشكل متواز مع انحسار الدين في شكله الظاهري على الأقل، لكنه لم يكن كذلك في مناطق أخرى من العالم، كالهند والعالم العربي والإسلامي، بل إن انحسار الدين لم يكن يشمل في الغرب الجاليات المسلمة والهندية أيضا، لكن الغرب يعتمد في كثير من نظرياته على دراسة ذاته، ويعتقد أن العالم سيلحق به، ولا شك أن في هذا عنصرية معرفية مزعجة.
أظننا سنرتكب الخطأ نفسه إذا تحدثنا عن مستقبل الأديان في العالم، بنفس المعطيات التي يتحدث فيها الغرب عن مستقبل الدين في عالمه، فتاريخ الدين المسيحي في الغرب، وطبيعة المؤسسات الدينية هناك، وتفاعل الدين مع الحداثة، ثم ظهور الدين بشكل جديد ومختلف، كل هذا خصوصية غربية مسيحية، من الخطأ أن تعمم على كل الأديان وفي كل المناطق.
لو أخذنا الموضوع من جانب واحد على الأقل سنجد فروقات كبيرة، الإصلاح الديني المسيحي في القرن الخامس العشر الميلادي وما بعده استطاع أن يحدث تحولا في الفكر الديني المسيحي، بل أحدث انفجارا هائلا في المذاهب الدينية، وتغيرت النظرة تجاه الإنجيل، ومن ثم تغيرت طريقة التعامل معه وتأويله، وكان ظهور البروتستانتية مهيئا وداعما للفكر الليبرالي والرأسمالي كما يذكر ماكس فيبر، أدى ذلك كله إلى تراجع الكنيسة وتراجع نفوذها، وربما نستطيع القول إنها تقبلت موقعها الجديد، وأقرت بالهزيمة، وإن كانت تتوق إلى موقعها القديم.
في العالم الإسلامي كان الوضع مختلفا جدا، فلم يكن ثمة احتكاك كبير بين الإسلام والحداثة قبل القرن التاسع عشر، أي قبل احتلال نابليون لمصر، فكل تلك المعارك والحفريات والهدم الذي مارسه العقل التنويري والنهضوي الغربي على الدين هناك كان الدين الإسلامي في عالمه الإسلامي بمنأى عنها.
لكن تمدد الحداثة عالميا كان مهددا حقيقيا لسائر النماذج الأخرى، خصوصا أنه كان يحمل قوّته المدنية معه، فالاختراعات والتقنيات الحديثة تضفي على أي نموذج بشري أو ديني بريقا جميلا، وتخفي جميع تشوهاته، كان الحديث في البداية عن النهضة، لكن الحديث تغير بعد ذلك في القرن العشرين، بعد ان استشعر العقل العربي الإسلامي حجم التهديد، وصار الحديث عن الغزو الثقافي والهوية الإسلامية.
يمكننا الحديث هنا عن نظرية (التخندق)، فحين يغزو جيش ما مدينة من المدن فإن المدينة تقاوم عبر جيشها، لكن حين يدخل الجيش الغازي إلى المدينة يلجأ أهلها إلى التخندق والمقاومة، إنها حالة من عدم الاستقرار، فلا الجيش الغازي يستطيع أن ينشر نموذجه، ولا المقاومة الماكثة في الخنادق تستطيع إعادة سيطرتها على المجتمع، فيصبح المجتمع بين بين، خصوصا إذا طال الزمن دون قدرة الجهتين على الحسم، هنا سيضطر المقاومون إلى التعايش مع الواقع إضافة إلى وجودهم في الخندق، بسبب حاجتهم إلى البقاء والاستمرار، سيأكلون ويشربون ويلبسون ويتعاملون مع ما أنتجه الجيش الغازي من التقنيات، إنهم مضطرون إلى ذلك، لكنهم لا يدركون تماما أنهم لم يعودوا كالسابق.
لقد تخندق الإسلاميون والمؤسسات الدينية عشرات السنين، فلا هم الذين تفاعلوا ولا هم الذين استطاعوا أن يوجدوا نموذجا حضاريا معاصرا، إنهم ليسوا كما كانوا قبل الحداثة، كما أنهم ليسوا كالدين المسيحي الذي أعادت الحداثة صياغته.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 182 followers
