خضير فليح الزيدي عن "وحدها شجرة الرمّان"

قراءة في رواية لسنان انطون»
خضير فليح الزيدي
في الاجواء الكارثية المزمنة التي نخبّ تحت سطوتها ردحا طويلا من الزمن، تلك التي تعقب تفكّك أي دولة وانهيار نظامها الحديدي، لا نجد الا المبدعين الحقيقيين من الكتّاب ضمائر الأمم، وقد كانوا بمستوى الفواجع والانكسارات التاريخية، عندما توالت المحن التي حلّت على بلد مبتلى بتاريخ مشبع برائحة الدم.. وكما حدث فعليا في فرنسا ابان احتلال المانيا النازية لها، حيث أخذت الرواية الفرنسية على ذمتها تدوين تاريخ فترة الاحتلال وما بعدها، تعتبر الرواية الفرنسية انذاك واحدة من أهم مصادر التاريخ الفرنسي المعاصر وتسد الفراغ الهائل في نقص حقبة المقاومة والاحتلال وما بعدها.. حيث ستأخذ الرواية العراقية الجديدة مأخذ سابقتها الفرنسية في هذا المنحى التدويني دون ان يتحول الكاتب الى منزلق الكتابة التاريخية المجردة.. انما ما يطلق عليه برواية ما بعد نيسان 2003..
المكان وكلية النص


الروائي العراقي سنان انطوان وهو يعيش في مغتربه، يعيش محنة ارتهان الوطن وفوضاه الضاربة.. يعيش تفاصيل تاريخ العراق المعاصر في أحلك ظروفه ويلتقط بمهارة ما اغفله المدوّن التاريخي وتعقب الأحداث.. انطوان يعيد كتابة تاريخ المأساة العراقية بطريقته الآسرة المتأملة الهادئة رغم انفعال وصخب الأحداث فيها ودرامية تعاقب الاحداث الكارثية.. وتلك هي المفارقة المرة التي استطاع فيها الكاتب من كتابة رواية عراقية خالصة دون فضاء الانفعال الذي صاحب بعض الروايات العراقية المنطلقة بقوة ما بعد الـ2003.. حتى جاءت روايته بعيدة عن الانفعال والتشنج وقريبة من تأمل تاريخ الحقبة الحديدية برؤيا معرفي ومثقف كوني..
لا مجازفة في القول ان الرواية العراقية الجديدة، قد اخذت على عاتقها اعادة رواية تاريخ المحنة العراقية بكل تفاصيلها وارتداداتها الزلزالية المواكبة لأحداث الحروب الكارثية العابثة، والتي عاش ردحا من تفاصيلها سنان انطوان ابان الفترة الدكتاتورية الدموية السالفة.. ان اعادة رواية تاريخ الحقب تحت فضاء الرواية هي مهمة انسانية غاية في الصعوبة اذا ما بقي الكاتب غير منحاز أو منتمي لأحد أطراف الصراع القائمة. .


ذاكرة حديدية


سنان انطوان الذي خطا خطوات واثقة، من محليته الموغلة في التفاصيل الصغيرة الى فضاء العالمية عبر خارطة فهمه للسرديات الحديثة ومنها الرواية، فهو واحد من هذه النخبة التي استطاعت استيعاب التاريخ العراقي المعاصر والأحداث العراقية الآنية أو تلك الملتبسة على البعض من كتاب جيله.. مغذيا بذلك ذاكرته الحديدية عمّا عاشه أو سمع مروياته من المحيط، وربطه بما يحدث في فضاء البلد- المأزق.. مدركا ان طريق المجد نحو عالمية الاداب يمر عبر المحلية وتفاصيلها الصغيرة.. حيث اختّط طريقا فاصلا الى لغته الرشيقة والخالية من بلاغة واطناب مجايليه دون أن تحدث الفوضى في بنية الحدث أو تراص ثيمته أو الثيم الرافدية..
يمتاز سنان انطوان بفهمه الواعي لافخاخ اللغة واطناب البلاغة وانزياحات مكعبات لعبة اللغة، لكنه استطاع التوصل الى لغة مبسّطة في شكلها وسهلة في ظاهرها، لكنها عميقة المعنى وحاملة الى مدلولات المعنى، وتلك قضية تعتبر واحدة من امراض الرواية العراقية الجديدة التي تعاني من اعطاب كثيرة سواء بهذا المنحى أو مناح اخرى لا سبيل الى ذكرها الآن..


طريق ثالث


امام الكاتب العراقي للسرديات طريقان.. الأول هو تلك اللغة الريبورتاجية أو البيضاء التي غالبا ما نجدها في الصحافة والاستخدامات اليومية الدارجة.. اما الطريق الآخر فهو ما يسمّى بشعرية لغة السرد التي غالبا ما تتغنّى بها الرواية العراقية الجديدة لتبتعد عن مسوخات اللغة الريبورتاجية والصحفية التقريرية التي تعتمدها بعض الروايات الحديثة.. لكن انطوان اخترع له الطريق الميسمي الثالث.. في التقاطات الفضاء الشعري المهيمن على روحية المكان على كلّية النصوص السردية وتخليه عن الطريقين الاولين، ان يكون الاسلوب الفضائي باثا لشعرية ما ورائية اللغة بعيدا عن افخاخ اللغة.. فعبر بطل الرواية (جواد) وفي الفصل الاخير ف 54، يخاطب شجرة رمانه الوحيدة خلف مبنى المغسل التي تُسقى من مياهه.. انظر المقطع التالي" تعودتُ في الأشهر الأخيرة، أن أجلس على الكرسي الذي وضعته أمامها لأحاورها، فهي أصبحت أنيستي الوحيدة في هذا العالم.. كانت أزهارها الحمراء قد تفتحت على الأغصان كجراح تتنفس وتنادي.. كنت ادندن بأغنية قديمة وقد غرست دون قصد في كلماتها (شجرة الرمان) بدلا من نبعة الريحان".. (المكان اكثر شعرية من اللغة هنا).. ثم ينتقل الى مقطع آخر تتجسد به شعرية سرد فضاء المكان بشكل اكثر وضوحا.." حطّ بلبل جميل على أحد أغصانها العالية فهبط الغصن قليلا" حيث استطاع انطوان كسر حدة الاجواء الكابوسية لأحداث الرواية من خلال تلك الشعرية الاسلوبية المنتقاة لتخفيف خاصية تأثير الأمكنة الموحشة على الفضاء الروائي وجمالية الجو العام مبتعدا عن تقريرية افعال اللغة الدارجة ليتم حالة مواصفات السرد الجاذب..


توطين الوحشة


غالبا ما يكون المكان في الرواية وزاوية التقاط الأحداث فيه هو الذي ينهض بكلّية الرواية.. فالمكان الروائي هو الذي ينتج الوعاء الحاضن لبيئة تنامي الحدث وبنية السرد الكلية، حيث تنشطر البيئة الحاضنة الى شطرين في رواية ( وحدها شجرة الرمان)، فالبيئة الاولى كانت كابوسية تعاني من عزلة مكانية مخيفة، حيث حصر الكاتب بنيتها الفنية بـ 13 فصلا معزلة عن بنية النسق التاريخي - الواقعي وفصوله المتبقية..
فالمكان قد أخذ بلب الكاتب لينتج لنا مكان المتخيل السردي محاطا بأمكنة الواقع التي تعاني اصلا من العزلة.. فوكو مثلا يصنّف امكنة مثل المقابر وصالة الانعاش ورحم الام بوصفها امكنة تُزار لمرة واحدة كما هو مكان تغسيل الجثث الذي يمقته البطل لكنه مجبر للعيش والتعامل معه على سبيل المثال.. امكنة فوكو تلتئم بالثنائيات المكانية في يوتوبيات واضحة المعالم..المشفى والسجن وحديقة الحيوان والمدرسة والقسم الداخلي للمراهقات..
يستطيع سنان انطوان قلب معادلة التشبّع الكلي برائحة المكان أو الغوص في مسالكه، أو عبر معايشته ثم تمثلاته روائيا، ليذهب الى انعاش المخيلة السردية لتصوغ الاحداث والمكان والشخوص لتكن أكثر تعبيرا عن الواقع، للوصول الى ما قالته الرواية عن استتباب فعل الموت دون فعل الحياة.. هو لم يعش في مغسل الجثث في النجف أو الكاظمية لكنه انتج صورا عن روح المكان بفنّية عالية المحتوى.. في رواية ارادت ان تصل تحت تأثير شعرية الخطاب الروائي المأساوي للايغال الى امكنة قلّ ما يتناولها الكاتب الروائي في تغسيل الموتى.. لنعيش مع تنميط فعل الموت اليومي بوصفه هو السائد والمستساغ في تفاصيل الحياة اليومية عبر النظرة المتأملة للمكان الذي دارت عليه الرواية تحديدا فوق دّكة غسل الموتى.. جواد البطل يقف حائرا بعد ان اتقّن مهنة التغسيل مكرها من أبيه.. يقف حائرا ازاء الجثث الممزقة أو تلك التي لا رأس لها.. حيث كان البطل مجبرا على توارث مهنة الأب في تغسيل وترتيب الجثث وتكفينها لتزدهر شجرة الرمان وحيدة خلف المغسل بماء مأخوذ من تطهير جثث الموتى وتلك هي الثنائية الفوكوية في اليوتوبيات.. أو الفلسفة الضدية التي قامت عليها الرواية.. تلك صورة تبعث على تأمل الرمز الموحي من هذه الصورة.. هذه الاجواء الكابوسية التي سادت رواية انطوان، التي تفاعل معها القارئ العراقي والعربي بكل غرائبية الامكنة التي اقتصها الكاتب ورسم ملامح المكان وشخوصه بدهشة وغرائبية مأخوذة من المحنة العراقية..
ان ما حدث ويحدث في الأمكنة العراقية الغرائبية، التي عاش أو سمع عنها المؤلف.. جعلت من احالاته ايحائية موجبة، حيث اقتنص حكاية تغسيل الموتى واسطرة الوقائع بطريقة فنية في انسنة الغرائبي والموحش، الطريقة التي حاول فيها الحديث ووصف المكان بصورة تبدو أكثر من واقعيتها.. طريقة كانت ناجحة، استطاع من خلالها انطوان توفير عنصر الاقناع ومواكبته الى النهاية في الرواية، مفرطا في تفاصيل ليس بالضرورة انه قد عاشها، لكنه كمواطن عراقي عاش المحنة العراقية وقد تأثر بكارثيتها ورعِب بتفاصيلها..
كذلك ان اسطورية وترميز فعل الموت بتلك الطريقة التي تفنّن كثيرا في بلورتها إزاء فعل الحياة العابر المنسي.. تلك المخيلة السردية التي صاغت أحداث شجرة الرمان كانت مصرّة على توطين وحشة المخيلة ورسمها عبر سردية بدت انها تميل لترميز الواقعة وتداخلها مع المتخيل السردي بقوة خطاب مقنع عن الواقعية العراقية الجديدة التي تناهز فعل الواقعية السحرية في روايات اميركا اللاتينية..


تخطي التمثل


وهنا مقولة مأخوذة من متن نظريات النقد الحديثة التي تؤكد عن تمثلات الواقع في الرواية الحديثة.. اجدها الآن غير منسجمة مع قراءة رواية "وحدها شجرة الرمان " للروائي العراقي سنان انطوان..
فقد استطاع القفز على تمثلات الواقع الى تصويره بفنية التصوير (السالب) ثم التعاطي معه بوصفه مُعطى قد رشّح عن ذلك الواقع أو منعكسا بمرآة محدبة عنه.. بمعنى قلب صورة الحدث وتأمل محتوياته.. وتلك الغاية الفنّية في الانتقال لامتصاص رحيق واقع مر ومأزق كارثي يتجدد ويعيد نفسه بصور مقلوبة.. حتى تفرّد انطوان بطريقة التعبير وراح يغّرد في حقل الرواية العراقية الجديدة فارضا اسلوبه هذا بتلك الطريقة الفنية التي استوعبت متطلبات سوق الرواية.
استطاع سنان انطوان في فعله الروائي هذا السيطرة الكاملة على فعل الروي الحدثي/ المكاني المصاحب لعنصر التشويق لقارئ.. مفترضا ان يكون مكانه محليا خالصا لروايته..
وهكذا معظم الروائيين العراقيين المغتربين عن امكنتهم الاولى دون ان يقع في فخ ماضوية الذاكرة السلبية وتضخمها كما تصورها ادبيات النقد السايكولوجي.. في حين فقد البعض من أقرانه كتّاب الرواية العراقية اهم ميزة لنجاح الرواية وتبضيعها كمنتج أدبي مطلوب وهو عنصر التشويق من خلال توارث عائلة الى مكان منبوذ وهو دكان تحول الى مغسل للجثث.. فيما الابن الفنان – النحات يكون مجبرا على التعامل مع اجساد الموتى والعناية في تغسيلها وتكفينها حتى الوصول الى المكان الاخير وهو القبر..
ومن خلال تنامي احداث السرد من خلال استخدامه لتقنية (البوح الذاتي) عبر خاصية ضمير المتكلم كلي العلم، وبوصف تلك الخاصية هي الاكثر قدرة على التعبير الذاتي وفي استدراج المعاناة الذاتية حيث تتحول الذات الواحدة الى ذوات جمعية في هيمنة المأساة وشيوعها كنمط جمعي.. فعبر جواد الفنان نتعرف بحذر على ثنائية الحياة والموت عبر مكان يجمع الصفتين.. حيث استطاع المؤلف اقتناص زاوية فعل الروي للحياة من خلال الحديث والفعل اليومي السائد عن الموت.. عندما تحول البطل الى ساعي بريد الموتى لايصالهم بعناية فائقة الى قبورهم..
التاريخ هنا هو القدر في لعبة القط والفأر المفروضة بين طرفي نقيض المعادلة العراقية بين حرب دائمة ولحظة سلام يتيمة ومفترضة..
سنان انطوان صاغ سيمفونية الخراب العراقي عبر تأمل خيوط واهنة ومختفية للبعض عن خيط المأساة العراقية الكبرى الرابط للتاريخ عبر أكثر من عقد.. فعبر رواية "وحدها شجرة الرمان" وبهويته العراقية الشاملة وليس بهويته الفرعية، استطاع الايغال في أمكنة هي بالأساس ليست أمكنته من حيث النشأة أو المعيشة.. لقد اثبت صدق الانتماء الوطني عبر نسغ المأساة الدائر لدى الجميع.. لم يتحدث عن مواطنيه المسيحيين وهجرتهم أو التضييق عليهم لكنه استطاع صياغة فضاء القدر الأعظم الذي تغلى به اجساد العراقيين قاطب
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 23, 2014 07:17
No comments have been added yet.