دفاع عن الحكم الإسلامي

ومن التعسف والجهل الفاضح أن تعقد مقارنة بين الخلافة والحق الإلهي الذي حكم به الملوك سواء  في أوروبا أو الشرق قبل الإسلام وبعيدا عن حدود الدولة الإسلامية ، أو مقارنة الخليفة بالبابا استنادا إلي بيت شعر لشاعر منافق أو كلمة لحاكم مستبد ، فالمهم ليس ادعاء الحكام بل قابلية الناس لهذا الادعاء ..


فالكاثوليكي يؤمن فعلا بقدسية البابا وهو إذا قال إن الأرض منبسطة وجب علي المؤمن التصديق ودن أن يتطرق الشك في عصمة الأول ..ولم يترددوا في الفتوى بخلع الحاكم وقتلوا ثالث الخلفاء ورابع الراشدين  ..فما اقبح الزيف بإجبار التاريخ الإسلامي علي الدخول في قالب مستورد!


وهناك قضية أثيرت وتثار دائما من حسني النية وأيضا من الذين في قلوبهم مرض، وهي انعدام المؤسسات الدستورية في الدولة الإسلامية ، ويحلو لهؤلاء وأولاء أن يقارنوا بالديمقراطية اليونانية .. وإذا كان من الخطأ مقارنة دولة  في اتساع دولة الأمويين مع المدن اليونانية التي نشأت فيها فكرة الديموقراطية والتمثيل النيابي وكانت ظاهرة خاصة بها ، لأننا نلاحظ أن هذه الديموقراطية  اختفت عندما حلت الإمبراطوريات الواسعة والمتعددة الأجناس ، محل المدن . كذلك كان الحكم في مكة يشبه ماكان عليه في أثينا،  وكانت ديموقراطية المدينة  المنورة من نوع الديموقراطية المباشرة علي عهد الرسول والصحابة.. إذا جدت مشكلة تنادوا : الصلاة جامعة ، فيتقاطرون للاجتماع بالمسجد وكان النبي أول  من طرح طريقة التصويت عن طريق انتخاب مندوبين أو النقباء  كما سماهم ، وهم الذين يختارهم المواطن العادي ، ويتعرفون  وجهة نظرة ثم يرفعونها للسلطة، وكانت المشاورات بما فيها من خلاف وحدة  هي أبرز  مايميز صدر الإسلام ، وكما أشرنا فقد اختلفوا  في العديد من القضايا ، وحلوها بأسلوب الديموقراطية   المباشرة في المدينة ، ثم نضع في الاعتبار ، أن عصر النبوة والصحابة أو الخلفاء الراشدين كان عصرا  فريدا  كما قلنا  جري فيه تأسيس الدولة داخل حدود سريعة الحركة والامتداد ، مما افضي إلي دخول العديد من الشعوب بسرعة أكبر من قدرة البشر علي التمثيل ، والتحرر  من تأثيرات الأحداث .


وفي ظل الفلسفة الإسلامية كان معني ذلك أن عدو الأمس المقاتل يصبح في اليوم التالي مواطنا متمتعا بكامل الحقوق .. فكان من المستحيل قيام الديموقراطية اليونانية أو الرومانية التي تحصر الحقوق  والممارسة في المواطن الأصلي وهو الأغريقي وتستبعد سائر الرعايا .. وقد رأينا الجهد الذي بذله بولس الرسول لاثبات أنه مواطن روماني لكي ينجو من المصير الذي ساقوا إليه السيد المسيح الذي لم يكن رومانيا بالطبع ! وهكذا لم يتسع الوقت ولا الظروف الجهاد  المتصل  وتغير جنسية الرعية بمعدل سرعة خيل المجاهدين ، لم يتسع الوقت للصحابة لوضع المؤسسات ، وخيرا أنهم لم يفعلوا لأ نهم لو فعلوا لخلقوا ديموقراطية قاصرة علي العرب  المسلمين ولكان في ذلك ضيق وحرج علي العصور المقبلة.  استمر الحكم معتمدا على أخلاقيات الإسلام في هذا الجيل الفريد من نوعه فلما كان عصر عثمان وعلي زحقت الجماهير من المناطق المفتوحة فأحاطت بالسلطة في المدينة ومعها ديمقراطيتها وأخلاقياتها ومثالياتها ومحاولاتها الفريدة في بناء دولة بأخلاق النبوة وعجز الثائرون كما كان متوقعا عن إقامة بديل فاستمرت حالة الفوضى التي كانت تهدد بضياع كل شئ لولا هزيمة النظام العالمي القديم أمام تفوق الإسلام وما جاء به كانت هزيمة ساحقة ماحقة لم تترك قدرة على المقاومة في الطبقات الحاكمة ولا أدنى رغبة لدى الجماهير في العودة إلى الماضي البغيض ، ولولا ذلك لأفضت حيرة المؤرخين والمحللين إما إلى الجنون أو الميتافيزيق وهم يبحثون عن تفسير لاستمرار المتحد الإسلامي رغم القتال المستمر بين المسلمين منذ مقتل عثمان حتى بيعة معاوية فلما انتقل الحكم للأسرة الوحيدة التي كان بوسعها فرض الاستقرار وممارسة الحكم باحتياجات العصر قامت دولة يسميها المسلمون الأتقياء وأولوا الإربة من أصحاب المذاهب بالملك العضوض ، أما نحن فلأنه كان نظاما مستقا مع عصره ومع ما توارثته البشرية من تجارب وما وصلت إليه من فكر وممارسة ولكنه بعطر الإسلام ، أو بما ظل يتناقص من هذا العطر ظل لأكثر من ألف سنة أفضل نظام حكم في العالم من حوله حتى نفد العطر تماما من الفكر والحياة وتخلف الحكم عن مستوى العصر فأصبح العالم الإسلامي أشد تخلفا على معظم المستويات وإن كنت أحب أن أضيف هنا أن المكانة الخاصة للصحابة حيث اعتبر المسلمون ومازالوا تصرفاتهم نوعا من التشريع الملزم ربما كان ذلك هو أحد أسباب امتناعهم عن وضع مؤسسات تشل حركة التاريخ ..


على أية حال ، ما من باحث أو مؤرخ يدعي لنا أنهم قد تسببوا في كارثة أو ارتكبوا خطأ فادحا فقد تركوا خلفهم مؤسسة استطاعت أن تسود العالم وتبني حضارات متتابعة على طول ألف سنة .. وإنما هي مأساتنا نحن الذين نتمنى لو وضع لنا أبو بكر مؤسسة نحل بها مشاكلنا في نهاية القرن العشرين لأننا لا نستطيع استنباط حل إسلامي لهذه المشاكل نعيب الصحابة لأنهم لم يشحنوا لنا هذا الحل عبر التاريخ .


—————————————


من كتاب : جهالات عصر التنوير – إصدار 1990 – ص 103 : 105



مدونة محمد جلال كشك من شبكة تدوين


تدوين و تدوين نت من انتاج مشروعات عربية


من تدوين نت أيضاً اقرأ عن

آيفون / كيف تعمل الأشياء / الصلاة / اللغة العربية / أمتون - رسوم كتب الأطفال / الغزالي / اقرأ - كتب و كتاب و قراءة و مكتبات / القانون

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 06, 2009 13:39
No comments have been added yet.


محمد جلال كشك's Blog

محمد جلال كشك
محمد جلال كشك isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow محمد جلال كشك's blog with rss.