بلال فضل Belal Fadl's Blog

July 24, 2024

يزن الحاج يكتب عن فندق الرجال المنسيين: لكي تظل في حكاياتك اللذيذة

بلال فضل: لكي تظل في حكاياتك اللذيذة
يزن الحاج
لا نلمح كثيرًا تصنيف «حكايات» على أغلفة الكتب. لا يبدو تصنيفًا مشجّعًا، إذ يبدو وكأنه أدنى من التصنيفات المكرّسة في القصة أو الرواية أو المقالة. تصنيف ضبابي، مثله مثل تصنيف «نص». ولو تذكّر القرّاء ما ابتُلوا به من كوارث صُنّفت على أنها «نصوص»، لن نلومهم لو انفضّوا عن هذه التصنيفات العجائبية. ولكن لو صبرنا قليلًا لنميّز، لا بد من محاولة تعريف هذه التصنيفات. ما «الحكاية» هنا؟ بتعريف بسيط، هي نص ليس قصة بالمطلق، وليس مقالة بالمطلق، بل هجين بين الاثنين. ليست الهُجنة هنا مرتبة أدنى، بل محاولة جريئة لتكريس نوع أدبي؛ إعادة تكريس لو شئنا الدقة، إذ أن له تاريخا مديدا في التراث العربي قديمه وجديده، ولو اكتفينا بما هو راهن سنتذكّر التصنيف ذاته على أغلفة كتب لعلاء الديب وياسر عبداللطيف. أحدث كتب بلال فضل «فندق الرجال المنسيّين» (نُشر إلكترونيًّا في تطبيق «أبجد»، ويصدر ورقيًّا عن دار المشرق في القاهرة) يتبنّى هذا التصنيف بقوة، بل ربما نقول إنه سيكون المُكرِّس لصنف الكتابة هذا في السنوات القادمة، من دون أن يتحمّل مسؤولية الكوارث التي ستُكتَب تيمّنًا به وبحكاياته. الأصناف الهجينة أصعب من المكرّسة، إذ تتطلّب خطوًا حذرًا بين حدود التصنيفات، وبين حدود الفصحى والمحكية، وبين حدود ما الجاد وما الهزلي، من دون أن يكون الهزل إسفافًا. تلك خلطة يبرع فيها بلال فضل كما لا يبرع أحد من بين من أعرفهم اليوم عربيًا؛ خلطة تبدو للمتابع العجول خلطة سهلة، إلا أنّ معرفة المقادير لا تعني طبخة متقنة ولذيذة في آن.

يستند فضل في حكايات كتابه الجديد (الذي سبقه كتاب في الجنس الأدبي ذاته: «ماذا صنع الله بعزيزة بركات؟») إلى تجربته الحياتية، وخبراته الصحفية، وحصيلة قراءات كبيرة وغنية، لينتج حكايات تنطلق من الصحافة من دون أن تكون قصصًا صحفية بالمعنى الضيق للمفردة، وتنهل من أساليب السرد التخييليّ في القصة لتقدّم خلطة فريدة لا مثيل لها عربيًّا. ثمة تجارب «مشابهة»، ولا بد من إدراج المزدوجين هنا، فالتشابه شكليّ، بيد أن المضمون والبراعة لا يقارنان أبدًا. ثمة من تنقصه الخبرة، وثمة من تنقصه الحنكة، وثمة -وهم الغالبية- من تنقصه خفة الظل التي يقدّمها فضل في جرعة لا تزيد ولا تنقص عما هو مطلوب لإنجاح هذه الطبخة الحكائية. نجد منغّصات قليلة في هذه الطبخة، حين يقدّم لنا فضل ما نعرفه أساسًا، لا بمعنى مضمون الحكاية، بل بمعنى حكاية تندرج ضمن تصنيف القصة الصحفية في الغالب. لا مشكلة في القصة الصحفية بطبيعة الحال، إلا أن هذا الكتاب يطرح نفسه بكونه مغايرًا لا بكونه محض تجميع لقصص صحفية لها جمهورها وسياقها، وكتبها. نجد الحكايات «التقليدية» (بمعنى التزامها القواعد المكرّسة في الكتابة الصحفية) في كتابه السابق أيضًا، ولكن بدرجة أقل.

لو أردنا اقتباس فضل نفسه، نتذكّر توصيفه الثاقب لمسلسلات الراحل أسامة أنور عكاشة الأحدث التي يرى فضل -محقًّا- أنها أقل مستوى من أعمال عكاشة الأقدم. تصلح المقارنة ذاتها هنا بين الحكايات التقليدية (القليلة بطبيعة الحال) وبين الحكايات البلالية التي تبدو أبهى وأفضل وأبرع بدرجات كبيرة. ولكن، مجددًا وباقتباس المقارنة نفسها، نحن نتحدث هنا عن مستوى بلال فضل الذي لا يشبهه أحد، كما هو عكاشة في سيناريوهاته (رواياته التلفزيونية) البديعة. في تلك الحكايات القليلة، تتعزّز قوة وأهمية وجمال الحكايات البلالية الأخرى، إذ يعجز فضل عن بلوغ مستوى فضل، ولكن -في نهاية المطاف- ليس في وسع الكاتب أن يكتب كل يوم حكايات من مستوى «السيدة ليف وما فعلته بالراهب المتعبد»، و«شيء عفن في الزبداني»، و«ملك الجبال وسيد التلال»، و«في كابوس واحد» (من هذا الكتاب)، أو «ماذا صنع الله بعزيزة بركات»، و«عن العم صلاح وتلفزيونه اللعين»، و«لكي تظل في ضلالاتك اللذيذة» (من كتاب «ماذا صنع الله بعزيزة بركات»).

ما تقدّمه هذه الحكايات البلالية لنا الإمتاع والمؤانسة كما يشير بلال فضل دومًا، وهي تقدّم لكلٍّ منا ما يكمّل نقصه، ويُعينه في لحظات الشدائد التي تتضاعف كل يوم. ثمة جرعات كآبة عالية في الحكايات لا نجدها في نصوص بلال القديمة حين كان ما يزال في مصر ولا يزال يضحك، بل يقهقه، ويضحكنا معه. كآبة لا تعني زيادة غمّ القارئ، بل تنجح الحكايات ببراعة غريبة آسرة في حفر مكان لهذه الكآبة الجديدة بعد أن تُزيح أختها القديمة، ولكن لا بد من ألم جديد يترافق مع الكآبة الجديدة. ألم جديد علينا حين نتلقّى الحكايات، وعلى بلال حين يدخل عالمًا لا يبتعد كثيرًا عن عالمه القديم في براعة الحكي، وينأى -في الوقت نفسه- كثيرًا عن العبث اللذيذ الذي كان يسم كتاباته القديمة. ولذا ربما تبدو الحكايات التقليدية القليلة ناتئة عما سواها، بخاصة حين يكتب بلال عمّا لا يعرف تمام المعرفة. لا نجد تقليدية أو تعثّرًا في الحكايات المصرية، بل في الحكايات «الأمريكية» على الأخص.. يكتب بلال هنا بعين السائح وإن كان مقيمًا، يكتب (من دون قصد على الأغلب) بعين العابر الذي يحاول تلخيص كل شيء في عجالة، على عكس الذكريات التي بدا واضحًا أنها مشغولة بإتقان أكبر، بل ومكتوبة على دفعات، بخاصة في الحكاية المرعبة من فرط جمالها: «على هامش المشمشية»؛ نص مكتوب بدفقات الحنين من دون أن تكون نوستالجيا مكرورة، مكتوب بدفقات تنقيح المشاعر التي يبدو فضل وكأنّه يقلّم ألمها وألمه وألمنا فيها، غير أنها تُفلت من قيوده وتوجع أكثر.

يمنّ الله على بعضنا بكمّ قراءات واسع، ويمنّ على آخرين بموهبة الحكي، ويُفرِد لقلة قليلة نعمة القراءة والحكي في آن. بلال أحد هؤلاء القلة الذي يبرعون في الحكي عمّا يحبّون فيحبّبون المستمع بما أحبّوه. حكاية مثل «السيدة ليف وما فعلته بالراهب المتعبد» مثال عن تلك الحكاية الكاملة التي لا سبيل إلى تغيير حرف فيها تعديلًا أو زيادةً أو حذفًا. تضم الحكاية جميع توابل بلال المتنوّعة التي تُنكّه سرده البارع، من دون أن ينسى فيها موهبته الأخرى في القراءة، وفي الحكي عن القراءة، وفي دفع القارئ إلى عالم لا يعرفه، أو إلى عالم يعرفه ولكن من زاوية مختلفة. حكاية كهذه تدفع المرء إلى التعرّف أكثر إلى ليف أولمن، وإلى إنغمار برغمان، وأنا أحد الذين لم يشاهدوا فيلمًا لبرغمان أو أولمن ولم أقرأ مذكراتها، ولكني سأفعل لأسباب غير تلك التي اعتدت القراءة من أجلها. سأقرأ من أجل قطرات الطحينة المندلقة على لحية بلال وثيابه وهو يلتقي أولمن للمرة الأولى، ثم يمهّد بافتتاحية عابثة قبل أن يدخلنا إلى عالم مذهل تتداخل فيه الذكريات بالكتب بالأفلام بصالات السينما بوجع تقدّم العُمر، إذ يتذكّر بلال ويذكّرنا أنّ العمر ينقضي. في هذه الحكاية تذكير آخر بمهارة بلال في العبث اللذيذ الذي بقي جوهره، وإن تغيّرت سماته، إذ يترك القارئ معلّقًا حين يريد القارئ المزيد، ولكن يدرك بلال -مرة أخرى- أن وصفة الحكاية البلالية ستنكسر لو قال أكثر وحكى أكثر، وأن المزيد الذي يريده القارئ طمعًا سيثقل السرد والخفّة والبهاء.

يظن المرء أحيانًا أنه وصل إلى مرحلة قناعة مغرورة، بخاصة حين يكون من أهل الكتابة والقراءة، تتمثّل في الجملة التي لا تُقال كثيرًا: «أتمنى لو كنتُ كاتب هذا العمل». لا نقولها إلا عن كتب مضت، إذ ندرك (بدافع من وهم أو يأس) أن ما فات فات، وأن ما هو آت لن يُبهرنا إلى درجة نطق تلك الجملة. ولكن بلال موجود وحاضر ونشيط ويحرّضنا في كلّ حكاية بلالية مكتوبة أو منطوقة على التلفظ بالجملة، وبشتائم بدافع المحبّة بطبيعة الحال. ثمة ما سيتلاشى مع مرور الأيام، بخاصة حين يكون الكاتب غزير الإنتاج، وهذا أمر طبيعي يدركه فضل قبل سواه، ولكن ثمة ما يبقى ليؤسِّس جنسًا أدبيًا مستعادًا. لا نصادف يوميًّا كتابة بارعة مُؤسِّسةً، ومن هنا ندرك جمال حضور بلال فضل في هذه الأيام الموجعة.
يزن الحاج ـ كاتب ومترجم سوري
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 24, 2024 10:43 Tags: فندق-الرجال-المنسيين-بلال-فضل

March 31, 2023

كتابي الجديد متاح الآن على أبجد

الآن على أبجد يمكنك قراءة وتحميل كتابي الجديد
ماذا صنع الله بعزيزة بركات؟
حكايات من المشوار
رابط القراءة والتحميل
https://www.abjjad.com/book/279520870...
23 likes ·   •  4 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 31, 2023 07:50

February 27, 2023

جناسات الوقاحة ونحوها قراءة جميلة من المحرر الأدبي والمترجم فادي عوض لأسلوب ولغة رواية أم ميمي

سعدت جدا بقراءة ممتعة وذكية لرواية (أم ميمي) كتبها الأستاذ فادي عوض على صفحته في الفيس بوك، اعتزازي وسعادتي بها ليس فقط لأنها تأتي من باحث ومترجم ومحرر أدبي متميز، ولكن لأنها أيضا تأتي من قارئ عتيد وواحد من حواة اللغة والعارفين بها، ولذلك لم يكن غريبا أن يقوم بمثل هذا التفكيك المدهش لأسلوب الكتابة والاختيارات اللغوية وطريقة الحكي، شكراً من القلب لفادي عوض ولكل من اهتم بالكتابة عن الرواية بجدية أياً كان رأيه فيها، فـ "هذا ما كنا نبغْ". أترككم مع قراءة فادي عوض للرواية وشخصياتها
...
انتهيت الآن من القراءة الثانية لرواية "أم ميمي"، وهي "عمل" أدبي رائع تمكن فيه بلال فضل من إنزال "سهم الله" عليّ طوال أسبوعين كاملين. فشكرًا له. في السطور (الكثيرة) التالية قراءتي للرواية ومحاولة لمناقشة الجهد الكبير والرائع في الرواية، والجهد المخلص في تقديري - كقارئ محب يتمنى ألا يكون متمحلسًا - هو عادة أصيلة في أعمال بلال فضل التي طالما أثارت جدلًا صحيًا ومستحقًا.
أبرز ما يواجه القارئ في "أم ميمي" هو أن بلال فضل تخلص فيها من كل المحاذير "الأدبية" وقلة الأدبية، وأطلق "للوقاحة" العنان. فدعنا نبدأ الحديث عنها بالحديث عن الوقاحة وطول اللسان. عندما نستخدم تعبير "الوقاحة" في وصف اللغة فإننا على الأغلب نقصد أمرًا من اثنين ربما يصح التفريق بينهما. الأول هو الصراحة إلى الحد الأقصى في الكلام عن الأعضاء والعمليات الجنسية. والمثال على هذا رواية أحمد ناجي "استخدام الحياة" التي تحل علينا هذه الأيام الذكرى التعيسة لسجنه بسببها، حيث كانت الكتابة عن مشاهد جنسية يدور الحوار فيها والحكي عنها متضمنا تسمية الأشياء والأوضاع والحركات بأسمائها. ينطبق هذا نفسه على الفقرات التي تحذف من الطبعات المهذبة لألف ليلة وليلة أو غيرها من كتب التراث في بعض الأحيان.
أما النوع الثاني فهو استخدام صفات أو أسماء مهينة (أغلبها قادم من عالم الممارسة الجنسية) في حق شخص سواء في حضوره أو في غيابه. يحدث هذا لأن المتكلم يريد أن يفرض سلطته على السامع ولسان حاله "هكذا أنا قادر على إهانتك وأنت غير قادر على الرد"، أو لأن المتكلم – خاصة إذا كان في موقع الأضعف - سأم كل أشكال الحجاج مع السامع فلم يعد أمامه إلا إهانته، إما استفزازا وإما تشفيًا. من المؤكد أن لهذا الجانب الأخير ارتباط كبير بالتمكن الطبقي والشعور بالضعف. ولهذا ربما يشيع أن وقاحة النوع الثاني أكثر شيوعًا في الطبقات الفقيرة، وربما يكون من السهل أن يدّعي أحد مصطنعي الحكمة، أن السبب في هذا أن الفقراء لا يملكون من أدوات الإقناع العقلي المهذب بالتعليم ما يحول بينهم وبين التعبير عن أنفسهم بالمبالغة في المشاعر أو الصراخ بها. الوقاحة إذن تصلح موضوعًا للتأمل النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي. رواية "أم ميمي" سَبْق كبير في هذا التأمل. والوقاحة الواردة فيها تنتمي إلى كلا النوعين ولا تأتي بالضرورة تعبيرًا عن انطحان الطبقة الناطقة بها لأن الوقاحة - بشهادة الوقائع - ليست لغة طبقة واحدة كما قد يكون شائعًا. الوقاحة في "أم ميمي" تملأ الحوار، لكن السرد لا يخلو منها بدوره، وهذا أحد مصادر جدتها وطرافتها. كم تمنيت أن يكون نصي كله في قراءة "الوقاحة" في أم ميمي، لكن في الرواية الكثير مما يستحق التأمل والنظر والتحية.
لا يعطينا بلال فضل اسم بطل وراوي "أم ميمي" الذي يشترك مع المؤلف في أكتر من صفة. بلال فضل كما يعرف الجميع سكندري درس الإعلام في القاهرة في مطلع التسعينات وكذلك بطله. بلال كاتب سينمائي معروف ولدى بطله الشاب هوس بالسينما من المنطقي تماما أن يكون قد قاده ليصبح بلال فضل... إلخ. أجمل ما في رواية "أم ميمي" أنها لا تشغل بالها بهذا الحوار من بابه. بدلا من ذلك يقتطف المؤلف سنة من حياة بطله تمثل لحظة انتقال كبرى ويصبح التركيز الكامل للرواية في هذا الحدث دون الالتزام بحكي تاريخ البطل قبل الحدث أو بعده. لكن هذه السنة من حياة البطل حافلة بمظاهر ومفارقات انتقاله من حياة إلى أخرى. فهي لحظة انتقاله من المراهقة إلى الشباب مع بدء الدراسة الجامعية في كلية الإعلام، وانتقاله إلى القاهرة قادمًا من الإسكندرية يحمل طموح العمل في السينما، وانتقاله المبكر من الاعتمادية إلى الاستقلال تحت ضغط طموحه بالتحرر من قيد الأسرة وسلطة الأب، وانتقاله – رغم رغبته في هذا – من نعومة وهناءة وتدليل الأم ومن "كنف وكنيف" الأسرة إلى خشونة وقذارة وقباحة العالم، وحكمته أيضًا... إلخ.
تتطور شخصية البطل من خلال تعامله مع كل هذه الانتقالات، لكنها جميعًا تتراجع إلى الخلفية في مقابل الحدث الأساسي الذي يعيشه البطل بصورة مؤقتة جدًا؛ أعني بهذا انتقاله من طبقته المتوسطة المنهارة إلى الحياة لعدة أشهر في كنف الطبقة المنهارة حقا وصدقا، وبالتحديد لدى أسرة "أم ميمي" التي ضربتها جميع السلوك فضربت سلوك كافة أعضائها. وبالتالي، فليس الانهيار هنا هو ذلك الانهيار الاقتصادي التسعيني المعروف، لكنه أيضًا انهيار نفسي وعضوي وأخلاقي يصنع منه بلال فضل معزوفة صوتية ضاحكة مبكية لم يكن أبدًا من السهل على كاتب غيره أن يقنعنا بها إلى هذه الدرجة.
رغم طموحه الكبير، وربما بسببه، يتمنى بطلنا فقط أن ينتهي العام الدراسي على خير، حتى تتحقق أمنيته بالاستقلال حين ينجح بتفوق فيفوز بمنحة دراسية تريحه في أعوامه الجامعية التالية. ولذا فإن عليه أن يقتصد إلى الحد الأقصى. المطمئن في الأمر أننا نعلم أن البطل لن يعيش هنا للأبد، هو فقط في مأزق ورّطته فيه الحياة وهو لا يزال على أعتابها، وإذا استمر في استخدام ذكائه وطيبته كما يفعل فسوف ينتهي الأمر على خير، فيتحرر هو من هذا العالم الكابس على نفسه ونفسنا، حتى لو ظل ذلك العالم نفسه على حاله.
كان هذا مبررًا – في الحياة وفي الدراما – ليجد نفسه يتشارك في عالم ضيق للغاية مع كائنات ضاقت بعالمها وضاق بها عالمها حتى صار صوت الاحتكاك والاصطكاك بينها وبين العالم مزيجًا من الصراخ والهياج والغضب والسب والنميمة والخذلان وكل ما تريد. لكن الجميل – وعمل الفن أن يصنع جمالا من هذا – أن من يصحبنا في الرحلة خلال هذه الأصوات راوٍ متأمل للغاية وماكر للغاية وعارف للغاية بالسياقات الاجتماعية التي يبرر بها اختيارات وتحولات الشخصيات الأخرى، فضلا عن أن من ورائه مؤلف يعرف كيف يحول كل هذا الصخب إلى ضحك صاخب أيضًا. ضحك صاخب، مهما كان باكيًا.
في سياق روائي كهذا يمكن لشخصية بحجم أم ميمي بجلالة قدرها أن تختفي بالموت. ليست هذه فقط جسارة بالغة من المؤلف الذي لم يكن ليضحّي بشخصية كهذه ما لم يكن هو حريصًا حد القناعة على إثبات مقولة "حدث بالفعل" أو بالأحرى مقولة "عملناها ونفعت". في "أم ميمي" يفقد الموت جلاله؛ أم ميمي تموت تقريبا بالمصادفة، وعويل ميمي عليها بإهانته لها ولكافة أفراد الأسرة والمعزّين خاصة أبيه شعراوي الزناوي يصل إلى حد العبث، والمفارقات التي يلمحها الراوي في سلوكه هو شخصيا وفي سلوك الحاضرين في المشهد، وفي تراوحهم بين إظهار الحزن على الميتة والترتيب لتقسيم تركتها البائسة يجعل من المشهد معزوفة ضاحكة بالغة الصخب وبالغة الإمتاع. "أم ميمي"، ومهما كان ما تحكيه قد "حدث بالفعل"، فإنها ليست رواية واقعية بقدر ما هي رواية في السخرية من الرواية الواقعية.
وهكذا بدلا من أن يعتمد المؤلف على مقولة الواقعية في الدفاع عن مصداقية الأحداث واللغة في "أم ميمي"، بدأت الرواية بالتنبيه على أن كل ما ورد فيها "لا يمت للواقع بصلة". لا أعني بذلك أن "أم ميمي" ليست رواية عن الواقع. هي طبعًا كذلك. وهي تحدد واقعها بأعلى درجات الدقة الروائية، سواء من حيث الزمان (التسعينات برثاثتها وكمكمتها) أو من حيث المكان (شارع خلف كازينو إيزيس). غير أن واقعيتها تخدم هدفها الأساسي في كونها "رواية نوع" تبدأ من عالم مستقر يحدث فيه خلل ينتهي بحل الأزمة والعودة إلى العالم المستقر مرة أخرى.
تدور الرواية في إطار زمني واضح للغاية، عام دراسي واحد. أعطى هذا فرصة للمؤلف والراوي والبطل – والقارئ أيضًا – في تتبع خيط الدراما دون الانشغال عنه بالسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي... إلخ. يعرف هؤلاء جميعًا ما للسياق من أهمية، لكن مكارة المؤلف تقلل من حضور المجال العام لصالح المجال الخاص. ليست الأولوية لحياة البطل في الجامعة، ولا يجب أن يستغرق مشهد ام ميمي في المستشفى أو في المشرحة أو في قسم الشرطة أكثر من لحظات عابرة في مسار الرواية. غير أن حضورها السريع هذا وضعنا في مواجهة دالة، مهما كانت عابرة، في العلاقة بين عالم ميمي وأمه وبين العالم الذي يعرفه أبناء الطبقة الوسطى من الكتاب والقراء..
يبدو النفسي هنا أهم من التاريخي، ويمتد هذا ليكون تأملنا مع الراوي البطل في تنقله هو شخصيا بين الذكاء الحاد أحيانًا والسذاجة الفاضحة أحيانا أخرى، أو تأملنا معه في هياج ميمي الدائم، أو سلاطة لسان أم ميمي، وسمّاوية شعراوي الزناوي هي تأملات في طبيعة هذه "النماذج" البشرية أكثر مما هو بالضرورة في درجة فرادتها ولا في سياقها الجغرافي والتاريخي، مهما كان حضور هذين الأخيرين ذا دلالة.
تحمل الأحداث والمصادفات بطل الرواية إلى القيام بدور المخبر الذي يعمل على إنقاذ نفسه من مؤامرة حيكت بناء على سوء تفاهم لتوريطه وتوريط أهله في أزمة كبرى. هنا يليق التساؤل: هل "أم ميمي" رواية واقعية؟ إجابتي أنها ليست كذلك واقعية تستهدف النقد الاجتماعي. نحن في "رواية نوع؟"، أو بدقة أكثر، محاكاة ساخرة لرواية تحريات، بحكم دور البطل في تقصي أطراف المؤامرة. وهذا، أعني الجانب الكوميدي والساخر، يجعلنا شبه متيقنين – مرة أخرى ـ أن البطل سيخرج منها على خير، وإلا لما أضحكنا المؤلف كل هذا الضحك إذا كان في نيته أن ينهي نهاية محبطة.
هنا لا يكتفي الراوي بالتواطؤ مع زملائه ضد شعراوي الزناوي، وإنما أيضًا يتواطأ مع قرائه على السخرية من النوع الفني الذي ينتجه. يمكن الاستطراد هنا بإضافة أن هذه الشخصيات – من حيث القليل الذي نعرفه عنها – تشبه الشخصيات السينمائية أكثر من شبهها بالشخصيات الروائية. قد يكون السبب في هذا التشابه الأخير أن المؤلف كاتب سينمائي، وربما يكون – بالإضافة إلى هذا – راجعًا إلى طبيعة النوع الروائي الذي يكتبه، لكنه قد يكون أيضًا بسبب نوع الراوي نفسه. فهو راوٍ بطل يحكي فقط ما يراه من مظاهر وسلوك ومشاعر، ولا يستطيع إلا أن يتنبأ بما يجري من وراء ظهره. هذا الاختيار الأسلوبي أيضًا يعطي فرصة أكبر لما هو نفسي على ما هو تاريخي وواقعي. المشترك الآخر مع السينما هنا هو القدرة على التنقل من مشهد إلى آخر بين الشخصيات ربما بمنطق الكاميرا وبالتحديد الكاميرا المحمولة. لفحص ذلك يمكن العودة إلى مشهد الجنازة الذي يثبّت فيه المؤلف الزمان والمكان ويتنقل بين الشخصيات مع حركة البطل بينهم وحواراته مع كل منهم ومتابعته اللماحة لأفعالهم "الخبيثة".
لا شك عندي أن اللاعب الأساسي في هذه الرواية هو البوليفونية اللغوية المدهشة التي يصنعها بلال فضل في هذه الرواية. استخدام التعبير الموسيقي "بوليفوني" في نقد الرواية يعود إلى الناقد الروسي ميخائيل باختين. ورغم أن المقصد الأساسي لباختين من استخدام الكلمة كان يعتني أساسًا بالفرق بين صوت الراوي وأصوات الشخصيات، فإن نقادًا ولغويين عدة توسّعوا في استخدام المصطلح لظواهر أدبية ولغوية أبعد كثيرًا من ذلك. ومن ثم، لا أرى غضاضة من استخدامه في قراءة تعدد المستويات اللغوية في الرواية بين الفصاحة والتعميم، أو بين المحافظة اللغوية والوقاحة. كلتا درجات هذا التعدد تتعدّد في رواية بلال فضل. فالفرق بين لغة أم البطل وأم ميمي لا شك يقدم نوعا من الكونشرتو تختفي منه أم البطل سريعًا مفسحة المجال لقاموس "أم ميمي" الذي لم أقرأ مثيلا له في وقاحته في رواية عربية حديثة من قبل. وحين تغيب أم أميمي تفسح المجال لميمي وأبيه وزوج أخته وغيرهم من صناع هذه المعزوفة الساخرة الشاخرة التي للأسف لن تجد طريقها إلى تكسير الدنيا في عالم البيست سيلر ولا منصات الجوائز وهو بالتأكيد ما يعلمه بلال فضل ولا يراهن عليه.
المستوى الآخر للبوليفونية يرتبط أكثر بأسلوب بلال عموما أكثر من كونه يخص "أم ميمي". الحقيقة أنني منذ بدأت متابعة بلال فضل من أيام "الدستور" الأولى في نهايات التسعينات نفسها، فقد ارتبط اسم بلال في ذهني بثلاث سمات أساسية هي الجرأة في النقد، واللذة في اللغة، والتنقل بحرية وأريحية بين التراث والتاريخ من ناحية، والواقع الأدبي والسياسي المعاصر من ناحية أخرى. غير أن واسطة العقد في قلب هذه السمات الثلاثة هي طريقة بلال في الجمع، داخل الجملة الواحدة أو حتى التركيب الواحد، بين أشد الألفاظ تراثية (بمعنى انفصالها عن الاستخدام اليومي المعاصر وفقدها في كثير من الأحيان لمعناها أصلا - "أسنان البخت" مثلا) وأكتر الألفاظ واقعية، بل وأقربها إلى "الوقاحة". لهذا الأداء اللغوي بلاغة خاصة هي ما يجعل من نصوص بلال منجمًا لفرص الضحك والإضحاك وفي نفس الوقت وبنفس الدرجة هي منجم عامر بفرص البكاء والإبكاء. وهذا في عيني هو الحد الفاصل بين الكوميديا (وهي فن بديع) وبين السخرية (وهي فن أبدع بكثير).
بصورة استثنائية حقًا، يتقن بلال فضل الجمع بين الجملة التي تعيد صياغة التركيب الجاهز القديم في تركيبات شديدة المعاصرة قادمة من عامية "أم ميمي"، أو تلك التي يستخدم فيها عامية "أم ميمي" في أكثر صور الإعراب كلاسيكية. نحويا، يمكن تسمية هذا بتعميم الفصيح وتفصيح العامي. بالطبع لا تنفصل هذه المفارقة اللغوية عن المفارقة الاجتماعية بين شخصية البطل وطبقته ولغته وبين شخصية كميمي وطبقته ولغته. غير أننا لو حاولنا تقصي تاريخ استخدام هذا المزيج من أجل الإضحاك والإبكاء معًا، لوجدناه في فن المقامات.
لم يكن فن المقامة بالطبع هو الشكل الكوميدي الوحيد في نثر ما قبل الحداثة العربية. لكن الأكيد أن أحد أهم مصادر الإضحاك في المقامات هو طريقة مزجها بين الفصيح واليومي، أو بدقة عملها الدائب على استخدام المفردة العامية في سياق نحوي يقوم أصلًا على إظهار علامات الإعراب وتوظيفها نحويًا. في المقامات الحديثة ربما لا يظهر هذا بوضوح في مقامات المويلحي الذي التزم بفصاحة بها كثير من المحافظة، لكنه كان المظهر الأبرز في مقامات الشاعر والمضحك الكبير بيرم التونسي. في تقديري، الذي لا تتسع المساحة لتفصيله أكثر من ذلك، أن في لغة بلال فضل وإحدى طرقه في الإضحاك أثر من لغة المقامة لا يقف فقط عند تعبيرات تجدها في السرد مثل "ترييحًا للدماغ"، "كان هجّاصًا عتيدًا"، "أن تفعل فيّ مغرزًا" أو التعبير البرادعاوي الجميل "وكأن مرمطةً لم تكن"... في الرواية الكثير والكثير من هذه النوع من التعبير، وفيه ما قصدته من تفصيح للعامية. لكن هذا الأثر يمتد إلى تعبيرات من نوع آخر يشيع فيها – للغرابة – الجناس مثل "خطله وهطله"، "الملائكية والمنائكية" "الكنف والكنيف" وغيرها الكثير. وهكذا إذا كان استخدام الأسلوب المقامي يعبر عن درجة أولى من السخرية، فإن دس هذا الأسلوب في لغة اليوم هو مستوى تالٍ من السخرية يعيدنا مجددًا إلى بوليفونية باختين.
7 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 27, 2023 10:00

April 16, 2022

محمد أبو الغيط يكتب عن مخلوقات أم ميمي

مقال جميل للكاتب محمد أبو الغيط عن رواية أم ميمي
رابط المقال على صحيفة العربي الجديد
https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D9...
في حالة حجب الموقع في بلدك يمكن قراءة المقال على هذا الرابط على الفيس بوك
https://www.facebook.com/mohamed.aboe...
9 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 16, 2022 12:53

April 14, 2022

أم ميمي بلاغ في سيرها وسلوكها

مقال مهم وجميل للروائي العراقي المتميز مرتضى كزار عن رواية أم ميمي تطرق فيها بشكل مهم إلى مسألة اللغة التي رآها البعض متجاوزة للحدود المتعارف عليها في الأدب العربي
https://almadapaper.net/view.php?cat=...
6 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 14, 2022 01:33

March 27, 2022

أم ميمي.. أزمة القراءة البريئة

سعدت واستمتعت بهذه الكتابة الجميلة عن لغة روايتي (أم ميمي) وما وصفه كاتب التدوينة بـ "محنة النقد"، شيء يفرح إنك تلاقي ناس لا تلجأ للاستسهال والمعلبات المحفوظة
نص التدوينة في هذا الرابط
http://patler55.blogspot.com/2022/02/...
شكرا للأستاذ حسام حسين وسعدت بالتعرف على مدونته الجميلة
6 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 27, 2022 16:20

January 26, 2022

أم ميمي في القائمة الطويلة للبوكر

الحمد لله، روايتي الأولى (أم ميمي) وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية والتي تنافست عليها في هذه الدورة 122 رواية من أنحاء الوطن العربي. شكرا جزيلا لرئيس لجنة التحكيم الروائي التونسي الكبير شكري المبخوت وكل أعضاء اللجنة المحترمين الذين اختاروا (أم ميمي)، وشكراً لدار المدى العراقية العريقة التي رشحت الرواية وتحمست لها منذ البداية، وأتمنى أن تصل الرواية لأكبر عدد من القراء في مصر والوطن العربي، وأن يتم السماح ببيعها في معرض القاهرة للكتاب هذا العام بعكس ما حدث في الدورة الماضية.
سأحرص على قراءة باقي الأعمال الموجودة في القائمة الطويلة، والتي استمتعت منها حتى الآن بقراءة (حكاية فرح) للصديق عز الدين شكري فشير، ورواية (رامبو الحبشي) للكاتب المتميز حجّي جابر، وطبعاً استمتعت كما سبق أن قلت بقراءة رواية (ماكيت القاهرة) لطارق إمام والتي أعتبرها هي ورواية (إخضاع الكلب) لأحمد الفخراني من أفضل الأعمال الروائية التي قرأتها منذ سنين، ومن دواعي الفشخرة إن روايتي الأولى موجودة في قائمة واحدة مع روايات متميزة على رأسها رواية طارق إمام والتي أعتقد أنها تستحق الفوز بالجائزة عن جدارة.
شكراً لكل الأعزاء الذين دعموا (أم ميمي) في ظل تعتيم غريب عليها له حكايات تصلح للتندر، والذين حرصوا على اقتنائها برغم صعوبات الشحن، والذين كتبوا عنها بحب أو نقدوها بقسوة وطبعا الذين أهدوها أو سلّفوها لغيرهم
https://www.arabicfiction.org/ar/node...
23 likes ·   •  9 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 26, 2022 08:52

November 10, 2021

أحمد ناجي يكتب عن أم ميمي في مجلة بدايات

مقال جميل للكاتب أحمد ناجي عن رواية أم ميمي في مجلة (بدايات) المرموقة، عدد المجلة متاح للتحميل، شكرا لأحمد ناجي وللكاتب الكبير أستاذنا فواز طرابلسي على حماسه للرواية ورأيه فيها
https://bidayatmag.com/node/1370
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 10, 2021 03:46

August 18, 2021

حوار مع موقع جدلية عن رواية أم ميمي

سعدت بإجراء هذا الحوار مع عمر فارس في موقع جدلية عن رواية أم ميمي وأتمنى أن يكون الحوار ممتعا ومشجعا على قراءة الرواية
https://www.jadaliyya.com/Details/43224
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 18, 2021 09:08

July 9, 2021

أم ميمي.. الفرار من جحيم العائلة

أعتز جداً بهذا المقال المهم والجميل الذي كتبه الروائي أحمد الفخراني والذي أقدر كثيراً كتابته ويعجبني تطوره من عمل لآخر، وسعيد جدا بقراءته المهمة للرواية والتي استفدت منها كثيرا
https://afakharanay81.wordpress.com/2...
5 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 09, 2021 10:45