كوثر الجهمي's Blog

August 24, 2025

الجوائز الأدبية: شرّ لا بُدّ منه

 


نحن لا نكتب لأنفسنا، علينا أولا أن نقرّ بهذه الحقيقة قبل أن ننتقل للأخرى، ولو كنا نفعل، لاحتفظنا بما نكتبه في خزائننا السرية، أو ألقينا به في أول سلة مهملات، على اعتبارنا أفرغنا ما في جعبتنا ووصلنا لمرحلة الارتياح.

الكتابة للذات هي بوحٌ، لا نسعى لأن يقرأه غيرنا، بل ربما لهذا السبب نخفيه، أو نحرقه.

أما الكتابة للأدب، كتابة مسؤولة، حتى إن كنت تكتب للترفيه، ثمة شعور بالمسؤولية، بالرغبة المُلحّة في مشاركة أحلام يقظتك، وهلاوسك، وأفكارك التي تعتقد أنها قد تغيّر قليلا من فهمك للعالم، أو فهم العالم لك ولأمثالك.

قبل النشر الورقي

خضوعًا لهذه الرغبة ننشر على السوشال ميديا وفي المدونات ونُلحّ في نشر ما نكتبه، نُلحّ في عرضه على قراء محتملين، ونرتكب بعض الحماقات، فنعرض ما كتبناه على كُتّاب محترفين، نعرف جيدًا أنهم لن يجدوا وقتًا يجازفون به على مخطوطاتنا التي على الأرجح لن تكون قد تحصلت بعد على اعتراف إحدى دور النشر.

والمجتمع الأدبي، أو فلنتوسع ولنقل المجتمع الثقافي (مع تحفظي)، لن يعترف بك ما لم تعترف بك دار نشر ذات سمعة لها شنة ورنة. ودار النشر لن تقبل مخطوطتك، لأنها لم تعجبهم، ولكنهم سيخبرونك بأنها "لا تناسب سياسة الدار".

هذا لا يعني أن قبول النشر أمر تعجيزي، فهو سيحصل في النهاية.

عيب الكتابة إلحاحها، وغرورها، فهي لا تقبل إلا أن تُنشر، وتنتشر، وأن يتحدث عنها القراء الكبار والمبتدئين، وأن تزهو على رفوف معارض الكتب، وأن يوصي بها البوكتيوبرز والبوكتوكرز، والإنستابوكرز، وهلمّ جرَّا... ولكن هذا أصعب من عملية الكتابة في ذاتها. إنجاز كتاب هو عمل منوط بالكاتب، بجهده وإخلاصه وصدقه، أما الانتشار فهذه معادلة عشوائية، لا تخضع لقوانين الطبيعة.

نعم، الانتشار لا يخضع لقوانين الطبيعة، ومن الآخر، فهو يخضع لقوانين الجوائز الأدبية، وأنا هنا لا أنتقد الجوائز، فأنا عُرِفتُ بجائزة أدبية خصّصتها دار الساقي اللبنانية للرواية الأولى، وكنت أنشر كتاباتي (قصص، مقالات، تدوينات) قبل فوزي بالجائزة بثلاث سنوات، وكنت قد راسلتُ مِنَ الوسط الثقافي من تعشّمتُ في وقتهم ولم أخرج بنتيجة، وكنتُ قد طلبتُ رأي ناقد أدبي عبثًا.. وكنتُ وكنتُ وكنت... حتى أعلنت وكالات إخبارية معروفة فوز روايتي الأولى بجائزة "مي غصوب"، وانتابتني حالة من الهلع حين ازدحم بريدي فجأة، بالمباركين والكارهين والفضوليين، وطبعًا بالصحفيين ونفر من الكُتّاب. الجائزة كانت جديدة على الساحة الأدبية، في دورتها الأولى، تحصلت على اهتمام لم أكن أتخيله، وعرفتُ فجأة الخوف من أن يقرأ لي الشخص الخطأ، فللكاتب أيضًا قُرّاء مفضّلون، وآخرون ليسوا كذلك!

بعد النشر الورقي

وانتقلتُ من مرحلة الهواة إلى المؤلفين، أي وضعتُ خطوتي الأولى على درب الاحتراف. مع تحفّظي على لفظة "احتراف".

المهمّ، ظننتُ أنني وصلت للقراء، ولكن هيهات. فالنشر ليس نهاية المطاف، النشر لا يضمن لك الوصول.

ثمّة طرق للوصل ولكنها طويلة وبحاجة إلى صبر كبير، كدعوة بعض الكتاب والمؤثرين لقراءة كتابك بإهدائهم نُسَخًا مجانية، رغم أنها طريقة غير مضمونة فمعظمهم قد يلقي بكتابك في أول درج منسي في أحسن أحواله. أو التعويل على طريق الاستمرارية والغزارة في الكتابة، وانتظار لحظة فارقة يبسم لك فيها الحظّ، وحتى هذه الطريقة غير مضمونة، فدار النشر قد تتخلى عنك إن كانت مبيعات كتابك لا تأتي بتكلفة إنتاجه. أو طريق الاعتماد على توصيات المكتبات، وخططها الترويجية إن وُجدتْ، وهذه طريق تعتمد على العلاقات بالدرجة الأولى.

في الواقع، لا شيء يضمن الوصول إلى عدد كبير من القراء، داخل الحدود وما ورائها، في وقت قياسي قصير (ما يكفي لنفاد طبعة أولى من 2000 نسخة خلال شهر مثلا أو أقل) مهما كانت جودة كتابك، اللهم إلا من خلال طريقين:

الأول: أن تكون شخصية مؤثرة، ولها وجود قويّ على منصات التواصل الاجتماعي وتملك قاعدة عريضة من المتابعين.

الثاني: أن تحصد جائزة ضخمة. ثمة الكثير من الجوائز الأدبية المخصصة للروايات والقصص، ولكن القليل فقط يحظى باهتمام وسائل الإعلام ومجتمع القُرّاء.

وبما أن مُعظم الكتاب لا يحظون بشعبية على منصات التواصل الاجتماعي، لطباعهم المتحفّظة وميولهم الانعزالية، فإن الطريق الأول يظلّ خاصًّا بفئة نادرة منهم يملكون موهبة نسميها "الكاريزما".

لعلّ هذا يُفسّر التوجه العام نحو الجوائز، رغم أنها تفعل بأعصاب الكاتب وبروحه ربما أكثر مما تفعله كل الطرق آنفة الذكر. فانتظار إعلانها عذاب، وإعلان نتائجها حين لا تكون في صالحنا جولة عذاب أخرى، ستجد نفسك فيها تصارع الشعور بالدونية، والشّكّ، وانعدام الاستحقاقية. وقد يدفع هذا بالبعض نحو الانسحاب النهائي. رغم أننا ندرك في أعماق ذواتنا أن الجوائز الأدبية ليست مقياسًا حقيقيًّا، وأنها في نهاية المطاف تعبّر عن السمة الغالبة في توجهات وطموحات أعضاء لجان التحكيم وذائقتهم، والتي قد تتفق مع ذائقة القراءة أو لا تفعل، ولهذا نجد أحيانًا كثيرة، لغطًا كبيرًا يحصل بعد إعلان جائزة ما حول العمل الفائز.

من جهتي، قررت الابتعاد التام عن المشاركة في بعض تلك الجوائز، اعتبرت أنه "مافيش نصيب معاها" ببساطة، هل هذا انسحاب تامّ؟ لا. سأظل أحاول بينما أكتب. لأن القاعدة العامة من القراء –وللأسف الشديد- لن تمنحك فرصة ما لم تكن كاتبًا جدليًّا، كاريزميًّا، أو حائزًا على جائزة أدبية ثقيلة.

وبهذه المناسبة، وختامًا، أودّ أن أتوجه بامتناني العظيم، لكلّ قارئ خاض تجربة القراءة لي، هكذا، دون أن يسمع عني من قبل، دون أن يطّلع على صفحتي ليتأكد من عدد المتابعين، ودون أن يعرف شكلي أو تفاصيل حياتي. شكرًا من القلب، لأنك تنتمي لقراء الزمن السابق للعولمة، تنتمي لقراء نجيب محفوظ (قبل نوبل)، حين كانت القراءة تجربة، مغامرة، يقبل نحوها القارئ بشغف غير آبهٍ بما سيترتب عنها.


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 24, 2025 06:04

August 21, 2025

رسالة السيدة "لا شيء"


 

وعي المرأة بدورها في المجتمع، يخضع بصورة شبه دوريّة، لحركة تشبه المدّ والجزر.

وبين ما ينبغي أن تكون عليه المرأة وبين ما لا ينبغي عليها أن تكونه، ذاك الصراع الذي تشكل في معظمه من أفكار هي في الغالب متطرفة، يُلاحظ أن السمة العامة تقترب في كل جيل نحو أحد الطرفين.

في قراءة لكتاب "اللغز الأنثوي"، من تأليف بيتي فريدان، الصادر مطلع ستينيات القرن الماضي، أثار اهتمامي حالة عدم الرضا واليأس التي سيطرت على ربات البيوت في الولايات المتحدة، بعد رحلة من الصراع النسوي، ونيل النساء كثير من الحقوق التي طالبن بها في عقود سابقة. ما حدث أمر يشبه الردّة، ففي مقابل الحركة النسوية التي دعت النساء للانخراط في سوق العمل أسوة بالرجال، تكوّنت حالة جزر، قرّرتْ فيها النساء العودة للبيوت ورعاية الأطفال، فترة إعداد الكتاب كانت الفترة التي أعقبت هذا القرار الجماعي، عندما بدأت النساء -من جديد- تتذمّر من كونها لا تعرف نفسها. وكانت بيتي فريدان إحدى هؤلاء، وأربكها كونها لم تعرف نفسها: أهي ربة بيت أم كاتبة؟ وهل الكتابة عمل حقيقي؟

بعض النساء ربات بيوت برغباتها المحضة، وبعضهنّ مضطرات لتحريمات دينية أو عرفية لدى بيئتها.

بعض النساء تعمل برغباتها المحضة، وبعضهنّ مضطرات أيضًا لضرورات مادّيّة بحتة. 

أما لو تُركتْ كل النساء لرغباتها، فأظنّ أن موجة الوقت الراهن تتجه نحو الجزر، أي العودة للبيوت. هذا من منظوري وملاحظتي الشخصية.

بالعودة إلى حالة الجَزْر الشبيهة بما أظنها في الوقت الراهن، والتي حدثت أواخر خمسينيات القرن الماضي في أمريكا وكندا، فقد وصلتْني عبر بريدي الإلكتروني هذه الرسالة اللطيفة، من إحدى المدونات التي اشتركت بها (مدونة letters of note)، هي رسالة لسيدة تُدعى بياتريس مايتلاند، أرسلتها إلى دوريس أندرسون، محررة مجلة شاتلين ذائعة الصيت في كندا عام 1960، إثر إطلاق المجلة لمسابقة "سيدة شاتلين"، وهي مسابقة سنوية لاختيار ربة المنزل الكندية المثالية.

يبدو أن السيدة بياتريس رغبتْ بشدّة في المشاركة، ولكنها اكتشفت أنه الأجدر بأمثالها التقدم إلى مسابقة السيدة "لا شيء"، ربما كانت بياتريس لا تعرف من تكون، أهي ربة منزل، أم أنها "سترونق اندبندت وومن" أضاعت طريقها! الرسالة تبيّن حجم الضغط التي تتعرض له النساء، كيف ينبغي أن يكنّ مدبّرات بيوت بارعات، ممشوقات القوام، أمهات مثاليات، طباخات ماهرات... إلخ، والأهمّ أن يقُمن بكلّ هذا بابتسامة عريضة وأناقة تامّة.

التذمر المغلّف بالسخرية في رسالتها ذكّرني بالضغط النفسي الذي يخنقني في "قروبات الأمهات" على الواتساب، والتي يقترب موسمها الآن مع اقتراب العام الدراسي.

وهذا نص رسالة بياتريس والذي تم نشره بالفعل على صفحات المجلة ولقيت رسالتها ترحيبًا واحتفاءً من قِبَل قارئات المجلة:

 

(1 نوفمبر 1961
عزيزتي المحررة،
كان أمس هو الموعد النهائي لمسابقة السيدة شاتلين، لكنني لم أشارك.

أتمنى لو أن أحدهم، يومًا ما، يُجري مسابقةً لـ"سيدة لا شيء"! امرأةٌ ليست مُدبّرة منزلٍ مثالية، ولا أمًّا لا تشوبها شائبة، ولا مضيفةٌ فاتنة، ولا زوجةً حنونة، ولا خادمةً للمجتمع. إلى جانب كونها فاتنةً كعارضة أزياء، وموهوبةً كنجمةٍ في برودواي، وفاضلةً كقديسة.

لقد درستُ استبيانك بعناية، لكن إجاباتي غير كافية إطلاقًا. بدايةً، مظهري مُرهقٌ للغاية. أعاني من زيادة الوزن، وجسمٌ مُقوّس، وساقاي مُنحنيتان. ونتيجةً لذلك، ولأنني لا أملك الكثير لأُنجزه، لا أُكلف نفسي عناء العمل، بل أرتدي بنطالًا قديمًا مريحًا ودافئًا.

أما بالنسبة للأعمال المنزلية، فالفشل فيها مُمكن أيضًا، فأنا مُدبرة منزل سيئة. إذا شعرتُ برغبة في الخياطة، أو النوم، أو كتابة رسالة، كما حدث هذا الصباح، فعلى المنزل أن ينتظر.

هل تريدين التسلية؟ نادرًا جدًا. زوجي ليس اجتماعيًا، لذا أي شيء يكون عفويًا مع الأصدقاء المقربين. لعبة ورق أو مجرد حديث مع بعض أكواب البيرة. لا طعام فاخر، ولا مشروبات، ولا ترفيه.

وجبات؟ نفضل وجبات اللحم والبطاطس والخضراوات البسيطة دون إضافات. في أعياد الميلاد، يختار أطفالنا العشاء. ما هي قائمة الطعام؟ عادةً ما تكون الهامبرغر ورقائق البطاطس. إذا أعددتُ وجبة فاخرة من مجلة، فسيشعرني أطفالي بأنهم قد تسمموا! لا يمكنني الفوز هنا.


الديكور عبارة عن متجر خردة إنجليزي أوروبي متوسط، وخاصة عندما يبدأ الأطفال في أداء واجباتهم المدرسية.

أنشطة مجتمعية؟ لطالما انتميت إلى منظمات أخرى وعملت معها، لكنني سئمت الاجتماعات ومللتها فتركتها، اجتماعات المدرسة، حيث يجلس الناس كالقرود المحنطة، وينظرون إلى أي شخص ينهض ليقدم اقتراحًا كما لو كان من كوكب المريخ.
ما هي فلسفتي كربة منزل؟ أعتقد أنها: كوني سعيدة، لا تقلقي. افعلي ما بوسعكِ بما لديكِ وقتما تشائين. وبالتالي، لا أشعر بالمرض أبدًا، ولا أشعر بالتوتر أو الخوف.
يا لي من مسكينة. لذا، إن رغبتِ في تنظيم مسابقة لاختيار "سيدة لا شيء عام 1961"، فسأكون سعيدة بالتقديم، وربما أفوز بها بلا منازع. شكرًا لكِ على مجلتك الممتعة، وأعتذر عن إضاعة وقتكِ.)*

ختامًا، وبعيدًا عن موضوع النسوية، للإنصاف، فأنا أعتقد أن الأم التي تستحق أن تُرصد لها جائزة في وقتنا الراهن، هي الأمّ الفلسطينية، الغزاوية تحديدا، ليست في كامل أناقتها بكل تأكيد، بشرتها وجسدها يقاسيان، بطنها فارغة ونهدها كذلك، الابتسامة مرهونة بابتسامة أطفالها الجوعى، ولكنها مازالت تصنع من العدس رغيفًا، ومن التهويدة طمأنينة، ومن حضنها وطنًا. 

 

-----------------------

*الرسالة جاءت في كتاب ( كندا: صورة في الرسائل، 1800-2000) الصادر عام 2003، للكاتبة الكندية شارلوت جراي Charlotte Gray

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 21, 2025 05:41

August 9, 2025

حين تزورك الديستوبيا

 

* نُشرت هذه الشهادة بعد 6 أيام من كارثة درنة سبتمبر 2023، في ملفّ خاصّ بمجلة أخبار الأدب



ربما تُطلّ شرفة منزلك على منظر اعتدت عليه حتى بتّتتوقع محتوى شرفة الجار صباحًا في العمارة المقابلة، تتوقّع في ساعة معينة سماعصوت حصائر الدكاكين ترفع، وأصوات الباعة الجوالين تصدح، أنت تعرف جيدا ما الذيستقع عينك عليه حين تشرع ستائر نافذتك، حتى صرت لا تمعن النظر كثيرًا، بل قد تتجنبذلك، فقد اعتدت المنظر. فهل تتخيّل أن تصحو ذات صباح على سكون مخيف يدفعك نحوالشرفة، فتفاجأ بأن الشارع ليس الشارع، ولا تجد شرفة جارك المقابلة، فقط مسطحاتطينية، ومن بعيد، يلوح لك جامع كانت تحجبه عشرات العمارات والأبنية المقامة بينكما.هذا ليس ضربًا من الخيال العلمي، ليس مشهدًا افتتاحيًّا لرواية ديستوبية؛ هذا مارآه الناجون في مدينة درنة الليبية، فجر الإثنين، الحادي عشر من سبتمبر 2023، بعدليلة اختلط فيها صوت الأمطار بجريان السيول وصراخ النساء والأطفال، وقعقعة هياكل السيارات،تتخبط ببعضها وتتلعثم هي الأخرى، فتختلط أضواءها بعد انهيار منظومتها الكهربائية.

لسبب ما، كنّا نحمل نحن الليبيون، يقينًا بأن الله وقانامن الكوارث الطبيعية التي لطالما هزت عروش طمأنينة دول مجاورة أخرى، ومع الحروبالمتتالية، نشأ عندنا شعور جماعيّ غير معلن عنه، بأن نصيبنا من الكوارث، هو الحروبوالفساد السياسي، والشقاق الاجتماعي الذي نتج عنهما، أي "كوارث بشرية".

ولكننا تعلمنا الدرس، فالأرض لله، والماء لله والريحلله، ورُبّ رطوبة في بحر يبعد عنك آلاف الأميال، تعدّ لك قبرك على بخار هادئ.اعتقدنا أن الرياح العاتية ستهدأ حين تصل شواطئنا، واعتقدنا أن ما ينتظرنا مجردشوارع غارقة، وعطلة لعدة أيام حتى يتم شفط أو تبخر البحيرات الجديدة، وهذا بالفعلما حصل في مدن النصف الغربي من ليبيا، غير أن تلك الرياح استمدتْ قوتها من بحرنا،وطقسنا الحارّ، تغذتْ جيدًا، وكان موعد النصف الشرقي مع وجه آخر لم يعتادوه، وبرغمالتحذيرات التي تكفلتْ بها بعض الصفحات التي لا تتبع الدولة، ورغم التحذيراتالخجولة التي بدأنا نسمع بها (بعد خراب برقة)، لم يتم الاستعداد للكارثة كما ينبغيلها، لم تتم أي عمليات إخلاء، وكعادتنا نحن الليبيين، وكّلنا أمرنا لله، نسينا أنالأخذ بالأسباب لا يعني دائمًا أن تلزم بيتك، أحيانا ينبغي عليك أن تخرج منه، فهلالاختباء في البيوت عادة أكسبتها لنا الحروب؟

تفاصيل ما حصل علميًّا تم شرحها باستفاضة من قبلالمختصين، وتفاصيله سياسيًّا واقتصاديا واجتماعيا أيضًا، ثمّة كرة الإثم التي تُقذفمن طرف إلى آخر، ثمّة احتباس حراريّ وتغيّر مناخي، ثمة فساد إداري وبنية تحتيةمتهالكة، ثمة دولة منقسمة إلى حكومتين، واحدة يعترف بها الجسم التشريعي ولا تملكإلا الحبر الذي تطبع به قراراتها، وحكومة أخرى لا يعترف بها الجسم التشريعي فيماتمارس عملها دوليًّا، كعشيقة السرّ، تتزيّن من الخارج، فيما تخفي الخراب منالداخل. وفوق كل ذلك، ثمّة انعدام للخبرة في مواجهة كوارث بهذا الحجم.


بدأت الصدمة عند وصول الإعصار والسيول إلى مدينةالبيضاء، بعد أن تجاوزت مدينة بنغازي بأضرار متوسطة عززت من حالة الطمأنينة، إذ لمتتجاوز إسقاط بعض اللافتات، وانتزاع بعض الأشجار، وإغراق كثير من الشوارع، وأضرارفي الممتلكات، أما في البيضاء فقد بدا المشهد مختلفًا لنا، وانتابنا الشك إن كانفي الأمر خدعة حتى بدأنا نسمع عن ضحايا، وانجرافات للشوارع والأبنية، بدأت حالةالهلع رسميًّا فجر الإثنين، من درنة الزاهرة، بعد ليلة مريرة، وجد فيها سكان درنةأنفسهم وحيدون في مواجهة الموت الجماعي. ثم انتقلت إلى مدن وقرى أخرى، بعضها طُمرتماما تحت الوحل، وحين أقول تماما، فأنا أعني البيوت بساكنيها، أما ضحايا درنة فقدكان موعدهم مع الطوفان ثمّ البحر، إذ انتهى عمر السدّيْن اللذيْن يحميانها هيالواقعة على ضفتيْ وادي درنة، وانتهى معه عمر ما يزيد عن 3 آلاف نسمة، دُفن البعضتحت البيوت، فيما غرق البقية إما في مجرى الوادي أو في قاع البحر، هذا غير آلافأخرى من المفقودين.

ليس من السهل عليّ كتابة مشاعري إزاء ما حدث، مضى علىهذه النكبة غير المسبوقة في تاريخ البلاد 6 أيام، ولا نعرف بعد متى سنتعافى منها، تمتلئصفحاتنا كما امتلأت قلوبنا بالقلق، والبشرى أحيانا بأخبار الناجين، وكأننا نعيشحالة هستيريا جماعية، بين فاقد لأحبته، وآخر عاجز عن تقديم المواساة التي يظن أنهاكافية، فكيف تكون المواساة كذلك إن لم تكن بالعناق! وكيف يمكننا أن نعانق مدينةبأسرها؟

6 أيام تدحرجت فيها مشاعري وجُلّ الليبيين، بين الحزن،والغضب، والخوف، وحين أقول جلّ، فأنا أستثني بالطبع البرلمانيين والحكوميينوالوزراء وكل من تقلد أو يتقلد منصبًا في هذه البلاد المكلومة، ولو شعر أحدهم بنصفما نشعر به لقدّم استقالته فورًا.

الحزن على مصير تلك المدن وأهلها، إذ لكل قرية ومدينةخصوصية تاريخية أو اجتماعية او ثقافية، لعلّ أبرزها جامع الصحابة الذي يقابل مقبرةعددًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبور لم يحرك سكونها شيءٌ منذ الفتحالإسلامي للبلاد، حتى فجر الحادي عشر من سبتمبر 2023، إذ لم يكتفِ الفيضانبالأحياء فقط. 

الحزن على الذين نجوا بأجسادهم واكتشفوا أن أفئدتهم راحت مععائلاتهم الصغيرة والكبيرة معًا، مخلفين فجوة كبيرة في صدورهم.

والغضب على التأخر في الإمداد، والتأخر في التغطيةالإعلامية، الغضب من التجاهل العربي والدولي في الثمان وأربعين ساعة الأولى،والأكثر من كل ذلك، الغضب إزاء الفساد الذي رخّص دماء الليبيين إلى هذا الحدّ،وتسبب في تضاعف حجم الكارثة... فالكوارث الطبيعية تتضاعف إن أضفنا إليها الفسادالمالي، وتاريخ حديث جدًّا من استخدام الأسلحة الثقيلة. الغضب أيضًا على المتاجرينالسياسيين بالضحايا، فهذه فرصة مناسبة جدا للمزايدات، ولكسب انتخابات قد تأتي وقدلا تفعل.

أما الخوف، فهو من المستقبل، كيف يتخطى الناجون ما شهدوهفي تلك المدن والقرى؟ هل ستستمر هذه "الفزعة" التي هبّت لنجدة المدنالشرقية من كلّ قرى ومدن ليبيا؟ هبّة لم تشهد البلاد مثيلا لها حتى خلال أحداثالنزوح في عام 2011.

والخوف من النسيان، كلنا يعرف أن "آفّة حارتناالنسيان"، إذ جمعتْ الكارثة قلوب الليبيين المشتتة منذ أحد عشر عامًا، جمعتسواعد من كانوا يتقاتلون بالأسلحة الثقيلة منذ سنوات، بل منذ بضعة أسابيع مضت! لميعد أحد يسأل: المتوفى يتبع أي توجه سياسي أو ديني؟

والخوف أيضًا أن تمرّ كارثة بهذا الحجم دون محاسبة، دونفيضان آخر يغرق كل الأجسام السياسية والتشكيلات المسلحة التي استنزفت موارد البلادومصّت دم العباد خلال السنوات الإحدى عشر الأخيرة، الخوف من السراق ذوي ربطاتالعنق؛ تجار الأزمات، ولجان التعويض والحصر، والسياسيين وعمداء البلديات و....تطول القائمة، تطول وتطول فتتجاوز قوائم ضحايا الكارثة، بعد أن صار الناجون همالاستثناء، والقاعدة هي الموت.

لا أريد أن تبدو شهادتي كئيبة وداعية للتشاؤم، ولكنيأرجو فقط أن تكون تذكرة مستقبلية، لفئة بعينها، أولئك الذين كانوا يحملون السلاحفي وجوه أبناء عمومتهم وأنسبائهم وأصهارهم وأخوالهم؛ كيف يمكنك بعد الطوفان العظيم،وبعدما رأيت، أن تحمل السلاح مجدّدًا؟ كيف يمكنك أن تعود بيدقًا من جديد؟

------------------

** الصورة منتشرة، ولم أعرف لمن تعود حقوقها
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 09, 2025 12:50

July 23, 2024

6 رصاصات بكاتم صوت، نحو الكاتب



 العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة مبنية على مصلحة، إنّما مصلحة نبيلة، فالكاتب لا ينشر كتاباته إلا بحثًا عن قراء يعترفون بقلمه، وربما يبحث أيضًا عن بعض الدعم منهم، فالدعم المعنوي والمادي (بشراء كتبه)، يهوّن عليه رحلته التي سيستمر فيها غالبا سواء تلقى الدعم أم لا.

والقارئ، لا يُسمّى قارئًا لولا الكتب، هو إذًا بحاجة إلى كُتّاب جيّدون، وإلى أدب جيّد وصحافة جيّدة، كي تسهل رحلته، ويستمتع بها هو الآخر، يستمتع حتى إن كان ما يقرؤه مربكًا وتعيسًا، فالاستمتاع هنا هو استمتاع بالمعرفة، والمشاركة الوجدانية.

كانت ستبقى هذه العلاقة محافظة على المسافة التي تحفظ احترام كل منهما للآخر، لولا السوشال ميديا.

أزاحت السوشال ميديا تلك الهالة من الغموض التي تلف الكاتب، وعملية الكتابة، وفي الوقت الذي ينبغي أن تكون إزاحة تلك الهالة فرصة للتعرف عن قرب على الكُتّاب المفضلين، والتعبير عن مشاعر الودّ التي تجمع القارئ بالكاتب، ومشاعر الامتنان التي يحملها الكاتب لقرائه، فإنها -مثلها مثل أي شيء في هذا العالم- بوجهين، الوجه الجميل الذي ذكرته حالا، ووجه آخر قبيح، يجد فيه بعض القراء، أو يحسبون أنفسهم قراء، أمام فرصة لا تفوّت للنيل من الكاتب، أو لإحراجه أو إهانته، دون أن يبدوا حقًّا هؤلاء في موقف الذي تعمّد إحراج الكاتب أو إهانته، لا مبالين بالجهد الذي يبذله لإخراج نص ما، سواء كان وُفّق في ذلك أم لم يُوفّق، تعليقات عابرة قد لا يقف عندها أحد، إلا الكاتب المعنيّ بها، فهو يفهم تماما ما يقبع خلف السطور (لا بينها).

إليكم 6 رصاصات يطلقها بعض "القراء" على الكُتّاب، في سكون تامّ، لذا لا يُحسّ بها غالبا إلا الكاتب، ولا يلحظها بقية الناس:

الرصاصة الأولى: أن يُقرأ كلام الكاتب سطحيًّا، دون النظر للمعنى، وكأنّ اللغة تبرأتْ من المجاز والاستعارات.

الرصاصة الثانية: أن يُطلب من الكاتب نسخة مجانية، رقمية أو ورقية مع توفّر إمكانية اقتناء الكتاب من إحدى المكتبات.

الرصاصة الثالثة: أن يُقال للكاتب دومًا، خلال سنوات، وبعد كل إصدار، وفي كل منشور عن أحد كتبه: "سأحاول اقتناءه"، وكأن الأمر حقا بهذه الصعوبة. (اللهم إلا إن كانت الكتب لا تصل بأي وسيلة إلى حيث يقيم هذا القارئ).

الرصاصة الرابعة: أن يُقرأ الكتاب، أو المقال، أو القصة، وينال الإعجاب، ولا يوصى به! (كيف يساهم القارئ في قتل نصّ يحبّه!؟)

الرصاصة الخامسة: "قصتك/ روايتك مطابقة أو مشابهة تماما للرواية الفلانية"، في هذه الجملة، وإن بدا ظاهرها مدحًا، أو في أسوأ الأحوال تباهيًا بسعة القراءة والاطلاع، فما تخفيه هو هذه الرسالة: "لقد سرقت الفكرة" ، "نصك غير أصيل". رغم أن التشابه قد لا يتعدى تشابه الموضوع، وهذا أمر طبيعي، والفكرة في الإبداع تكمن في التفاصيل وأسلوب العرض وقالبه والحبكة السردية إن كان النص سرديًّا.

الرصاصة السادسة: أن تُكتب مراجعة مبنية على قراءة نصف النصّ أو أقلّ (سواء كانت مراجعة إيجابية او سلبية).

بقي أن يعرف مطلقو هذه الرصاصات السّتّة، بأنها لا تقتل كاتبًا جادًّا، مُصاب بداء الكتابة، فهو كالقط؛ بسبعة أرواح.


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 23, 2024 03:11

July 20, 2024

وِلد بلاد على مونت كارلو الدولية

 


مع ميشا الجميلة ودردشة استمتعت بها حول #ولد_بلاد على مونتكارلو الدولية، للاستماع:

https://mc-d.co/1xYi
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 20, 2024 05:33

January 24, 2024

سنوات الجري في المكان: ميّتٌ موجود، وأحياء غائبون

 


منذ بدأتُ أكتب النصوص القصصية والسرديّة،منذ بدأتُ أتعلّم أكثر وأغوص في أصول هذه الصنعة الإبداعية؛ تغيّرتْ طريقة تذوّقيللنصوص، وباتت علاقتي بالكتب تشبه علاقة المرأة بالرجل بعد سن الثلاثين؛ أقلّاندفاعًا في إطلاق الأحكام، أقلّ تهوّرًا، وأكثر دفئًا وتفهّمًا واحتواءً. القراءةبعين القارئ والكاتب معًا تُشكّل عائقًا أحيانا أمام تذوّق نصّ ما، وهذه من أعراضالحساسية التي لا بدّ أن ينتقل إليها كل كاتب في مرحلة ما من عمره الكتابي مخلّفًاالسذاجة خلفه، أو جزءًا كبيرًا منها.

أقول هذا، لأنّ المتعة رغم حضورها، فقد باتمن الصعب لها أن تقترن عندي بالدهشة أمام كتاب ما، ولا يسعني إلا الاحتفاء بكلّنشوة جديدة، اقترنت فيها متعة القراءة بألم التجربة، كيف لا أحتفي بنصّ عبقريّ!؟

"سنوات الجري في المكان"، روايةتروي قصة موت نُفّذ على عجل، وموت آخر مع وقف التنفيذ، كيف يمكن لميّت أن يكونموجودًا أكثر من الأحياء؟ كيف يغيب الأحياء ويحضر الأموات؟ ما معنى أن تموت منكنسخة ما في عالم ما مع كلّ فقد يحدث في حياتك؟

يتوقف أبطال الرواية عن الانتقال من نقطة إلىأخرى في حياتهم منذ موقعة الجمل 2 فبراير 2011، وكأن مصطفى وياسمين ويحيى ونانادخلوا لحظة موت سعد إلى تلك الفقاعة التي ظل يجري فيها هو ثلاثون يومًا بمعرضهالفني، كلّ منهم يدور في فقاعته، يحاول الخروج منها، ولكن عبثًا، مثل هامستر يدورفي دولابه سعيًا خلف تقدّم ما. وبفقدان أحدهم لحياته، يفقد كل من البقية حاسة منحواس أجسادهم، وتأخذ الرواية بقارئها في رحلة، لا بين حكاياتهم فحسب، بل رحلة فيعالم الحواسّ، يُعلن كلّ فصل عن الحاسّة التي كانت حاضرة بقوّة يومًا ما ثم غابتفجأة بعد رحيل سعد، يأتي هذا الإعلان بمقطوعات نثريّة شعرية غنيّة.

هذه الجوانب هي ما ستُشكّل الجانب الشائقوالممتع للقارئ، ولكن ثمة جانب آخر اعتبرته تحدّيًا لي، تحدي منحني فرصة اكتشافوتعلّم جديدة.

الرواية مبنية على عدة فصول، فصل لكل شخصية،تبدأ بسعد، الذي ذكرني فصله بمقدمة لرواية "10 دقائق و28 ثانية في هذا العالمالغريب"، للروائية أليف شفق، مكتوب بصوت الطاقة التي نسميها الروح، كان الفصلالافتتاحي الأروع هنا، حتى بعد ان ينتهي، ستحسّ بأن روح سعد واصلت قراءة النصّمعك، وستحتار في الفصل الأخير الذي اختير بعناية أيضًا، عمَّا إذا كنت واقعًا تحتفخّ صنعته لك نانا، نانا (نهال عبد الوهاب، أو نورا ناجي ربما!).

ورغم أن التسلسل لا يبدو مهمًّا جدا بين بقيةالفصول، فكل فصل يقدم تفسيرًا لغموض في الفصول الأخرى، ولكن كان ينبغي أن يكون الفصلالأول لسعد الذي رحل دون أن يدري بأن رحيله سيضغط على زر "إيقاف" بقيةالشخصيات، وأن يكون الفصل الأخير لنانا التي قررت أن تنتهي من هذه المعضلة، وأنتخرج نفسها والبقية من هذه الفقاعة بكشف كل شيء في كتاب.

ينتقل لسان الراوي هنا بينالـ"أنا" والـ"هو" والـ"أنت"، ويتعدى ذلك إلى فصلمكتوب بالكامل بتقنية الكتابة المسرحية، وهذا الانتقال له دواعيه وأسبابه الفنيةالتي تناسب كل شخصيّة، فلسان الراوي العليم "هو" يخصص لمصطفى، تساءلتُهل لأنه يعاني مشكلة مع الأصوات ويوشك أن يفقد سمعه، ثمّ تجيب نانا عن سؤالكلاحقًا:

"لأنه طوال عمره يسرق الحواس ويسرقالسنين ويسرق حتى كلماتك هذه، سيحكيها بصوته في روايتك وسيظهر بمظهر البطل، ربمالذلك لن تمنحيه صوتًا، سيكون فصله بالراوي العليم، لأنه على الرغم من أنه البطل(في رواية نانا)، لا يستحق أن يكون "أنا"..."

ثمّ أعود فأتذكر ما أخبر مصطفى به نفسه فيمفتتح أحد فصوله:

"صوتك الذي يسمعه الجميع ليس حقيقيًّا،صوتك مستعار يختلف عما يتردد داخل فراغ جسمك، تريد أن يسمع العالم صوتك الحقيقي،تعبئه في رسائل صوتية، تسجيلات ومقاطع فيديو ومكالمات وهتاف..."

 أماالفصل المسرحيّ فمخصّص ليحيى، الذي يعيش حياة لا تشبهه، يتنكّر في أزياء لا تليقبه، لأنه عالق في المكان.

أما نانا، فيكون فصلها بلسان"أنت"، هي تخاطب نفسها أثناء كتابتها، كما يفعل كل كاتب حين يقرر ماسيكون عليه كتابه، وكيف سيمضي فيه، وهذا الصوت هو الأصعب تقنيًّا بين الأصواتالروائية، وأنا أجده الأمتع أيضًا، لأنه يضع القارئ محلّ الشخصيّة نفسها، ويسمح لكبتقمّصها بشكل تامّ، لن تتعاطف معها، نحن لا نتعاطف مع أنفسنا، ولكن نستشعر مواضعالألم، ونحاول بصعوبة الخروج من هذه الحالة.

البقية أترك للقارئ اكتشافها، فهي رواية ميّتموجود، وأحياء غائبون حتى حين. ليست عن معركة الجمل، ليست عن الثورة وإن اتخذتهانقطة انطلاق، هي محاولة تصالح مع فكرة الموت، بأشكاله التي لا حصر لها.


1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 24, 2024 12:27

January 14, 2024

في هجاء القُرّاء!



 نتّفق عامّةً أن القارئ لا يُدعى قارئًا إلا بملازمته للكتب، بحثه عنها وحرصه على اقتنائها، هذا يفضي إلى علاقة تشبه الصداقة، تنشأ بين القارئ والكتاب، وكما قيل: خير جليس في الزمان كتابٌ.

الكتاب ينفع القارئ ولا بُدّ، يقدّم له خدمة جليلة، حتى إن كان كتابًا تافهًا، فهو على الأقل يعلّم القارئ؛ معنى أن تكون الكتابة سطحيّةً أو مبتذلةً! 

فهل في المقابل، ينفع القارئ كتابًا يقرأه؟ هذا ما لا يحدث بالضرورة، أحيانًا، عن عمدٍ أو بغير عمد، يؤذي القارئ كتابًا قرأه، ولن أتطرق هنا عن وصول هذه الأذيّة إلى مؤلف الكتاب نفسه، سنحسن الظنّ، ونتجنب الخوض في "شخصنة" العلاقة بين الكاتب والقارئ، تلك العلاقة التي يكون الكتاب فيها هو الوسيط.

طرحتُ سؤالا عبر صفحتي على الفيسبوك: متى يصبح القارئ عدوًّا للكتاب؟ كانت معظم الإجابات تجيب عن سؤال آخر: كيف يصنع الكاتبُ أعداءً لكتبه؟ إذ صبّت في خانة وضع اللوم على الكاتب، ولكني كنت أعني العلاقة المباشرة بين القارئ والكتاب، سواء نجح الكاتب في إيصال فكرته أو لم ينجح، متى يضرّ القارئُ الكتابَ الذي قرأه؟ دعنا من كون بعض الكتب بالغة السطحية، أو بالغة السذاجة او التحيّز أو المحتوى الضار، نحن هنا سنتحدث عن كتب لا إجماع حولها، نتحدث عن كتاب بالمستوى "العاديّ" أو "الممتاز" من حيث المقروئية.

وحين أكتب هذا المقال، فأنا أكتبه بصفتي قارئة أولا، وليس بصفتي كاتبة، هذا كيلا يظننّ أحدكم بيَ الظنونَ، والحالات التي سأتحدث عنها ربما كنت يومًا ما واقعة تحت تأثير إحداها، ربما يكون قارئ هذا المقال أيضًا من بينها، أو ربما مازال كذلك، ما نودّ أن يحدث، هو زيادة الوعي بنوعية القراءة التي نرجوها، لا منع القارئ من القراءة.

متى يكون الكتاب سيئ الحظ إذًا؟ يكون سيّئ الحظّ حين يقع بين يديّ أحد هؤلاء:




1. قُرّاء الـPdf، لا تفهمني عزيزي القارئ بشكل خاطئ، فالمقصود هنا أولئك الذي يعرفون جيّدًا أن الكتاب متوفر في المكتبات، ولا يكلّفون أنفسهم حتى عناء السؤال عن سعره، بل يقفزون فورًا إلى خيار واحد: هل متوفّرة منه نسخة بي دي إف؟ رغم أن سعر الكتاب "غالبًا" سيكون مساويًا لتكلفة وجبة إفطار في أحد مقاهي "الأومليت" وأخواتها، وأن مبلغًا تستثمره في كتاب تثق في جودة محتواه، أجدى من مبلغٍ تضعه في معدتك. 



2. قرّاء الحرق، أولئك الذين يتعمّدون عن سابق إصرار وترصّد حرق كل أحداث ومفاجآت الكتاب إن كان رواية، وينشرون بهمّة ومثابرة مراجعاتهم المشتعلة في كل قناة متاحة لهم، صحيفة أو صفحة، دون إشعار مطلع مراجعتهم بأنها spoiler، أي فيها حرق للأحداث، ودون أي شعور بالذنب! (هداهم الله أو باعد بيننا وبينهم)



3. قُرّاء الترند، من الجيّد أن تقرأ كتابًا حقّق شعبية ضخمة أو فاز بجائزة معتبرة، ولكن من المعيب أن تقتصر قراءاتك على هذا النوع، ومن المعيب أن تستعجل في قراءتك لهذه الكتب، بلا تفكّر أو تركيز، فقط لتلحق الترند، كي تحقق مشاهدات جيدة على يوتيوب، أو تجني كنز لايكات على فيسبوك، لأنك تظلم هذه الكتب دون وعي منك، سواء خرجت منها بتقييم إيجابي أو سلبيّ، في الحالتين ستكون فقدت متعة التمهّل الذي سيكشف لك السُّتُر والألغاز.



4. قُرّاء النوايا المبيّتة، النوايا السوداء، أسوأ القُرّاء، حين تتحول عملية االقراءة إلى مسألة معركة شخصيّة بين القارئ والكاتب، فلا تقع عينا القارئ على الجميل، بل فقط على الزلات والأخطاء، ليس ثمة عزيزي القارئ كتابًا متكاملا عدا القرآن الكريم، وما تفعله يضرّك بصفتك قارئًا محنّكا ويضر بتجربتك وبرحلتك، أكثر مما يضرّ الكاتب الذي سيجد في ركن آخر قراءً يرون الجميل فيما قدّم.



5. قراء التوقعات، يخوضون تجربة القراءة بنوايا مسبقة حول الكتاب، ثمّ حين لا يجدون ما كانوا يبحثون عنه،.... 

حسنًا، البقيّة تعرفونها! أنصحك عزيزي القارئ بألا تبدأ رحلتك بتوقعات عالية، واستمتع بها كما هي.



6. قُرّاء الإهداءات، هؤلاء القراء الجميلون، حسنوا النيّة، سيئوا الطباع، الذين يطالبون أصدقاءهم الكُتاب بنسخة مهداة، وحين تصلهم تلك النسخة موقعة بحماس من كاتبها، تُدفن فورًا في غبار ركن منسيّ من مكتبة ذلك القارئ، ربما يصوّر الإهداء ليشاركه عبر حساباته قبل أن يقوم بوأده، (سامحكم الله على كسر الخاطر! ربما هذا هو النوع الوحيد الذي عرفته بعد أن صرتُ كاتبة)


قد تكون هذه التدوينة صريحة أكثر من اللازم، خاصّة لأن كاتبتها هي مؤلفة كتب، وأنا هنا لا ألوم، إنما أكشف ما قد يغيب عنّا، أو ما قد نظنّه هيّنًا وهو في عُرف القراءة عظيم!

فالقُرّاء ليسوا بالضرورة أهل ثقافة، بل حتى أهل الثقافة ليسوا بالضرورة محسنين في إطلاق الأحكام، وليسوا بالضرورة منصفين في قراءاتهم. وحين يقابلك كتابٌ سيئ، فالأجدر بك تجاهل التحدث عنه.

وللإنصاف، ربما تكون التدوينة القادمة عن: الكُتّاب الذين يعادون كتبهم. :)

قراءات ممتعة أرجوها لكم

كوثر الجهمي

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 14, 2024 04:11

January 1, 2024

23X23

"وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (النحل - 18)
رغم المِحن التي ستبقى علامة وإشارة دالّة على العام 2023، فيضان مدن الشرق، كارثة درنة، وحرب الإبادة على غزة، فإن المتأمل لحال الدنيا يوقن بلا شكّ، أنها دار فناء، وألا عليه فيها إلا ان يكون شاكرًا ممتنًّا، على نعم الله التي تتجاوز بلاءات هذه الدنيا ومآسيها.

ولأسباب لا علاقة لها بأي عمق أو فلسفة، بل مجرد تجانس رقميّ، اخترت أن أدوّن 23 نعمة ممتنة لها في 2023، فالحمد لله لأن:
1. والديّ بخير، لا حُرمت حضنهما في هذه الدنيا2. مضى 15 عامًا بالضبط بحالة كرون مستقرة دون انتكاسات3. أُقيم أول حفل توقيع لي على الإطلاق، لرواية العقيد، في مكتبة الفرجاني، فرع ميزران.4. تصدّرتْ رواية العقيد مبيعات مكتبة الفرجاني لثلاثة أشهر متتالية5. حازت رواية العقيد على الترتيب الثاني بين الكتب العربية في متجر امازون.6. زرتُ معرض القاهرة الدولي للكتاب7. التقيتُ بمجموعة أُحبّها من الكُتّاب: أمير تاج السرّ، بثينة العيسى، تسنيم طه، عادل ابراهيم، مريم عبد العزيز، ومحمد عبد العاطي، وتحصلت على توقيعاتهم.8. أسبوع القاهرة كان الأسبوع الأجمل طيلة العام.9. جددتُ مطبخي10. بدأ مؤنس في التمهيدي، مع نقصان حجم الدراما الصباحية عن سنوات الروضة.11. تم أخيرًا تعديل بيانات صغاري في منظومة القهر (الرقم) الوطني.12. يوم ذكرى ميلادي كان مميّزًا هذا العام، بمفاجآت غير متوقعة.13. شاركتُ في أول طبعة للغرفة 211، إنتاج مؤسسة آريتي للثقافة والفنون.14. شاركت في أمسية سردية للغرفة 211 بدار الفنون.15. أمضينا أسبوعًا هادئًا في جرجيس وجربة16. حضرتُ بالصدفة معرضا فنيا ليبيا تونسيا في مول برقو جربة17. شاركتُ في كتاب "ألبوم ليبيا".18. شارك مؤمن في مخيم حلقة الأشبال على مستوى ليبيا، في مدينة الخمس، وتميّز فيه وعاد بالسلامة.19. زواج أخي الحبيب والفريد من نوعه من أحلى عروس.20. تعرّفتُ على وسائل جديدة في التعليم.21. صدر كتاب ترميم الذي شاركتُ فيه كتابةً وتحريرًا رفقة عائلة فاصلة.22. أجني محبّة تلميذاتي.23. نجحتُ في تنفيذ خطة القراءة لهذا العام
وأرجو من الله تعالى ان يكون العام 2024 عامًا فيه يُغاث الناس، وأن يكون عام إعمار لدرنة، وغزّة، وقلوب أهليهما. 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 01, 2024 12:03

December 28, 2023

أيام المعرض

 


في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنتُ أجهّز نفسي وخططي وميزانيتي لزيارة لطالما رجوتها من الله تعالى؛ إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب. لم أتصوّر منذ عام، أن حالة البهجة التي غمرتني تلك الأيام ستتحول إلى حالة حنين جارف مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لتلك الزيارة. يقترب موعد المعرض، ويخفق قلبي حزنًا، وشوقًا.حزنًا لأني أدرك جيدًا أنها كانت فرصة منّ الله بها عليّ من حيث لا أدري، وقد لا تتكرر.وشوقًا للوجوه والأماكن، شوقًا لحضن عميق تهديه القاهرة لمريديها، عميق بعمق تاريخها.للقاهرة في قلبي سحرٌ باقٍ ويتمدد فيه كلّما طال عليّ الأمد، وأنا في هذه التدوينة لن أتحدث عن القاهرة، بل عن معرضها.والمتابع للمعارض العربية قد يفهم ما أعنيه، فلستُ هنا أتحدث عن تنظيم متقن فحسب، كي يُقارن معرض القاهرة بسواه من معارض بعض الدول العربية الأخرى، التي قد تضاهيه في التنظيم والتجهيز والاستعداد.معارض الكتب ليست فقط بمساحاتها ولا بتجهيزاتها الحديثة والعصرية، ثمّة عنصر أساسي أرى انه لا يتوفر إلا في معرض القاهرة وليغفر لي بعض القراء ما سأعلنه؛ إنه القراء في مصر، نوع القراء الذين يقصدون معرض القاهرة، حجمهم، لهفتهم، تواضعهم أمام الكتب المرصوصة على الأرفف والموضوعة على الأرض لضيق المساحة على حدّ سواء، استعجالهم خوفًا من أن تفوتهم نسخ ما، حقائب السفر التي يجرجرونها كل يوم من جناح إلى آخر، مدّخرات يتم التخطيط لها قبل هذا الحدث الرائع بأشهر، ثمّ تُصرف خلال يومين أو ثلاثة بكل طيب خاطر. وأنا أرجو بكل تأكيد أن تتاح لي فرصة زيارة كل المعارض العربية، ولكني متيقّنة أن ما خلّفه سحر القاهرة في قلبي لن يزول، وسأطلب دومًا أن يتجدد، مرارا وتكرارا.

الزائر للمعرض يشعر بأنه يشارك في مهرجان عظيم، وبأنه فرد من عائلة هائلة التمّ شملها بين أجنحته.كان المعرض فرصة لي للتعرف عن قرب على شلّة الكُتّاب والقراء الذين جمعني بهم فيسبوك، ورغم ان الوقت لم يسعفني للقائهم جميعًا، ولكني ممتنة على كل لحظة شعرتُ فيها أنني في حلم جميل، صار حقيقةً. ونصيحة مني للراغبين في زيارة معرض القاهرة من خارج مصر، أنصحكم بالاطلاع على أي مجموعات فيسبوكية تخص معرض القاهرة، إذ ستجدون فيها كل المعلومات التي ستنفعكم بكل تأكيد، ولا تخجلوا من السؤال، فمريدي معرض القاهرة لن يبخلوا عليك بالمعلومة التامة والمساعدة، أيا كان البلد الذي جئت منه. هم هكذا، جينيًّا، ولا تسأل من أين يجيئون بكل هذا الودّ والترحاب، فهم في النهاية أولاد "أم الدنيا"!
 •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on December 28, 2023 03:44

July 26, 2023

الانضمام إلى عُصبة المؤلفين #3



الانضمام إلى عُصبة المؤلفين*

📚 -منشور #3 الأخير-.لم أتّبع خريطة واضحة، رحلتي رسمتْ خريطتها بنفسها، وكانت في الاتجاه الذي وصل بي إلى هذه المرحلة بتوفيق من الله: ثلاث كتب منشورة (روايتان ومجموعة قصصية)، كتاب مقالي رقميّ، وكتاب رابع قيد الطباعة (رواية)، ووجود أعتزّ به ضمن قائمة أكثر الكتاب مبيعًا لدى دار الفرجاني. .تعلّمتُ بالطريقة الصعبة وبالمحاولة والخطأ في مرات عديدة، غير أني استطعتُ في معظمها ان أحلّ العقدة، وأواصل سيري.بعد كتابيْن، جرّبتُ مشاركة تجربتي من خلال ورشة "كتابة الرواية الأولى"، وأعتقد أنها كانت ورشة موفّقة مع مجموعة متألقة من الشغوفين بالكتابة الروائية، غير أني الآن، وبعد عامين على تلك الورشة، بتُّ أنظر للأمور من زاوية أكثر انفراجًا (العرق الهندسي عذرًا!)، أي أنّي أدركتُ أن عمليّة تأليف رواية أولى، في الواقع، لم تبدأ مع الفكرة، ولم تبدأ مع الملخّص، بل بدأت قبل ذلك. ورغم بعض الطلبات التي تأتيني بين الحين والآخر بإعادتها، فقد كنت أشعر أن ثمّة ما ينقصها..يقف كثير من الكتّاب الشغوفين عند أول عقدة، ويعتقد أنه غير مؤهل، أو أنه قد لا يمتلك ما نسميه "الموهبة" لينجز روايته الأولى، ويظنّ أنها مرحلة ينبغي عليه أن يطويها، دون أن يعي تمامًا، أن التجربة الذاتية لجميع كُتّابه المفضلين، وإن بدت مختلفة في تفاصيلها، فثمة سرًّا، أو فلنقل سحرًا يجمعها، وهذا السحر قابل للتعلّم..ومن علّم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وغادة السمان وغسان كنفاني.. إلخ؟ حسنًا فلنقل أنهم تعلموا بالطريقة الصعبة، ووصلوا بغريزتهم إلى تلك الوصفة السحرية، هذا عن الأدباء العرب، أما بالنسبة إلى غيرهم، فإن الكتابة الإبداعية تُدرّس منذ النصف الأول من القرن العشرين (أو ربما قبل ذلك) في كبرى الجامعات الغربية، هم يعرفون جيّدًا أنها أمر قابل للتعلم، شريطة توفّر عنصر الصبر، كعنصر أساسيّ في الخلطة..ولِمَ لا يتعلّم شباب هذه الأيام أيضًا بالغريزة؟لأننا؛ جيل الإنترنت، أُصبنا بداء السرعة والاستعجال، وهو داء معادي للفنّ، على الأقل حين نتحدث عن فنّ الكتابة السرديّة..لذا، ومن خلال تجربتي الذاتية وقراءاتي، ومن خلال أخطائي بشكل خاصّ، أفكّر في إعداد دورة تدريبية متكاملة في "صناعة المؤلف"، الروائي على وجه التحديد، وهي موجّهة للكُتّاب الناشئين الذين لم يسبق لهم النشر الورقي، وحرصًا مني ألا أغفل أي جانب من جوانبها، أرجو من هؤلاء الكُتّاب المشاركة في ملء هذا الاستبيان، الذي يحاول فهم ما يبحثون عنه أو ما يتوقفون عنده، والأسلوب الذي يناسبهم لدورة تدريبية كهذه:https://forms.gle/xhFD3PgfcsnGMNPQ7امتناني الشديد، راجية أن تلقى تجربتي قبولًا، بل سأمنح نفسي أملًا وأقول: راجيةً أن تلقى من تلهمه، وتعينه.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 26, 2023 10:54