محمد ربيع's Blog
September 10, 2014
أحمال
تعجَّب الضابط في البداية مما حدث، فللقصر مدخل واحد، يقع في السور الشمالي. وزاد عجبه حينما فتح الأمير باب غرفة ملاصقة للسور الخلفي ودخلها. في الداخل، احتدَّ الضابط عليه، أدرك أنه خُدع، وأنه لم يتم مهمته بنجاح، هدَّده بطرده بالقوة، لكن الأمير ادَّعى أن هذه الغرفة ليست جزءًا من القصر، وهو لا يملكها، مع ذلك يستطيع البقاء والعيش فيها. قال له إن والده تخلَّى عنها منذ مدة طويلة، أخبره أن الشيخ أبو النور مدفون فيها. أشار الأمير إلى هيكل في منتصف الحجرة مغطَّى بسجاد رقيق: ألا ترى القبر؟ ثم أدار سبابته في هواء الغرفة: هل ستأمِّمون ضريحًا؟
في ذلك اليوم، بحث الضابط عن خريطة القصر في الملف المُعطى له، تأمَّلها مرارًا أثناء كتابة تقريره، ذكر الضابط في تقريره أن الأمير قد غادر القصر بالفعل، وأن المهمة قد تمَّت على ما يرام، ولم يذكر حكاية الضريح أبدًا، لم يكن هذا تقصيرًا منه، ولم يكن تواطؤًا. أرفق الضابط خريطة القصر مع التقرير، وهكذا اطمئن لدقة تقريره أخيرًا، وأيقن أنه أتم مهمته على أكمل وجه.
تُظهر الخريطة مبنى القصر وحدوده. وفي السور الجنوبي يظهر جزء صغير مقتطع من السور، لا ينتمي للقصر، بل يبدو وكأنه جزء من الشارع، مكتوب عليه بخط دقيق: ضريح الشيخ أبو النور.
***
لا زلت أذكر أول مرة تجرأتُ وخالفتُ فيها أوامر أمِّي. قالت: لا تشرب عصير القصب من الشارع، ملوَّث، ستمرض حتمًا إذا شربتَه.
أطعتُ هذا الأمر لمدة طويلة، وكنت مقتنعًا بأني سأمرض إذا ما شربته، ولا أعرف ما الذي دفعني لشرب الكوب الأول. خصوصًا أنَّ برودة ذلك اليوم لم تكن دافعًا قويًا. كنت قد قطفت ياسمينة من الفرع المتدلِّي على الرصيف، وشاهدت امرأة تقف أمام نافذة الضريح الصغيرة، متعلقةً بالقضبان الرأسية للنافذة على الجانب الآخر من الشارع. وكعادة مريدي الشيخ أبو النور، كانت تهمس له بحاجتها، همس المحبين. أهذا ولهٌ أم طلب؟ ازداد اقتراب المرأة من النافذة حتى التصقت بها تمامًا، كنت أعلم أنها تبكي، لكني لم أرَها باكيةً. ولما أتمَّتْ طلبها واعترفتْ بولهها، استدارت إليَّ وهي لا تعلم أني أراقبها والتقت أعيننا، ولا ريب أن النظرة دامت للحظة لكنها حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد؛ وقفت المرأة بعينين رطبتين أمام النافذة التي تخفي ما في الداخل، وأمامها الجذع الأفقيّ لشجرة الضريح.
امتد الجذع خارج التراب رأسيًا، فقط لمسافة قصيرة، ثم انحرف بحدة لينمو في اتجاه أفقي، ثم عاد لينمو مائلًا، لينطلق ويتفرَّع فوق الضريح، وفوق الشارع كله.
تحرَّكت خجلًا من تلاقي الأعين، وبعد عدة أمتار وقفت أمام محل العصير. طلبت كوبًا وشربته متمهِّلًا على غير عادة الناس، ورائحة الياسمين في أنفي، والمرأة الولهانة في عيني.
سأمر بعد ذلك اليوم مرات عديدة ماشيًا في شارع الشيخ أبو النور، ولسنوات قادمة سأرى ضريحه وشجرته كثيرًا، وسأشرب القصب ورائحة الياسمين.
***
مشت صبرية وكأنها تطفو فوق الأرض، تحمل صينية الطعام للأمير، في مستقره الجديد داخل الضريح، جلس الأمير ليقرأ ويشغِّل الموسيقى. في الصباح يفتح الباب المطل على الحديقة، ويجلس في الداخل. يتابع ما يدور بين الأشجار، يتابع العاملين بالقصر، يراهم ولا يرونه. كان لا يزال يأمل في العودة إلى القصر مرة أخرى.
في اليوم الأول، لمَّا دخلت صبرية الغرفة بعد طفوها، فكر الأمير: ستجلس بين ذراعيّ. وفكرت هي: سأقبّله. بدا الأمر حتميًا، وأصبح كل كلام قد يبرر ما سيحدث سخيفًا. ما أسقط الأمير على الأرض صريعًا كانت الأنامل الدقيقة، تلك التي أحاطت بالكوب وسلَّمته له. فكَّر الأمير: ربما تنكسر وتتشظى إذا ما ضغطت عليها. لا بد من الإحاطة بتلك الأنامل. ثم تم الإجهاز على الرجل تمامًا، حينما مشت صبرية عائدة إلى القصر، حرة الذراعين. مشت وهي تعلم أن كل شيء زائل وأن عِرقًا جديدًا سيتضافر مع عِرقيها السودانيّ والصوماليّ.
تغلّب الطيش الحالي على الإحساس بالذنب المستقبليّ، وبدا لهما أن الحياة لن تدوم إلا ليوم.
***
كانت رحلة يومية؛ المشي من أول شارع أبو النور حتى آخره، ثم في شوارع أخرى حتى أصل إلى بيتي. ولا أعلم كيف حدث هذا؛ لكن تفاصيل المشي في الشوارع الأخرى غائبة عني، بينما تفاصيل شارع أبو النور حاضرة في ذاكرتي بقوة. حتى اليوم، وأنا أكتب هذا الكلام، أتذكر كل شيء.
لن أنسى أبدًا أوَّل مشاهدة، أم أنها أوَّل رؤيا؟ على باب المدرسة وفي وسط زحام الخروج، سمعتُ أن المترو قد دهس للتو زميلًا لنا. أسرعنا جميعًا لنرى الجثة، تحلقنا حولها، ورأيناه. لكني لم أفهم قط ما حدث، تفرقت أعضاء الفتى في دائرة صغيرة جدًا، وتخيلت أن أحدهم جمعها وكوَّن منها كومة واحدة، ثم وجدت واحدًا من الواقفين يقوم بحجب الجثة بأوراق الصحف. وقفت قليلًا أحدِّق في تل اللحم المغطَّى ثم مشيت متجهًا إلى البيت.
هناك، في منتصف شارع أبو النور، وعلى الجزء الأفقي من فرع الشجرة الماثلة أمام الضريح، شاهدت لفافة قماشية بيضاء تحوي ما ظننته رضيعًا. عندما اقتربت، شاهدت وجه الطفل ناصع البياض، تمامًا كالقماش الذي يحيطه، كان نائمًا في وضع جنينيّ وكأنه لم يولد بعد. كان المشهد ككل أغرب من مشهد الأوصال المكوَّمة الذي شاهدته للتو. وفكرتُ، كيف يترك أحدهم طفله هكذا بلا حماية. ورغم الغرابة البادية، إلا أن حميمية ارتبطت بالمشهد أيضًا. وقتها لم أكن أعرف معنى الكلمة، لكن الشعور كان جليًا.
للحظة، ظننت أن جذع الشجرة لم يكن مهدًا للطفل كما هو ظاهر، بل هو قبر له.
***
صحا الأمير وآلام بسيطة تشغل بطنه. ومع آخر اليوم ازداد الألم كثيرًا، وفي اليوم التالي تذكَّر أنه لم يتبول ليومين أو ثلاثة.
عاد الأمير من المستشفى محطمًا، كانوا قد أزالوا جزءًا من جسده في عملية مؤلمة. ظل يهذي أثناء إفاقته ويفكِّر في ما أودعه في جسد صبرية.
مرَّت أيام وهو جالس في غرفة الضريح، لابسًا جلبابًا مخططًا لا يبدِّله. يقوم ليتمشَّى قليلًا في الحديقة ثم يعود وقد أٌنهك جسده تمامًا. سرح بخياله متأملًا ما حوله معظم الوقت. قل طعامه وشرابه ثم عافهما تمامًا.
انهارت دفاعات جسده مرة واحدة، فعانى من حمى استمرت ليومين. قام بعدها هزيلًا لا يكاد يقف. ثم صحا من في القصر ذات يوم ليكتشفوا غيابه الكامل.
كانت ملابسه واسطواناته وكتبه في مكانها، فظن البعض أنه ذهب ليتمشى حول القصر أو في الشارع الخلفي. انتظروا حتى حل الليل. لكنه لم يعد. كان برد فبراير في قمته.
في صبيحة اليوم التالي لاحظ أحد الحراس أن هناك تجمهرًا صغيرًا خلف القصر. أمام نافذة الضريح، كان الأمير يتدلَّى مشنوقًا من أحد فروع الشجرة. أخفت الأغصان جثته ليوم كامل واكتشفه أحد المارة بالمصادفة. انتفخ جلبابه المخطَّط بالهواء ثم التصق بجسده العاري بفعل الريح، فظهر جسده للجميع شديد النحول متخشبًا.
مرَّ وقت وقت طويل قبل أن ينزلوا الجسد المتدلي من الفرع. أسندوه لوهلة على جذع الشجرة الأفقيّ ثم أدخلوه إلى القصر لتهيئته للدفن.
***
هذه أيامٌ عظيمة، أيامُ المدرسة، حمل همِّي آخرون، وظلَّت كتفاي حرتين بلا أحمال. كنت كيوسف، بطل فيلم "الكيت كات"، أطير ولا ألمس الأرض بقدمي.
قالي لي أبي ذات مرة: استمتع قبل أن تَرفعَ الأحمال. كنت وقتها قد أدركت ما يرهق كتفيه. لكن قوله هذا أشعرني بالذنب؛ كيف أستمتع وهو مرهق هكذا؟ لم أكن لأتحمَّل ذرة مما يتحمَّل، وكان هو حريصًا على إبعادنا عن كل هم. أعلم أنه تلقَّى همومًا كثيرةً فجأة. أثناء شبابه وخلال شهور قليلة وجد نفسه راعيًا لبيت اعتاد أن يكون أحد أفراده. كنت أتمنى لو أنه أشركني في همه، أولًا كي أعتاد القادم، وثانيًا كي يتخفَّف قليلًا مما يرهقه دومًا، لكنه لم يفعل. كان أبي يعلم أني لم أكن جديرًا بأية أحمال.
لكن لا مفر. لمَّا بلغت الثلاثين كانت الأحمال قد تراكمت بالفعل، ولم أعد ألمس الأرض بقدمي أثناء المشي، بل صرت لا أرفعها من فرط الثقل. حفرت قدماي بصمات في كل طريق مشيته، حتى شارع أبو النور لم يخلُ منها. كنت أتمنى أن أنتهي وقد مشيت بلا بصمات، وبلا أحمال.
لكن ما كان كان.
***
بسرعة بالغة انتشر الخبر: تشارك الأمير عبد المنعم وصبرية الفراش، وانتحر الرجل لشدة إحساسه بالذنب، وهي الآن تحمل جنينه ولا تعرف كيف تتصرَّف.
انتشار سريع حاسم. وبعد يومين من الكلام، بدا الخبر وكأنه في إطار عمل انتقامي موجَّه إليها، جارة حسودة، زميلة قبيحة، أو ربما رجل آخر اشتهاها سابقًا وصدَّته. أحدهم نشر الخبر الغريب، حكاه للجميع، حكاه لمن في القصر، ولبوابي المباني المحيطة بالقصر، وللجيران، وللمارة، وللباعة الجائلين، فعل يوحي بالشماتة ولا يتطلع للإخبار. ولما سُألت صبرية عمَّا حدث صمتت.
هذا صمت مزلزل، هذا صمت الموافقة. قالوا: سرقتها السكين. لم تعتد الكذب. تزني ولا تكذب.
أحاط الرعب بالقصر وبالشارع أول الأمر، ثم لما ردَّت بالصمت استراح الجميع، على الأقل، لم يظلم أحد صبرية بالكلام، والكلام أظلم من الفعل. هي فعلت ذلك وصمتت موافقة، وبقى الجميع في انتظار ما سيحدث، تسعة أشهر ونرى النتيجة، لا أكثر من تسعة.
قالوا: ستهرب حتمًا. ستبقى. ثم تساخف الشباب وأخذوا يسخرون مما حدث وسيحدث. قالوا: الأمير أحب الخادمة. ستلد أميرًا صغيرًا. بل ستلد ملكًا يحكم البلاد مرة أخرى. ستلد أميرًا، أو ستلد خادمةً. قالوا: بطنها ينتفخ. تمشي بتثاقل.
وبعد هدوء كل تلك العواصف، ومع انشغال الناس بأمور أخرى، قال القليل: لنتابع بطنها، علّنا نظلمها. لكنهم تذكروا صمتها فصمتوا.
***
رقد أبي مريضًا في مستشفى قريب، كان السكون قد أتم زحفه على جسده وأيقن الجميع أن الوضع سينتهي خلال وقت قصير، ولا سبيل للعودة إلى الوراء. هربت من السكون، ومشيت خارج المستشفى حتى وصلت لأول شارع أبو النور. كان أذان الفجر يسري في الهواء، والنسمات الصيفية ترافقه، عندما رأيت الطفل مرة أخرى. كانت هذه ثاني رؤيا للرضيع وقد مرَّ على الأولى سنوات عديدة. بخلاف المرة الأولى، كان الرضيع جالسًا على جذع الشجرة الأفقيّ، يظهر بياض وجهه واضحًا في الظلام، يحوطه الغطاء الأبيض. لكني رأيته هذه المرة متحرِّكًا يضرب الهواء بذراعيه ضرباتِ من يحاول الفرار، من يلوِّح لأبيه لكي يحمله، من يطرد موتًا يلاحقه. على نافذة الضريح، كانت شموعٌ قليلة تقاوم النسمات، تحاول أن تظل منيرة. تابعت المشي، وضربات الرضيع تسيطر عليَّ. أخذتني رائحة الياسمين على مهل، ثم مررت على دكان العصير، وعلى الرغم من أنه كان مغلقًا، إلا أن الرطوبة المشبَّعة برائحة القصب كانت ملحوظة، تتكاثف على وجهي، استسلمت لها كما اعتدت، وتابعت الهرب.
***
بعد عام من الانتحار، تذكر الناس فجأة الحكاية، تذكَّروا أن صبرية لا زالت حاضرة وسطهم، وأنها لم تلد، ولم تغب عنهم لتجهض. كانوا قد تابعوا خلال الأشهر السابقة انتفاخًا في بطنها، فتأكدوا من الحمل، ثم لاحظوا أن عامًا مر عليهم والانتفاخ لا يزال موجودًا. تحيَّر الجميع.
في حجرتها الصغيرة صارحتها ثلاث نسوة بما يضمرن: سنرى بطنك، لا مفر من ذلك. قالت آمنة: لا نفهم ما يحدث، ومللنا الكلام الفارغ في الخارج، ولا بد من الوصول للنهاية. كانت صبرية قد أصبحت بطيئة الحركة بالفعل، بدا الانتفاخ ظاهرًا من تحت الجلباب، كل مشاهد الحمل كانت ظاهرة بقوة، لكن بلا مولود. رفعت صبرية جلبابها ببطء، كشفت عن بطنها، وبعد توقُّف قصير خلعت الجلباب. رأى الجميع الانتفاخ حقيقةً واضحةً بلا مداولات. لكنه كان أبعد ما يكون عن الحمل، انتفاخ عرضي يعلو البطن، ويقترب من الثديين. قالت آمنة: ليس حملًا، هذا ورم.
قالت النسوة: صبرية مريضة، بطنها متورِّم ولا نعلم سببًا لما حدث. ولا صحة لما قيل عن الأمير وسبب انتحاره. كان الكلام قاطعًا هذه المرة. مر العام والناس يتقلبون من فرط اختلاط المشاعر، فلما أتت البراءة اطمأن الجميع.
انتهى الأمر بشهادة النسوة الثلاث، قالت آمنة: من سيذكر اسمها بعد ذلك سنقطع لسانه. تذكر الجميع صمت صبرية فصمتوا.
***
في بداية مرضه اعتاد أبي أن يردِّد: اللهم خفِّف عني. ثم علم أن الخفة وسكونه لن يتآلفا، بعدها طغى المجاز على كلامه. ناداني في يوم اكتمل فيه يأسه. قال: ارفع الأخشاب عني. تحيَّرت ولم أفهمه، كان راقدًا كعادته، أخبرته أن هذا ثقل المرض، ولا أخشاب. أشار بعينيه إلى غطائه القماشي: ارفع لوح الخشب هذا. رفعت الغطاء محاولًا إرضاءه، تابعه بعينيه ثم سكنتا قليلًا مختبرًا فرق الضغط على جسده، ولا بد أنه لم يشعر بأي فرق فأغمض عينيه مستسلمًا.
ثم قلَّ كلامه كثيرًا. قلتُ: أُشغِّل عبد الوهاب؟ فرد باقتضاب: لا. قالت أختي: كوب من الشاي؟ فرد بنزق: كرهته. قلتُ بعد مدة: أُشغل شادية؟ فلم يرد عليَّ، واكتفى بتحريك رأسه.
أدعيت الجَلَد لكني كنت أهرب مع كل فرصة متاحة. ورأيت أن أحماله الحياتية قد زالت وحل محلها ثقل وهميّ، وحزنت لأن الواحد لن يخلو من الهموم حتى لو سكن وصمت. اكتمل صمتنا مع اكتمال سكونه، لكن أبرع تعليق قاله صديق عمره لما زاره ورآه ساكنًا صامتًا. قال: يا خسارة.
***
أمرت ثلاثون سنة؟ أربعون؟ في كل سنة يموت واحد، راح حراس المباني، والبوابون، والباعة الجائلون، وسعاة البريد، ومحصلو الكهرباء. ثم راحت الجارات، وراح العاملون في القصر، وحديقة القصر، ولم يتبقَّ في النهاية إلا صبرية وآمنة.
عاشت آمنة مع ابنها في بيت قديم في العباسية، رقدت على سريرها بلا حركة، لكن ذهنها كان صاحيًا. في يومها الأخير، أخذت تنادي صبرية. أشارت إلى ولدها، وأمرته بإحضارها فورًا، هذه الساعة بلا تأخير، قالت: هذا آخر ما أريد. ثم أخذت تناديها مرة أخرى. أتت صبرية متعجِّلة، لا تعرف ما يحدث سوى أنّ آمنةً تُحتضر وأن ابنها المهرول يود أن ينفذ رغبتها الأخيرة بأي ثمن.
جلست صبرية على طرف الفراش. حدَّقت آمنة فيها قليلًا سألتها عن حالها، عمَّا حدث، أين ذهبتْ، كيف عاشتْ. سألتها عن من سافر ولم يعد. عن الراحلين. ثم أطالت الأسئلة عنهم. كادت الغيوم أن تختفي. وعند حد معين من الأسئلة توقَّفت. قالت: أنا أموت، أتمِّي الأمر.
في تلك الليلة، وقفت صبرية أمام شباك الضريح لأول مرة منذ سنين عديدة، تعلَّقت بالقضبان وهي خجلة، بكت، واعتذرت عمَّا حدث في حضرة أبو النور. وفي اليوم التالي دخلت إلى مستشفى قريب. صعدت إلى عيادة الطبيب، استلقت على سرير المرضى دون أن تكلمه، قالت: أرحني. فسألها الطبيب عن شكواها.
***
أتذكَّر أيضًا يوم وفاتي؛ أسرعت سيارة الإسعاف لتنقلني من منزلي إلى مستشفى لم أعلمها، وجد السائق أن الشارع الرئيسي مزدحم، فقرر اختصار الطريق وقاد سيارته في شارع أبو النور. كنت ممدَّدًا في السيارة، جذعي مائل مع ميل السرير، ونظري متجه نحو نافذتها، عندما لمحت الطفل للمرة الثالثة، هذه المرة كان قد نما قليلًا، كان يتعلَّم المشي، يخطو خطوات خرقاء، يرافقه رجل طويل، يلبس جلبابًا بيتيًا مخططًا، يمسك بيد الطفل بسعادة، ويتمهَّل أثناء مشيه، يثني ركبتيه قليلًا، يحني رأسه، يقترب من الطفل، ثم يجاريه في خَرَقه، فيفتعل التخبط. ركل الطفل الهواء بطيش مضحك، واستمرَّت ذراعه الحرة في الحركة العشوائية بكل تهوُّر، ثم أوشك على التعثُّر والسقوط. كنت سأضحك حتمًا لو رأيته يسقط بعد كل هذه الشقاوة.
غاب عني كل إحساس بالخطر في تلك اللحظة، لم أكن أعلم أني سأموت بعد دقائق. على الرغم من مرضي الطويل، كان موتي مفاجئًا. حسنًا، الآن سأفترض سببًا لفرحة الطفل الساذجة، سبب سيرضيني حتمًا؛ ربما لأن الطفل علم أني سأموت قريبًا، قرَّر أن يقوم بحركاته الشقية تلك، أراد أن يلفت نظري بعيدًا عما سيحدث بعد دقائق، أراد أن يقول إنّ القادم أفضل. أو ربما، وهو سبب منطقيّ ويتوافق مع حدود معرفتي؛ أراد الطفل أن يتباهى بالرجل ذي الجلباب الذي يرافقه، وأن يلفت نظره.
***
أمام النافذة ترتفع شجرة الضريح كصوفيّ آخر. انحنى جذعها استعدادًا لتلقِّي ما بيد صبرية. فوضعت اللفافة التي تحوي جنينها على الجذع. كان الطبيب ذا يد خفيفة، جرَّاح لطيف، أخرج جنين صبرية الميت بلا أضرار تقريبًا. قبل العملية، شرح لها ما عرفته منذ سنين عديدة: توقَّفت البويضة قبل أن تصل إلى الرحم، ونمت حتى أصبحت جنينًا صغيرًا، مات في أشهره الأولى. ولما أفاقت، أراها كتلة الجنين المتكلِّسة، أراد تعزيتها على ما ظنه حزناً. قال: ربما لو عاش لتغيَّرت أمور.
لمست صبرية قضبان النافذة، وألقت النظرة الأخيرة على الجنين المتكلِّس في قبره الخشبي.
قصر السراب - نوفمبر 2012
كُتبت في ورشة جائزة الرواية العربية في أبو ظبي
January 13, 2014
عام التنين... لغة الاستبداد - محمد عمر جنادي
تنطلق " عام التنين"، الرواية الثانية لمحمد ربيع، من مفهوم غير قاصر عن السياسي، تراه "الطريقة التي تنتظم بها حياتنا الاجتماعية"، وعلاقات السلطة التي يتضمنها ذلك، كما تري الجمالي مرتبطا بمحدداته الاجتماعية، لكن الرواية تباعد بين هذا الارتباط، وبين الانعكاس المرآوي المباشر والتقليدي في علاقة الاجتماعي بالأدب.
في الرواية، تبدو التيمات أو العلامات الكبري متماثلة مع العديد من النصوص الروائية العربية في تصويرها للدكتاتورية والاستبداد.( كما تتبعها الروائي السوري "نبيل سليمان" لدي روائيين مثل: "حيدر حيدر"، "سالم حميش"، "واسيني الأعرج"، "خيري الذهبي"، وغيرهم..). فمن "الزمن الخاص" (عام التنين) إلي لعبة "التأثيل والتنسيب" ( الحديث في الرواية عن أن "مبارك" أحد أحفاد الفرعون "تحتمس الثالث")، إلي لعبة "الأسماء والألقاب"( ملكا منوفيا مختارا.. (257)، إلي "التأله" و "التحوين" (التنين مجازا) و السخرية .
لا يقدم النص الروائي سبرا لكواليس السلطة السياسية، أو سردا للتفاصيل والمؤمرات، كروايات "عزالدين شكري" مثلا، أو كأفلام مثل "الكاتب الشبح" لرومان بولانسكي، و"مرشح مانشوريان" لوناثان ديم، في محاولات تلك الأعمال فضح الآليات الاجرائية لدي القوي المهيمنة ومتخذي القرار، في قالب من الحبكة البوليسية. ولا يقدم سردية معمقة وكاشفة عن شخصية الدكتاتور وأبعادها النفسية والانسانية المركبة كما أنجزتها رواية أمريكا اللاتينية.
إذا، ما الذي تقدمه "عام التنين"؟
يراوح النص بين الفانتازيا والمباشرة ، مموها للحدود بين التاريخي والواقعي والمتخيل، ومنتجا لنمط خاص من المعرفة.
تطرح الرواية سؤالها المهيمن (السلطة / السياسة / الاستبداد ) في ثنايا خطاب روائي قد تبدو طبيعته مباشرة أو رسالية، لكنها طبيعة تشتبك مع الحبكة الفريدة للرواية، والتي تعمد إلي التغريب وانتهاك الترتيب الشكلي المتوقع للأحداث( بالرغم من التطور التعاقبي النهائي للخطين الأساسيين في الرواية). تنشيء الرواية رابطة توتر بين الواقعي والخيالي، حيث الفانتازيا استعارة عن مفارقات الواقع الحادة، فالعلاقة "الواقعية" بين المواطن والدولة تتحدد بعدد من الأوراق الثبوتية المختومة بختم النسر، والحدث الروائي الفانتازي هو نجاح "نعيم" في اصدار شهادة وفاته وهو علي قيد الحياة،لكي يتحصل علي قيمة بوليصة التأمين، و مشاركته الناس في تمثيلية جنازته، حيث يسير فيها حتي يتم تكفينه، ونزوله قبره. فالفانتازيا في جوهرها الحقيقي تتجاوز صياغة الصور،وتتملكنا بالمعني اللاكاني علي نحو أعمق من أي وقت مضي، تنتفي عن الفانتازيا أي سمات "هروبية" تجعل الخيالي جملة من التهويمات لا طاقة سردية لها. تتعدد دلالات "عام التنين"، فهو عام 2012 وفقا للتقويم الصيني (تحديدا في يوم الاثنين 23يناير)، وهو عام التنين الأسود المائي، و"التنين" هو رمز الامبراطورية في الصين القديم، و" التنين " هو "الليفاثين" بالانجليزية، وتستخدم المفردة في الأدبيات السياسية، كما ذكر "شريف يونس"، للإشارة إلي " الطبيعة التدخلية والمحورية للدولة في مختلف الأنشطة الاجتماعية، بالتنظيم التشريعي والإداري". "الدولة التنين" كما وصفها "هوبز"، وهي الدولة التي يحاول " نعيم أبو سبعة" أن يستغل الثغرة في جدار كهنوتها وبيروقراطيتها.
يُطرح الاستبداد بوصفه لغة، فالسلطة تتوسل اللغة لتأبيد أركانها، واللغة وسيط التحول من "الجمهورية " إلي "المملكة"، و تحول "مبارك" من "النسر" إلي" التنين".
كما تتجلي العلاقة الجدلية بين الاستبداد/ السلطة واللغة في الحادثة الدالة في الرواية، وهي إصابة "نعيم" بالحبسة الكلامية ( حين ينزل إلي قبر مظلم بمفرده،ليضع اللفافة في فم الميت، كوسيلة لإنجاب الولد)، مرتدا بذلك إلي ما قبل تعلم "آدم" للأسماء، وفاقدا لسلطته، حيث اعاقته من أن يصبح "كومانده" وسط الصنايعية في موقع العمل، وفاقدا للتواصل الإنساني والعلاقات الاجتماعية، والتي تتأسس هي الأخري وفق بنيات سلطوية. تتحدث الرواية في احدي فصولها عن "الحبسة" بمفهومها الفسيولوجي فقط ، لكن المفهوم الأدبي أو البنيوي للحبسة من شأنه أن يكشف سياقا من المعرفة مضمرا في النص.
والمسألة ليست محاولة لاخضاع الرواية لقراءة "قبل نصية"، تعول علي مكتسبات العلوم الإنسانية الحديثة (التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع...) وتتخذ النص الروائي مجرد دال علي سلامة منطلقاتها وعلي صحة ما توصلت إليه من نتائج، أو لقراءة تتعامل مع عناصر معينة من الرواية بمعزل عن العناصر والجوانب الأخري فيها، التي تؤثر فيها وتتأثر بها، قدر ما هي محاولة للتعامل مع عناصر قد تبدو للقراءة السريعة مبتسرة في سياق السرد، أو اعتبارها أحاديث خارجة عنه، لكنها تكشف في العمق عن استبصارات ذكية للسرد، تتضافر مع الصورة الكلية للنص، وتعمق من رؤية وفاعلية الرواية لأسئلة الاستبداد والسلطة،و آليات التلاعب بعقول الجماهير.
يميز "رومان ياكوبسون" بين الحبسة التي تقع علي مستوي اختيار الكلمات، والحبسة التي تقع علي مستوي التضام بين الكلمات، واصلا بذلك إلي التمييز بين اللغة والكلام، والاستخدام الكنائي والاستعاري، ونمطين من الاعتلال : "اعتلال المجاورة" و"اعتلال المشابهة". يتكشف الأول في العجز عن ضم العناصر اللغوية في مساق، بينما يتكشف الثاني في العجز عن استبدال عناصر بغيرها، كما بين " رامان سلدن". فنعيم أبو سبعة ينتج عن كلامه سلسلة من المترادفات والأضداد والتداعيات الكلامية، لكنها تكشف عن شكل من المهاد الأولي لللغة. لذلك عند وصفه لأحد العاملين معه بكلمة"مسيئة" (معرص)، والتي أراد قول غيرها لكن خانته الحبسة، نجد أنه لم يقل في الحقيقة سوي الكلمة الأصيلة التي توصف عمل الصنايعي "النجارة"، قبل أن تقمعها سلطة "الحاكم بأمر الله"، كما يكشف الفصل التالي في تأصيله اللغوي التاريخي للكلمة وتمحورها، وكأن الحبسة أنتجت نمطا من الاعتلال يحفر في أركيولوجيا اللغة، وأصل الأسماء، مستبدلا كلمات بأخري تقبع في أعماق العقل الإنساني، وهو في ذلك كمثل الفرد الذهاني في وحيه الملهم، والذي تصل كلماته إلي اللاوعي وجذور الخيال الجمعي الكامنة فيه.
تكمن المفارقة في البعد التاريخي للحبسة، فهي العلة التي أصابت "الإمام الغزالي"وألجمته عن الكلام، حين أدرك أن كل ما قام به من عمل فكري يصب في النهاية في خدمة الخليفة العباسي وإضفاء كل صفات القداسة عليه. الحبسة مرة أخري في علاقتها بالسلطة، والرواية علي الرغم من عدم ذكرها أو اشارتها لتلك المفارقة، يظل ذكرها هنا علي جانب كبير من الدلالة.
تصور الرواية بعض تفاصيل الواقع اليومي وحياة المواطنين وعالم البيروقراطية المصرية، وطبيعة عمل السلطة وتلاعبها، وذلك في الرسائل الموجهة إلي "صلاح"، وتحتوي علي نصائح وإرشادات في كيفية صياغة السلطة لخطابها الايديولوجي، وتأبيد الدكتاتور. وقد يبدو أن السمة الشبه "راديكالية" لأقوال النص الروائي يتم تدميرها عن طريق النص ذاته، في تصويره لعالم مألوف، وواقع داخل يقين الادراك، وما يفرضه ذلك من احساس بصلابة هذا العالم الاجتماعي التي لاتقبل التغيير. لكن ما أنقذ النص من هذا "التناقض الأدائي"، بين ما يريد قوله والطريقة التي يتم توصيله بها، هو الشكل الذي اتخذه الواقع داخل العمل الفني : الفانتازيا. بالإضافة إلي الطبيعة المميزة للحبكة، فالفصول التي تبدو غيرسياقية والتي لا يرغب النص في دمجها بداخله أو إيجاد صلة "أسلوبية " لها، تعمل بالتجاور والتفاعل مع بعضها علي خلق الجدارية الأكبر، كما فعل المخرج الكبير "مايكل هانكه" في فيلمه "الشريط الأبيض"، ليس الغرض كشف اللغز بقدر إثارة وعي مغاير بالعالم، والدهشة، التي تتبدي عند معرفة الصلة بين "أبو رجل" في النصف الأول من القرن التاسع عشر وبين "نعيم أبو سبعة" و زوجته"عطيات"، والعلاقة بين سلالة "الطواويس" و"نعيم الآخر" و"صلاح" و "هيكل"، وبين" نعيم أبو سبعة" و"نعيم الآخر" وكتاب "نصائح الملوك". تلك المصائر التي تبدو متباعدة، ولكن الحبكة تبين الخيوط المضمرة التي تربط بينها جميعا.
تظهر شخصية " نعيم أبو سبعة" كذات كئيبة ومتوحدة وعاجزة عن التواصل، كما أنها تصاب بنوع من العصاب الذي يتخد شكلا حواذيا( يظهر ذلك في الفصل الذي يتحدث عن هوسه بنوع من الدفاتر الصغيرة). لكن السخرية التي تكتنف وتبطن السرد تضفي علي النص سمات أخري، تباعد بينه وبين المأساة، وتقارب النص في مواضع كثيرة من نمط من الرسوم الكارتونية المتحركة( مثل مسلسل Family Guy، في محاكاته التهكمية للواقع المجتمعي، ونقده اللاذع، وتوظيفه للبذاءة، ونموذج "البطل-الضد" أو المواطن الساذج الذي يسود غالبية هذه الحلقات الكرتونية.
يوظف النص الروائي البذاءة فنيا، فهي أداة النقد اللاذع، ونجد في فصول مثل:( ولود الوصخة ، فلقسة، معرص) تجليا لذلك، فالبذاءة هي شكل من أشكال النفي، والمقاومة،و نقد لغة مجتمع السيطرة( علي حد تعبير هاربرت ماركوز)، لغة الشركات الكبري وشركات التأمين و العلاقات العامة والدعاية والاعلان والتليفزيون، تلك اللغة التي تفرض سياقاتها علي المجتمع في محاولة لتحديد أنماط فكره وسلوكه، لهذا يحاول النص تحرير البذاءة من السياق الاضطهادي الذي أوجدته السلطة لها، كما أوجده الأدب أيضا، ويضفرها مع اللعب والنزق داخل الرواية ذاتها (التنين في دلالة أخري هو مفردة الشباب التهكمية في كنايتها عن الكثرة).
من الإنسان المخلوع، كما يصفه "أجامبين"، إلي الإنسان الميت، نرصد التطور الدرامي لنعيم أبو سبعة. وفي صراعه مع بيروقراطية الدولة علي ملكيته لذاته، نستكمل ما فعله "شاهر" في "كوكب عنبر"، رواية ربيع الأولي، حيث الصراع مع البيروقراطية فيها علي ملكية المعرفة ممثلة في المكتبة المسحورة. ومن "ثروت عكاشة" إلي "محمد حسنين هيكل"، نستكمل مع الروايتين نقدهما لشخصية "مثقف الدولة"، المنتج لمعرفة تتشكل في إهاب السلطة وتحت سطوتها، تلك السلطة التي تحاول "عام التنين" تحرير اللغة/المعرفة من هيمنتها، ولو عبر أنماط من المعرفة المتخيلة أو الكاذبة.
الأصل هنا
http://www.dar.akhbarelyom.com/issuse...
February 18, 2013
مينا ناجي يكتب عن رواية «عام التنين» لـ محمد ربيع : تحويل «مبارك» إلي مُسخَه
بقلم – مينا ناجي :
يصاب بطل رواية (عام التنين) “نعيم أبو سبعة” بمرض نادر يسمّي “حبسة فيرنكه”، المرض سميّ باسم العالم الذي كتب عنه في 1874 “كارل فيرنكه” ويصيب صاحبه بصعوبة في الكلام واختيار الألفاظ الصحيحة وصعوبة في القراءة والسماع نتيجة لتلف جزء خلفي من المخ سمّي أيضا على اسم العالم الألماني. يعاود ربيع في روايته الثانية من خلال هذا المرض طرق التيمات التي خاضها في روايته الأولي (كوكب عنبر، 2010) الصادرة أيضاً عن مكتبة (الكتب خان)، تيمات مثل؛ الأماكن شبه الأثرية الخفية المهملة في شوارع القاهرة التي تحتوي أسراراً جديرة بالكشف. عالم الكُتُب –عن طريق تجليدها وتغليفها هذه المرة- والمكتبات والأرشيفات السريّة، الآلات الغريبة، اللغة المخترعة، التاريخ الشخصي والعام البديل، وحشيّة البيروقراطيّة ودهاليزها، الشخصية ومرآتها، لكن يتطرق إلي هذه التيمات بشكل موسع وأكثر تفصيلاً وخيالاً. “حبسة فيرنكه” هي تعبير آخر طبّي عن قصور اللغة -الموضوع الذي طرقه ربيع في روايته الأولي في سردها لسعي وراء حلم تحويل اللغة إلي أخرى
بصورة مثاليّة- لكن النقص اللغوي هنا في الرواية نقص وجودي أصيل، ليس عرَضياً أو مرضا نادرا، كما يبدو من أول وهلة، لا يصيب إلا المنحوسين، بل هو جزء من الوجود الإنساني ذاته، يلتقط ربيع الفرد حين يظهر علي السطح هذا القصور العضوي الجوهري؛ أي محدوديّته ومحدوديّة تواصله مع الآخر، وكيف يصنع هذا العجز المآسي، فلولا عجز نعيم عن الكلام بشكل صحيح لما ضُرب من زملائه العمّال في الموقع الذي يعمل به، ولما ترك عمله ورجع إلي مهنة التغليف الغابرة التي لا تجلب له قوته، ولا ضُرب من تلاميذ المدرسة في الشارع بقسوة ونعت بالجنون، ولا طُرد من بيته بعد أن ضُرب علي يد زوجته بعد أن فقد احترامها له طيلة أعوام. تصارع شخصية أخرى النقص الوجودي: يموت ابن “وهيب وهيب” صاحب المحل. الموت نقص لغوي لا مرد له، يحاول بشتى الطرق التعامل مع هذا النقص وسدّه، يأخذه معه في أماكن متفرقة ويخفيه عن الأعين حتي لا يدفن، لكنه يفشل وتتعفن الجثة وتنتفخ ويُقبض عليه. يصنع له تاريخاً من شهادات ميلاد وسنوات دراسة وصور عن الحب الأول والأصدقاء والأنشطة والرحلات. يظهر أيضاً العجز اللغوي في تشابه الأسماء الذي يضع “نعيم أبو سبعة” آخر، وهو كاتب تقارير، في مآزق المُطاردة من قوات الأمن والجهات التي يرسل لها التقارير والنصائح.
يحاول ربيع الإمساك بالإنسان في مقاومته وتصويره لمكافحته ورفسه ومقاومته، ويصور كيف يتفاعل هذا النقص خلال الظروف الموضوعيّة القاسية والجائرة في الحياة، أي بقية الحلقة في الوجود الإنساني : البُعد السياسي-الاقتصادي ـ ومايترتب عليه من أبعاد اجتماعيّة وثقافيّة وحياتيّة. يحكي قصة كيف يتحطم الإنسان ويموت وهو عائش في المدينة الكبرى الحديثة. كيف تتصارع اللغة المنقوصة العبثية مع مسخ مهول أصم هو اللغة البيروقراطيّة، يؤدي هذا أن تُكتب شهادة وفاة لـ”نعيم” وهو مازال علي قيد الحياة. ميتٌ في هذه اللغة. وميتٌ في تلك.
يستخدم ربيع بنية السرد الموازي بين شخصيتين لا رابط بينهما تتداخلان وتتراكبان في النهاية مع خيوط تاريخيّة حقيقيّة ومتخيّلة لتصنع النهايّة الفانتازيّة الكبري. ومن خلالهما يلعب ربيع لعبة أدبية أخرى، حيث يضع صورته الشخصية، علي النعي المزيف للبطل الروائي. المفارقة هنا أن صورة المؤلف “محمد ربيع” وضعت بالفعل، في الواقع، علي نعي لا يخصه. وضعت علي نعي مؤلف شاب توفي في حادث اختناق اسمه محمد ربيع أيضاً. وهي تيمة استخدمها ربيع حيث الشخصيتان الرئيستان في الرواية لهما نفس الاسم الرباعي.
يستخدم ربيع في الرواية اللغة الرزينة معظم الوقت، ولكنه يفلت للعب وينتقل للعامية بحرفية، خصوصاً في تلك المشاهد السوريالية العبثية المجنونة، التي تُشبه قسوتها أحياناً القسوة في فن “المانجا” وأفلام “الأنيمي” اليابانيين، مثل مشهد الجنازة في الفصل الأول ومشهد زيادة حدة سماع “عطيات” زوجة نعيم، ومشهد تقيّؤه للذكريات والأحداث ومشهد تتويج مبارك في نهاية الرواية.
لا يخاف ربيع أن يُدخل السياسة في الروايّة، ويتعامل مع الأوضاع السياسيّة قبل الثورة ويستعرض التاريخ السياسي المصري بمهارة مستوحياً بعض فرضيات نعوم تشومسكي ورؤى شريف يونس وخالد فهمي وأحمد عكاشة وغيرهم. بذكاء كبير لعب ربيع لعبة بارعة بتحويل المخلوع مبارك إلي مُسخة دون حتى أن يظهره سوى في مشهد وحيد في نهاية الرواية حين ينتزع التاج من البابا وشيخ الأزهر على الدرج وسط ميدان التحرير في مشهد سوريالي مهيب. باستخدام الخطاب الرسمي والفكري للدولة المباركيّة، يكشف العورات والتناقضات والتفسخات بصورة كاريكاتوريّة ساخرة، ويؤصلها في انقلاب يونيو 52، بل ويرجعها إلي بداية السُلطة الفرعونية الواحديّة في مصر، ويصل في النهاية بدلاً من ثورة يناير ضد مبارك، إلي تتويج عبثي له، كإهانة أدبية بارعة مستمدة من فقهاء دولته، في عام التنين.
December 1, 2012
November 30, 2012
‘Year of the Dragon’ novel explores the underworld of Egyptian bureaucracy
Egyptian novelist Mohamed Rabie comes off very shy compared to the daring topics he delves into in “The Year of the Dragon.” The 2012 novel explores life under the Mubarak regime using real and fictitious historical allusions that explain the nature of the bureaucracy and how it affects people’s lives.
“I didn’t intend to write a history,” Rabie tells Egypt Independent. “I was interested in seeing how the lives of some Egyptian characters are related to that of the head of the state.”
One of the novel’s characters, Naeem, who works in bookbinding, decides to die when he turns 60. His death isn’t physical though. Naeem prepares all the formal documents that make the government believe he’s dead so his family can claim a premium from an insurance company.
Another character in “The Year of the Dragon” is a man who repeatedly sends messages advising the president on how to deal with the people and maintain his rule; he proposes distracting them away from corruption by focusing on football games, TV programs, and sexual scandals of celebrities. The messages are sent to Salah, a public official close to Mubarak, in the hopes he will communicate them to the president.
In the novel, Mubarak is portrayed like a pharaoh, particularly in the raving scene in the end, in which Egyptians gather and enthrone him as king in 2012 — the year of the dragon according to the Chinese calendar. This imagery of the former president is weaved throughout the narrative as Rabie references events that reflect the nature of the regime.
“People describe my book as a political novel. But I don’t care for genres, it’s just a novel,” says Rabie. “I used two main ideas; the first was the stagnant life of Naeem, and the other one is expressed in the messages sent to Salah, which show that the seemingly stagnant political life in Egypt has a momentum underneath. We couldn’t observe it historically, but imagination allows me to surpass history [in my novel].”
Bureaucracy and the world of government officials are common themes in Rabie’s work. They were an essential element in his first novel “Kawkab Anbar” published in 2011 as Shaher, an employee at the Ministry of National Endowments, goes to write a report on a forgotten public library in Cairo that the state is considering demolishing because it’s in the way of the new metro line.
“You think that bureaucracy in Egypt is a strict system that exists to prevent gaps and frauds, but it doesn’t do that; what Naeem did could happen in reality,” Rabie says.
Rabie reflects on his experience with government officials that bring up this recurring theme in his writings, saying: “I’ve never worked for the government. But I have dealt with state officials. Bureaucracy makes you lose your morality; you are obliged to pay a bribe to get what you need.” He relates the stubbornness of minor state officials to their desire to be similar to the ruler.
In the novel, Naeem is aware of what employees want; he knows which documents can make him appear deceased. He knows how to bribe employees by giving them newspapers and magazines, if not money. Naeem doesn’t believe that he is committing fraud by claiming death; he is just “moving his name from one document to another.”
Cheating the government is nothing new, Rabie argues in his novel. He writes that in the early 19th century, when the state of Mohammed Ali Pasha decided to record all births in Egypt, prostitutes found themselves in trouble. They couldn’t claim a father for their children. So a former clan chief named Abu Regl claimed the parentage for the children, and no one could prove that he was lying.
But Rabie’s boldness in “The Year of the Dragon” is not only in his poignant socio-political critique. He also experiments with language, using colloquial Egyptian words common on the streets rather than literature. “Ta’rees” for instance has no direct equivalent in English, but it is used to expresses hypocrisy and ignoring major faults as a widespread trait in Egypt over the past few years. The broken street language Naeem talks because of his aphasia condition is another example.
Rabie’s novels have been particularly popular among young readers. Asked what he thinks are the criteria of success for writers, he responds, “I don’t know, maybe the real success is to continue writing.”
In “The Year of the Dragon,” Rabie touches the political and banal daily experiences in people’s lives although the novel isn’t constrained by the limits of realism. He does, however, recognize the pressures currently placed on writers to be relevant.
“What is happening in Egypt seems horrible; the monotony that we used to live in gave us space to reflect on writing. That no longer exists,” he says. “Most people are interested in news, and I hope we [the writers] can surpass that soon.”
November 25, 2012
November 16, 2012
محمد ربيع: المزاج العام للمصريين صنعه حكامنا الطغاة
جريدة السياسة
القاهرة – عبدالفتاح الزغبي:
عن الرئيس السابق مبارك الذي ولد عام التنين حسب التقويم الصيني كتب روايته “عام التنين”, حاول من خلالها رصد حياة المصريين تحت حكم مبارك, ورصد محاولات مبارك أيضا إحكام قبضته على السلطة.
حول روايته وكيف يرى مستقبل مصر السياسي تحت حكم الإخوان, التقت “السياسة” الأديب الشاب محمد ربيع, في حوار حول روايته, هذا نصه:
لماذا اخترت “عام التنين” عنوانا للرواية?
التنين هنا رمز للرئيس السابق حسني مبارك, بحسب الأعوام الصينية, فقد ولد مبارك في عام التنين.
ماذا أردت أن تقول للقارئ من خلال الرواية?
حاولت إيجاد روابط بين مركز السلطة ممثلا في مبارك وبين المواطن البسيط, وكنت متأكداً من وجود الكثير من الروابط, لكنني قررت أن أحكي عن الطرفين, حكاية المواطن البسيط وكيفية تعامله مع من حوله, وحكاية الطاغية, وكيفية تعامله مع المحكومين, وكيف تم خداع الناس طوال سنوات طويلة, لم يكن الحاكم يعمل فيها لصالحهم, بل كان يعمل على إحكام قبضته على البلاد.
فانتازيا
تنتمي الرواية لأدب الفانتازيا ومع ذلك تستند على وقائع وأماكن وشخصيات حقيقية, كيف ذلك?
الرواية تعتمد على الخيال بشكل أساسي, ولا مانع من إدخال بعض الوقائع والشخصيات الحقيقية, ما يؤكد ارتباط العمل بالواقع, لأن هناك خيطاً رفيعاً بين الواقع والخيال.
لماذا كتبت تلك الرواية?
لم يكن الغرض كتابة تاريخ موثق ودقيق لفترة حكم مبارك, فهذا له م¯¯¯¯كان آخر, ولا يم¯¯¯كن كتابت¯¯¯ه في عمل روائي, لكنني أردت تركيز الضوء على شخصيات حكام م¯¯¯صر المشهورين بالطغيان, الذين أثروا - بأشكال متعددة – في صنع المزاج العام للمصريين, وساهموا في فرض سيطرة حديدية على المحكومين, توارثها الجميع – حكاماً ومحكومين – مع اختلاف توجهاتهم وأفكارهم.
ما مغزى تناولك لتاريخ انتشار الدعارة في مصر?
هذه إدانة لعصر محمد علي, الذي يعد بداية عصر الدولة الحديثة في مصر, والغريب أنه لا يتم الحديث عنه اليوم إلا بذكر المزايا فقط, لكن من يقرأ كتاب “الجسد والحداثة”, للدكتور خالد فهمي, سيدرك كيف استطاعت السلطة في ذلك الوقت إحكام السيطرة على الناس, إلى أن وصل الأمر لتقنين الدعارة لخدمة جنود الجيش.
ما دلالة اسم البطل “نعيم”?
البطل خليط من ثلاث شخصيات عرفتها من خلال العمل والحياة, أحدهم اسمه مشابه لنعيم, وجدت من اللائق أن أشير لاسم الشخص الذي أوحي لي بالرواية.
لماذا احتوت الرواية بعض الألفاظ غير المقبولة?
هناك قلق دائم من غضب القارئ بسبب تلك الألفاظ, لكنني أراهن دوماً على تفهمه للموقف وطريقة التناول, خصوصاً أن تلك الألفاظ لم يكن من الممكن استبدالها بأخرى, كما كان بعضها مربكا للغاية, فهي تحمل دلالة غير مقبولة بالعامية المصرية, لكنها تحمل معاني مختلفة تماماً إذا عدنا للفصحى.
لماذا خرج الخط السياسي على شكل خطابات لا نعلم من يكتبها ولمن?
لم أجد خيراً من الخطابات, هناك طرق أخرى بالطبع, لكن جميعها استهلكت, ولم يستخدم الكتاب الذين كتبوا روايات سياسية “تيمة” الخطابات أبداً.
غياب وعودة
لماذا توقفت 6 أشهر عن كتابة الرواية بعد أحداث يناير?
ظننت مع خلع مبارك أن الرواية أصبحت بلا قيمة, فهي تتحدث عن الطاغية بشكل عام, وبعد التنحي استرد المصريون جزءاً من حريتهم ولم يعد هناك سبب للاستمرار في الكتابة, لكن بعد شهور أدركت أن محاولات التغيير ستستمر لمدة طويلة وأن الثورة لم تنته بعد, حينها عدت للكتابة أملاً في تسجيل القليل مما جرى للناس خلال الثلاثين عاماً الماضية.
لماذا لا تشير الرواية إلى أحداث يناير?
كنت يائساً تماماً أثناء التحضير للرواية, وكذلك أثناء كتابتها, ولم أتوقع أن يثور المصريون في وجه مبارك, بل توقعت الأسوأ, بعد أن يرث مبارك الابن, مبارك الأب, ويدعي كثيرون أنهم تنبأوا بالثورة في وقت ما, أما أنا فلم أتوقعها مطلقاً ولهذا كتبت الرواية.
ما رأيك الآن بعد مرور أكثر من عام على أحداث يناير?
كان مبارك حريصاً على تدمير كل أشكال الوعي السياسي لدى الناس, وإبعاد الجميع عن المشاركة السياسية, فأضحت صورة العائلة المباركية الحاكمة هي الصورة الوحيدة في عقل كل مصري, بلا بدائل أو خيارات أخرى, فإذا مات مبارك يوماً حكم مبارك آخر, لذلك فإن محاولة تكوين وعي سياسي جديد أراها أكبر تحد , ومهمة صعبة, ستستغرق وقتاً طويلاً , ولكن لابد منها لأنها ضرورية.
ما رأيك في النقد الموجه لنهاية الرواية بانتصار الفكرة السياسية على الفكرة السردية?
الرواية مجرد سرد , والنهاية تتسق مع حال الناس قبل الثورة, ونتيجة مباشرة لإحكام السيطرة على الجمهور.
بدأت كتابة العمل في ظل حكم مبارك ومع ذلك جعلته بطلا للرواية?
كنت فقط أشير له بكلمة “الرئيس”, ولم تكن الرواية لتنشر لو ذكرت اسمه صراحة, كما لم يكن الهدف من الكتابة ليتحقق, والرواية كتبت لوصف حال المصريين تحت حكم مبارك, وعدم التصريح باسمه سيكون بدافع الخوف فقط, ويظهر مبارك في الرواية في مشهد واحد, بينما تدور الخطابات حوله وحول سياسته, في صورة نصائح وحلول واقتراحات.
لماذا تفسر بعض الكلمات لغويا وتعرض تاريخ استخدام هذه الكلمات?
كتبت ذلك لأبين للقارئ أن بعض الكلمات التي اعتدنا عدم ذكرها لبذاءاتها قد لا تكون كذلك, بل إن معظم ما نعتبره بذيئاً ليس كذلك بالمرة, إنما له معان أخرى في المعاجم العربية, لكن تبدلاً حدث خلال العصور في دلالة الكلمات.
المثقفون ومبارك
لماذا وجهت نقدا للمثقفين ووصفت جدالهم بالعقيم?
هذه وجهة النظر الأمنية للمثقفين, سترى وجهة النظر تلك مسجلة في الكثير من الأعمال التلفزيونية والسينمائية المصرية, في صورة سخرية من كل تصرفات المثقفين, حتى صارت الكلمة سبة, لقد تخيلت أن هذا الأمر متعمد, لكن لو قارنت عيوب ومشكلات المثقفين بجرائم المختلسين واللصوص لوجدتها هينة للغاية.
لماذا تم عرض لما يشبه التاريخ السياسي لمحمد حسنين هيكل?
هيكل شخصية مؤثرة في فترة حكم عبدالناصر, ولا يمكن إغفالها عند الحديث عن تلك الفترة, وهناك أيضاً بعد درامي وضرورة لذكر هذا الجزء الصغير من حياة هيكل.
ما المغزى من اختيار ميدان التحرير ليكون مكانا لتتويج مبارك ملكا على مصر?
إنه أكبر ميادين القاهرة, ولا علاقة بين اختيار الميدان وبين الثورة.
لماذا تسخر من المعارضة في نهاية الرواية?
كتبت الفصل الأخير ممزوجا بروح اليائس, فلم تكن المعارضة البائسة لتسلم من النقد, كلنا نعلم أنها كانت معارضة زائفة, مجرد أبطال من ورق, واليوم إذا بحثت عن الأحزاب السياسية التي كانت معارضة لمبارك فلن تجد منها من له تواجد حقيقي على الساحة السياسية.
كيف ترى الأوضاع في مصر حاليا?
يتم إعادة انتاج النظام القديم لكن بغلاف إسلامي يحمل طابع القداسة, وبالتالي فكسره سيصبح محرماً حرمة دينية, لذا أخشى أن يتطور الأمر لنجد ديكتاتورية إسلامية تحكمنا, وهذا ليس كل شيء, بل هناك قصور ضخم في المعارضة, وفي التمثيل السياسي للآخر.
لكن هناك أحزاباً وقوى سياسية معارضة جديدة ظهرت على الساحة السياسية?
حتى اليوم لا أجد حزباً أو تجمعاً يصلح ندا قويا للإخوان, وأنا لا أفضل الحكومات الائتلافية, بقدر ما أود أن أرى تداولاً للسلطة, هذا التداول الذي افتقدناه لسنوات طويلة جداً.
November 15, 2012
November 5, 2012
November 1, 2012
مصر مقبرة الغزاة
يرد أصل تلك الجملة العظيمة في كتاب: العقدة تسبقها الشنيطة، المؤلف مجهول:
قالك ايه؟ مصر مكبرت الغازات، عشان ايه بأى؟ قالك ان أي غازات هاجموا مصر كانوا بيدخلوها مستريحين، كلها سهمين على سيفين على شخطتين والناس تلاقيها مسقفلهم ومرحبه بيهم، يبقوا الغازات مبلمين ومش فاهمين: ايه الشعب العجيب دا؟ بيرحبوا بينا وهما عارفين اننا هانفشخهم.
يقوم الغازات يفشخوا الشعب، يقوم الشعب يرحب بيهم اكتر واكتر، من باب : بات مغلوب ولا تباتش غالب. يقوم الغازات ينبسطوا ويقولك: ايه الشعب المعرص دا؟ دا احنا نسيب بلدنا الأصلية ونقعد هنا على طول. وكل ما الغازات يفشخوا الشعب، كل ما الشعب ينبسط ويقول: اديني أكتر.
لحد ما الغازات يستقروا في مصر، ويأنتخوا، ويريحوا، ويتخنوا، ويعجزوا، وعمرهم يطول، ويموتوا على سرايرهم مبسوطين وراضيين ومأنتخين، يقوم الشعب المعرص يبكى على الغازات، ويحفرلهم تربة في أحسن مكان، ويدفنهم في أرض مصر.
من هنا جات الجملة الشهيرة: مصر مكبرت الغازات