المحطة الأخيرة لبابا نويل

المحطة الأخيرة لبابا نويل
قصة: علياء الداية

خمس سنوات مضت منذ المرة الأخيرة التي جاء فيها بابا نويل إلى المدينة، واليوم هبط إليها وهو يفكر بأنها ولا شك قد تغيرت. كان مستعداً لمطالعة هذه التغيرات والتجوال هنا وهناك، لذلك ملأ الكيس على ظهره بهدايا أخف من المعتاد، حتى يتمكن من الحركة بسهولة أكبر.

توقفت الغزلان عند أول غيمة عند أطراف المدينة، لا تجرؤ على الاقتراب أكثر، فأكمل بابا نويل طريقه وحيداً، لم يكترث به أحد في زحمة المساء، "ربما وصلت مبكراً، ويظنون أنني شخص متنكر!" فكر لنفسه. تنبه بابا نويل إلى واجهات المحلات المضاءة، كان نورها يعني أن الظلام أخذ يحل في المكان، فشعر بالسرور والألفة، ومضى بخفة يشاهد الواجهات. دهش بابا نويل لرؤيته قبعته معروضة في أحد المحلات، فتحسس قبعته وتأكد أنها ما تزال تغطي رأسه الأشيب. "إنها على رأسي، فما هذه السلعة في المحل!" وعرف أن الناس يقتبسون قبعته نوعاً من الملابس الرائجة في هذا الشهر من العام. لم يعرف هل يشعر بالبهجة أم بالغيظ لأنهم يسطون على علامة فارقة له.

ابتعد بابا نويل عن الواجهات الملونة وجذبه محل عند زاوية الشارع، فيه شبان يتحلقون حول شاشات، إنها أجهزة الكمبيوتر التي عرفها قبل سنوات وفي أنحاء متفرقة من العالم. اقترب منهم فمدّ أحدهم إليه بالأركيلة: "خذ نفساً، معسّل بطعم فواكه الصيف، سيعجبك، ألست أنت بابا نويل؟" وقبل أن يبادر بابا نويل بالإجابة، كان شاب آخر قد اقتحم الحديث: "بالطبع إنه بابا نويل، كان يزورنا في المدرسة كل عام في مثل هذا اليوم، ويقال بأن أحد أصدقائنا كان يتنكر بزيه ويأتي إلى الصف وينثر السكاكر من الكيس في أرجاء المكان، ولكنه يوزع كميات أكبر في الزوايا التي يجلس فيها أصدقاؤه". ويقول شاب ثالث: "بالطبع إن بابا نويل ليس حقيقياً، إنه شخص متنكر".

وانسحب بابا نويل ودمعة تغشي عينه قبل أن تسقط على وجنته، سوف تختفي الدمعة في لحيته ولن يراها أحد. بدأ بابا نويل يحس بثقل الكيس، اعتقد في البداية بأن التعب نال منه كالمعتاد في منتصف جولاته، وكم تمنى لو أن الغزلان والعربة بجواره، ولكنه دهش حين لمح انعكاسه في واجهة داكنة؛ لقد قصرت قامته بشكل ملحوظ!

لم يتمكن بابا نويل من تأمل انعكاسه أكثر، فقد أظلمت الدنيا فجأة واختفت كل الأضواء، وعلى ضوء المصابيح اليدوية التي سرعان ما أنارها بعض المارة، أبصر بجواره طفلاً فسأله: "ما الذي حصل يا بني، لماذا اختفت الأضواء؟"
فأجابه: "أنت لست من هذه المدينة! مولدات الكهرباء تنطفئ وينتهي عملها في هذا الوقت... ولكن لماذا ترتدي هذه الملابس، أتظن نفسك بابا نويل!"
ويقهقه الطفل ساخراً ويركض إلى أحد مداخل الأبنية، تاركاً بابا نويل يفكر بحسرة في هذا الطفل الذي فوّت على نفسه فرصة الحصول على هدية، وفرصة النظر إلى النجوم القليلة التي تطل من فتحات السماء.

والآن لاحظ بابا نويل بوضوح كيف أنه ازداد قصراً، وأصبح قزماً لا يتعدى طوله المتر، فترك كيسه على قارعة الطريق. كان حائراً فيما يفعل، ولكن حيرته لم تدم طويلاً، فها هي ذي طلقات رصاص تفزعه فيختبئ خلف إحدى السيارات، وللمرة الأولى يفكرّ لو أنه يشتري سيارة حتى يهرب بها من أماكن كهذه.

وها قد تقلص حجم بابا نويل من جديد، ولمح بومة بيضاء تفرش جناحيها وترفرف بغموض مبهم وتحط على غصن شجرة قريب. "بومة في المدينة!" يتساءل بابا نويل، ويصيح مخاطباً البومة: "ماذا تفعلين هنا؟" لكنها لا ترد عليه. إنه ـ رغم كل شيء ـ يشعر بأنه أخف وزناً، فيستذكر طفولته قبل أن يصبح بابا نويل، ويتسلق الشجرة، لعله يجد عزاء في الحديث مع البومة التي تبدو أكثر ألفة من الآدميين.

مسافة قليلة تفصله عن البومة وهو يخاطبها: "ماذا تفعل بومة بيضاء في المدينة؟"، فتجيب البومة: "المكان هنا جميل، حركة الناس قليلة، والسيارات محدودة، الغربان هي منافسي الوحيد، ولكنها اتخذت من الحديقة القريبة مسكناً لها، وأنا أجد المكان رائع الوحشة في الليل وساعات الصباح الأولى، إنه كل ما أحلم به". فيسألها: "وهل لديك أصدقاء؟" تنظر إليه البومة بإحدى عينيها، فيفكر بابا نويل بأنها لم تعرفه بالتأكيد، فهو ضئيل جداً، ويشعر بالرعب من أن تفترسه، فينسحب من الشجرة، وهو متأكد من أنه يزداد ضآلة وانكماشاً.

على الأرض، كان الثلج ندفاً يتساقط من سماء شتائية باردة، وكان بابا نويل يرسم آخر خطواته، دموعه تنسال على وجنتيه، وتتطاير مع النسمات، خطوة فخطوة، يتلاشى والعالم الغريب من حوله يكبر ويكبر.

* نشرت القصة في موقع "مجلة نور الصحافة"، 23 كانون الأول 2016
http://nourjournalism.com/art/55709.html
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 04, 2017 07:13 Tags: بابا-نويل-قصة-شتاء-مدينة
No comments have been added yet.


علياء الداية's Blog

علياء الداية
علياء الداية isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow علياء الداية's blog with rss.