علياء الداية's Blog
January 22, 2019
مشاركتي في حصاد 2018 الثقافي
مشاركتي في حصاد 2018 الثقافي:
حصاد 2018 جديد الحياة الثقافية العربية ـ إعداد: عماد الدين موسى: ما إن تنقضي الأيام الأخيرة من كل عام، ونتهيأ لاستقبال عامٍ جديد، حتى نعيد لأذهاننا التساؤل الطبيعي: ما الذي ميّز هذا العام عن غيره؟ ما أهم المصادر التي تمت إضافتها إلى مكتبتنا، وما الجديد الذي طرأ على حياتنا الثقافية؟
عالميًّا، كان خبرُ حجب جائزة نوبل للآداب صادمًا للوسط الثقافي، بينما في العالم العربي بدت الجوائز الأدبيّة الحدث الأبرز والأكثر متابعةً، جنبًا إلى جنب مع معارض الكُتب في جُلّ العواصم، كما في سابقِ عهدها. في استطلاعنا السنوي حول الثقافة في عام فائت، نتابع ما يقوله عدد من الكُتّاب والمثقفين عن حال الثقافة وما لفت انتباههم، سواء من جهة الفعاليّة الثقافيّة الأبرز، أو من حيث العناوين اللافتة والمميّزة للإصدارات الجديدة خلال عام.
*
علياء الداية: "لفت انتباهي في كتب هذا العام 2018 ومنها الرواية الحرص على المثاقفة المعاصرة، إلى جانب حضور التاريخ وتأثيره في وعي الشخصيات، وكذلك تزايد الاهتمام بأدب الطفل والكتابة له. وكان عاماً حافلاً كغيره بمعارض الكتب ومسابقات التأليف والجوائز الأدبية على الصعيد العربي.
وقد صدرت في هذا العام كتب لمؤلفين أتابع جديد منجزهم السردي، منهم الروائيون: السوداني أمير تاج السر، والإريتري حجي جابر، والأردني يحيى القيسي، والروائيان المصريان أحمد فضل شبلول ومصطفى موسى الذي صدرت له روايتان، والروائيات السوريات شهلا العجيلي، وأسماء معيكل، ولينا هويان الحسن، والروائيان الكويتيان بثينة العيسى وإسماعيل فهد إسماعيل الذي غادرنا في أيلول/سبتمبر 2018. ومن الروايات البارزة "الدم الأزرق" ترجمها عن الروسية الدكتور فؤاد المرعي. وعلى صعيد الدراسات جاء كتاب الدكتور سعد الدين كليب "تراثنا والجمال" ليشمل مختارات من الفكر الجمالي القديم ويسلط الضوء على تصنيفات العرب القدماء للجمال ومكانته ومظاهره.
وتنفرد رواية "بعد الحياة بخطوة" ليحيى القيسي برحلتها في أجواء قلما تخوضها الروايات العربية من منطلق معاصر، وهي أجواء الماورائيات. وهذه الرواية لا تقدم إجابات أو تثير حدثاً مفاجئاً، بل تأخذ المتلقي إلى دهشة بطل الرواية وخوضه أكثر من عالم، وعدة تجارب شعورية بين الشك والاندفاع ومعرفة موقعه وبحثه عن كينونته. فهو يحس بأن الزمن حقيقي ويتعجب من أنه في عالم آخر مرتفع بمسافات كبيرة عن كوكب الأرض، وفي هذا المكان يعيش البطل زمناً حافلاً برؤية الراحلين المقربين، وبعض المشاهير كأم كلثوم، ونماذج متعددة من البشر لهم مصائر مختلفة. إنه بين الخيال وحلم اليقظة والواقع البديل يعثر على ما يشبه المدينة الفاضلة، كما أنه يصبح في بقية الرواية مسؤولاً عن "إظهار" هذا العالم وإدخاله حيز القبول."
https://www.alaraby.co.uk/diffah/here...
.
https://www.alaraby.co.uk/diffah/here...
حصاد 2018 جديد الحياة الثقافية العربية ـ إعداد: عماد الدين موسى: ما إن تنقضي الأيام الأخيرة من كل عام، ونتهيأ لاستقبال عامٍ جديد، حتى نعيد لأذهاننا التساؤل الطبيعي: ما الذي ميّز هذا العام عن غيره؟ ما أهم المصادر التي تمت إضافتها إلى مكتبتنا، وما الجديد الذي طرأ على حياتنا الثقافية؟
عالميًّا، كان خبرُ حجب جائزة نوبل للآداب صادمًا للوسط الثقافي، بينما في العالم العربي بدت الجوائز الأدبيّة الحدث الأبرز والأكثر متابعةً، جنبًا إلى جنب مع معارض الكُتب في جُلّ العواصم، كما في سابقِ عهدها. في استطلاعنا السنوي حول الثقافة في عام فائت، نتابع ما يقوله عدد من الكُتّاب والمثقفين عن حال الثقافة وما لفت انتباههم، سواء من جهة الفعاليّة الثقافيّة الأبرز، أو من حيث العناوين اللافتة والمميّزة للإصدارات الجديدة خلال عام.
*
علياء الداية: "لفت انتباهي في كتب هذا العام 2018 ومنها الرواية الحرص على المثاقفة المعاصرة، إلى جانب حضور التاريخ وتأثيره في وعي الشخصيات، وكذلك تزايد الاهتمام بأدب الطفل والكتابة له. وكان عاماً حافلاً كغيره بمعارض الكتب ومسابقات التأليف والجوائز الأدبية على الصعيد العربي.
وقد صدرت في هذا العام كتب لمؤلفين أتابع جديد منجزهم السردي، منهم الروائيون: السوداني أمير تاج السر، والإريتري حجي جابر، والأردني يحيى القيسي، والروائيان المصريان أحمد فضل شبلول ومصطفى موسى الذي صدرت له روايتان، والروائيات السوريات شهلا العجيلي، وأسماء معيكل، ولينا هويان الحسن، والروائيان الكويتيان بثينة العيسى وإسماعيل فهد إسماعيل الذي غادرنا في أيلول/سبتمبر 2018. ومن الروايات البارزة "الدم الأزرق" ترجمها عن الروسية الدكتور فؤاد المرعي. وعلى صعيد الدراسات جاء كتاب الدكتور سعد الدين كليب "تراثنا والجمال" ليشمل مختارات من الفكر الجمالي القديم ويسلط الضوء على تصنيفات العرب القدماء للجمال ومكانته ومظاهره.
وتنفرد رواية "بعد الحياة بخطوة" ليحيى القيسي برحلتها في أجواء قلما تخوضها الروايات العربية من منطلق معاصر، وهي أجواء الماورائيات. وهذه الرواية لا تقدم إجابات أو تثير حدثاً مفاجئاً، بل تأخذ المتلقي إلى دهشة بطل الرواية وخوضه أكثر من عالم، وعدة تجارب شعورية بين الشك والاندفاع ومعرفة موقعه وبحثه عن كينونته. فهو يحس بأن الزمن حقيقي ويتعجب من أنه في عالم آخر مرتفع بمسافات كبيرة عن كوكب الأرض، وفي هذا المكان يعيش البطل زمناً حافلاً برؤية الراحلين المقربين، وبعض المشاهير كأم كلثوم، ونماذج متعددة من البشر لهم مصائر مختلفة. إنه بين الخيال وحلم اليقظة والواقع البديل يعثر على ما يشبه المدينة الفاضلة، كما أنه يصبح في بقية الرواية مسؤولاً عن "إظهار" هذا العالم وإدخاله حيز القبول."
https://www.alaraby.co.uk/diffah/here...
.
https://www.alaraby.co.uk/diffah/here...

Published on January 22, 2019 16:21
January 19, 2019
يحصل في المدينة
يحصل في المدينة
قصة: علياء الداية
ضيق في التنفس، وليل حالك الظلام، لم يكن أمامي سوى إضاءة المصباح اليدوي (البيل) والمفاجأة برؤية حزمة الضوء الأبيض المنبعثة منه واضحة على شكل خط ممتد من مركز المصباح إلى الحائط. "غبار! إنها عاصفة رملية". هرعت لإغلاق النوافذ رغم الطقس الصيفي القائظ وقد بدأ الغبار يغزو المنزل.
قلما تتعرض مدينتي لعوامل جوية سيئة كهذه، ولكن التغيرات المناخية صارت تحمل الكثير من الغرائب، بدءاً بالبرد القارس والعواصف الثلجية، وصولاً إلى الحرارة الشديدة صيفاً بدرجات فوق المعدل بكثير، وانتهاء بالعواصف الرملية.
العاصفة الرملية حملت معها روائح غريبة أخذت تستوطن المنزل في كل زاوية تحل فيها، رائحة فنادق قديمة ومستودعات وأماكن مهملة. كان هذا غاية في الإزعاج، وشغلت حتى عن السعال بالبحث عن مكان أهرب فيه من هذه الرائحة.
فتحت ستارة النافذة لأحاول الإطلالة على الشارع، لم أر شيئاً، ففتحت النافذة نفسها، ليس هناك سوى غلالة بيضاء شاحبة مغبرة، تلوح من ورائها أشباح الأشجار، السرو والصنوبر، وهياكل الأبنية المجاورة على ضفة الشارع، لكنها تبدو مكعبات يمكن تفكيكها ونقلها إلى عالم الأحلام أو الكوابيس.
فكرت أن هذا الجو ملائم لجولة يقوم بها معطف غوغول، بل إنني كنت موقناً أنه يقوم بهذه الجولة بالفعل، وربما أجده أمامي يحمل همومه ويفرغ جيوبه من بعض آلامه. ولكن أيقظني من شرودي نباح كلب. كان من المألوف أن نسمع مواء بعض القطط، وهذا المواء يشبه أصوات المواليد الجدد وصياح الأطفال، أكثر منه مواء قطط. ولكنه نباح، يبتعد تارة ويقترب تارة أخرى. كانت هناك ثلاث طرقات على بابٍ ما، تتخلل هذا النباح. غريب! لعلها طلقات بندقية بعيدة، ولكنها تكررت، ثلاث طرقات ونباح، أظن أن الحرب الدائرة في المدينة أثرت في تخيلاتي إلى حد بعيد.
كان الفجر يغري بنزهة في الشوارع الخالية من السيارات والمارة، وقررت فعلاً القيام بهذه النزهة رغم العاصفة. ارتديت ملابس فاتحة اللون حتى تصمد طويلاً فلا تظهر عليها آثار الغبار، ونزلت إلى الشارع. لم أتمكن من دعوة أصدقائي إلى هذه النزهة، أغلبهم سافروا وهاجروا، والبقية يسكنون أحياء بعيدة، وليس من السهل أن يشاركوني المفاجآت.
كانت هناك موسيقا كتلك التي تنبعث من سيارة وهي تعود إلى الخلف. توقفت الموسيقا بشكل مفاجئ، ثم عادت تحمل صوتها الرياح الخفيفة، ثم توقفت كذلك. كأنها في لعبة الكراسي الموسيقية! عاد نباح الكلب مجدداً ولكنه أكثر قرباً. صممت على مواصلة السير حتى أعرف مكان هذا الكلب. ووجدته! كان مجرد جرو صغير أخذ يتراكض بخطوات قصيرة من حولي، وعيناه الداكنتان تنظران إليّ بريبة.
تحوّلت نظرات الجرو فجأة إلى طرف الشارع الفرعي، حيث كان شابٌّ يمشي مطرقاً ونظره معلّق بوردة حمراء ذابلة يحملها بكلتا يديه، أظنّ أني لمحت دمعتين في عينيه. تجاوزَنا الشاب ماشياً باتجاه الشارع الرئيسي.
ثلاث طرقات قريبة هذه المرة، أزيز باب، ثم انصفاقه. تركت الجرو الذي استمر بالنظر إليّ ولكنه لم يغادر مدخل الشارع الفرعي، ودخلت أنا في هذا الشارع. أبواب قديمة متشابهة، لم يخطر لي في السابق الدخول إلى هذا الشارع، مجرد منطقة سكنية مغلقة على أصحابها، حيث لا توجد محلات للتسوق أو بائعو خضار أو مولد كهرباء، لا مظاهر استهلاكية على الإطلاق.
من خلفي جاء رجل، تخطاني وهو يركض وبسرعة دقّ على أحد الأبواب ثلاث دقّات، فُتح الباب، ودلف إلى الداخل، اقتربت بدوري من الباب، ودققته ثلاث دقات. فُتح الباب، ودخلتُ! المكان قديم ومهلهل كأنه خراب، ولكن في زاوية كانت سكرتيرة تجلس خلف كوّة زجاجية كل ما فيها لامع ونظيف. لمحت الرجل يختفي في ممر ملاصق للكوة الزجاجية، فاقتربت.
سألتني السكرتيرة: ـ زبون جديد؟
فأجبت فوراً: ـ أجل!
ـ سنعطيك بطاقة، احتفظ بها إذا أردت المجيء مرة ثانية.
كانت قد دوّنت شيئاً ما على قطعة من الورق المقوى، وعلى سجلّ إلكتروني لديها، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها فأرة حاسوب لها أذنان. أعطتني السكرتيرة البطاقة، كان مكتوباً عليها: الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98. وكانت تبتسم ابتسامة عريضة كأنها دعاية معجون أسنان.
دخلت في الممر المضيء الذي سار فيه الرجل، الزبون السابق لي. لم ترق لي كثيراً كلمة "زبون"، فمنذ فترة وأنا أقلل من مشترياتي قدر الإمكان. ولا أرى هنا ما يوحي بزبائن من أي نوع.
في الممر الطويل الممتد، تناهت إليّ أصوات مبهمة، كأنها مجموعة تلفزيونات أو موجات إذاعية متداخلة، لم أكن مرتاحاً ولكن المكان غاية في النظافة، و... الشفافية! نعم، فوجئت بوجهٍ أعرفه خلف الجدار الزجاجي إلى اليسار، إنه "مازن"، ولكن ماذا يفعل هنا؟ كان "مازن" جالساً وهو يتأمل شاشة كبيرة أمامه، بعد قليل وجدته يتحدّث مع أحدهم، ليس هناك سواه في الغرفة الزجاجية! لوّحت له بيدي من خلف الزجاج، لعلّه يراني ويتنبّه إليّ. لكنه مأخوذ تماماً بما حوله، ذاهل عما هو خارج الحيّز الخاص به.
ﻻ يبدو أنه سيدعوني إلى الدخول، هل هو مختل عقلياً؟ أهذا مستشفى للمجانين مثلاً ودخلت إليه بطريق الخطأ؟ "الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98" هذه بطاقة تعريفي، فما بطاقة تعريف مازن يا ترى؟ في كل الأحوال سأدخل لأسأله.
فتحت الباب الشفاف بخفة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين دخلت، رأيت عدداً من أصدقاء مازن بعضهم من أصدقائي أيضاً، كلهم كانوا جالسين، ولكن... لحظة، هذه الغرفة مألوفة، كأني رأيتها من قبل، نعم، إنها غرفة الجلوس في بيت مازن. ما هذا! هل نحن في آلة زمن أو بالأحرى آلة مكان؟ كانوا جميعهم يتحدثون، وكأن هذه الجلسة مكررة، كأني شهدتها من قبل.
اطمأننت إلى أن الباب الشفاف ما يزال في مكانه، ولكنه لم يكن شفافاً من الداخل، ولا الجدران، كأن طبقة كانت تزيد من انغماس مازن في الجلسة ثلاثية الأبعاد تلك. اتجهت نحو الباب، بعد أن رماني مازن بابتسامة سريعة، وخرجت.
في الممر، أخذت أسترجع ما حصل. ابتسامة مازن الأخيرة لم تكن تنم على خلل عقلي، إنه مبتهج ومسرور، ولعلّه استوعب دخولي المكان. لمع في ذهني خاطر، لقد سبق لي الانضمام بالفعل إلى هذه الجلسة، ولكن بعد هذه الفقرة، فقد كنت حينها في الطريق إلى منزل مازن وسبقني الأصحاب إليه.
لقد فهمت! في هذه الغرفة يسترجع مازن ذكرياته القديمة، يجلس من جديد مع أصحابه الذين سافر بعضهم وطوى الزمن بعضهم الآخر، يستعيد لحظات ماضية، ولعلها ساعات. عرفت الآن سر الدمعتين في عيني ذلك الشاب الذي رأيته يخرج من الباب، والوردة الذابلة. إنهم يشاهدون أحداثاً قديمة ثلاثية الأبعاد. يا لها من فكرة.
بطاقة الدخول. هل هي نوع من الاشتراك، أستبعد أن تحتوي بطاقة مازن على اسمه "مازن"، بل لعل المكتوب بها "رجل ذو نظرات هائمة، الرقم 331". سأسأله حين أراه. يا ترى هل هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها إلى هنا. سأنتظره.
لم أستطع تشغيل هاتفي الجوال، الذي عطّلته على ما يبدو الذبذبات الخاصة للمكان، فقضيت باقي الوقت وأنا أتأمل باقي الغرف الشفافة، بعض من فيها كانوا يبكون، والآخرون يضحكون، وبعضهم كان يتأمل مشاهد طبيعية وحقيبة مسندة إلى طرف الطريق. فتيات يحتفلن بيوم التخرج في الجامعة، آخرون يتسلقون قمة صخرة شاهقة ويصيحون.
طال مكوث مازن في الداخل، فقررت الخروج، سأتصل به لاحقاً، وسنأتي معاً إلى هذا المكان. "الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98"، أقلّب البطاقة بين يدي في طريق العودة، وأنا أتمنى ألاّ تبتلع العاصفة الرملية هذا المكان الغريب، كان الجرو قد اختفى، والعاصفة تخف تدريجياً، ولم يتبق سوى وردة حمراء ذابلة على قارعة الطريق.
* نشرت القصة في مجلة الشهباء الثقافية ـ حلب، السنة السابعة، العددان 22، 23 ـ عام 2018
قصة: علياء الداية
ضيق في التنفس، وليل حالك الظلام، لم يكن أمامي سوى إضاءة المصباح اليدوي (البيل) والمفاجأة برؤية حزمة الضوء الأبيض المنبعثة منه واضحة على شكل خط ممتد من مركز المصباح إلى الحائط. "غبار! إنها عاصفة رملية". هرعت لإغلاق النوافذ رغم الطقس الصيفي القائظ وقد بدأ الغبار يغزو المنزل.
قلما تتعرض مدينتي لعوامل جوية سيئة كهذه، ولكن التغيرات المناخية صارت تحمل الكثير من الغرائب، بدءاً بالبرد القارس والعواصف الثلجية، وصولاً إلى الحرارة الشديدة صيفاً بدرجات فوق المعدل بكثير، وانتهاء بالعواصف الرملية.
العاصفة الرملية حملت معها روائح غريبة أخذت تستوطن المنزل في كل زاوية تحل فيها، رائحة فنادق قديمة ومستودعات وأماكن مهملة. كان هذا غاية في الإزعاج، وشغلت حتى عن السعال بالبحث عن مكان أهرب فيه من هذه الرائحة.
فتحت ستارة النافذة لأحاول الإطلالة على الشارع، لم أر شيئاً، ففتحت النافذة نفسها، ليس هناك سوى غلالة بيضاء شاحبة مغبرة، تلوح من ورائها أشباح الأشجار، السرو والصنوبر، وهياكل الأبنية المجاورة على ضفة الشارع، لكنها تبدو مكعبات يمكن تفكيكها ونقلها إلى عالم الأحلام أو الكوابيس.
فكرت أن هذا الجو ملائم لجولة يقوم بها معطف غوغول، بل إنني كنت موقناً أنه يقوم بهذه الجولة بالفعل، وربما أجده أمامي يحمل همومه ويفرغ جيوبه من بعض آلامه. ولكن أيقظني من شرودي نباح كلب. كان من المألوف أن نسمع مواء بعض القطط، وهذا المواء يشبه أصوات المواليد الجدد وصياح الأطفال، أكثر منه مواء قطط. ولكنه نباح، يبتعد تارة ويقترب تارة أخرى. كانت هناك ثلاث طرقات على بابٍ ما، تتخلل هذا النباح. غريب! لعلها طلقات بندقية بعيدة، ولكنها تكررت، ثلاث طرقات ونباح، أظن أن الحرب الدائرة في المدينة أثرت في تخيلاتي إلى حد بعيد.
كان الفجر يغري بنزهة في الشوارع الخالية من السيارات والمارة، وقررت فعلاً القيام بهذه النزهة رغم العاصفة. ارتديت ملابس فاتحة اللون حتى تصمد طويلاً فلا تظهر عليها آثار الغبار، ونزلت إلى الشارع. لم أتمكن من دعوة أصدقائي إلى هذه النزهة، أغلبهم سافروا وهاجروا، والبقية يسكنون أحياء بعيدة، وليس من السهل أن يشاركوني المفاجآت.
كانت هناك موسيقا كتلك التي تنبعث من سيارة وهي تعود إلى الخلف. توقفت الموسيقا بشكل مفاجئ، ثم عادت تحمل صوتها الرياح الخفيفة، ثم توقفت كذلك. كأنها في لعبة الكراسي الموسيقية! عاد نباح الكلب مجدداً ولكنه أكثر قرباً. صممت على مواصلة السير حتى أعرف مكان هذا الكلب. ووجدته! كان مجرد جرو صغير أخذ يتراكض بخطوات قصيرة من حولي، وعيناه الداكنتان تنظران إليّ بريبة.
تحوّلت نظرات الجرو فجأة إلى طرف الشارع الفرعي، حيث كان شابٌّ يمشي مطرقاً ونظره معلّق بوردة حمراء ذابلة يحملها بكلتا يديه، أظنّ أني لمحت دمعتين في عينيه. تجاوزَنا الشاب ماشياً باتجاه الشارع الرئيسي.
ثلاث طرقات قريبة هذه المرة، أزيز باب، ثم انصفاقه. تركت الجرو الذي استمر بالنظر إليّ ولكنه لم يغادر مدخل الشارع الفرعي، ودخلت أنا في هذا الشارع. أبواب قديمة متشابهة، لم يخطر لي في السابق الدخول إلى هذا الشارع، مجرد منطقة سكنية مغلقة على أصحابها، حيث لا توجد محلات للتسوق أو بائعو خضار أو مولد كهرباء، لا مظاهر استهلاكية على الإطلاق.
من خلفي جاء رجل، تخطاني وهو يركض وبسرعة دقّ على أحد الأبواب ثلاث دقّات، فُتح الباب، ودلف إلى الداخل، اقتربت بدوري من الباب، ودققته ثلاث دقات. فُتح الباب، ودخلتُ! المكان قديم ومهلهل كأنه خراب، ولكن في زاوية كانت سكرتيرة تجلس خلف كوّة زجاجية كل ما فيها لامع ونظيف. لمحت الرجل يختفي في ممر ملاصق للكوة الزجاجية، فاقتربت.
سألتني السكرتيرة: ـ زبون جديد؟
فأجبت فوراً: ـ أجل!
ـ سنعطيك بطاقة، احتفظ بها إذا أردت المجيء مرة ثانية.
كانت قد دوّنت شيئاً ما على قطعة من الورق المقوى، وعلى سجلّ إلكتروني لديها، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها فأرة حاسوب لها أذنان. أعطتني السكرتيرة البطاقة، كان مكتوباً عليها: الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98. وكانت تبتسم ابتسامة عريضة كأنها دعاية معجون أسنان.
دخلت في الممر المضيء الذي سار فيه الرجل، الزبون السابق لي. لم ترق لي كثيراً كلمة "زبون"، فمنذ فترة وأنا أقلل من مشترياتي قدر الإمكان. ولا أرى هنا ما يوحي بزبائن من أي نوع.
في الممر الطويل الممتد، تناهت إليّ أصوات مبهمة، كأنها مجموعة تلفزيونات أو موجات إذاعية متداخلة، لم أكن مرتاحاً ولكن المكان غاية في النظافة، و... الشفافية! نعم، فوجئت بوجهٍ أعرفه خلف الجدار الزجاجي إلى اليسار، إنه "مازن"، ولكن ماذا يفعل هنا؟ كان "مازن" جالساً وهو يتأمل شاشة كبيرة أمامه، بعد قليل وجدته يتحدّث مع أحدهم، ليس هناك سواه في الغرفة الزجاجية! لوّحت له بيدي من خلف الزجاج، لعلّه يراني ويتنبّه إليّ. لكنه مأخوذ تماماً بما حوله، ذاهل عما هو خارج الحيّز الخاص به.
ﻻ يبدو أنه سيدعوني إلى الدخول، هل هو مختل عقلياً؟ أهذا مستشفى للمجانين مثلاً ودخلت إليه بطريق الخطأ؟ "الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98" هذه بطاقة تعريفي، فما بطاقة تعريف مازن يا ترى؟ في كل الأحوال سأدخل لأسأله.
فتحت الباب الشفاف بخفة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين دخلت، رأيت عدداً من أصدقاء مازن بعضهم من أصدقائي أيضاً، كلهم كانوا جالسين، ولكن... لحظة، هذه الغرفة مألوفة، كأني رأيتها من قبل، نعم، إنها غرفة الجلوس في بيت مازن. ما هذا! هل نحن في آلة زمن أو بالأحرى آلة مكان؟ كانوا جميعهم يتحدثون، وكأن هذه الجلسة مكررة، كأني شهدتها من قبل.
اطمأننت إلى أن الباب الشفاف ما يزال في مكانه، ولكنه لم يكن شفافاً من الداخل، ولا الجدران، كأن طبقة كانت تزيد من انغماس مازن في الجلسة ثلاثية الأبعاد تلك. اتجهت نحو الباب، بعد أن رماني مازن بابتسامة سريعة، وخرجت.
في الممر، أخذت أسترجع ما حصل. ابتسامة مازن الأخيرة لم تكن تنم على خلل عقلي، إنه مبتهج ومسرور، ولعلّه استوعب دخولي المكان. لمع في ذهني خاطر، لقد سبق لي الانضمام بالفعل إلى هذه الجلسة، ولكن بعد هذه الفقرة، فقد كنت حينها في الطريق إلى منزل مازن وسبقني الأصحاب إليه.
لقد فهمت! في هذه الغرفة يسترجع مازن ذكرياته القديمة، يجلس من جديد مع أصحابه الذين سافر بعضهم وطوى الزمن بعضهم الآخر، يستعيد لحظات ماضية، ولعلها ساعات. عرفت الآن سر الدمعتين في عيني ذلك الشاب الذي رأيته يخرج من الباب، والوردة الذابلة. إنهم يشاهدون أحداثاً قديمة ثلاثية الأبعاد. يا لها من فكرة.
بطاقة الدخول. هل هي نوع من الاشتراك، أستبعد أن تحتوي بطاقة مازن على اسمه "مازن"، بل لعل المكتوب بها "رجل ذو نظرات هائمة، الرقم 331". سأسأله حين أراه. يا ترى هل هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها إلى هنا. سأنتظره.
لم أستطع تشغيل هاتفي الجوال، الذي عطّلته على ما يبدو الذبذبات الخاصة للمكان، فقضيت باقي الوقت وأنا أتأمل باقي الغرف الشفافة، بعض من فيها كانوا يبكون، والآخرون يضحكون، وبعضهم كان يتأمل مشاهد طبيعية وحقيبة مسندة إلى طرف الطريق. فتيات يحتفلن بيوم التخرج في الجامعة، آخرون يتسلقون قمة صخرة شاهقة ويصيحون.
طال مكوث مازن في الداخل، فقررت الخروج، سأتصل به لاحقاً، وسنأتي معاً إلى هذا المكان. "الرجل ذو الشعر الأجعد، الرقم 98"، أقلّب البطاقة بين يدي في طريق العودة، وأنا أتمنى ألاّ تبتلع العاصفة الرملية هذا المكان الغريب، كان الجرو قد اختفى، والعاصفة تخف تدريجياً، ولم يتبق سوى وردة حمراء ذابلة على قارعة الطريق.
* نشرت القصة في مجلة الشهباء الثقافية ـ حلب، السنة السابعة، العددان 22، 23 ـ عام 2018
Published on January 19, 2019 15:09
July 14, 2018
آفاق التلقي في كتاب : تراثنا والجمال

للدكتور سعد الدين كليب
د.علياء الداية
"تراثنا والجمال ـ مختارات من الفكر الجمالي القديم" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للدكتور سعد الدين كليب، عن دائرة الثقافة في الشارقة 2018 .
ويحتوي الكتاب مختارات من نصوص تراثية عربية قديمة، محورها هو الجمال وقضاياه ومفاهيمه وصوره، انتظمت هذه المختارات خمسة أبواب، كما يفتتح الكتاب بمقدمة، ومن ثم تمهيد موسّع يتناول فيه الدكتور سعد الدين كليب الأسس النظرية ورؤيته الجمالية للموروث العربي الجمالي، ويدرس أنساقاً متنوعة فيه. وعناوين الفصول هي: المقدمة، تمهيد: في تاريخ الوعي الجمالي، الباب الأول: تحديدات وأوصاف، الباب الثاني: في نظرية الجمال، الباب الثالث: في نظرية الفنون، الباب الرابع: في المتعة الجمالية، الباب الخامس: في تاريخ الذوق.
موعد مع الجمال:
لعلّ مفهوم "التلقّي" هو من أبرز المفاهيم كما تتجلى في الكتاب بقوله: "كي يكتمل وجود الموضوع جمالياً، لا بد من التلقي الذاتي المرتبط بالأذواق الفردية والاجتماعية والقومية"(ص115). ومن خلال تصفح لعناوين فصول الكتاب، ومن ثم الإبحار في المختارات التي تحتويها هذه الفصول، يبدو "المتلقّي" محوراً أساسياً وهو الشغل الشاغل لمنظـّري الجمال ومتداوليه في الزمن القديم.
ويقدّم الدكتور سعد الدين كليب لكتابه بصفحات يشير فيها إلى كتابه "البنية الجمالية في الفكر العربي ـ الإسلامي" الصادر عام 1997، ومن ثم يتبين للقارئ بأن كتاب "تراثنا والجمال" يعطي المدى المكمّل لما ورد في الكتاب السابق من أفكار وتحليلات ذات إطار نظري. فنحن في "تراثنا والجمال" على موعد مع تصفّح يمتد في أكثر من خمسمئة صفحة، على مدار عدة فصول، كل منها مقسم بحسب عناوين منفصلة ينسب محتوى كل منها إلى شخصية تراثية عربية، وهكذا يمكن للمتلقّي أن يختار ما يقرأ بحسب العنوان والمحتوى والشخصية، والأقسام يكمل بعضها بعضاً، كما يشكل كل منها مادة غنية تعطي صورة أو مقطعاً فنياً وذوقياً من الفترة الزمنية التي شغلت حيزاً فيها.
وتشمل الاختيارات مقتطفات من كتب لمؤلفين كثر منهم: أبو هلال العسكري، ابن قيّم الجوزية، الجاحظ، أبو حامد الغزالي، الكندي، إخوان الصفاء، ابن سينا، ابن خلدون، داود الأنطاكي.
ومن العناوين الفرعية: الحسن بن أحمد الكاتب.. باب الطرب، ابن سينا.. ماهية الجلال والجمال، إخوان الصفاء.. روحانية الموسيقى، أبو حيان التوحيدي.. جمالية الخط، ابن قيّم الجوزية.. في جمالات النساء، لسان الدين ابن الخطيب.. في الجمال القدسي، محيي الدين بن عربي.. متعة الهيبة، الخالديان.. هدية الهدايا، حازم القرطاجني.. الملاءمة والمنافرة، ابن خلدون.. في صناعة الغناء، أبو هلال العسكري.. فروق لغوية جمالية، أبو البقاء الكَفَوي.. في معاني الحُسن.
قضايا معاصرة:
متعددة هي القضايا والمسائل التي تشغل المتلقي المعاصر اليوم، وإن كانت السرعة وتبدل الموضة والانبهار بالجديد الطارئ سمات تقصي الكثيرين عن فرصة التفكير والتروّي أمام خياراتهم الذوقية في حياتهم اليومية، فإن هناك ظواهر في عصرنا هذا لا بد من أنها استوقفت معظم الناس لتأملها ولو لثوانٍ قليلة، هذه الظواهر نفسها نعثر عليها بين سطور الكتاب، ونستنتج بأنها قد استوقفت في ذلك الزمن مفكرين قدماء في نصوص تراثية، وربما نتعجب من أنها مطابقة لما نراه في زمننا الراهن شكلاً أو فكراً.
ومنها مثلاً ما انتشر بين الفتيان من أشكال الرؤوس غير الاعتيادية بالأشكال الناجمة عن تفاوت حلاقة الشعر: "وكذلك عادة تجديل الشعر أو قصه وحلاقته بطريقة معينة، من مثل حلاقة القزَع للفتيان، وهي أن يُحلق بعض رأس الصبي ويُترك بعضٌ منه، أو يُحلق الرأس في مواضع متفرقة منه."(ص76)
وليس ببعيد عن ذلك وصف ملابس الرجال والنساء، مما نجده ينطبق على ملامح الأزياء في أيامنا المعاصرة: "وقد كانت ملابس الرجال تتصف غالباً بالبساطة والخشونة والضآلة أو القلّة على العموم، أما ملابس النساء فتتميز بكثرة النقوش والألوان وجودة الصنع وغلبة الأقمشة المصنوعة من الحرير".(ص76)
جماليات الغناء:
ومن هذه القضايا المقاربة لنا في التلقّي المعاصر الصراع الذوقي بين القديم والجديد في الموسيقا، فالنغمات القديمة قلّما يحبّ عامة الناس الاستماع إليها في وسائل المواصلات وحفلات الأفراح مثلاً، وبعضهم قد يتقبل سماعها ضمن احتفال طقسي أو لفترة محدودة لا تنافس الساعات الطوال من التشغيل العشوائي والمتكرر للأغنيات الدارجة التي سرعان ما تُنسى بعد زمن أكثره عام أو عامان. "فالحسن بن أحمد الكاتب ينعى على أبناء زمنه، القرن السابع الهجري، أن كثيراً منهم "إذا سمع أشعار العرب التي قيلت في الديار والرسوم والآثار...، يستغثّها ولا يطرب لها ويضحك منها"، وكذا هي حالهم في الغناء أيضاً؛ حيث "إنّ بعض الناس يسترذلون الغناء القديم الجيّد، فإذا سمعه لوى شدقه وقال: هذا عمل مشْط الحديد، ورحم اللـه آدم، ورحم اللـه أبا قابوس، وهذه أساطير الأولين".(ص118)
وثمة انتقاد يصرح به متذوقو الفن الأصيل في الأزمان السالفة، حيال معاصريهم من عامة مبدعي الأغنيات المؤقتة السريعة، فهم "اقتصروا على ما يصوغون بزعمهم، ويحركون في حسابهم، ويُحدثون بمنزلة الحديث من الفاكهة، ولا تلبث أغانيهم إلاّ يسيراً حتى تغنى كغناء الفاكهة، ثم يُحدثون سواها فلا يزالون في كل سنة يتركون ما كانوا أحدثوه في العام الذي قبله، ولسنا نجد أخذ أغانيهم، ولا نسبتها إلى أحد منهم".(ص357) أمـّا "الغناء القديم فهو ذا تراه يتكرر على مسامعنا طول الزمان، وفي كل وقت وأوان، ويتناقله المغنون من أوله إلى هذه الغاية فلا تمله النفوس، ولا تمجه الآذان ولا تخلقه الأيام، وكل يوم يزداد حسناً وطراوة، فما خرج من المحدث عن طريق القديم فإنه قلّ ما يُستحلى ويُحب. وسأل الرشيد إبراهيم بن ميمون الموصلي عن الغناء القديم فقال: الغناء القديم كالوشي العتيق الذي يُعرف فضله، ويتبين حسنه بتكرار النظر فيه والتأمل له، فكلما ازددته تأملاً ظهرت لك محاسنه، والغناء المحدث كالوشي الحديث الذي يروقك منظره، فكلما تأملته بدت لك معايبه، ونقصت بهجته".(ص357 ، 358)
نظرات في الموسيقا والطرب:
وتستغرق الموسيقا اهتمام قدماء المفكرين والكتّاب، فهي مظهر للاحتفاء بالجمال، له متلقوه الكثر من عامّة الناس وخاصتهم، كما يبين الدكتور سعد الدين كليب: "إن المقابلة بين الخاصة والعامة، وهي مقابلة اجتماعية وثقافية ومعرفية، تعني أنّ ثمة نوعين عريضين اثنين من الذوق العام، الأول شعبي مبذول، لعامة الناس، وهو متفاوت بحسب طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية؛ والآخر رسمي ومعتمد على أنه "الطبع السليم" أو معيار الذوق العام المثالي في المجتمع أو الأمّة كلها، تمثله الخاصة أو النخبة بوصفها كتلة لا بوصفها أفراداً بالضرورة".(ص119)
وكذلك نلمس في الجانب النظري ما يقوله ابن خلدون، ففي أوقات الحروب سواء طالت أياماً أو سنوات تتلاشى الأفراح حين يسطو الخوف على مشاعر الناس وخطواتهم اليومية فلا يستطيعون استحضار الفرح ومعايشته لأن الأمان متطلبه الأساسي: "وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع، لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف، إلاّ وظيفة الفراغ والفرح، وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه".(ص392)
ويختلف تقدير الغناء والاستمتاع بالألحان المرافقة له بحسب الشعوب والأقوام والثقافة الشخصية للمستمع، كما يقول إخوان الصفا: "وهكذا أيضاً أنك تجد في الأمة الواحدة من هذه أقواماً يستلذّون ألحاناً ونغمات، وتفرح نفوسهم بها، ولا يُسرّ بها مَن سواهم. وهكذا أيضاً ربما تجد إنساناً واحداً يستلذّ وقتاً ما لحناً ويُسرّه، ووقتاً آخر لا يسلتذّه بل ربما يكرهه ويتألّم منه. وهكذا تجد حُكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم وفي مشموماتهم وملبوساتهم وسائر الملاذّ والزينة والمحاسن، كلّ ذلك بحسب تغيرات أمزجة الأخلاط، واختلاف الطبائع، وتركيب الأبدان، والأماكن والأزمان".(ص312)
إنّ "أقل الناس علماً بالغناء أسرعم طرباً على كل مسموع، وأكثر الناس علماً به وأشدّهم تقدماً في معرفته، أبعدُهم طرباً له، وأقلُّهم رضى بما يسمع منه"، كما يقول الحسن بن أحمد الكاتب(ص350) وهذا كله غير ممكن إلاّ بوجود المطرب أو العازف الذي يوصل الموضوع الفني إلى متلقيه، مما نجده في كلام أبي حيان التوحيدي: "أخذ الصبيّ في فنه، وبلغ أقصى ما عنده، فترنح أصحابها وتهادوا وطربوا. فقلت لصاحب لي ذكي: أما ترى ما يعمل بنا شجن هذا الصوت، وندى هذا الحلق، وطيبة هذا اللحن، وتفنن هذه النغمة؟!"(ص334) و"شبيه بما رواه المرزباني نجده في كتاب الأغاني، حول صناعة الألحان لدى معبد المغنّي، كقوله: "واللـه لقد صنعتُ ألحاناً لا يقدر شبعان ممتلئ ولا سقّاء يحمل قربة على الترنم بها، ولقد صنعت ألحاناً لا يقدر المتكئ أن يترنم بها حتى يقعد مستوفزاً، ولا القاعد حتى يقوم". أما ابن سُريج المغني فقد قيل فيه: "كأنه خُلق من كل قلب، فهو يغني لكل إنسان ما يشتهي".(ص74)
تراثنا الجمالي نظرياً:
إن الدكتور سعد الدين كليب يجيب في الأقسام النظرية من الكتاب عن الأسئلة التي قد يسألها القارئ في الأقسام الفنية والذوقية، فيبين الأسس الفكرية التي تشكّلت مع امتداد الزمن ومع ترسّخ الجانب الحضاري العربي الإسلامي، وما انضوى في هذه الأسس من نظرات جمالية في مفاهيم عدة منها الجمال والجلال والكمال. وسيبدو لنا أن هذه المفاهيم ارتبطت بالتصورات الفلسفية التي تقوم على المشاهدة التأملية للكون، قريباً من وعي العالم الداخلي للإنسان، وإحاطته بواقع مريح في وعيه الوجودي والنفسي. وهكذا فإن الجانب النظري يقدّم ذوقه الفلسفي الخاص، وتصنيفه المتفرد بحسب ما يود التعبير عنه من الظواهر التي يعيها الإنسان.
كما أنّ تمهيد الكتاب الذي يغطي حوالي مئة صفحة منه، مهم لفهم بنية فصول الكتاب وآلية حركة أفكاره ونماذجه المختارة، فمن خلال "تاريخ الوعي الجمالي" انتقال في الشرح والبيان من الأكثر عمومية كـ"الكائن الجمالي" و"الوعي والفن" و"الوعي والأسطورة"، إلى الأكثر تخصيصاً كـ"الوعي والأدب" و"الوعي والفلسفة"، وصولاً إلى "الفكر الجمالي في الحضارة العربية ـ الإسلامية" و"الأنساق الجمالية ـ المعرفية" و"في المنظومة الجمالية العربية" وهي العناوين التي يبين فيها الدكتور سعد الدين كليب منهج الكتاب واتجاهه والنقاط الفارقة فيه وأهم محطاته الفكرية.
فـ"مع مطلع القرن الثالث للهجرة سوف يتشكّل الفكر الجمالي - النظري، وسوف نشهد النظرات الكلامية والفلسفية لما هو جميل وقبيح وجليل خاصة، مثلما سوف نشهد التنظيرات النقدية الأدبية والفنية الموسيقية، وقد صيغت بلغة اصطلاحية تجريدية، أو صيغت بنظرة منطقية منهجية، تأخذ بالاعتبار علاقة الجزء بالكل، أو علاقة البسيط بالمركب، أو الحسي بالروحي، كما تقوم على نوع من الإحصاء والمقارنة والتأويل، مما نجده لدى الجاحظ والكندي رائدي هذا الفكر."(ص83) و"في حين كان للفلاسفة والمتكلمين الإسهام الأول، كالجاحظ والفارابي والتوحيدي وإخوان الصفا وابن سينا، كان للمتصوفة والفقهاء، كالغزالي وابن عربي وابن الدباغ والجيلاني الإسهام الثاني لاعتبارات تاريخية ومعرفية معاً. أي أن التفكير النظري في الظاهرة الجمالية يعود إلى الفلاسفة وعلماء الكلام أولاً، ثم امتدّ إلى المتصوفة والفقهاء، ممن انشغلوا بها نظرياً."(ص95)
الجاحظ والكندي وحازم القرطاجني:
ويوضّح الدكتور سعد الدين كليب نظرته إلى البيئة التي تنشأ فيها النظرات والأفكار الجمالية في التراث، في تحليل يتأمل الحركة الفكرية بمراحلها ومؤثراتها واتجاه نموها، فـ"لقد كان للفلاسفة إسهام بالغ الخطورة في بلورة كل من نظرية الجمال ونظرية الفن، في تراثنا القديم. وقد لا نجد من غير الفلاسفة من اعتنى بهذين الحقلين معاً، إلا إذا كان متأثراً بهم من مثل حازم القرطاجني خاصة. فبالرغم من أن اشتغال القرطاجني ينضوي تحت النسق البلاغي أساساً، فإن نظراته الجمالية والفنية العامة لا تخفى على الناظر، فغالباً ما يعمم أحكامه وتوصيفاته البلاغية الخاصة بالشعر على الفنون، بما فيها الرسم والنحت. بل على الجمال في الطبيعة أيضاً، كحديثه عن حسن موقع المحاكاة في النفس. حيث يذهب إلى أن النفوس جبلت على التنبه لأنحاء المحاكاة والالتذاذ بها، ولذلك فهي مولعة بالتخييل والانفعال به، ولا أدل على ذلك من التذاذ النفوس حتى بالصور القبيحة المستبشعة حين تكون منقوشة أو مخطوطة ـ أي مرسومة ـ أو منحوتة. وكلما بلغت تلك الصور الغاية القصوى من الشبه بالمحاكى كان موقعها من النفوس مستلذاً، لا لأنها حسنة في ذاتها. بل لأنها حسنة المحاكاة".(ص96) "علماً أن للجاحظ حضوراً في معظم الأنساق الجمالية. فهو يقدم لنا مادة معرفية موضوعية وذاتية معاً، في الآداب العامة والبلاغة والفنون والأزياء والأذواق وجمالات النساء والرجال"(ص109)، فقد "كان الأصمعي وابن سلاّم الجمحي وسواهما يختطـّون بعض الملامح النظرية الأولية في النقد الأدبي؛ وهو ما سوف يتطور ويتردد صداه في القرن الثالث، لدى الجاحظ والكندي اللذين يمكن اعتبارهما رائدي التفكير الجمالي، ولاسيما في مبحث الجمال ومبحث الفن معاً... فمع الجاحظ والكندي أصبح بالإمكان الحديث عن نظرية في الجمال والفن ذات أسس عامة، تستند إلى الخبرة والمعرفة النظرية والمعالجة العقلية، أكثر مما تتكئ على الانطباعات الذوقية والتعبيرات الإنشائية والأحكام غير المعللة، كما كان سائداً قبلهما في الأعمّ الأغلب". (ص72 ، 73).
وقبل ذلك كله يمضي تمهيد الكتاب إلى ما قبل زمن المختارات الجمالية، إلى العصور القديمة التي أثرت في حياة العرب وبيئتهم الثقافية، فالشعر عند العرب قبل الإسلام: "فيه من الغنى الثقافي الدال على جملة عريضة، من الجماليات بأنواعها وأشكالها ومستوياتها، ما يجعلنا على معرفة جيدة نسبياً بالوعي الجمالي لدى العرب قبل الإسلام، وما بعده مباشرة أيضاً. غير أن الشعر ليس هو المصدر الوحيد أو شكل الوعي الأوحد. فهناك الأمثال الشعبية والمرويات السردية والأساطير والخرافات على قلة ما بين أيدينا منها؛ وهنالك ما وصلنا من أقوال حول أدوات الزينة وطرائقها، وأشكال الأزياء واللحى والعمائم، والألعاب الجماعية كسباق الخيل والنوق والمنافرة والمسامرة، مما استمرّ بعضه إلى ما بعد الإسلام، وتخلّف بعضه لاعتبارات دينية أو مجتمعية."(ص74)
لفظ الجمال ومتعلقاته:
أما لفظ الجمال نفسه وما يرتبط به، فقد اختصـّت به فصول وعبارات تنصّ عليه وتشير إلى حدوده، فأبو هلال العسكري يميز بين الحُسن وكل من الوضاءة والقسامة والوسامة والبهجة والصباحة والجمال، ويميـّز بين الجمال وكل من النبل والبهاء والسرور والتمام، وبين السرور وكل من الفرح والحبور، وبين القبح وكل من الوَحِش والسماجة، وبين الهم والغم، وبين الحزن وكل من الكرب والكآبة.(ص147)
ويحدّد ابن قيّم الجوزية: "اعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر وباطن. فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة".(ص499) ويقول كذلك: "وهذا فصلٌ في ذكر حقيقة الحُسن والجمال ما هي. وهذا أمر لا يدرك إلاّ بالوصف، وقد قيل: إنه تناسب الخلقة واعتدالُها واستواؤها، ورُبّ صورة متناسبة الخلقة وليست في الحسن هناك. وقد قيل: الحسْن في الوجه، والملاحة في العينين. وقيل الحسْن أمرٌ مركب من أشياء: وضاءة وصباحة وحُسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشرة. وقيل: الحسن معنى لا تناله العبارة ولا يحيط به الوصف، وإنما للناس منه أوصافٌ أمكن التعبير عنها".(ص505) ويمضي داود الأنطاكي إلى مفهوم الحُسن، إذ "الأصل في المحاسن والمطلوب عند العقلاء، في كل المواطن، إنما هو إصلاح السرائر وتهذيب البواطن لا الظواهر، وإنما ضُمّ إصلاح الظاهر إلى ما ذُكر طلباً لتحصيل الكمال ودلالة في الأغلب على الاعتدال... وقال بعضهم: الحسن الصريح ما استنتَطق بالتسبيح، أو هو تناسب الخلقة واعتدال البشرة وصفاء المادة، أو مركّبٌ من الوضاءة والتناسب والصباحة".(ص521، 522)
وبحسب ابن الدباغ "فالجمال الظاهر يُفهم بواسطة الحواس والقوى البدنية، والجمال الباطن تفهمه النفسُ من ذاتها بذاتها، لكن بإفادة العالم الأعلى".(ص439) ويذهب حازم القرطاجني إلى تصنيف القول، فـ"الأقاويل منقسمة بهذا الاعتبار بحسب البساطة والتركيب إلى سبعة أقسام: أقوال مفرحة، وأقوال شاجية، وأقوال مفجعة، وأقوال مؤتلفة من سارّة وشاجية، ومن سارّة ومفجعة، ومن شاجية ومفجعة، ومؤتلفة من الثلاث. وكانت النفوس تختلف فيما تميل إليه من هذه الأقسام بحسب ما عليه حالها، فإنها ليست تميل إلا إلى الأشبه بما هي فيه".(ص383)
*
ففي هذا الكتاب "تراثنا والجمال" الذي يجمع بين دفتيه عناصر تتجانس فيما بينها، وتمنح القارئ فرصة نادرة للجمع بين النصوص الفنية الذوقية والفكرية الفلسفية، في إطار من الجمال وتفرعاته من الحُسن والملاءمة والموافقة، إضافة ثمينة إلى المكتبة العربية وإلى الأجيال الجديدة من القراء الذين سيجدون ما يشدهم إلى قراءة التراث بروح الجمال.
*
رابط المقال في موقع ميدل إيست أونلاين: الأربعاء 27-6-2018
https://www.middle-east-online.com/%D...تراثنا والجمال مختارات من الفكر الجمالي القديم
Published on July 14, 2018 11:48
•
Tags:
تراثنا-والجمال-جمال-المتلقي-عصر
June 13, 2018
سليم يكتشف الربيع
سليم يكتشف الربيع
قصة: علياء الداية
قصة من تأليفي للأطفال، نشرت في مجلة ألوان أوروبا
"هيا بنا نختبئ! صاح الجميع مهرولين نحو أطراف البستان، وركض بعضهم إلى ما وراء سور الأحجار. ركض سليم مثلهم وهو يشعر أنه سيستمتع كثيراً بلعبة الاختباء هنا في البساتين مع أبناء أعمامه. السماء الزرقاء ممتدة تلوح فيها غيوم داكنة بعيدة عند خط الأفق، وكان سليم قد تعب من الركض وجلس على العشب الأخضر يفكر في هذا الريف الذي يحبه كثيراً، وقد نسي تماماً أنه يبحث عن مكان يختبئ فيه، وصارت أصوات الأولاد بعيدة جداً.
اللون الأخضر يغطي كل شيء هنا في المرج الشاسع حتى شجرة الجوز، وأزهار الأقحوان تتمايل مع النسيم العليل الذي يحمل قرصة برد من بقايا الشتاء. ولكن لفت انتباه سليم لون أحمر يبرز بين الحشائش، إنها زهرة غريبة لا يذكر أنه رآها من قبل، وقف سليم ومشى نحو الزهرة، فاكتشف وجود المزيد منها هنا وهناك على مرمى البصر.
"يا لها من زهرة جميلة! ستفرح جدتي بها" قال سليم لنفسه، ثم مضى إلى الأزهار يقطف باقة منها، ويضع معها بعض الأعشاب الخضراء، كما يفعل بائع الأزهار القريب من بيتهم في المدينة. وفكّر سليم بوالديه، وبإخوته الذين بقوا جميعاً في المدينة، فهم يقضون وقت عطلة الربيع بالدراسة استعداداً لامتحاناتهم، أما هو فربح فرصة زيارة جدته وأعمامه هنا في القرية.
وفجأة رأى سليم أبناء أعمامه يركضون باتجاه القرية! فسألهم: "هل انتهت اللعبة؟"، فأجابوه: "لا، ولكن الأمطار ستهطل قريباً، انظر إلى تلك الغيمة الكبيرة". وبالفعل كانت تلك الغيمة البعيدة قد اقتربت وهبّت معها الرياح.
صار سليم في البيت، أراد أن يقدم باقة الأزهار إلى جدته، ولكنها كانت في المطبخ تعدّ حساء اليوم. فقال لنفسه: "حسناً، سأعتمد على نفسي". وهكذا ملأ المزهرية الصغيرة بالماء، ووضع فيها الأزهار الحمراء الغريبة، والأعشاب الخضراء. كانت رائحة الحساء شهية وقد انتشرت في البيت كله. وبعد ساعة حين انتهى الغداء قال سليم لجدته: "جدتي الحبيبة، انظري ماذا جلبت لك من المرج اليوم"، والتفت يشير بيده إلى المزهرية، ولكن يا للدهشة! كانت الأزهار ذابلة، والأعشاب كذلك!
شعر سليم بالمفاجأة والحزن، وقال: "ولكنني متأكد من أني وضعت ماء في المزهرية، لماذا ذبلت النباتات؟" احتضنته جدته وابتسمت وهي تقول له: "حفيدي العزيز، هذه شقائق النعمان، وهي أزهار برية، تحب الحياة في الطبيعة، وتشعر بالقوة هناك، ولذلك تكون جميلة بلونها الأحمر القاني. إنها تزين الطبيعة، وليست كغيرها من الأزهار المزروعة أو الورود ذات الأشواك التي يمكنها أن تزين البيوت وأركان المنازل".
فقال سليم: "يا للأسف، لا يمكنني أن أحتفظ بها، يجب أن أذهب كل يوم إلى المرج حتى أراها". كانت السماء تمطر مطراً خفيفاً حين توجهت الجدة إلى مكتبة قريبة من النافذة حيث تبدو الغيوم وقطرات المطر. وقالت له: "تعال إلى هنا يا سليم، سأريك شيئاً. هذا دفتر أحتفظ فيه بالأزهار المجففة، ستحتفظ أنت أيضاً بأزهارك، أحضرها وسنضعها بين دفّتي كتاب حتى تجفّ، وتتذكر هذا اليوم الذي يجمع بين الشمس والمطر وشقائق النعمان".
* نشرت القصة في مجلة "ألوان أوروبا"، أول مجلة فصلية للأطفال باللغة العربية، تصدر في السويد، وتوزع في أوروبا، العدد الأول، آذار 2018
للحصول على المجلة التي صدر العدد الثاني منها قبل أيام، والاطلاع على نماذج من صفحاتها:
https://alwan-eu.se/
قصة: علياء الداية
قصة من تأليفي للأطفال، نشرت في مجلة ألوان أوروبا
"هيا بنا نختبئ! صاح الجميع مهرولين نحو أطراف البستان، وركض بعضهم إلى ما وراء سور الأحجار. ركض سليم مثلهم وهو يشعر أنه سيستمتع كثيراً بلعبة الاختباء هنا في البساتين مع أبناء أعمامه. السماء الزرقاء ممتدة تلوح فيها غيوم داكنة بعيدة عند خط الأفق، وكان سليم قد تعب من الركض وجلس على العشب الأخضر يفكر في هذا الريف الذي يحبه كثيراً، وقد نسي تماماً أنه يبحث عن مكان يختبئ فيه، وصارت أصوات الأولاد بعيدة جداً.
اللون الأخضر يغطي كل شيء هنا في المرج الشاسع حتى شجرة الجوز، وأزهار الأقحوان تتمايل مع النسيم العليل الذي يحمل قرصة برد من بقايا الشتاء. ولكن لفت انتباه سليم لون أحمر يبرز بين الحشائش، إنها زهرة غريبة لا يذكر أنه رآها من قبل، وقف سليم ومشى نحو الزهرة، فاكتشف وجود المزيد منها هنا وهناك على مرمى البصر.
"يا لها من زهرة جميلة! ستفرح جدتي بها" قال سليم لنفسه، ثم مضى إلى الأزهار يقطف باقة منها، ويضع معها بعض الأعشاب الخضراء، كما يفعل بائع الأزهار القريب من بيتهم في المدينة. وفكّر سليم بوالديه، وبإخوته الذين بقوا جميعاً في المدينة، فهم يقضون وقت عطلة الربيع بالدراسة استعداداً لامتحاناتهم، أما هو فربح فرصة زيارة جدته وأعمامه هنا في القرية.
وفجأة رأى سليم أبناء أعمامه يركضون باتجاه القرية! فسألهم: "هل انتهت اللعبة؟"، فأجابوه: "لا، ولكن الأمطار ستهطل قريباً، انظر إلى تلك الغيمة الكبيرة". وبالفعل كانت تلك الغيمة البعيدة قد اقتربت وهبّت معها الرياح.
صار سليم في البيت، أراد أن يقدم باقة الأزهار إلى جدته، ولكنها كانت في المطبخ تعدّ حساء اليوم. فقال لنفسه: "حسناً، سأعتمد على نفسي". وهكذا ملأ المزهرية الصغيرة بالماء، ووضع فيها الأزهار الحمراء الغريبة، والأعشاب الخضراء. كانت رائحة الحساء شهية وقد انتشرت في البيت كله. وبعد ساعة حين انتهى الغداء قال سليم لجدته: "جدتي الحبيبة، انظري ماذا جلبت لك من المرج اليوم"، والتفت يشير بيده إلى المزهرية، ولكن يا للدهشة! كانت الأزهار ذابلة، والأعشاب كذلك!
شعر سليم بالمفاجأة والحزن، وقال: "ولكنني متأكد من أني وضعت ماء في المزهرية، لماذا ذبلت النباتات؟" احتضنته جدته وابتسمت وهي تقول له: "حفيدي العزيز، هذه شقائق النعمان، وهي أزهار برية، تحب الحياة في الطبيعة، وتشعر بالقوة هناك، ولذلك تكون جميلة بلونها الأحمر القاني. إنها تزين الطبيعة، وليست كغيرها من الأزهار المزروعة أو الورود ذات الأشواك التي يمكنها أن تزين البيوت وأركان المنازل".
فقال سليم: "يا للأسف، لا يمكنني أن أحتفظ بها، يجب أن أذهب كل يوم إلى المرج حتى أراها". كانت السماء تمطر مطراً خفيفاً حين توجهت الجدة إلى مكتبة قريبة من النافذة حيث تبدو الغيوم وقطرات المطر. وقالت له: "تعال إلى هنا يا سليم، سأريك شيئاً. هذا دفتر أحتفظ فيه بالأزهار المجففة، ستحتفظ أنت أيضاً بأزهارك، أحضرها وسنضعها بين دفّتي كتاب حتى تجفّ، وتتذكر هذا اليوم الذي يجمع بين الشمس والمطر وشقائق النعمان".
* نشرت القصة في مجلة "ألوان أوروبا"، أول مجلة فصلية للأطفال باللغة العربية، تصدر في السويد، وتوزع في أوروبا، العدد الأول، آذار 2018
للحصول على المجلة التي صدر العدد الثاني منها قبل أيام، والاطلاع على نماذج من صفحاتها:
https://alwan-eu.se/
Published on June 13, 2018 13:08
•
Tags:
الربيع-ألوان-أوروبا-قصة-أطفال
December 30, 2017
قصر المرايا ـ قصة
قصر المرايا
قصة: علياء الداية
"قصر المرايا"! يستوقفه اسم المحل الذي تنتصب أمامه شجرة ميلاد جديدة، مزينة بكرات على شكل مرايا. ينظر الشاب في إحدى الكرات، فيرى نسخاً عديدة من وجهه، كثيرة كثرة المرايا الصغيرة المتراصة على سطح الكرة.
"ها قد بدأت مرحلة ما بعد الحرب بتسميات فخمة، ماذا لو أسموه كوخ المرايا مثلاً؟" يتساءل الشاب، وقد عزم على دخول القصر، أو الكوخ كما أسماه بينه وبين نفسه.
في الداخل، يكتشف الشاب بأنه ليس محلاً، بل هو مطعم، يجلس وقد صمم على تناول قطعة من حلوى عيد الميلاد الذي يقترب، ويفكّر فيمن تبقى من أصحابه هنا في المدينة، لعلهم يتفقون على المجيء إلى هذا المكان خلال أيام.
يغالب شعوره بالدوار، وقد تبيّن له بعد الوهلة الأولى أن كل ما في المطعم عبارة عن مرايا. "كيف تمكنوا من تصميمه وتنفيذه بهذا الشكل؟" كل شيء مرايا: السقف، الجدران، الأرضية، الطاولات، الصحون، أدوات الطعام، أينما نظرت رأيت نسخاً متكررة من الشيء نفسه، مدى لانهائي، اللون الفضي اللامع يسطو على المكان، حتى إن الشاب ينظر إلى نفسه ليتأكد من أنه ليس مرآة هو الآخر.
يتناول طبق الحلوى الذي طلبه، وهو يشعر بالسرور لأن الطعام حقيقي وليس مرآة. وقبل أن ينهض يدس يديه في جيوب معطفه بحثاً عن المحفظة والنقود، كان لسبب يجهله قد أزاح هذا المعطف إلى ركن بعيد من الخزانة لسنوات، قبل أن يقرر ارتداءه اليوم مع هبوب البرد الشديد. يبتسم وهو يتذكر عثوره دائماً على قطع نقدية متبقية منسية في جيوبه من شتاء لآخر، هذه العادة التي لم يفلح في التخلص منها. شيء ما لا يشبه ملمس النقود، إنه ورقي، هل هو منديل قديم؟ يُخرج الشاب يده من جيبه وتتلاحق في عينيه صور وانفعالات قديمة، وزمن لم يرغب في أن يقتحم خصوصية لحظته بعد أن وضعت الحرب أوزارها. كان ظرفاً ورقياً أبيض، يحتوي على سكّر.
تذكّر جيداً كيف أنه عثر على هذا الظرف ذات شتاء قبل سنوات، لم يكن ممكناً تناول الحلوى، كان السكّر مادة نادرة، استغنى عنها لفترة من الزمن، افتقدتها الأسواق، وعثر عليها هو... داخل ظرف كان قد نسيه في المعطف نفسه. أصبح هذا الظرف شيئاً ما يشبه التعويذة، يذكر جيداً أنه احتفظ به مطولاً، وهو يحلم بأن يصحو فيجد الظرف قد تحول إلى حمولات من السكر تملأ الأسواق وتلبي حاجة الجميع.
يتأمل الشاب الظرف من جديد، ينظر من حوله ليفاجأ بأن حلمه يتحقق، الظرف تحول إلى ظروف بيضاء تعكسها كل المرايا، والصحون، والجدران. يعيده إلى جيبه، يدفع الحساب، ويغادر المطعم.
وفي الخارج كانت السماء تُغرق المدينة بالثلج أبيض يهطل رويداً رويداً ويغطي الشجرة الوحيدة في الشارع المزدحم.
القصة في الرابط:
http://nourjournalism.com/art/68789.html
قصة: علياء الداية
"قصر المرايا"! يستوقفه اسم المحل الذي تنتصب أمامه شجرة ميلاد جديدة، مزينة بكرات على شكل مرايا. ينظر الشاب في إحدى الكرات، فيرى نسخاً عديدة من وجهه، كثيرة كثرة المرايا الصغيرة المتراصة على سطح الكرة.
"ها قد بدأت مرحلة ما بعد الحرب بتسميات فخمة، ماذا لو أسموه كوخ المرايا مثلاً؟" يتساءل الشاب، وقد عزم على دخول القصر، أو الكوخ كما أسماه بينه وبين نفسه.
في الداخل، يكتشف الشاب بأنه ليس محلاً، بل هو مطعم، يجلس وقد صمم على تناول قطعة من حلوى عيد الميلاد الذي يقترب، ويفكّر فيمن تبقى من أصحابه هنا في المدينة، لعلهم يتفقون على المجيء إلى هذا المكان خلال أيام.
يغالب شعوره بالدوار، وقد تبيّن له بعد الوهلة الأولى أن كل ما في المطعم عبارة عن مرايا. "كيف تمكنوا من تصميمه وتنفيذه بهذا الشكل؟" كل شيء مرايا: السقف، الجدران، الأرضية، الطاولات، الصحون، أدوات الطعام، أينما نظرت رأيت نسخاً متكررة من الشيء نفسه، مدى لانهائي، اللون الفضي اللامع يسطو على المكان، حتى إن الشاب ينظر إلى نفسه ليتأكد من أنه ليس مرآة هو الآخر.
يتناول طبق الحلوى الذي طلبه، وهو يشعر بالسرور لأن الطعام حقيقي وليس مرآة. وقبل أن ينهض يدس يديه في جيوب معطفه بحثاً عن المحفظة والنقود، كان لسبب يجهله قد أزاح هذا المعطف إلى ركن بعيد من الخزانة لسنوات، قبل أن يقرر ارتداءه اليوم مع هبوب البرد الشديد. يبتسم وهو يتذكر عثوره دائماً على قطع نقدية متبقية منسية في جيوبه من شتاء لآخر، هذه العادة التي لم يفلح في التخلص منها. شيء ما لا يشبه ملمس النقود، إنه ورقي، هل هو منديل قديم؟ يُخرج الشاب يده من جيبه وتتلاحق في عينيه صور وانفعالات قديمة، وزمن لم يرغب في أن يقتحم خصوصية لحظته بعد أن وضعت الحرب أوزارها. كان ظرفاً ورقياً أبيض، يحتوي على سكّر.
تذكّر جيداً كيف أنه عثر على هذا الظرف ذات شتاء قبل سنوات، لم يكن ممكناً تناول الحلوى، كان السكّر مادة نادرة، استغنى عنها لفترة من الزمن، افتقدتها الأسواق، وعثر عليها هو... داخل ظرف كان قد نسيه في المعطف نفسه. أصبح هذا الظرف شيئاً ما يشبه التعويذة، يذكر جيداً أنه احتفظ به مطولاً، وهو يحلم بأن يصحو فيجد الظرف قد تحول إلى حمولات من السكر تملأ الأسواق وتلبي حاجة الجميع.
يتأمل الشاب الظرف من جديد، ينظر من حوله ليفاجأ بأن حلمه يتحقق، الظرف تحول إلى ظروف بيضاء تعكسها كل المرايا، والصحون، والجدران. يعيده إلى جيبه، يدفع الحساب، ويغادر المطعم.
وفي الخارج كانت السماء تُغرق المدينة بالثلج أبيض يهطل رويداً رويداً ويغطي الشجرة الوحيدة في الشارع المزدحم.
القصة في الرابط:
http://nourjournalism.com/art/68789.html
Published on December 30, 2017 11:13
•
Tags:
قصر-مرايا-قصة-حرب-شجرة-سكر
August 13, 2017
الهوية وجدل الجمال والقبح في قصص الخيال العلمي العربية
الهوية وجدل الجمال والقبح
في قصص الخيال العلمي العربية
د. علياء الداية
لقصص الخيال العلمي جمهورها عبر العالم، وفي الساحة العربية تحظى بنسبة من المتابعة إبداعاً وتلقياً. وسواء غلب على القصص طابع الخيال في تصوّر حصول أمور غريبة أو عجيبة، أو طابع العلم في إيجاد تفسيرات معقولة أو منطقية لما يجري من أحداث محيّرة، فإنّ العنصر الأدبي هو الذي يجمع بين هذين المكوّنين. فالمهم هو وجود شخصية أو شخصيات لها موقف مما يجري حولها، إعجاباً أو معاناة، أو محض تأمل، ولا بدّ من أحداث وصراع يدور في زمن ومكان حقيقيين أو متخيّلين.
وفي نظرة إلى القصص المؤلَّفة عربياً ذات طابع الخيال العلمي، فإننا نجد قواسم مشتركة تعود بها إلى الأصول السابقة لهذا الخيال، كالسفر عبر الفضاء ومواجهة الآخرين الغرباء لدى لوقيان السميساطي الكاتب السوري القديم في قصّته "قصة حقيقية"(1)، وتجاور الواقعي والأسطوري وصراع القوى في الإلياذة والأوديسة الملحمتين اليونانيتين، واختراق المكان واكتشاف طبائع الكائنات لدى السندباد، أو كشف المستقبل والمفاجآت المخبوءة في ألف ليلة وليلة من المرويات العربية، وصولاً إلى العصر الحديث حيث لقاء الغرباء ودهشة الأماكن لدى كتّاب عديدين منهم على سبيل المثال راي برادبري، وهـ.ج.ويلز.
ومن خلال نموذج معاصر هو القصص المنشورة في مجلة "الخيال العلمي" التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية في دمشق، نرصد سمات ناظمة لتجربة كتابة قصة الخيال العلمي العربية، وذلك من خلال القصص ما بين العددين الأول والأربعين إذ نجد:
1 ـ إنّ الأسلوب الأقرب إلى الحكاية هو الأنسب لنوع الخيال العلمي، من حيث تدرّج الأحداث من بداية الظاهرة حتى نهايتها مروراً بالصراع وانتهاء بإيجاد حلّ لها أو استشراف مستقبلٍ ما. وبما أن أسلوب الحكاية شائع في كل من قصص الأطفال والأساطير، فإن قصص الخيال العلمي العربية تلتقي مع قصص الأطفال في التباين الحاد بين مفهومي الخير والشر، وهذا لا يعني أنهما مفهومان واضحان كل الوضوح داخل القصة، فخير الإنسان قد يكون شراً لسكان الكواكب الأخرى، أو لخصومه من الرجال الآليين مثلاً. كما أنها تلتقي مع قصص الأطفال في مفهوم "البطل" الذي يتحول في قصة الخيال العلمي إلى نموذج جمالي يسعى إلى الانتصار لقيمة الجمال في مواجهة القبح، سبيلاً أساسياً للوصول إلى الخير العام، وبغير هذا لا يكون بطلاً يقدّم الفائدة للمجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا يرتبط بتحقيق مفهوم الهوية كما سيظهر من خلال نماذج مختارة من هذه القصص.
2 ـ أما التقاء أسلوب قصص الخيال العلمي العربية مع الأساطير، فيظهر بشكل رئيسي من خلال التعرُّض للظواهر الخارقة التي قد يتمّ تفسيرها علمياً داخل القصة، أو تركُها مسرحاً للدهشة، ومن خلال محاكاة المفارقة بين مفهومي النقص والكمال من جهة، والجدلية بينهما من جهة أخرى، ففي الأساطير ثمة الإنسان، والآلهة، وأنصاف الآلهة، وتتداخل مجالات النفوذ والصلات بين هذه المفاهيم، فقد تنشب بينها حروب أو علاقات حب أو مكائد وصراعات، والأمر ذاته حاصل في القصص بين مفهومات مقابلة، هي: الإنسان، والإنسان الآلي، أو الإنسان ـ الكائن نصف الآلي، مع ملاحظة أن العلاقات بين هذه المكوّنات مضطربة، والغالب أن كلاً منها يبقى في مكانه يخطط وينظر إلى الآخر.
3 ـ إن أسلوب الحكاية ذاته يسمح ببعض الثغرات داخل الطبيعة الأدبية لقصص الخيال العلمي العربية، من بينها الانسياق في الأساليب الإنشائية، كوصف الأحاسيس أو جمال المكان أو قبحه ضمن تيار الوعي، إلى درجة تُنسي المتلقي الموضوع الأساسي للقصة. ويبرز أيضاً طول الحوار على حساب الحدث، إذ يتمّ تلخيص الماضي والحاضر من خلال حوار الشخصيات وهي في مكانها لا تتحرك، وقد يحتوي الحوار على سرد من العبارات التقريرية حول النظريات والعلوم مما يُضجر القارئ. ويلجأ المؤلّف أحياناً إلى ابتكار نهاية مبتورة في خاتمة القصة، ناجمة عن الحيرة في إيجاد مخرج بَعد التعقيد العلمي الحاصل داخل النص. وقريب من ذلك أيضاً جنوح النص القصصي نحو الخرافات، وامتزاج القضية العلمية الأصلية بخوارق لا يتقبّل القارئ المعاصر وجودها من دون تفسير منطقي.
4 ـ تُجمع شريحة واسعة من قصص الخيال العلمي العربية على أهمية مفهوم "الهوية"، وغالباً يرتبط هذا المفهوم ببطل القصة الذي يرغب في إثبات ذاته، ويكون إما منتمياً إلى جماعة أرضية ـ كوكب الأرض ـ أو راغباً في اكتشاف أصوله نظراً لحيرته حول حقيقة أصله، وقد يقع في مأزق تحديد الهوية حين تثمر تساؤلاته عن مفاجأة كونه رجلاً آلياً من أحفاد البشر.
القوي والضعيف:
يعزز وعي بطل القصة بكونه ضعيفاً من تمسكه بهويته ومحاولة الاطمئنان إلى هوية الآخر الخصم، أو الآخر المجهول الذي يبرز داخل الأحداث، وقد يضطر إلى الصراع معه. وتنصّ كل من قصة "في بطن الجبل" للدكتور طالب عمران(2)، و"قارئ الأفكار" للدكتور فواز سيّوف(3) على كلمة "الهوية". ففي قصة "في بطن الجبل" يقول زياد إنه سيحتفظ بالولاّعة في الكيس الذي يحتوي بطاقة هويته، وفي "قارئ الأفكار" يتم استخدام تقنية "لصق الهوية" لمعرفة هوية طرفي الاتصال. إن الهدف في القصة الأولى هو حفاظ زياد وزينة على حياتهما، ورغبتهما في الخروج من المكان الخطر الذي علقا فيه. ثمة مفارقة بين العناصر القبيحة التي تحيط بهما كالخفافيش والمياه القذرة، والراحة التي حصلا عليها فجأة حين ظهر الشيخ الغريب ذو اللحية البيضاء، ومن ثمّ تبدّى حوله أتباعه وزوجته العجوز. ويجدر بالذكر أن الصورة التقليدية للشيخ بلحيته البيضاء تظهر أيضاً في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف(4)، إذ إن هذا المظهر التقليدي للشيخ ملازم للصورة الجمعية المتخيلة له عبر محكيّات التراث وصولاً إلى العصر الحالي، وهذا ما يتصل بالتساؤل التقليدي كذلك حول هوية هذا الكائن، إذ إنّ زينة في قصة "في بطن الجبل" تسأل الشيخ عن هويته، فيؤكد لها أنه ليس من الجان.
في كل من القصتين "في بطن الجبل" و"قارئ الأفكار" لا يعاني الأبطال من خطر حقيقي يتهدد هويتهم، فزياد وزينة في قصة "في بطن الجبل" ضعيفان ولكن أهل بطن الجبل يساعدونهما من دون مقابل، ويقدّمون لهما أطايب الطعام والشراب، بما يوافق الصورة التقليدية لنعيم الجنة، وما يوافق الحلم الذي رآه زياد أثناء غيبوبته. ويستمر الواقع الجميل والمريح إلى نهاية سعيدة حيث يخرج زياد وخطيبته زينة إلى سطح الأرض ويعودان إلى أسرتيهما بعد أن حُسبا من الأموات بسبب السيول التي تسببت في انهيار المبنى الذي كانا فيه.
أما قصة "قارئ الأفكار" فهي تُقابل بين إمكانيات القوة والضعف، التي تتوافق مع احتمالات السعادة والشقاء، والجمال والقبح في واقع الحياة. فمع البرنامج المسمّى "نمر صوت" يمكن لمستخدميه أن يقرؤوا أفكار بعضهم بعضاً، ومشاعرهم، ويؤدّي هذا داخل القصة إلى كشف المطامع حيناً، ونيّات العمل الصادق حيناً آخر. ويكاد الصراع الخفي ينشب بين خبيري البرنامج الأجنبيين والمدراء المحليين الذين ينوون شراء نسخة من البرنامج وتشغيله على نطاق واسع، ولكن يتم استدراك ذلك وتعود الحياة إلى مجراها الذي ينحو إلى الجمال على حساب القبح، ويتم تعديل بعض فقرات البرنامج، فتحُول سياسة الطرفين دون الانقسام الواضح إلى قوي وضعيف.
يبرز صراع القوة والضعف على نحو كبير في قصتي "الإنسان الفوتون" للدكتور عمار سليمان علي(5)، و"الحجرات الرقمية" لسامر أنور الشمالي(6). إذ إنّ بطلي القصتين يرغبان في تحدّي الكائنات الفضائية أو العجيبة غير الأرضية، واختراق مجال نشاطها، إما للسفر عبر الفضاء المكاني غير المرئي كما في "الإنسان الفوتون"، أو للعودة إلى كوكب الأرض كما في "الحجرات الرقمية". إنّ بطل "الإنسان الفوتون" يعي ضعفه أمام الطبيعة ولكنه يتحدّاها ويقدّم أمام الجمهور فتحاً علمياً جديداً بناءً على تجربة اختبرها بنفسه عدة مرات في أوقات سابقة. إذ يتصوّر راوي القصة وجود قبيلة من الفوتونات، ويقوم بطل القصة بانتحال شخصية أحد الفوتونات ليبدو كأنه من أفراد القبيلة، وبهذا التنكّر يمكنه الحصول على مزايا الفوتون بالتنقل السريع غير المرئي عبر طرفي اتصال؛ فيذهب مثلاً من موقع مدينة أوغاريت السورية القديمة إلى المكسيك. إنه يرغب في تحقيق تجربة علمية وفق مبدأ "الكمال" جمالياً، فيمتلك الأسباب التي تجعل الحياة أسهل وأجمل في الانتقال حيثما يريد وما يتبع ذلك من إمكانيات واسعة. ولكن مفارقة القصة أن قوة البطل تتحول إلى ضعف، فقبيلة الفوتونات اكتشفت الحيلة، وامتلكت زمام القوة واحتجزت البطل لديها بلا رجعة، وانهارت أحلام الحياة الجميلة.
ولا يغيب استخدام تقنية الفوتونات عن بعض القصص المعاصرة كما في "أبي حزمة من الضوء تجوب الأكوان" لياسر محمود(7)، حيث يختفي الرجل أثناء محاولته السفر عبر الزمن ويرجّح العلماء أنه تحول إلى طيف من الفوتونات. إنّ السفر بهذا الشكل يذكّرنا إلى حدّ ما بقصة الدكتور عبد السلام العجيلي "زيلوس كوكب الغيرة"(8)، مع فارق أنّ بطل العجيلي تحوّل إلى فوتون أثناء عملية السفر، لكنّ خللاً في الإرسال جعله يتحول في نقطة الوصول إلى تابع جديد لكوكب زحل.
في قصة "الحجرات الرقمية" يتأخر البطل في التساؤل عن هويته وهدف وجوده، فهو يركن إلى حياة الدعة والراحة التي تحيل كل ما حوله إلى جمال. إنّه يتحكم في نوع الطقس في الحُجرة التي يقطنها ـ الحُجرة الرقمية ـ وهي نموذج لحجرات الكوكب الغريب الذي يعيش فيه، ويعدّل الإضاءة كما يشاء، وتأتي الأماكن إليه بدلاً من أن يسافر إليها. ولكنه يفطن إلى عزلته وقد استبدّ به الملل، ويوقن بأنه مجرد إنسان ضعيف يقبل بأن يكون حقلاً لتجارب يجريها عليه سكّان الكوكب الغريب، فيتساءل للمرة الأولى بما ينمّ على حنينه إلى هويته. يرغب في لقاء بشر مثله، ومغادرة المكان الرقمي إلى مكان حي، وكأنه يستوعب ثقل واقعه الممل الأقرب إلى القبح في رتابته وافتقاره إلى حركة الحياة. غير أن مفارقة النهاية تكون في أن كوكب الأرض نفسه تحوّل إلى حجرات رقمية، أي إن الزمن المتسارع جعل حضارة الأرض تضمحلّ وتُختصر إلى ما سبقها إليه الكوكب الغريب، فضاعت الهوية المثالية التي كان البطل ينتمي إليها. وهذه النهاية ـ العودة إلى نقطة البداية وتبادلية الأدوار أو السير على منوال الكواكب المنكوبة ـ تَلوح في عدة قصص معاصرة، منها على سبيل المثال "أنقذوا هذا الكوكب" لصلاح معاطي(9)، إذ يضحك العلماء من رسالة تصلهم يستنجد فيها سكان كوكبٍ بعيد فقدَ شروط الحياة لانحرافه عن مساره حول نجم مجموعته الشمسية، والسبب هو جنوح السكان عن القيم والفضائل، ليتحوّل الضحك إلى ألم حين يُعلن أحد العلماء عن اكتشافٍ يقول بأن الأرض نفسها بدأت بالخروج عن مسارها!
الرجل والمرأة:
من اللافت أن الأسرة تؤدي دوراً مركزياً في قصص الخيال العلمي العربية، إذ لا تكاد قصة تخلو من أفراد الأسرة الذين يقفون إلى جانب البطل في تجاربه، كما هي زوجة بطل قصة "الإنسان الفوتون"، وزينة خطيبة زياد في قصة "في بطن الجبل"، أو يكونون جزءاً من التجارب أو متلقّين لها كما هم أفراد عائلات العلماء والطلاب في قصة "قارئ الأفكار". غير أن بعض القصص يركز على علاقة الرجل بالمرأة في كونها المحفز الأساسي لوعي البطل بمفهوم الهوية وسعيه إليه والاختلاف عن الآخر الخصم. ففي قصة "المرقوم" لـ لينا كيلاني(10)، يستوقف بطلَ القصة المرقوم وجهُ سلمى الذي يَلوح له فجأة بين الحشود، فيضيع تركيزه على الأرقام ويفقد وظيفته في السيرك، وهو في انتقاله إلى عمل آخر يتّسم بالخطورة، يَشترط أن يتركّز في إحدى راحتيه جهاز يُنبئه بالعثور على سلمى حين يمكن ذلك. لقد كان المرقوم متخبّطاً في الحياة لا يفرّق بين طموحه الشخصي وأطماع الآخرين من الساحر إلى مدير السيرك إلى قبطان السفينة إلى مدراء المركز العلمي السرّي، ولكن وجود سلمى في مخيلته أيقظ شرارةً من جمال الحياة وسط رتابة الآلات وشرائح الإلكترونيات الرقمية الأقرب إلى القبح. ويتّضح هذا القبح لاحقاً حين يكتشف المرقوم أنه عبارة عن آلة كبيرة زُرعت بالشرائح بهدف التجسس، لا بهدف تحسين حياة الناس.
وتزداد الصورة قبحاً وسوداوية حين يكتشف أيضاً بأنه مراقَب. لقد قرر أن الطريقة الوحيدة لإثبات هويته الخيّرة المنفصلة عن الآخرين هي أن يقضي على نفسه، ولكن هذا الخيار لم يكن في يده.
وتشبه نهاية "المرقوم" إلى حد كبير النهاية في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف، فبطل "حذار إنه قادم" يدرك متأخراً بأنه عبارة عن رجل نصف آلي، هدف العلماء هو تحويله إلى إنسان. ويقترن مفهوم الإنسان بالمتوحشين الذين دمروا كوكبهم فيما سبق من الزمان. لذا فإن البطل يرغب عن هذه التجربة، ويهرب بعيداً إلى الغابة، ليكتشف بقايا "المتوحشين" ويعجب بفتاتهم "سوها" وتكون منفذاً له إلى إدراك الجمال والإحساس به. وهنا يدرك البطل الفارق الآلي بينه وبين المتوحشين، وصعوبة معيشته بينهم، ولذلك يقرر الانتقام من صانعيه، الذين يرمز مركزهم العلمي النووي إلى القبح مقابل جمال الحياة في وحشيتها، ويذهب إلى المركز وفي نيته تفجير نفسه فيه. إنه في هذه القصة يمتلك أسباب الفعل التدميري لذاته وللآخرين، بشكل يختلف عن "المرقوم".
وتتميز قصة "أقنعة" لصلاح معاطي(11) بأن أحداثها تدور في بيئة بشرية خالية من الآلات. إنّ البطل الشاب "أحمد عبد الفتاح" يتمرّد على الواقع الذي لا يبصر منه سوى القبح والنفاق والزيف في سلوك الناس وأفعالهم، فيحصل على قناع جديد لوجه عجوز، يحتوي على "مادة سحرية" كما يصفها الطبيب، ويغيّر اسمه إلى "رشاد"، ويتطبّع بطباع رجل عجوز. وينخرط في حياة جديدة لا أحد يعرفه فيها، وينفصل عن كل واقعه القديم، ولا تشير القصة إلى أنه بات واقعاً أقل قبحاً. ويصادف أن يقع حادث لرشاد، إذ تصدمه سيارة فتاة ووالدها، فيقبع في المستشفى ويتعرف هذين الشخصين ويعجب بالفتاة. وهنا يرغب في تغيير واقعه إلى الأجمل والعودة إلى الشخصية القديمة حيث "أحمد عبد الفتاح" الشاب، ولكن يسقط في يده، وتنتابه الخيبة والرعب حين لا يسفر خلع القناع عن شيء، فقد اكتسى وجهه الشاب القديم سمات القناع الجديد، وتشرّبها فصارا شيئاً واحداً، ليكون إنكاره هويته وسعيه إلى التخلص منها نافذة على شقاء وقبح جديد لا جمال فيه كما كان يعتقد.
****
الهوامش:
1 ـ أعمال لوقيانوس السميساطي المفكر السوري الساخر في القرن الثاني الميلادي، ترجمة: سعد صائب و مفيد عرنوق، دار المعرفة، دمشق، ط1، 1987
2 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد35، حزيران2011، قصة "في بطن الجبل"، د.طالب عمران، ص72ـ87
3 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد18، كانون الثاني2010، قصة "قارئ الأفكار"، د.فواز سيّوف، ص46ـ52
4 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد17، كانون الأول2009، قصة "حذار إنه قادم، نهاد شريف، ص44ـ49
5 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد22، أيار2010، قصة "الإنسان الفوتون"، د.عمار سليمان علي، ص53ـ55
6 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد4، تشرين الثاني2008، قصة "الحجرات الرقمية"، سامر أنور الشمالي، ص98ـ101
7 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد37، آب2011، قصة "أبي حزمة من الضوء تجوب الأكوان"، ياسر محمود، ص64ـ67
8 ـ رصيف العذراء السوداء، عبد السلام العجيلي، دار الشرق العربي، بيروت، 1988، قصة "زيلوس كوكب الغيرة"، ص55ـ103
9 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد29، كانون الأول2010، قصة "أنقذوا هذا الكوكب"، صلاح معاطي، ص66ـ69
10 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد40، تشرين الثاني2011، قصة "المرقوم"، لينا كيلاني، ص54ـ59
11 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد15، تشرين الأول2009، قصة "الأقنعة"، صلاح معاطي، ص76ـ80
* نشر المقال في موقع "ميدل إيست أونلاين" ـ الأحد 13 آب/ أغسطس 2017
رابط المقال:
http://www.middle-east-online.com/?id...
في قصص الخيال العلمي العربية
د. علياء الداية
لقصص الخيال العلمي جمهورها عبر العالم، وفي الساحة العربية تحظى بنسبة من المتابعة إبداعاً وتلقياً. وسواء غلب على القصص طابع الخيال في تصوّر حصول أمور غريبة أو عجيبة، أو طابع العلم في إيجاد تفسيرات معقولة أو منطقية لما يجري من أحداث محيّرة، فإنّ العنصر الأدبي هو الذي يجمع بين هذين المكوّنين. فالمهم هو وجود شخصية أو شخصيات لها موقف مما يجري حولها، إعجاباً أو معاناة، أو محض تأمل، ولا بدّ من أحداث وصراع يدور في زمن ومكان حقيقيين أو متخيّلين.
وفي نظرة إلى القصص المؤلَّفة عربياً ذات طابع الخيال العلمي، فإننا نجد قواسم مشتركة تعود بها إلى الأصول السابقة لهذا الخيال، كالسفر عبر الفضاء ومواجهة الآخرين الغرباء لدى لوقيان السميساطي الكاتب السوري القديم في قصّته "قصة حقيقية"(1)، وتجاور الواقعي والأسطوري وصراع القوى في الإلياذة والأوديسة الملحمتين اليونانيتين، واختراق المكان واكتشاف طبائع الكائنات لدى السندباد، أو كشف المستقبل والمفاجآت المخبوءة في ألف ليلة وليلة من المرويات العربية، وصولاً إلى العصر الحديث حيث لقاء الغرباء ودهشة الأماكن لدى كتّاب عديدين منهم على سبيل المثال راي برادبري، وهـ.ج.ويلز.
ومن خلال نموذج معاصر هو القصص المنشورة في مجلة "الخيال العلمي" التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية في دمشق، نرصد سمات ناظمة لتجربة كتابة قصة الخيال العلمي العربية، وذلك من خلال القصص ما بين العددين الأول والأربعين إذ نجد:
1 ـ إنّ الأسلوب الأقرب إلى الحكاية هو الأنسب لنوع الخيال العلمي، من حيث تدرّج الأحداث من بداية الظاهرة حتى نهايتها مروراً بالصراع وانتهاء بإيجاد حلّ لها أو استشراف مستقبلٍ ما. وبما أن أسلوب الحكاية شائع في كل من قصص الأطفال والأساطير، فإن قصص الخيال العلمي العربية تلتقي مع قصص الأطفال في التباين الحاد بين مفهومي الخير والشر، وهذا لا يعني أنهما مفهومان واضحان كل الوضوح داخل القصة، فخير الإنسان قد يكون شراً لسكان الكواكب الأخرى، أو لخصومه من الرجال الآليين مثلاً. كما أنها تلتقي مع قصص الأطفال في مفهوم "البطل" الذي يتحول في قصة الخيال العلمي إلى نموذج جمالي يسعى إلى الانتصار لقيمة الجمال في مواجهة القبح، سبيلاً أساسياً للوصول إلى الخير العام، وبغير هذا لا يكون بطلاً يقدّم الفائدة للمجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا يرتبط بتحقيق مفهوم الهوية كما سيظهر من خلال نماذج مختارة من هذه القصص.
2 ـ أما التقاء أسلوب قصص الخيال العلمي العربية مع الأساطير، فيظهر بشكل رئيسي من خلال التعرُّض للظواهر الخارقة التي قد يتمّ تفسيرها علمياً داخل القصة، أو تركُها مسرحاً للدهشة، ومن خلال محاكاة المفارقة بين مفهومي النقص والكمال من جهة، والجدلية بينهما من جهة أخرى، ففي الأساطير ثمة الإنسان، والآلهة، وأنصاف الآلهة، وتتداخل مجالات النفوذ والصلات بين هذه المفاهيم، فقد تنشب بينها حروب أو علاقات حب أو مكائد وصراعات، والأمر ذاته حاصل في القصص بين مفهومات مقابلة، هي: الإنسان، والإنسان الآلي، أو الإنسان ـ الكائن نصف الآلي، مع ملاحظة أن العلاقات بين هذه المكوّنات مضطربة، والغالب أن كلاً منها يبقى في مكانه يخطط وينظر إلى الآخر.
3 ـ إن أسلوب الحكاية ذاته يسمح ببعض الثغرات داخل الطبيعة الأدبية لقصص الخيال العلمي العربية، من بينها الانسياق في الأساليب الإنشائية، كوصف الأحاسيس أو جمال المكان أو قبحه ضمن تيار الوعي، إلى درجة تُنسي المتلقي الموضوع الأساسي للقصة. ويبرز أيضاً طول الحوار على حساب الحدث، إذ يتمّ تلخيص الماضي والحاضر من خلال حوار الشخصيات وهي في مكانها لا تتحرك، وقد يحتوي الحوار على سرد من العبارات التقريرية حول النظريات والعلوم مما يُضجر القارئ. ويلجأ المؤلّف أحياناً إلى ابتكار نهاية مبتورة في خاتمة القصة، ناجمة عن الحيرة في إيجاد مخرج بَعد التعقيد العلمي الحاصل داخل النص. وقريب من ذلك أيضاً جنوح النص القصصي نحو الخرافات، وامتزاج القضية العلمية الأصلية بخوارق لا يتقبّل القارئ المعاصر وجودها من دون تفسير منطقي.
4 ـ تُجمع شريحة واسعة من قصص الخيال العلمي العربية على أهمية مفهوم "الهوية"، وغالباً يرتبط هذا المفهوم ببطل القصة الذي يرغب في إثبات ذاته، ويكون إما منتمياً إلى جماعة أرضية ـ كوكب الأرض ـ أو راغباً في اكتشاف أصوله نظراً لحيرته حول حقيقة أصله، وقد يقع في مأزق تحديد الهوية حين تثمر تساؤلاته عن مفاجأة كونه رجلاً آلياً من أحفاد البشر.
القوي والضعيف:
يعزز وعي بطل القصة بكونه ضعيفاً من تمسكه بهويته ومحاولة الاطمئنان إلى هوية الآخر الخصم، أو الآخر المجهول الذي يبرز داخل الأحداث، وقد يضطر إلى الصراع معه. وتنصّ كل من قصة "في بطن الجبل" للدكتور طالب عمران(2)، و"قارئ الأفكار" للدكتور فواز سيّوف(3) على كلمة "الهوية". ففي قصة "في بطن الجبل" يقول زياد إنه سيحتفظ بالولاّعة في الكيس الذي يحتوي بطاقة هويته، وفي "قارئ الأفكار" يتم استخدام تقنية "لصق الهوية" لمعرفة هوية طرفي الاتصال. إن الهدف في القصة الأولى هو حفاظ زياد وزينة على حياتهما، ورغبتهما في الخروج من المكان الخطر الذي علقا فيه. ثمة مفارقة بين العناصر القبيحة التي تحيط بهما كالخفافيش والمياه القذرة، والراحة التي حصلا عليها فجأة حين ظهر الشيخ الغريب ذو اللحية البيضاء، ومن ثمّ تبدّى حوله أتباعه وزوجته العجوز. ويجدر بالذكر أن الصورة التقليدية للشيخ بلحيته البيضاء تظهر أيضاً في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف(4)، إذ إن هذا المظهر التقليدي للشيخ ملازم للصورة الجمعية المتخيلة له عبر محكيّات التراث وصولاً إلى العصر الحالي، وهذا ما يتصل بالتساؤل التقليدي كذلك حول هوية هذا الكائن، إذ إنّ زينة في قصة "في بطن الجبل" تسأل الشيخ عن هويته، فيؤكد لها أنه ليس من الجان.
في كل من القصتين "في بطن الجبل" و"قارئ الأفكار" لا يعاني الأبطال من خطر حقيقي يتهدد هويتهم، فزياد وزينة في قصة "في بطن الجبل" ضعيفان ولكن أهل بطن الجبل يساعدونهما من دون مقابل، ويقدّمون لهما أطايب الطعام والشراب، بما يوافق الصورة التقليدية لنعيم الجنة، وما يوافق الحلم الذي رآه زياد أثناء غيبوبته. ويستمر الواقع الجميل والمريح إلى نهاية سعيدة حيث يخرج زياد وخطيبته زينة إلى سطح الأرض ويعودان إلى أسرتيهما بعد أن حُسبا من الأموات بسبب السيول التي تسببت في انهيار المبنى الذي كانا فيه.
أما قصة "قارئ الأفكار" فهي تُقابل بين إمكانيات القوة والضعف، التي تتوافق مع احتمالات السعادة والشقاء، والجمال والقبح في واقع الحياة. فمع البرنامج المسمّى "نمر صوت" يمكن لمستخدميه أن يقرؤوا أفكار بعضهم بعضاً، ومشاعرهم، ويؤدّي هذا داخل القصة إلى كشف المطامع حيناً، ونيّات العمل الصادق حيناً آخر. ويكاد الصراع الخفي ينشب بين خبيري البرنامج الأجنبيين والمدراء المحليين الذين ينوون شراء نسخة من البرنامج وتشغيله على نطاق واسع، ولكن يتم استدراك ذلك وتعود الحياة إلى مجراها الذي ينحو إلى الجمال على حساب القبح، ويتم تعديل بعض فقرات البرنامج، فتحُول سياسة الطرفين دون الانقسام الواضح إلى قوي وضعيف.
يبرز صراع القوة والضعف على نحو كبير في قصتي "الإنسان الفوتون" للدكتور عمار سليمان علي(5)، و"الحجرات الرقمية" لسامر أنور الشمالي(6). إذ إنّ بطلي القصتين يرغبان في تحدّي الكائنات الفضائية أو العجيبة غير الأرضية، واختراق مجال نشاطها، إما للسفر عبر الفضاء المكاني غير المرئي كما في "الإنسان الفوتون"، أو للعودة إلى كوكب الأرض كما في "الحجرات الرقمية". إنّ بطل "الإنسان الفوتون" يعي ضعفه أمام الطبيعة ولكنه يتحدّاها ويقدّم أمام الجمهور فتحاً علمياً جديداً بناءً على تجربة اختبرها بنفسه عدة مرات في أوقات سابقة. إذ يتصوّر راوي القصة وجود قبيلة من الفوتونات، ويقوم بطل القصة بانتحال شخصية أحد الفوتونات ليبدو كأنه من أفراد القبيلة، وبهذا التنكّر يمكنه الحصول على مزايا الفوتون بالتنقل السريع غير المرئي عبر طرفي اتصال؛ فيذهب مثلاً من موقع مدينة أوغاريت السورية القديمة إلى المكسيك. إنه يرغب في تحقيق تجربة علمية وفق مبدأ "الكمال" جمالياً، فيمتلك الأسباب التي تجعل الحياة أسهل وأجمل في الانتقال حيثما يريد وما يتبع ذلك من إمكانيات واسعة. ولكن مفارقة القصة أن قوة البطل تتحول إلى ضعف، فقبيلة الفوتونات اكتشفت الحيلة، وامتلكت زمام القوة واحتجزت البطل لديها بلا رجعة، وانهارت أحلام الحياة الجميلة.
ولا يغيب استخدام تقنية الفوتونات عن بعض القصص المعاصرة كما في "أبي حزمة من الضوء تجوب الأكوان" لياسر محمود(7)، حيث يختفي الرجل أثناء محاولته السفر عبر الزمن ويرجّح العلماء أنه تحول إلى طيف من الفوتونات. إنّ السفر بهذا الشكل يذكّرنا إلى حدّ ما بقصة الدكتور عبد السلام العجيلي "زيلوس كوكب الغيرة"(8)، مع فارق أنّ بطل العجيلي تحوّل إلى فوتون أثناء عملية السفر، لكنّ خللاً في الإرسال جعله يتحول في نقطة الوصول إلى تابع جديد لكوكب زحل.
في قصة "الحجرات الرقمية" يتأخر البطل في التساؤل عن هويته وهدف وجوده، فهو يركن إلى حياة الدعة والراحة التي تحيل كل ما حوله إلى جمال. إنّه يتحكم في نوع الطقس في الحُجرة التي يقطنها ـ الحُجرة الرقمية ـ وهي نموذج لحجرات الكوكب الغريب الذي يعيش فيه، ويعدّل الإضاءة كما يشاء، وتأتي الأماكن إليه بدلاً من أن يسافر إليها. ولكنه يفطن إلى عزلته وقد استبدّ به الملل، ويوقن بأنه مجرد إنسان ضعيف يقبل بأن يكون حقلاً لتجارب يجريها عليه سكّان الكوكب الغريب، فيتساءل للمرة الأولى بما ينمّ على حنينه إلى هويته. يرغب في لقاء بشر مثله، ومغادرة المكان الرقمي إلى مكان حي، وكأنه يستوعب ثقل واقعه الممل الأقرب إلى القبح في رتابته وافتقاره إلى حركة الحياة. غير أن مفارقة النهاية تكون في أن كوكب الأرض نفسه تحوّل إلى حجرات رقمية، أي إن الزمن المتسارع جعل حضارة الأرض تضمحلّ وتُختصر إلى ما سبقها إليه الكوكب الغريب، فضاعت الهوية المثالية التي كان البطل ينتمي إليها. وهذه النهاية ـ العودة إلى نقطة البداية وتبادلية الأدوار أو السير على منوال الكواكب المنكوبة ـ تَلوح في عدة قصص معاصرة، منها على سبيل المثال "أنقذوا هذا الكوكب" لصلاح معاطي(9)، إذ يضحك العلماء من رسالة تصلهم يستنجد فيها سكان كوكبٍ بعيد فقدَ شروط الحياة لانحرافه عن مساره حول نجم مجموعته الشمسية، والسبب هو جنوح السكان عن القيم والفضائل، ليتحوّل الضحك إلى ألم حين يُعلن أحد العلماء عن اكتشافٍ يقول بأن الأرض نفسها بدأت بالخروج عن مسارها!
الرجل والمرأة:
من اللافت أن الأسرة تؤدي دوراً مركزياً في قصص الخيال العلمي العربية، إذ لا تكاد قصة تخلو من أفراد الأسرة الذين يقفون إلى جانب البطل في تجاربه، كما هي زوجة بطل قصة "الإنسان الفوتون"، وزينة خطيبة زياد في قصة "في بطن الجبل"، أو يكونون جزءاً من التجارب أو متلقّين لها كما هم أفراد عائلات العلماء والطلاب في قصة "قارئ الأفكار". غير أن بعض القصص يركز على علاقة الرجل بالمرأة في كونها المحفز الأساسي لوعي البطل بمفهوم الهوية وسعيه إليه والاختلاف عن الآخر الخصم. ففي قصة "المرقوم" لـ لينا كيلاني(10)، يستوقف بطلَ القصة المرقوم وجهُ سلمى الذي يَلوح له فجأة بين الحشود، فيضيع تركيزه على الأرقام ويفقد وظيفته في السيرك، وهو في انتقاله إلى عمل آخر يتّسم بالخطورة، يَشترط أن يتركّز في إحدى راحتيه جهاز يُنبئه بالعثور على سلمى حين يمكن ذلك. لقد كان المرقوم متخبّطاً في الحياة لا يفرّق بين طموحه الشخصي وأطماع الآخرين من الساحر إلى مدير السيرك إلى قبطان السفينة إلى مدراء المركز العلمي السرّي، ولكن وجود سلمى في مخيلته أيقظ شرارةً من جمال الحياة وسط رتابة الآلات وشرائح الإلكترونيات الرقمية الأقرب إلى القبح. ويتّضح هذا القبح لاحقاً حين يكتشف المرقوم أنه عبارة عن آلة كبيرة زُرعت بالشرائح بهدف التجسس، لا بهدف تحسين حياة الناس.
وتزداد الصورة قبحاً وسوداوية حين يكتشف أيضاً بأنه مراقَب. لقد قرر أن الطريقة الوحيدة لإثبات هويته الخيّرة المنفصلة عن الآخرين هي أن يقضي على نفسه، ولكن هذا الخيار لم يكن في يده.
وتشبه نهاية "المرقوم" إلى حد كبير النهاية في قصة "حذار إنه قادم" لنهاد شريف، فبطل "حذار إنه قادم" يدرك متأخراً بأنه عبارة عن رجل نصف آلي، هدف العلماء هو تحويله إلى إنسان. ويقترن مفهوم الإنسان بالمتوحشين الذين دمروا كوكبهم فيما سبق من الزمان. لذا فإن البطل يرغب عن هذه التجربة، ويهرب بعيداً إلى الغابة، ليكتشف بقايا "المتوحشين" ويعجب بفتاتهم "سوها" وتكون منفذاً له إلى إدراك الجمال والإحساس به. وهنا يدرك البطل الفارق الآلي بينه وبين المتوحشين، وصعوبة معيشته بينهم، ولذلك يقرر الانتقام من صانعيه، الذين يرمز مركزهم العلمي النووي إلى القبح مقابل جمال الحياة في وحشيتها، ويذهب إلى المركز وفي نيته تفجير نفسه فيه. إنه في هذه القصة يمتلك أسباب الفعل التدميري لذاته وللآخرين، بشكل يختلف عن "المرقوم".
وتتميز قصة "أقنعة" لصلاح معاطي(11) بأن أحداثها تدور في بيئة بشرية خالية من الآلات. إنّ البطل الشاب "أحمد عبد الفتاح" يتمرّد على الواقع الذي لا يبصر منه سوى القبح والنفاق والزيف في سلوك الناس وأفعالهم، فيحصل على قناع جديد لوجه عجوز، يحتوي على "مادة سحرية" كما يصفها الطبيب، ويغيّر اسمه إلى "رشاد"، ويتطبّع بطباع رجل عجوز. وينخرط في حياة جديدة لا أحد يعرفه فيها، وينفصل عن كل واقعه القديم، ولا تشير القصة إلى أنه بات واقعاً أقل قبحاً. ويصادف أن يقع حادث لرشاد، إذ تصدمه سيارة فتاة ووالدها، فيقبع في المستشفى ويتعرف هذين الشخصين ويعجب بالفتاة. وهنا يرغب في تغيير واقعه إلى الأجمل والعودة إلى الشخصية القديمة حيث "أحمد عبد الفتاح" الشاب، ولكن يسقط في يده، وتنتابه الخيبة والرعب حين لا يسفر خلع القناع عن شيء، فقد اكتسى وجهه الشاب القديم سمات القناع الجديد، وتشرّبها فصارا شيئاً واحداً، ليكون إنكاره هويته وسعيه إلى التخلص منها نافذة على شقاء وقبح جديد لا جمال فيه كما كان يعتقد.
****
الهوامش:
1 ـ أعمال لوقيانوس السميساطي المفكر السوري الساخر في القرن الثاني الميلادي، ترجمة: سعد صائب و مفيد عرنوق، دار المعرفة، دمشق، ط1، 1987
2 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد35، حزيران2011، قصة "في بطن الجبل"، د.طالب عمران، ص72ـ87
3 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد18، كانون الثاني2010، قصة "قارئ الأفكار"، د.فواز سيّوف، ص46ـ52
4 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد17، كانون الأول2009، قصة "حذار إنه قادم، نهاد شريف، ص44ـ49
5 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد22، أيار2010، قصة "الإنسان الفوتون"، د.عمار سليمان علي، ص53ـ55
6 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد4، تشرين الثاني2008، قصة "الحجرات الرقمية"، سامر أنور الشمالي، ص98ـ101
7 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد37، آب2011، قصة "أبي حزمة من الضوء تجوب الأكوان"، ياسر محمود، ص64ـ67
8 ـ رصيف العذراء السوداء، عبد السلام العجيلي، دار الشرق العربي، بيروت، 1988، قصة "زيلوس كوكب الغيرة"، ص55ـ103
9 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد29، كانون الأول2010، قصة "أنقذوا هذا الكوكب"، صلاح معاطي، ص66ـ69
10 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد40، تشرين الثاني2011، قصة "المرقوم"، لينا كيلاني، ص54ـ59
11 ـ مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد15، تشرين الأول2009، قصة "الأقنعة"، صلاح معاطي، ص76ـ80
* نشر المقال في موقع "ميدل إيست أونلاين" ـ الأحد 13 آب/ أغسطس 2017
رابط المقال:
http://www.middle-east-online.com/?id...
Published on August 13, 2017 11:36
•
Tags:
جمال-قبح-خيال-علمي-قصص-هوية
August 3, 2017
وليد إخلاصي في آلة الزمن
وليد إخلاصي في آلة الزمن
د. علياء الداية
ينطلق وليد إخلاصي في فهمه للزمن من مقولات محددة: "الحياة لها قيمة لا يمكن الإحساس بها إلا من خلال العمل والعمل المبرمج. فأنا بالرغم من مزاجي الفني الذي يتحكم في طريقة تفكيري وطرائق كتابتي المتعددة. فإنني مقيد إلى مفهوم "طاعة الوقت" الذي اكتشفت أن الإفلات منه هو سر من أسرار التخلف. أي أن الخضوع للزمن التاريخي هو التقدم، أما التمرد على الزمن الاجتماعي فهو الفن"(1)، إننا نكتشف أنه مولع بالزمن، وهذا ما يتّضح أكثر لدى نظرتنا إلى مجمل أعماله الأدبية على وجه العموم، وبعضها على وجه الخصوص. فعلى الرغم من طرحه فكرة "طاعة الوقت"، فإنه يفتح باب الفن على مصراعيه حين يتعلق الأمر بمفهوم "الزمن" ليفصل بين الوقت المحدد، والزمن الممتد. الوقت الذي يمكن رصده بالساعة، ودقائقها وثوانيها، والزمن الذي لا تتسع له صفحات كثيرة.
ومع التجريب الذي اشتهر به وليد إخلاصي في أعماله كافة، يمكن أن نلمح بسهولة لجوءه إلى ما يمكن تسميته بـ"لعبة الزمن"، ويمكن أيضاً أن نعاين اهتمامه الواضح بالمكان الذي يتمحور في كثير من الحالات حول مدينته الأثيرة مدينة حلب.
الزمن الحلبي... إبداعياً :
يصرّح وليد إخلاصي في عدة حوارات أجريت معه بارتباطه الوثيق بمدينة حلب، إما على الصعيد المكاني حين يقرّر قائلاً: "نزعة الملكية الوحيدة المتجسدة عندي هي انتمائي للمدينة وللأماكن والناس، لا أستطيع أن أتصور نفسي صاحب منصب في دمشق مثلاً، أو مهاجراً إلى الخليج أو موظفاً في سفارة في باريس"(2)، أو على الصعيد الزمني حين يذهب في شوط بعيد يقف فيه مشرفاً على سهول التاريخ وجباله ومقادير الزمن: "في علاقتي مع حلب نشأ عندي غرور شديد قد يكون عيباً فيّ لأنني أعتبر نفسي الشاهد الدائم على ما يجري في المدينة، وعلى ما بقي منها، وبالرغم من أن مثل هذا القرار لا يحق لي لكنني أصرّ عليه!"(3)، و"الموقف اللاحيادي يبعدني عن خانة المؤرخين الذي نعرفهم بحياديتهم، فأنا لست أميناً على حلب لأني أحبها وأغفر لها كل ما يحدث وسوف يحدث في المستقبل".(4)
وبين المكان والزمن يقف الحلم برزخاً يصل الوعي الداخلي الباطن بالوعي الظاهر، بالكتابة نفسها: "إن مختبري الداخلي مازال يعمل، وقد لا ألام إذا اعترفت بأن معادلات الكيمياء الداخلية مازالت مجهولة من قبلي. أعتمد كثيراً على أحلام أراها في نومي، وكثيراً ما تكون الكتابة هي الشكل الشرعي الوحيد لممارسة حريتي الشخصية"(5)، فـ"الفكرة تخرج مع شكلها دون تفكير... وأن أراها في الحلم يعني أنها في ذهني منذ فترة طويلة، وتأتي بشكل غير معقول والكتابة تعقلنها، أراها بتفاصيلها وتقول لي اكتبني"(6)، فالأحلام طالما كانت مكوّناَ من مكونات السيرة الذاتية لدى أدباء كثر(7)، ولكنها عند إخلاصي فسحة للإبداع نفسه.
كثيراً ما يُنظر إلى المدينة نقدياً في تجليها الإبداعي على أنها مكان للضياع والخيبة والألم، وأنها على تضاد مع انطلاق الإنسان، وأنها تعيق قدرته على التكيف نظراً لبعده عن الطبيعة أو لانغماسه في المشكلات والأزمات الاجتماعية.(8) إن حلب بوصفها عاملاً مكانياً لدى وليد إخلاصي لا تبتعد كثيراً عن هذا الطرح، إذ نجد لديه شخصيات مأزومة إلى جانب المكان المأزوم، غير أنها تمتاز لديه بتفاصيل وجزئيات صغيرة تعدل الكفّة، لتغدو الحارة والقلعة والبيت والمقهى، أمكنة أليفة يأنس بها بطل القصة أو الرواية، وحتى السيرة الذاتية، فتمحو شيئاً من اليأس الذي يزرعه الزمن أو سيرورة التاريخ وأحداثه الدامية أو المهيبة.
وانطلاقاً من فكرة التجريب الزمني لدى وليد إخلاصي، نجد أنه يحتفي به على نحو خاص في كل ما يدور معه من أحاديث حول تجربته الإبداعية، فيأخذ محاورَه وقارئه في رحلة عبر الزمن، أحياناً بالترتيب منذ الطفولة عبر الشباب إلى مرحلة الآراء والأفكار حول الواقع والإبداع والحياة، وأحياناً أخرى من فكرة إلى فكرة مختلفة، كل منهما في زمن معيّن.
وعلى صعيد السيرة الذاتية يظهر الزمن المتشعّب والأحداث التي قد تتكرر أو ترد من غير ترتيب معين، كما في كتابه "حلب بورتريه بألوان معتّقة"، فهو يقترب كثيراً من السيرة الذاتية، في أسلوبه وعرض أحداثه التي جرت ذات أيام بعيدة، ولكنه أشبه بمن يركب آلة الزمن، لا لتأخذه إلى الماضي أو المستقبل فحسب، بل لتمزج بين محطات الماضي، ماضٍ قريب تارة، ثم أقرب، ثم أبعد، والنافذة تنفتح في كل محطة ليعاين القارئ مشهداً حافلاً بلقطات بطلها وليد إخلاصي طفلاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم يافعاً...
أما بالنظر إلى قصصه القصيرة، فقد قدّم لنا وليد إخلاصي مفتاحاً مهماً لتصوره الزمني في أحد حواراته: "عندي تحولات كل عشر سنين، في فترة كنت أكتب بالمقهى، لكن منذ عشرين سنة أكتب على ترابيزتي، لا بد أن يكون "البايب" موجوداً حتى لو لم أدخنه، ولا بد أن تكون هناك أقلام كثيرة، ولا أستخدم منها إلا واحداً لا يتغير، وأجلس على الكرسي الذي لا يتغير (غيّرته أخيراً بعد أن صار غير محتمل). أحياناً أكتب ثلاثة أيام متواصلة، وفي سرعة الدفع الأولى لا أنشغل بشيء آخر، وعندما يأخذ العمل إيقاعه أستطيع أن أخرج منه وأدخل إليه".(9) ومع أنه ربط هذه التحولات بالمكان المحرّض الإبداعي، فإنه مرتبط بالزمن وطبيعة معالجته قصصياً بما لا يبتعد عن مفهوم الفانتازيا أو التخييل الذي بات راسخاً لديه. فمن خلال معاينة قصصه ومجموعاته نلحظ في عقد الستينات فانتازيا القصص الشعبي، كما في قصّتََي "الأفعى وأيام الحرب" و"دماء في الصبح الأغبر"، وفي عقد السبعينات فانتازيا الحكاية المتخيَّلة، كما في "مساكن للعصافير"، وفي عقد الثمانينات ثمة الفانتازيا التاريخية والاجتماعية كـ"الميوا تاء" و"ليلة الكلب المرحة" و"أيها القادم الجميل" و"مجنون القصر" و"خميس الأصدقاء" و"شجرة جوز لهذا الزمن". أما عقد التسعينات فينحو إلى الفانتازيا الرمزية، كما في "نافذة في القطار" و"دمية عالقة في الشجرة"، يترك فيها للقارئ أن يستنتج ما يجري في ذهن بطل القصة وما يعايشه.
إن كل القصص السابقة تحتوي على المكان الحلبي، الذي قد يمثّله شارع أو مجموعة حارات قديمة، أو حيّ كـ باب جنين (باب الجِنان)، أو نهر قويق، أو قلعة حلب المعلَم الأشهر فيها عبر العصور، أو أحد مساجدها كـ جامع الأُطْرُوش، أو مقاهيها كـ مقهى القصر. وتمتد هذه الأمكنة لتفرش بظلالها على أسلوب الكاتب في العقد الأول من الألفية الثالثة، حيث نجد على سبيل المثال نصّه "تخريفات حلبية" الذي يتخذ أسلوب الحكاية أكثر من القصة، ويتوزّع فيه البطل السارد بين الزمن والأمكنة المتحولة فيه ضمن المدينة الواحدة "حلب"، مع تساؤله وهو يحاول حل أحجية الموت التي تشغله على مدار الصفحات. وهذه الحكاية نفسها تم تضمينها لاحقاً في كتابه "حلب بورتريه بألوان معتقة" لتأخذ حيزاً بين مثيلاتها من النصوص السيرية المتنوعة، إن إخلاصي يقرّر: "أعترف بأمر واحد وهو نظرية (الحكاية) والحكاية هي أكثر الأساليب إنسانية في ربط البشر ببعضهم، وفي نقل المعرفة من طرف إلى طرف، وفي تحفيز الروح للبحث عن الحقيقة، وأخيراً في خلق الوسط الكيميائي الجمالي لدى الآخر".(10)
حلب... وألوانها المعتّقة :
يذهب وليد إخلاصي في "حلب بورتريه بألوان معتّقة" إلى حارات مدينته، وإلى حارات سيرته الذاتية الموسّعة، فبدءاً من العنوان تتصدر حلب الجملة، ثم يمتزج المصطلح الأجنبي للصورة الشخصية "بورتريه" بالمعتّق القديم الأصيل، مقترناً بالألوان التي تدل بوصفها كلمة مفردة على ألوان طيف كثيرة، لكنها في العنوان معتّقة تترك لحلب ألق الحضور ببهاء حروف اسمها، ليرسم وليد إخلاصي عملياً لوحتها التي يهوى داخل صفحات كتابه.
إنه يجعل للكتاب مقدمة وخاتمة تزخران بأسلوب حكائي، يشكّل الأوّل مدخلاً إلى المدينة من جهة وجدان الكاتب يختتمه بعبارة الحكواتي الشهيرة "تلك هي الحكاية باختصار يا سادة يا كرام"(11)، أما الثاني ـ الخاتمة ـ فهو يشبه جولة قطار في المدينة عبر تاريخها، وأهم الشخصيات التي مرت في حياة صاحب السيرة الذاتية، ثم في حياة المدينة. وما بين المقدمة والخاتمة يقوم الكاتب بنزهته مع آلة الزمن، مستفيداً من تقنيات الحكاية ولعبة الكلمات وأرضية المكان، فلا يتبقى سوى الزمن الذي تتوالى محطاته دون تعاقب محدد، فينتقل وليد إخلاصي من استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946، إلى التصورات الشعبية حول الأولياء، والأحداث الروحية، ثم يعود إلى طرفٍ من السياسة لدى حديثه عن صديقه الفلسطيني منذ طفولته حتى تلقيه نبأ مصرعه شاباً، ليستعيد سحر المكان حيث حيّ الفرافرة المرتبط معناه بالعصافير والطيور، ثم ينتقل إلى صنف آخر من الحيوانات وهي الحرادين، وما كان يشاع بين الأطفال من أن دماءها تقي الأيدي من ألم الضرب. يتجول وليد إخلاصي من باب جنين حيث مسكنهم القديم، ليعبُر سكة الترامواي إلى البيت الذي قطنه لاجئون من السودان يبيعون الفستق السوداني، ليقفز إلى سيرة النسيمي والسهروردي ومقاميهما في حلب، ثم يتحدث عن الاستقلال من جديد وعن أفول نجم اللغة الفرنسية. ولا يُغفل الحديث عن مدرسته في المرحلة الابتدائية المدرسة الحمدانية، حيث ذكرياته مع الأساتذة والأحداث البارزة وصراعات المدينة والطلاب، ليربط القارئ مذكّراً إياه بالعصر الحالي عام تأليف الكتاب 2005 حيث المحطات الفضائية.
وفي معرض الحديث عن مدرسة التجهيز الأولى في حلب التي أصبح اسمها مدرسة المأمون لاحقاً، قد يذكر بعض القراء من مثقفي المدينة وأصدقاء إخلاصي أن مكتبه كان لفترة من الزمن على بعد أمتار قليلة من مدرسته السابقة.
وتستمر صفحات حلب في اجتذاب القارئ، فمن الأحزاب بعد استقلال سوريا، إلى حيّ الجَلُّوم والعلاّمة خير الدين الأسدي الذي تُروى حكايات حول وجهة نظره في امتحانات الطلاب، وذهابه للتنقيب عن كهوف المدينة القديمة، وارتحاله مسافراً إلى مدينة طشقند للبحث عن أصل حلوى الهيطلية وصحونها وملاعقها الشهيرة. ويصل إخلاصي في صفحاته إلى دار الكتب الوطنية في باب الفرج، ثم يعود إلى طفولته ويكشف عن أماكن وفعاليات متجاورة في المدينة الواحدة، من مثل سوق الجمعة، والمكتبات، والسينما. ويطيب له أن يسرد حكاية حادثة العطب الذي أصاب طائرة فهوت أثناء الحفل فوق الحشود التي كان قريباً منها؛ ويختتم بالحديث عن جامع الأطروش وغيره من المعالم والشخصيات.
فانتازيا الحكاية والقصة:
يميل التجريب الزمني لدى وليد إخلاصي نحو فانتازيا القصص الشعبي، كما في قصة "دماء في الصبح الأغبر" 1961، حيث تتراءى التصورات الطفولية التي تجرّ الأولاد إلى عواقب مؤلمة ومعذّبة لهم. فالطفل راوي القصة يتمكّن من اجتياز خندق القلعة وتسلّق صخورها على الرغم من النباتات الشائكة والأحجار الناتئة ليحقق بطولة بين أقرانه، أما صديقه الفلسطيني، فلم تمكّنه ساقه الخشبية من اجتياز الخندق، وكان نصيبه الوقوع فيه قريباً من حالة الموت، مثيراً أسى جميع من وصلوا إلى المكان وشفقتهم. وكغيرها من القصص وبعض أجزاء السيرة الذاتية للكاتب، تعصف الأسئلة بذهن الطفل دون إجابة، فمَن يسكن القلعة؟ إنهم قدامى حلب، لكن لا أحد يعرف من هم بالتحديد. ويزعم بعض الأطفال أن جدّه كان يسكنها: "وأتدخل مجيباً: إنها تلة وبنوا عليها قلعة، إنها قديمة. ويقول الثالث واثقاً: سكنها آدم عليه السلام، وشرب إبراهيم فيها اللبن من بقرته. جدّي كان يسكنها أيضاً!"(12) أما الأستاذ فهو لا يجيب: "وحين كنا نلجأ إلى أستاذ التاريخ نسأله الحقيقة، كان يهدد بوضع صفر لكل من يتدخل فيما لا يعنيه".(13) من هنا تبدو علاقة متأزمة بين المكان الواضح "القلعة" والزمن الغامض "تاريخ المدينة".
أما قصة "مساكن للعصافير" 1972، فهي أقرب إلى الحكاية المتخيّلة، حيث يجيز السارد لنفسه أن يجعل العصافير تتكلم وتتحاور مع إدارة الحديقة وجباة المال فيها، إلى جانب الأطفال والأمهات؛ "أما الأطفال فقد تساءلوا عن سر التعاسة المقيمة، وتوجّه بعضهم إلى شجرة سرو هرمة يطلب أجوبة لكل سؤال يدور في رأسه، فقصّت الشجرة عليهم كل الحكاية وكيف أن العصافير اضطرت إلى الهجرة لأنها لا تملك مالاً تدفعه أجرة لأعشاشها الصغيرة".(14) والمهم في هذه القصة هو انفتاح أفق المستقبل أمام الحياة والأطفال والعصافير، حين يجمعون المال، ويعود ما تبقى من العصافير لمتابعة الحياة، إنها الحياة التي لم يفهمها الكبار أو يتعاطفوا معها.
يعود إخلاصي في فترة الثمانينات إلى أسئلة الماضي، والتاريخ على وجه الخصوص، فبعد الطفولة والمستقبل في العقدين الماضيين، تنطوي قصة "خميس الأصدقاء" 1981 على الماضي حيث تاريخ المدينة الدامي الذي تعكسه صورة "جامع الأطروش" المعلّقة أمام سارد القصة. لقد شهدت مدينة حلب العديد من الزلازل الطبيعية في تاريخها، ولكن بطل القصة يربط بين الزلزال الحقيقي أو الهزّة الأرضية الخفيفة، برعب التاريخ والدم، الماضي الذي يشكّل كابوساً وحلماً مريعاً يصادف أن تراه أكثر من شخصية في القصة على التتابع، من البطل إلى صديقه كمال، ثم وحيد، ثم سعد، على اختلاف صفاتهم ومجالات أعمالهم. إن مخاوف الزمن تمتد إلى الجميع ويدخلون في حال عبثية من التأمل الذي يترك المجال فيه للقارئ في النهاية، فلعبة الزمن لا تكتمل.
أما القصة في عقد التسعينات الذي يسبق قصة "تخاريف حلبية"، وكتاب "حلب بورتريه بألوان معتّقة"، فهي "نافذة في القطار" 1991، وتشكّل حالة نموذجية للزمن المؤطّر بقطار، وتكون الفتاة الشابة التي يراها بطل القصة عبر نافذة القطار عيّنة من سير الحياة الذي يؤثّر فيه الزمن. إن بطل القصة لا يعي أنه متغيّر أيضاً، بل يحسب أنه في رحلة قطار اعتيادية كرحلاته السابقة المألوفة عبر العالم: "ما أكثر المرّات التي ركبت فيها القطار، حلب ـ اللاذقية. ميلانو ـ زيوريخ عبر جبال الألب التي يصلّي ثلجها لسماء مغلقة. باريس ـ الهافر. موسكو ـ ليننغراد والثلج الوضّاء في عتمة ليل بارد. ونترتور ـ برن. دنفر ـ سلولت ليك سيتي وصحارى الملح المنبسطة تعقب جبال الهنود الحمر العالية. قطارات وذكريات ووجوه عابرة لا تذكر منها سوى العيون المتطلعة إلى وصول عاجل. أنهار وغابات، غيوم تلهث راكضة، أحلام تعيد الشباب إلى الطفولة وتهرع بالكهولة إلى الأمل"(15)، ويقرر بأن ما يراه من النافذة خاضع لقانون الحركة النسبي فـ"المتعة في القطار أنك تكتشف الحركة على حقيقتها، الأشياء الجديدة... اللحظات الجديدة... القطار يطوي المسافات وتتعاقب الطبيعة والمدن. شجرة، حقل من الأزهار البرية، أعمدة الكهرباء والهاتف تختفي لتظهر، أبقار تتهادى متفاخرة بضروع ملآنة بالحليب، سرب من الطيور يهاجر عكس الرحلة".(16) غير أن دهشته تتسع لتصل إلى مرحلة اليقين بحركة الزمن حين يلمح فتاة شابة، ثم يستوعب في المرة التالية أنها نفسها المرأة الحامل، ثم هي المرأة مع الطفل الصغير، وأخيراً فهي تظهر بشعر شائب، ليبدأ القارئ في تجميع أجزاء اللوحة من حول بطل القصة، بين فنجان القهوة الساخن، فالبارد، فالطاولة وقطار الزمن الذي يمضي، وتمضي معه عقود الزمن يوثّقها الإبداع بمراحله لدى وليد إخلاصي.
******
الهوامش:
(1) مواجهات نقدية ولقاءات، المجلد الحادي عشر، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص399
(2) المصدر السابق، ص128
(3) المصدر السابق، ص129
(4) المصدر السابق، ص363
(5) المصدر السابق، ص175
(6) المصدر السابق، ص354
(7) ينظر: ترجمة النفس ـ السيرة الذاتية في الأدب العربي، تحرير: دُوَيْت راينولدز، ترجمة: سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، الطبعة الأولى 2009 ، ص133
(8) ينظر: المدينة الضحلة ـ تثريب المدينة في الرواية العربية، د. صلاح صالح، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى، 2014 ، ص9
(9) مواجهات نقدية ولقاءات، ص355
(10) المصدر السابق، ص329
(11) حلب بورتريه بألوان معتّقة، وليد إخلاصي، دار نون4 ، حلب، الطبعة الأولى،2006، ص9
(12) الدهشة في العيون القاسية وقصص أخرى، المجلد الخامس، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص92
(13) المصدر السابق، ص93
(14) المصدر السابق، ص191
(15) خان الورد وقصص أخرى، المجلد السادس، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص323،324
(16) المصدر السابق، ص323
* نشر المقال في موقع "ثقافات"، الخميس 3 آب/ أغسطس 2017
http://thaqafat.com/2017/08/83821
د. علياء الداية
ينطلق وليد إخلاصي في فهمه للزمن من مقولات محددة: "الحياة لها قيمة لا يمكن الإحساس بها إلا من خلال العمل والعمل المبرمج. فأنا بالرغم من مزاجي الفني الذي يتحكم في طريقة تفكيري وطرائق كتابتي المتعددة. فإنني مقيد إلى مفهوم "طاعة الوقت" الذي اكتشفت أن الإفلات منه هو سر من أسرار التخلف. أي أن الخضوع للزمن التاريخي هو التقدم، أما التمرد على الزمن الاجتماعي فهو الفن"(1)، إننا نكتشف أنه مولع بالزمن، وهذا ما يتّضح أكثر لدى نظرتنا إلى مجمل أعماله الأدبية على وجه العموم، وبعضها على وجه الخصوص. فعلى الرغم من طرحه فكرة "طاعة الوقت"، فإنه يفتح باب الفن على مصراعيه حين يتعلق الأمر بمفهوم "الزمن" ليفصل بين الوقت المحدد، والزمن الممتد. الوقت الذي يمكن رصده بالساعة، ودقائقها وثوانيها، والزمن الذي لا تتسع له صفحات كثيرة.
ومع التجريب الذي اشتهر به وليد إخلاصي في أعماله كافة، يمكن أن نلمح بسهولة لجوءه إلى ما يمكن تسميته بـ"لعبة الزمن"، ويمكن أيضاً أن نعاين اهتمامه الواضح بالمكان الذي يتمحور في كثير من الحالات حول مدينته الأثيرة مدينة حلب.
الزمن الحلبي... إبداعياً :
يصرّح وليد إخلاصي في عدة حوارات أجريت معه بارتباطه الوثيق بمدينة حلب، إما على الصعيد المكاني حين يقرّر قائلاً: "نزعة الملكية الوحيدة المتجسدة عندي هي انتمائي للمدينة وللأماكن والناس، لا أستطيع أن أتصور نفسي صاحب منصب في دمشق مثلاً، أو مهاجراً إلى الخليج أو موظفاً في سفارة في باريس"(2)، أو على الصعيد الزمني حين يذهب في شوط بعيد يقف فيه مشرفاً على سهول التاريخ وجباله ومقادير الزمن: "في علاقتي مع حلب نشأ عندي غرور شديد قد يكون عيباً فيّ لأنني أعتبر نفسي الشاهد الدائم على ما يجري في المدينة، وعلى ما بقي منها، وبالرغم من أن مثل هذا القرار لا يحق لي لكنني أصرّ عليه!"(3)، و"الموقف اللاحيادي يبعدني عن خانة المؤرخين الذي نعرفهم بحياديتهم، فأنا لست أميناً على حلب لأني أحبها وأغفر لها كل ما يحدث وسوف يحدث في المستقبل".(4)
وبين المكان والزمن يقف الحلم برزخاً يصل الوعي الداخلي الباطن بالوعي الظاهر، بالكتابة نفسها: "إن مختبري الداخلي مازال يعمل، وقد لا ألام إذا اعترفت بأن معادلات الكيمياء الداخلية مازالت مجهولة من قبلي. أعتمد كثيراً على أحلام أراها في نومي، وكثيراً ما تكون الكتابة هي الشكل الشرعي الوحيد لممارسة حريتي الشخصية"(5)، فـ"الفكرة تخرج مع شكلها دون تفكير... وأن أراها في الحلم يعني أنها في ذهني منذ فترة طويلة، وتأتي بشكل غير معقول والكتابة تعقلنها، أراها بتفاصيلها وتقول لي اكتبني"(6)، فالأحلام طالما كانت مكوّناَ من مكونات السيرة الذاتية لدى أدباء كثر(7)، ولكنها عند إخلاصي فسحة للإبداع نفسه.
كثيراً ما يُنظر إلى المدينة نقدياً في تجليها الإبداعي على أنها مكان للضياع والخيبة والألم، وأنها على تضاد مع انطلاق الإنسان، وأنها تعيق قدرته على التكيف نظراً لبعده عن الطبيعة أو لانغماسه في المشكلات والأزمات الاجتماعية.(8) إن حلب بوصفها عاملاً مكانياً لدى وليد إخلاصي لا تبتعد كثيراً عن هذا الطرح، إذ نجد لديه شخصيات مأزومة إلى جانب المكان المأزوم، غير أنها تمتاز لديه بتفاصيل وجزئيات صغيرة تعدل الكفّة، لتغدو الحارة والقلعة والبيت والمقهى، أمكنة أليفة يأنس بها بطل القصة أو الرواية، وحتى السيرة الذاتية، فتمحو شيئاً من اليأس الذي يزرعه الزمن أو سيرورة التاريخ وأحداثه الدامية أو المهيبة.
وانطلاقاً من فكرة التجريب الزمني لدى وليد إخلاصي، نجد أنه يحتفي به على نحو خاص في كل ما يدور معه من أحاديث حول تجربته الإبداعية، فيأخذ محاورَه وقارئه في رحلة عبر الزمن، أحياناً بالترتيب منذ الطفولة عبر الشباب إلى مرحلة الآراء والأفكار حول الواقع والإبداع والحياة، وأحياناً أخرى من فكرة إلى فكرة مختلفة، كل منهما في زمن معيّن.
وعلى صعيد السيرة الذاتية يظهر الزمن المتشعّب والأحداث التي قد تتكرر أو ترد من غير ترتيب معين، كما في كتابه "حلب بورتريه بألوان معتّقة"، فهو يقترب كثيراً من السيرة الذاتية، في أسلوبه وعرض أحداثه التي جرت ذات أيام بعيدة، ولكنه أشبه بمن يركب آلة الزمن، لا لتأخذه إلى الماضي أو المستقبل فحسب، بل لتمزج بين محطات الماضي، ماضٍ قريب تارة، ثم أقرب، ثم أبعد، والنافذة تنفتح في كل محطة ليعاين القارئ مشهداً حافلاً بلقطات بطلها وليد إخلاصي طفلاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم يافعاً...
أما بالنظر إلى قصصه القصيرة، فقد قدّم لنا وليد إخلاصي مفتاحاً مهماً لتصوره الزمني في أحد حواراته: "عندي تحولات كل عشر سنين، في فترة كنت أكتب بالمقهى، لكن منذ عشرين سنة أكتب على ترابيزتي، لا بد أن يكون "البايب" موجوداً حتى لو لم أدخنه، ولا بد أن تكون هناك أقلام كثيرة، ولا أستخدم منها إلا واحداً لا يتغير، وأجلس على الكرسي الذي لا يتغير (غيّرته أخيراً بعد أن صار غير محتمل). أحياناً أكتب ثلاثة أيام متواصلة، وفي سرعة الدفع الأولى لا أنشغل بشيء آخر، وعندما يأخذ العمل إيقاعه أستطيع أن أخرج منه وأدخل إليه".(9) ومع أنه ربط هذه التحولات بالمكان المحرّض الإبداعي، فإنه مرتبط بالزمن وطبيعة معالجته قصصياً بما لا يبتعد عن مفهوم الفانتازيا أو التخييل الذي بات راسخاً لديه. فمن خلال معاينة قصصه ومجموعاته نلحظ في عقد الستينات فانتازيا القصص الشعبي، كما في قصّتََي "الأفعى وأيام الحرب" و"دماء في الصبح الأغبر"، وفي عقد السبعينات فانتازيا الحكاية المتخيَّلة، كما في "مساكن للعصافير"، وفي عقد الثمانينات ثمة الفانتازيا التاريخية والاجتماعية كـ"الميوا تاء" و"ليلة الكلب المرحة" و"أيها القادم الجميل" و"مجنون القصر" و"خميس الأصدقاء" و"شجرة جوز لهذا الزمن". أما عقد التسعينات فينحو إلى الفانتازيا الرمزية، كما في "نافذة في القطار" و"دمية عالقة في الشجرة"، يترك فيها للقارئ أن يستنتج ما يجري في ذهن بطل القصة وما يعايشه.
إن كل القصص السابقة تحتوي على المكان الحلبي، الذي قد يمثّله شارع أو مجموعة حارات قديمة، أو حيّ كـ باب جنين (باب الجِنان)، أو نهر قويق، أو قلعة حلب المعلَم الأشهر فيها عبر العصور، أو أحد مساجدها كـ جامع الأُطْرُوش، أو مقاهيها كـ مقهى القصر. وتمتد هذه الأمكنة لتفرش بظلالها على أسلوب الكاتب في العقد الأول من الألفية الثالثة، حيث نجد على سبيل المثال نصّه "تخريفات حلبية" الذي يتخذ أسلوب الحكاية أكثر من القصة، ويتوزّع فيه البطل السارد بين الزمن والأمكنة المتحولة فيه ضمن المدينة الواحدة "حلب"، مع تساؤله وهو يحاول حل أحجية الموت التي تشغله على مدار الصفحات. وهذه الحكاية نفسها تم تضمينها لاحقاً في كتابه "حلب بورتريه بألوان معتقة" لتأخذ حيزاً بين مثيلاتها من النصوص السيرية المتنوعة، إن إخلاصي يقرّر: "أعترف بأمر واحد وهو نظرية (الحكاية) والحكاية هي أكثر الأساليب إنسانية في ربط البشر ببعضهم، وفي نقل المعرفة من طرف إلى طرف، وفي تحفيز الروح للبحث عن الحقيقة، وأخيراً في خلق الوسط الكيميائي الجمالي لدى الآخر".(10)
حلب... وألوانها المعتّقة :
يذهب وليد إخلاصي في "حلب بورتريه بألوان معتّقة" إلى حارات مدينته، وإلى حارات سيرته الذاتية الموسّعة، فبدءاً من العنوان تتصدر حلب الجملة، ثم يمتزج المصطلح الأجنبي للصورة الشخصية "بورتريه" بالمعتّق القديم الأصيل، مقترناً بالألوان التي تدل بوصفها كلمة مفردة على ألوان طيف كثيرة، لكنها في العنوان معتّقة تترك لحلب ألق الحضور ببهاء حروف اسمها، ليرسم وليد إخلاصي عملياً لوحتها التي يهوى داخل صفحات كتابه.
إنه يجعل للكتاب مقدمة وخاتمة تزخران بأسلوب حكائي، يشكّل الأوّل مدخلاً إلى المدينة من جهة وجدان الكاتب يختتمه بعبارة الحكواتي الشهيرة "تلك هي الحكاية باختصار يا سادة يا كرام"(11)، أما الثاني ـ الخاتمة ـ فهو يشبه جولة قطار في المدينة عبر تاريخها، وأهم الشخصيات التي مرت في حياة صاحب السيرة الذاتية، ثم في حياة المدينة. وما بين المقدمة والخاتمة يقوم الكاتب بنزهته مع آلة الزمن، مستفيداً من تقنيات الحكاية ولعبة الكلمات وأرضية المكان، فلا يتبقى سوى الزمن الذي تتوالى محطاته دون تعاقب محدد، فينتقل وليد إخلاصي من استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946، إلى التصورات الشعبية حول الأولياء، والأحداث الروحية، ثم يعود إلى طرفٍ من السياسة لدى حديثه عن صديقه الفلسطيني منذ طفولته حتى تلقيه نبأ مصرعه شاباً، ليستعيد سحر المكان حيث حيّ الفرافرة المرتبط معناه بالعصافير والطيور، ثم ينتقل إلى صنف آخر من الحيوانات وهي الحرادين، وما كان يشاع بين الأطفال من أن دماءها تقي الأيدي من ألم الضرب. يتجول وليد إخلاصي من باب جنين حيث مسكنهم القديم، ليعبُر سكة الترامواي إلى البيت الذي قطنه لاجئون من السودان يبيعون الفستق السوداني، ليقفز إلى سيرة النسيمي والسهروردي ومقاميهما في حلب، ثم يتحدث عن الاستقلال من جديد وعن أفول نجم اللغة الفرنسية. ولا يُغفل الحديث عن مدرسته في المرحلة الابتدائية المدرسة الحمدانية، حيث ذكرياته مع الأساتذة والأحداث البارزة وصراعات المدينة والطلاب، ليربط القارئ مذكّراً إياه بالعصر الحالي عام تأليف الكتاب 2005 حيث المحطات الفضائية.
وفي معرض الحديث عن مدرسة التجهيز الأولى في حلب التي أصبح اسمها مدرسة المأمون لاحقاً، قد يذكر بعض القراء من مثقفي المدينة وأصدقاء إخلاصي أن مكتبه كان لفترة من الزمن على بعد أمتار قليلة من مدرسته السابقة.
وتستمر صفحات حلب في اجتذاب القارئ، فمن الأحزاب بعد استقلال سوريا، إلى حيّ الجَلُّوم والعلاّمة خير الدين الأسدي الذي تُروى حكايات حول وجهة نظره في امتحانات الطلاب، وذهابه للتنقيب عن كهوف المدينة القديمة، وارتحاله مسافراً إلى مدينة طشقند للبحث عن أصل حلوى الهيطلية وصحونها وملاعقها الشهيرة. ويصل إخلاصي في صفحاته إلى دار الكتب الوطنية في باب الفرج، ثم يعود إلى طفولته ويكشف عن أماكن وفعاليات متجاورة في المدينة الواحدة، من مثل سوق الجمعة، والمكتبات، والسينما. ويطيب له أن يسرد حكاية حادثة العطب الذي أصاب طائرة فهوت أثناء الحفل فوق الحشود التي كان قريباً منها؛ ويختتم بالحديث عن جامع الأطروش وغيره من المعالم والشخصيات.
فانتازيا الحكاية والقصة:
يميل التجريب الزمني لدى وليد إخلاصي نحو فانتازيا القصص الشعبي، كما في قصة "دماء في الصبح الأغبر" 1961، حيث تتراءى التصورات الطفولية التي تجرّ الأولاد إلى عواقب مؤلمة ومعذّبة لهم. فالطفل راوي القصة يتمكّن من اجتياز خندق القلعة وتسلّق صخورها على الرغم من النباتات الشائكة والأحجار الناتئة ليحقق بطولة بين أقرانه، أما صديقه الفلسطيني، فلم تمكّنه ساقه الخشبية من اجتياز الخندق، وكان نصيبه الوقوع فيه قريباً من حالة الموت، مثيراً أسى جميع من وصلوا إلى المكان وشفقتهم. وكغيرها من القصص وبعض أجزاء السيرة الذاتية للكاتب، تعصف الأسئلة بذهن الطفل دون إجابة، فمَن يسكن القلعة؟ إنهم قدامى حلب، لكن لا أحد يعرف من هم بالتحديد. ويزعم بعض الأطفال أن جدّه كان يسكنها: "وأتدخل مجيباً: إنها تلة وبنوا عليها قلعة، إنها قديمة. ويقول الثالث واثقاً: سكنها آدم عليه السلام، وشرب إبراهيم فيها اللبن من بقرته. جدّي كان يسكنها أيضاً!"(12) أما الأستاذ فهو لا يجيب: "وحين كنا نلجأ إلى أستاذ التاريخ نسأله الحقيقة، كان يهدد بوضع صفر لكل من يتدخل فيما لا يعنيه".(13) من هنا تبدو علاقة متأزمة بين المكان الواضح "القلعة" والزمن الغامض "تاريخ المدينة".
أما قصة "مساكن للعصافير" 1972، فهي أقرب إلى الحكاية المتخيّلة، حيث يجيز السارد لنفسه أن يجعل العصافير تتكلم وتتحاور مع إدارة الحديقة وجباة المال فيها، إلى جانب الأطفال والأمهات؛ "أما الأطفال فقد تساءلوا عن سر التعاسة المقيمة، وتوجّه بعضهم إلى شجرة سرو هرمة يطلب أجوبة لكل سؤال يدور في رأسه، فقصّت الشجرة عليهم كل الحكاية وكيف أن العصافير اضطرت إلى الهجرة لأنها لا تملك مالاً تدفعه أجرة لأعشاشها الصغيرة".(14) والمهم في هذه القصة هو انفتاح أفق المستقبل أمام الحياة والأطفال والعصافير، حين يجمعون المال، ويعود ما تبقى من العصافير لمتابعة الحياة، إنها الحياة التي لم يفهمها الكبار أو يتعاطفوا معها.
يعود إخلاصي في فترة الثمانينات إلى أسئلة الماضي، والتاريخ على وجه الخصوص، فبعد الطفولة والمستقبل في العقدين الماضيين، تنطوي قصة "خميس الأصدقاء" 1981 على الماضي حيث تاريخ المدينة الدامي الذي تعكسه صورة "جامع الأطروش" المعلّقة أمام سارد القصة. لقد شهدت مدينة حلب العديد من الزلازل الطبيعية في تاريخها، ولكن بطل القصة يربط بين الزلزال الحقيقي أو الهزّة الأرضية الخفيفة، برعب التاريخ والدم، الماضي الذي يشكّل كابوساً وحلماً مريعاً يصادف أن تراه أكثر من شخصية في القصة على التتابع، من البطل إلى صديقه كمال، ثم وحيد، ثم سعد، على اختلاف صفاتهم ومجالات أعمالهم. إن مخاوف الزمن تمتد إلى الجميع ويدخلون في حال عبثية من التأمل الذي يترك المجال فيه للقارئ في النهاية، فلعبة الزمن لا تكتمل.
أما القصة في عقد التسعينات الذي يسبق قصة "تخاريف حلبية"، وكتاب "حلب بورتريه بألوان معتّقة"، فهي "نافذة في القطار" 1991، وتشكّل حالة نموذجية للزمن المؤطّر بقطار، وتكون الفتاة الشابة التي يراها بطل القصة عبر نافذة القطار عيّنة من سير الحياة الذي يؤثّر فيه الزمن. إن بطل القصة لا يعي أنه متغيّر أيضاً، بل يحسب أنه في رحلة قطار اعتيادية كرحلاته السابقة المألوفة عبر العالم: "ما أكثر المرّات التي ركبت فيها القطار، حلب ـ اللاذقية. ميلانو ـ زيوريخ عبر جبال الألب التي يصلّي ثلجها لسماء مغلقة. باريس ـ الهافر. موسكو ـ ليننغراد والثلج الوضّاء في عتمة ليل بارد. ونترتور ـ برن. دنفر ـ سلولت ليك سيتي وصحارى الملح المنبسطة تعقب جبال الهنود الحمر العالية. قطارات وذكريات ووجوه عابرة لا تذكر منها سوى العيون المتطلعة إلى وصول عاجل. أنهار وغابات، غيوم تلهث راكضة، أحلام تعيد الشباب إلى الطفولة وتهرع بالكهولة إلى الأمل"(15)، ويقرر بأن ما يراه من النافذة خاضع لقانون الحركة النسبي فـ"المتعة في القطار أنك تكتشف الحركة على حقيقتها، الأشياء الجديدة... اللحظات الجديدة... القطار يطوي المسافات وتتعاقب الطبيعة والمدن. شجرة، حقل من الأزهار البرية، أعمدة الكهرباء والهاتف تختفي لتظهر، أبقار تتهادى متفاخرة بضروع ملآنة بالحليب، سرب من الطيور يهاجر عكس الرحلة".(16) غير أن دهشته تتسع لتصل إلى مرحلة اليقين بحركة الزمن حين يلمح فتاة شابة، ثم يستوعب في المرة التالية أنها نفسها المرأة الحامل، ثم هي المرأة مع الطفل الصغير، وأخيراً فهي تظهر بشعر شائب، ليبدأ القارئ في تجميع أجزاء اللوحة من حول بطل القصة، بين فنجان القهوة الساخن، فالبارد، فالطاولة وقطار الزمن الذي يمضي، وتمضي معه عقود الزمن يوثّقها الإبداع بمراحله لدى وليد إخلاصي.
******
الهوامش:
(1) مواجهات نقدية ولقاءات، المجلد الحادي عشر، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص399
(2) المصدر السابق، ص128
(3) المصدر السابق، ص129
(4) المصدر السابق، ص363
(5) المصدر السابق، ص175
(6) المصدر السابق، ص354
(7) ينظر: ترجمة النفس ـ السيرة الذاتية في الأدب العربي، تحرير: دُوَيْت راينولدز، ترجمة: سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، الطبعة الأولى 2009 ، ص133
(8) ينظر: المدينة الضحلة ـ تثريب المدينة في الرواية العربية، د. صلاح صالح، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى، 2014 ، ص9
(9) مواجهات نقدية ولقاءات، ص355
(10) المصدر السابق، ص329
(11) حلب بورتريه بألوان معتّقة، وليد إخلاصي، دار نون4 ، حلب، الطبعة الأولى،2006، ص9
(12) الدهشة في العيون القاسية وقصص أخرى، المجلد الخامس، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص92
(13) المصدر السابق، ص93
(14) المصدر السابق، ص191
(15) خان الورد وقصص أخرى، المجلد السادس، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص323،324
(16) المصدر السابق، ص323
* نشر المقال في موقع "ثقافات"، الخميس 3 آب/ أغسطس 2017
http://thaqafat.com/2017/08/83821
Published on August 03, 2017 13:53
June 16, 2017
البيضة الغريبة ـ قصة مترجمة للأطفال
"البَيضةُ الغريبة"
قصّة: جودي ماك إيوين
ترجمة: د.علياء الدّاية
«مَن هُناك؟» تساءلتِ البومةُ، وقد سَمِعَت صوتاً غريباً في الغابة، فاستيقظَتْ من قَيلولة الظّهيرة. ومن مكانها على غُصنِ الشَّجرةِ نظرَتْ حولها، ثمَّ حطّتْ على الأرض، إنَّها بيضةٌ كبيرةٌ بيضاء!...
«لمن هذه البيضة؟» صاحَتِ البومة. حدَّق الخُلدُ بعينيه الصَّغيرتين، وقد أطلَّ برأسِه من التُّراب، ثمَّ قال: «قد تكونُ هذه البيضةُ لي». وقبل أن تتكلَّم البومةُ، كان الأرنبُ قد قفز وصار إلى جوارِهما، وقال: «لا، إنَّها بيضتي أنا». فقالت لهما البومة: «ما هذا الكلام أيُّها الصَّديقان؟ الخلدُ والأرنبُ لا يبيضان». «لمن هي إذاً، يا تُرى؟» تساءلتِ الحيواناتُ الثَّلاثة.
كان الضِّفْدعُ جالساً على صخرةٍ في المستنقع، فأخذ يقفزُ مِن مكانٍ إلى آخرَ حتَّى اقتربَ، وصارَ يُحدِّقُ في البيضةِ بعينيه الجاحظتين، ثمَّ قال: «هذه البيضةُ لي!» نظرَتِ البومةُ إلى الضفدع، وقالتْ: «أيُّها الضِّفدعُ، صحيحٌ أنَّ الضفادعَ تبيضُ، ولكنَّ بُيوضَها صغيرةٌ جدّاً، وليست كبيرةً وضخمةً كهذه! إنَّها ليست لك.» ألقى الضِّفدعُ نظراتٍ فاحصةً على البيضة، واعترفَ بأنَّها ليست له.
وهنا، نزَلَ السّنجابُ سريعاً مِن وَكرهِ في جذع الشَّجرة، وبدأ يتقافزُ حولَ البيضةِ صائحاً: «إنَّها لي أنا، لي، لي، أنا، أنا!»، فقالت له البومةُ: «اهدأ أيُّها السّنجابُ، تكاد البيضةُ تكون في مثل حجمِك، والسَّناجبُ تَلِد ولا تبيض!» تَمتَمَ السّنجابُ: «هذا صحيحٌ. هذه ليست بيضتي»، ثمَّ هَرْوَلَ بسُرعةٍ، وتسلَّقَ جذعَ الشَّجرة عائداً إلى بيته.
كان الغُرَيْرُ ذو الفراءِ الكثيفِ والمخالبِ الحادَّةِ قد خرجَ من جُحْرِه تحت الأرض، وأخذ يتجوَّلُ كعادته كُلَّ مساء، يبحثُ عن طعامهِ المُفضَّل (البيض): «يا لها مِنْ وجبةٍ شهيَّة! نعم، هذه البيضةُ لي، وسوفَ ألتَهِمُها».
«كلَّا، توقَّفْ!» صاحتِ الحيواناتُ بصوتٍ واحد: «هذه البيضةُ ليست لك!»
وفجأةً، بدأ جدارُ البيضةِ يَتشقَّقُ، وصوتُ النَّقرِ مِن داخلها يرتفعُ، خافَتِ الحيواناتُ، وسُرعانَ ما حطَّت أُنثى النَّسر إلى جانبِ البيضةِ، وصاحتْ: «إيـَّاكم أن تلمسُوها، إنَّها بيضتي أنا. سَمِعتُ نداءَ البومةِ حين كنتُ أُحلِّقُ فوقَ الغابة، إنَّها الرِّياحُ العاتيةُ الّتي حملَتْ بيضتي بعيداً عن العُشّ».
وما هي إلَّا ثوانٍ حتَّى كسرَ الفرخُ جدارَ البيضةِ، وأطلَّ برأسِه أوَّلاً ثمَّ خرجَ. «يا صغيري الجميل!» عانقتْ أنثى النَّسرِ صغيرَها بحنان، وسُرَّت الحيواناتُ كلُّها بهذا اللّقاء، وكانت أنثى النَّسرِ حائرةً تبحثُ عن طريقةٍ للعودةِ إلى العشِّ معَ صغيرِها. وحينَها، قالت لها البومةُ الحكيمة: «سألفُّ الصَّغيرَ بجناحيَّ، وأصعدُ على ظهرك، وعندها يُمكنكِ الطَّيرانُ، والوصولُ بنا إلى العُشّ». وهكذا كان.
كانت الحيواناتُ تنظرُ بسعادةٍ إلى الأمِّ وابنها. «هيَّا بنا». صاحتْ أنثى النَّسر، وخفقتْ بجناحَيها الضَّخمينِ القويّين، وحلَّقتْ عالياً، وتَخطّتِ الغابةَ إلى السَّماء.
* نشرت القصة في مجلة أسامة، العدد 768، دمشق، أيار/مايو 2017
قصّة: جودي ماك إيوين
ترجمة: د.علياء الدّاية
«مَن هُناك؟» تساءلتِ البومةُ، وقد سَمِعَت صوتاً غريباً في الغابة، فاستيقظَتْ من قَيلولة الظّهيرة. ومن مكانها على غُصنِ الشَّجرةِ نظرَتْ حولها، ثمَّ حطّتْ على الأرض، إنَّها بيضةٌ كبيرةٌ بيضاء!...
«لمن هذه البيضة؟» صاحَتِ البومة. حدَّق الخُلدُ بعينيه الصَّغيرتين، وقد أطلَّ برأسِه من التُّراب، ثمَّ قال: «قد تكونُ هذه البيضةُ لي». وقبل أن تتكلَّم البومةُ، كان الأرنبُ قد قفز وصار إلى جوارِهما، وقال: «لا، إنَّها بيضتي أنا». فقالت لهما البومة: «ما هذا الكلام أيُّها الصَّديقان؟ الخلدُ والأرنبُ لا يبيضان». «لمن هي إذاً، يا تُرى؟» تساءلتِ الحيواناتُ الثَّلاثة.
كان الضِّفْدعُ جالساً على صخرةٍ في المستنقع، فأخذ يقفزُ مِن مكانٍ إلى آخرَ حتَّى اقتربَ، وصارَ يُحدِّقُ في البيضةِ بعينيه الجاحظتين، ثمَّ قال: «هذه البيضةُ لي!» نظرَتِ البومةُ إلى الضفدع، وقالتْ: «أيُّها الضِّفدعُ، صحيحٌ أنَّ الضفادعَ تبيضُ، ولكنَّ بُيوضَها صغيرةٌ جدّاً، وليست كبيرةً وضخمةً كهذه! إنَّها ليست لك.» ألقى الضِّفدعُ نظراتٍ فاحصةً على البيضة، واعترفَ بأنَّها ليست له.
وهنا، نزَلَ السّنجابُ سريعاً مِن وَكرهِ في جذع الشَّجرة، وبدأ يتقافزُ حولَ البيضةِ صائحاً: «إنَّها لي أنا، لي، لي، أنا، أنا!»، فقالت له البومةُ: «اهدأ أيُّها السّنجابُ، تكاد البيضةُ تكون في مثل حجمِك، والسَّناجبُ تَلِد ولا تبيض!» تَمتَمَ السّنجابُ: «هذا صحيحٌ. هذه ليست بيضتي»، ثمَّ هَرْوَلَ بسُرعةٍ، وتسلَّقَ جذعَ الشَّجرة عائداً إلى بيته.
كان الغُرَيْرُ ذو الفراءِ الكثيفِ والمخالبِ الحادَّةِ قد خرجَ من جُحْرِه تحت الأرض، وأخذ يتجوَّلُ كعادته كُلَّ مساء، يبحثُ عن طعامهِ المُفضَّل (البيض): «يا لها مِنْ وجبةٍ شهيَّة! نعم، هذه البيضةُ لي، وسوفَ ألتَهِمُها».
«كلَّا، توقَّفْ!» صاحتِ الحيواناتُ بصوتٍ واحد: «هذه البيضةُ ليست لك!»
وفجأةً، بدأ جدارُ البيضةِ يَتشقَّقُ، وصوتُ النَّقرِ مِن داخلها يرتفعُ، خافَتِ الحيواناتُ، وسُرعانَ ما حطَّت أُنثى النَّسر إلى جانبِ البيضةِ، وصاحتْ: «إيـَّاكم أن تلمسُوها، إنَّها بيضتي أنا. سَمِعتُ نداءَ البومةِ حين كنتُ أُحلِّقُ فوقَ الغابة، إنَّها الرِّياحُ العاتيةُ الّتي حملَتْ بيضتي بعيداً عن العُشّ».
وما هي إلَّا ثوانٍ حتَّى كسرَ الفرخُ جدارَ البيضةِ، وأطلَّ برأسِه أوَّلاً ثمَّ خرجَ. «يا صغيري الجميل!» عانقتْ أنثى النَّسرِ صغيرَها بحنان، وسُرَّت الحيواناتُ كلُّها بهذا اللّقاء، وكانت أنثى النَّسرِ حائرةً تبحثُ عن طريقةٍ للعودةِ إلى العشِّ معَ صغيرِها. وحينَها، قالت لها البومةُ الحكيمة: «سألفُّ الصَّغيرَ بجناحيَّ، وأصعدُ على ظهرك، وعندها يُمكنكِ الطَّيرانُ، والوصولُ بنا إلى العُشّ». وهكذا كان.
كانت الحيواناتُ تنظرُ بسعادةٍ إلى الأمِّ وابنها. «هيَّا بنا». صاحتْ أنثى النَّسر، وخفقتْ بجناحَيها الضَّخمينِ القويّين، وحلَّقتْ عالياً، وتَخطّتِ الغابةَ إلى السَّماء.
* نشرت القصة في مجلة أسامة، العدد 768، دمشق، أيار/مايو 2017
Published on June 16, 2017 07:08
•
Tags:
البيضة-الغريبة-قصة-أطفال-مترجم
April 23, 2017
القراءة في ظل الحرب ـ مشاركة
القراءة في ظل الحرب ـ مشاركة: د.علياء الداية
"في أوقات الحروب تتغير الأولويات، فيصبح تأمين المعيشة اليومية والخدمات، ومن ثم محاولة البقاء في حالة أمان، في مقدمة ما يشغل الناس. ولذلك فإن القراءة تتأثر بشكل مباشر بشدة الحاجة إلى هذين الجانبين، وتتأثر أيضاً بموارد الطاقة المصاحبة لها، فهل تقرأ على ضوء الشموع، أم بواسطة شاشات إلكترونية يستمر شحنها لوقت محدود؟ من جهة أخرى يتنوع تفاعل الناس عموماً مع مفهوم القراءة أثناء الحروب، بعضهم لم يكن من هواة القراءة، لكنه مع توافر الوقت الطويل وافتقاده الأجواء الآمنة أو فرص العمل اتجه نحو القراءة وأتاحت له زاداً معرفياً جديداً غير مكتشف سابقاً، يساعد في ذلك توافر الكتب الإلكترونية. وعلى العكس ثمة من شغله ازدياد المسؤوليات والهموم عن إيجاد وقت مناسب ومريح للقراءة، فتراجع اهتمامه بها.
الاهتمام بأدب الحروب المؤثر بالنسبة إليّ أو إلى جيلنا بشكل عام ترافق مع موجتين، بعد حربي الخليج الثانية والثالثة، ومن المفارقة أنّ تعرضنا منذ سنوات قليلة لتأثير الحرب ومعايشتها المباشرة، ركن هذه التجارب القرائية جانباً، لصالح نماذج وموضوعات مختلفة. قراءة الروايات لم تعد كسابق عهدها، تراجع حضورها، بسبب حاجتها إلى توفير وقت متصل ومريح، بالإضافة إلى الحيرة الوجدانية المصاحبة لها، فتصوير الرواية للفجائع والأحزان يُثقل على القارئ، وتصويرها للفرح والحب والحياة الطبيعية يجعل أقل ما يشعر به هو الغبطة تجاه شخصيات الرواية.
يمكن تقسيم المرحلة المعيشة من الحروب إلى ثلاثة أقسام متتالية، الثلث الأول كان اتجاهي فيه إلى قراءة الشعر، العربي المعاصر، والمترجم، والعربي القديم، فالشعر يقدّم مادة مكثفة من الحياة ومشاعر مركّزة. أما الثلث الثاني، فكانت القراءات في كتب التنمية الذاتية والإدارة، والميثولوجيا، والقصص القصيرة، وكتب الاختيارات العربية القديمة. يجمع بين هذين الثلثين إمكانية انقطاع القراءة أو تقسيمها بحسب الحالات الطارئة التي تفرضها الحرب، كالتعرض للأخطار أو توقف موارد الطاقة، والعودة للقراءة في أي وقت آخر. أما الثلث الأخير، فأتجه فيه إلى كتب الفلسفة، والعلوم والفضاء، وما يهتم بجماليات المكان وفنون التصميم، في خطوة تحاول فهم الواقع وتأمله من زوايا عدة."
رابط صفحة الملف :
https://www.alaraby.co.uk/diffah/here...
"في أوقات الحروب تتغير الأولويات، فيصبح تأمين المعيشة اليومية والخدمات، ومن ثم محاولة البقاء في حالة أمان، في مقدمة ما يشغل الناس. ولذلك فإن القراءة تتأثر بشكل مباشر بشدة الحاجة إلى هذين الجانبين، وتتأثر أيضاً بموارد الطاقة المصاحبة لها، فهل تقرأ على ضوء الشموع، أم بواسطة شاشات إلكترونية يستمر شحنها لوقت محدود؟ من جهة أخرى يتنوع تفاعل الناس عموماً مع مفهوم القراءة أثناء الحروب، بعضهم لم يكن من هواة القراءة، لكنه مع توافر الوقت الطويل وافتقاده الأجواء الآمنة أو فرص العمل اتجه نحو القراءة وأتاحت له زاداً معرفياً جديداً غير مكتشف سابقاً، يساعد في ذلك توافر الكتب الإلكترونية. وعلى العكس ثمة من شغله ازدياد المسؤوليات والهموم عن إيجاد وقت مناسب ومريح للقراءة، فتراجع اهتمامه بها.
الاهتمام بأدب الحروب المؤثر بالنسبة إليّ أو إلى جيلنا بشكل عام ترافق مع موجتين، بعد حربي الخليج الثانية والثالثة، ومن المفارقة أنّ تعرضنا منذ سنوات قليلة لتأثير الحرب ومعايشتها المباشرة، ركن هذه التجارب القرائية جانباً، لصالح نماذج وموضوعات مختلفة. قراءة الروايات لم تعد كسابق عهدها، تراجع حضورها، بسبب حاجتها إلى توفير وقت متصل ومريح، بالإضافة إلى الحيرة الوجدانية المصاحبة لها، فتصوير الرواية للفجائع والأحزان يُثقل على القارئ، وتصويرها للفرح والحب والحياة الطبيعية يجعل أقل ما يشعر به هو الغبطة تجاه شخصيات الرواية.
يمكن تقسيم المرحلة المعيشة من الحروب إلى ثلاثة أقسام متتالية، الثلث الأول كان اتجاهي فيه إلى قراءة الشعر، العربي المعاصر، والمترجم، والعربي القديم، فالشعر يقدّم مادة مكثفة من الحياة ومشاعر مركّزة. أما الثلث الثاني، فكانت القراءات في كتب التنمية الذاتية والإدارة، والميثولوجيا، والقصص القصيرة، وكتب الاختيارات العربية القديمة. يجمع بين هذين الثلثين إمكانية انقطاع القراءة أو تقسيمها بحسب الحالات الطارئة التي تفرضها الحرب، كالتعرض للأخطار أو توقف موارد الطاقة، والعودة للقراءة في أي وقت آخر. أما الثلث الأخير، فأتجه فيه إلى كتب الفلسفة، والعلوم والفضاء، وما يهتم بجماليات المكان وفنون التصميم، في خطوة تحاول فهم الواقع وتأمله من زوايا عدة."
رابط صفحة الملف :
https://www.alaraby.co.uk/diffah/here...
Published on April 23, 2017 09:53
•
Tags:
الحرب-القراءة-كتب-رواية
March 10, 2017
الجمل فرحان ـ قصة للأطفال
الجمل فرحان ـ قصة للأطفال
بقلم: علياء الداية
استمعَ الجملُ فرحان إلى عامل الحديقةِ يتحدَّثُ معَ ابنِه قائلاً: قريباً ستُفلِسُ إدارةُ حديقةِ الحيوانِ، وسيُضطرّون إلى الاستغناء عن الجمل فرحان. قالَ الابن: كم هذا مؤسفٌ، لقد اعتدنا هذا الجمل ذا السّنامَين، تُرى ماذا سيحلُّ به؟ ثمَّ مَضَيا دون أن يسمعَ الجملُ فرحان بقيَّة حديثهما.
شعرَ فرحان بالحزن، هل سيستغنون عنه حقّاً؟ فتحَ عاملُ الحديقةِ بابَ السُّورِ كالعادة عندما يحينُ موعدُ الوجبة، وقال: لحظات ويصبحُ الطَّعامُ أمامَك. نظرَ فرحانُ حوله، وخطا خطواتٍ في المكان الفسيح، وهو ينتظر، ففي مثل هذا الوقتِ عصراً تُغلِقُ حديقةُ الحيوان أبوابَها، وتخفُّ ضجَّةُ السّيَّاراتِ، فالحديقةُ تقع على أطراف المدينة قريباً من السَّاحات التُّرابيَّة والبراري.
«تأخَّرَ عاملُ الحديقة»، قال فرحانُ لنفسه، «سأبحثُ عنه!». مشى خطوتين نحوَ بابِ السُّور، ولكنْ لا أحدَ هُناك. واصلَ خطواتِه المُتمهِّلة، هذه هيَ المرَّة الأولى الّتي يخطو فيها خارجَ السُّور، ولا يلحقُ به أحدٌ. وما هي إلاّ مسافة قصيرة حتَّى وجدَ نفسَه قد تجاوزَ الحديقةَ، وحولَهُ أرضٌ تُرابيَّةٌ واسعة، ومن بعيد ثمَّةَ طريقٌ طويلٌ تمرُّ فيه السّيَّارات.
اجتازَ فرحان الطَّريقَ بسهولة مع أنَّ سيَّارةً مسرعةً أطلقتْ نفيراً عالياً، ومدَّ السَّائقُ رأسَه مُتعجِّباً من وجودِ جملٍ في مكانٍ مُخصَّصٍ للسّيَّارات! والآنَ، كلُّ ما يحيط بفرحانَ هو الرِّمال. كان جائعاً، فانحنى يتناولُ بعضَ الأعشابِ الّتي تطلُّ من بين الأحجارِ القليلةِ في المكان. وحين رفعَ رأسَه كان أمامه جملٌ آخرُ ذو سنامَين، فبادره فرحان قائلاً:
- مَن أنتَ؟ أنتَ تُشبِهُني كثيراً!
- نعم، فأنا جملٌ مِثلك، اسمي سرحان.
- وأنا اسمي فرحان.
- ولكنَّك تبدو حزيناً.
وحكى له فرحانُ سببَ حزنه، وأنَّه سيُفارقُ حديقةَ الحيوانِ الّتي نشأ فيها، ولم يعرفْ غيرَها في حياته. أمَّا سرحان فبَيَّنَ له أنَّ سببَ إطلاق اسم «سرحان» عليه، هو كثرةُ شرودِه، وأنَّه سرح عن المحميَّة الطَّبيعيَّة مرَّاتٍ عدّة، فسأله فرحان:
- ما المَحميَّة؟
- المحميَّةُ منطقةٌ طبيعيَّةٌ تعيشُ فيها الحيواناتُ البرّيَّة، حيث يُمنع البشرُ من صيدها، لحمايتها من الانقراض. إنَّها واسعةٌ جدّاً، وفيها نباتاتٌ، وحيواناتٌ كثيرةٌ تتجوَّل هُنا وهناك، ويُشرِفُ عليها فريقٌ من العُلماء والمُوظّفين.
قال فرحان: إنَّها مختلفةٌ عن حديقة الحيوانِ الَّتي تحوي أقفاصاً ومساحاتٍ محدودةً، ليس في إمكاني الرَّكضُ إلى أماكنَ بعيدة فيها. ولكنْ ما الانقراض؟
- الانقراضُ هو اختفاءُ نوعٍ من الحيوانات نهائيّاً، ألم تشاهد ذلك في شاشة التّلفاز؟
- لا، كنتُ ألمحُ فقط شاشاتِ الهواتفِ المحمولة الَّتي يُصوِّرُني بها مُرتادُو الحديقة.
- غريب! تعرفُ الهاتفَ المحمول وتجهلُ التّلفاز؟! أمّا أنا فأقتربُ من نافذة غرفة حارس المحميَّة، وأُشاهدُ منها شاشة التّلفاز والمحطَّات الفضائيَّة، وأطّلعُ على الكثير من البرامج المفيدة. لا بدَّ من أنَّهم يبحثون عنّي الآن، وسيجدونني كالمعتاد. ما رأيُك في أن تأتيَ معي؟
- إلى المحميَّة الطَّبيعيَّة؟
- أجل، سرحان وفرحان، سنكون سَعِيدَينِ هُناك! لا تقلق، سيُجْرُونَ لك فحوصاً طبّيَّة، وسيفرحُ الجميع بانضمامك إلى المكان.
- وسأُشاهدُ التّلفازَ والبرامجَ المفيدة؟
- بالتَّأكيد، ها قد جاؤوا.
ومن بعيد، كانت شاحنةُ المحميَّة في طريقها إلى الجَمَلَين، وهما ينتظران الأيَّامَ المُقبِلَة.
* نشرت القصة في مجلة أسامة ـ دمشق، العدد 765، شباط/فبراير 2017
بقلم: علياء الداية
استمعَ الجملُ فرحان إلى عامل الحديقةِ يتحدَّثُ معَ ابنِه قائلاً: قريباً ستُفلِسُ إدارةُ حديقةِ الحيوانِ، وسيُضطرّون إلى الاستغناء عن الجمل فرحان. قالَ الابن: كم هذا مؤسفٌ، لقد اعتدنا هذا الجمل ذا السّنامَين، تُرى ماذا سيحلُّ به؟ ثمَّ مَضَيا دون أن يسمعَ الجملُ فرحان بقيَّة حديثهما.
شعرَ فرحان بالحزن، هل سيستغنون عنه حقّاً؟ فتحَ عاملُ الحديقةِ بابَ السُّورِ كالعادة عندما يحينُ موعدُ الوجبة، وقال: لحظات ويصبحُ الطَّعامُ أمامَك. نظرَ فرحانُ حوله، وخطا خطواتٍ في المكان الفسيح، وهو ينتظر، ففي مثل هذا الوقتِ عصراً تُغلِقُ حديقةُ الحيوان أبوابَها، وتخفُّ ضجَّةُ السّيَّاراتِ، فالحديقةُ تقع على أطراف المدينة قريباً من السَّاحات التُّرابيَّة والبراري.
«تأخَّرَ عاملُ الحديقة»، قال فرحانُ لنفسه، «سأبحثُ عنه!». مشى خطوتين نحوَ بابِ السُّور، ولكنْ لا أحدَ هُناك. واصلَ خطواتِه المُتمهِّلة، هذه هيَ المرَّة الأولى الّتي يخطو فيها خارجَ السُّور، ولا يلحقُ به أحدٌ. وما هي إلاّ مسافة قصيرة حتَّى وجدَ نفسَه قد تجاوزَ الحديقةَ، وحولَهُ أرضٌ تُرابيَّةٌ واسعة، ومن بعيد ثمَّةَ طريقٌ طويلٌ تمرُّ فيه السّيَّارات.
اجتازَ فرحان الطَّريقَ بسهولة مع أنَّ سيَّارةً مسرعةً أطلقتْ نفيراً عالياً، ومدَّ السَّائقُ رأسَه مُتعجِّباً من وجودِ جملٍ في مكانٍ مُخصَّصٍ للسّيَّارات! والآنَ، كلُّ ما يحيط بفرحانَ هو الرِّمال. كان جائعاً، فانحنى يتناولُ بعضَ الأعشابِ الّتي تطلُّ من بين الأحجارِ القليلةِ في المكان. وحين رفعَ رأسَه كان أمامه جملٌ آخرُ ذو سنامَين، فبادره فرحان قائلاً:
- مَن أنتَ؟ أنتَ تُشبِهُني كثيراً!
- نعم، فأنا جملٌ مِثلك، اسمي سرحان.
- وأنا اسمي فرحان.
- ولكنَّك تبدو حزيناً.
وحكى له فرحانُ سببَ حزنه، وأنَّه سيُفارقُ حديقةَ الحيوانِ الّتي نشأ فيها، ولم يعرفْ غيرَها في حياته. أمَّا سرحان فبَيَّنَ له أنَّ سببَ إطلاق اسم «سرحان» عليه، هو كثرةُ شرودِه، وأنَّه سرح عن المحميَّة الطَّبيعيَّة مرَّاتٍ عدّة، فسأله فرحان:
- ما المَحميَّة؟
- المحميَّةُ منطقةٌ طبيعيَّةٌ تعيشُ فيها الحيواناتُ البرّيَّة، حيث يُمنع البشرُ من صيدها، لحمايتها من الانقراض. إنَّها واسعةٌ جدّاً، وفيها نباتاتٌ، وحيواناتٌ كثيرةٌ تتجوَّل هُنا وهناك، ويُشرِفُ عليها فريقٌ من العُلماء والمُوظّفين.
قال فرحان: إنَّها مختلفةٌ عن حديقة الحيوانِ الَّتي تحوي أقفاصاً ومساحاتٍ محدودةً، ليس في إمكاني الرَّكضُ إلى أماكنَ بعيدة فيها. ولكنْ ما الانقراض؟
- الانقراضُ هو اختفاءُ نوعٍ من الحيوانات نهائيّاً، ألم تشاهد ذلك في شاشة التّلفاز؟
- لا، كنتُ ألمحُ فقط شاشاتِ الهواتفِ المحمولة الَّتي يُصوِّرُني بها مُرتادُو الحديقة.
- غريب! تعرفُ الهاتفَ المحمول وتجهلُ التّلفاز؟! أمّا أنا فأقتربُ من نافذة غرفة حارس المحميَّة، وأُشاهدُ منها شاشة التّلفاز والمحطَّات الفضائيَّة، وأطّلعُ على الكثير من البرامج المفيدة. لا بدَّ من أنَّهم يبحثون عنّي الآن، وسيجدونني كالمعتاد. ما رأيُك في أن تأتيَ معي؟
- إلى المحميَّة الطَّبيعيَّة؟
- أجل، سرحان وفرحان، سنكون سَعِيدَينِ هُناك! لا تقلق، سيُجْرُونَ لك فحوصاً طبّيَّة، وسيفرحُ الجميع بانضمامك إلى المكان.
- وسأُشاهدُ التّلفازَ والبرامجَ المفيدة؟
- بالتَّأكيد، ها قد جاؤوا.
ومن بعيد، كانت شاحنةُ المحميَّة في طريقها إلى الجَمَلَين، وهما ينتظران الأيَّامَ المُقبِلَة.
* نشرت القصة في مجلة أسامة ـ دمشق، العدد 765، شباط/فبراير 2017
Published on March 10, 2017 11:24
علياء الداية's Blog
- علياء الداية's profile
- 778 followers
علياء الداية isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.
