مذكرات سجينة

السابع والعشرون من ماي:
انا التي جلست هنا. يا صديقتي.. قلمي في يدي ولا ادرك من امري شيئا. هذه الاحاسيس التي تختلجني.. هذه الانفعالات التي تطبعني. تطعن في قيمي. تسلبني وقاري واحترامي لنفسي. انا التي خنت نفسي مع نفسي. انا التي خنت وكري بيني وبين افكاري. انا التي رفعت الراية البيضاء ما ان التقت العيون، واوقظت الشرارة. انا المرأة المصونة، المرأة الرصينة الرزينة، التي تضع فوق رأسها تاج الدار. وتجلس على عرش اسرتها.. انا التي فيما مضى، استهنت بمن يعاني، ولم اقبل جرح الانسان المغلوب في أمره.. انا التي عارضت واعترضت.. نددت وناضلت، ضد الخيانة، ضد انعدام الاخلاص، وقفت في وجه من يذعن للحظة الاولى.. بعد ان دخل القفص الذهبي. انا التي ظننت اني عاشقة، انا التي رسمت مسار حياتي بدقة، واكدت لنفسي في كل لحظة ضعف انها الحياة، هناك صعود واحباط، هناك تفاؤل وتشاؤم، او الاجدر ان اقول تشاؤل؟
صديقتي، عزيزتي، رفيقة دربي، الصائنة لأسراري، ان اصابعي ترتجف وانا الامسك بهذا الحبر الازرق.. انت تعلمين.. وافضل من تسرين، وارقى من تنصت وتتفهم، انت تعلمين اكثر من ا ي احد.. اني زوجة وفية، محبة لطفليها الصغيرين، ساعية كل السعي لأن تجعل ايام عائلتها سعيدة، وئيدة وحميدة. صديقتي ان قلبي يوجعني، والدمع يتجمع بين جفوني، وانا اكتب لك.. اخط لك واعري نفسي امامك.. انا .. انا.. انا تائهة. انا بوصلة من دون عقارب وسط متاهة من دون قواصد، متاهة من الرغبات والاحلام والتأملات.. فطمتها داخل وعيي لسنوات.. انا كأي امرأة.. مثل اي انثى، شبيهة لأي انسان يتغير ويحير ويتأثر.. انا انسان معاصر، ابنة جيلها، اليوم، حاضرنا ليس ماض اسلافنا، وماضيهم ليس لحظتنا، انا انثى قوية، شخصية، مثابرة ومرآية. كنت دائما مندفعة الى الامام ومنطلقة وعفوية. كنت دائما اتمدد بنشوة على جرس المنبه، نشطة في طريقي الى عملي. كنت ومازلت، حتي دنت بي هذه السنة، فأنقلب السحر على الساحر.. اصبحت كالطفلة الصغيرة، تحمر وجنتاي واتواري عن الانظار القاتلة، عن البصر الذي يخنق الانفاس، ويحث ضربات القلب، ويدفع ادرينالين الجسد.. اه الجسد، واي جسد. وكأنك تقومين بتمارين الكارديو. وكأنك تركضي بين اشجار غابة موحشة، وتهربين، نحو انقاذ النفس من هواها، وفي نفس اللحظة تريدين ان يتم امساكك.. ان يتم خطفك وسلبك من الحياة التي ظننت انها الملاذ والنهاية.. انها الحلقة الاخيرة من دراما دنياك.. لكن لا.. لا والف لا، يقول هذا الفؤاد المسكين.. الذي كما قلت فيما سبق انه مغلوب على امره.. تأتي عليه لحظة.. يدق مرة ثانية.. يهز الاساس الذي بنيته ليثبت اختبائك من ما تبتغيه. يرقص كمراهق.. اصابه البلوغ تواليا وكرة اخرى.. تحسين بأنه ليس من حقك ان تفكري.. ان تأخذي بعين الاعتبار اي احتمال، ولو حتى فكرة مضمحلة، بأنه عليك الاختيار.. عليك قرار.. انت في مواجهة عبث الاقدار.. في حضرة المصير المارد.. وكأن احد ما حك ابريق عفريت العشق بدالك، ليجعل عقلك يضخ ذلك الحنان الابدي.. ذلك التواصل المطلق الاعجازي.. مع انسان عرفته روحك ابدا، رغم انك لم تلتقيه يوما.. رغم ان احتمال وجوده كان فقط في ركن ما من خيالك.. جالسا هناك بهيبته وسحره.. وعنفه ورجولته.. ونظرته القاسية التي تهدم حصارك المهترئ، لتحملك شعوذته اليك.. وكأنك ملكه.. وكأنك جزء منه.. بل حتما انت نصفه وهو نصفك.. وانتما واحد..
صديقتي العزيزة.. لطالما استوعبت الفرق بين العشق والحب.. انا احب زوجي.. اعشق ذريتي.. الا ان تلك ال "لكن" تكتب نفسها رغما عني عند نهاية السطر.
رفيقتي انا.. انا رأيت شبحه كل يوم.. رأيته هو لاشهر، كأثني عشت وطنا من سنة البعد اللانهائي.. لروحي الطليقة في فضائه المتوازي لفضاء كياني.
عزيزتي.. يوما ما.. سأشنق اهاتي على صفحاتك بهذا المداد.. سأفعل.
السابع من يونيو:
أنا اعلم، اعلم ياغاليتي، ادرك تجاهلي لك لأسبوع كامل.. وقد تدهورت حالتي وزاد هذياني.. لاأقدر علي التحقيق في الامور باستقامة.. لا اقدر على ايجاد ذاتي، انا ضائعة يا رفيقتي.. اوراقك تعاتبني، تريد ان تنزع هاته الكلمات التي انسخها عليها.. انت مخاصمة لكاتبتك الوحيدة؟ لا الومك البتة.. اريد ان اقول شيئا.. لم اتوقع ان اكون ضعيفة لتلك الدرجة، وضعفي دفعني الي الاعراض عنك، مثلما افعل كل مرة اره يخطو امامي.. يتمايل بمشيته العظيمة، الفيكتورية.. انا اعلم اني خائنة بالمعني و الافكار والتصورات.. كمجاز لخيانة جسدية واردة الحدوث.. حتى تخيل ذلك محرم.. فما بالك بانعدام القدرة علي الندم والثوبة عن الامر.. انا امسيت فراشة سوداء قد مزقت شرنقتها المؤقتة. انا لست انا.. وربما ان لم اكن من قبل الى ان اتت هذه السنة.. دعيني اعترف لك ان انكاري لما يحدث هيج ما لم يكن في الحسبان.. دعيني امرغ نفسي في خطاياي بين يديك.. اتركيني ادمي بلذة جلدا اخذ يزيل نفسه بنفسه.. كما لو اني افعى التزام وصبر.. ابتعادي عنك كان بشكل ما ابتعادا عن طيفه. او اشباحه التي تعانقني هنا وهناك.. تبعثر جسدي وجناباته.. في المطبخ.. في غرفة الاولاد.. في الحمام.. في حضن زوجي.. اسمحي لي ان انثر اثامي الخيالية.. اسمح لي ان اقر كيف رسمت وخططت و صبغت ملامحه وحفرتها في الداخل..
صارعته مهما كان، ناضلت ضد تلك الخيالات.. اخذت. زوجي بين ذراعي علي فراشنا.. لعلي اقتلها.. تجاهلت حضرته في العمل لعلي امحوه.. احببت سوزان و اوزان زيادة.. طفلاي.. حتى ان عيونهما البريئة استغربت تعلقي الزائد في الايام الماضية.. تلك الالوان الرمادية والعسلية التي تنبعث من تألق نظراتهما.. وعجبت مني ومن تبدلي الغير مألوف.. وحسرة قلبي تتأبط مرارة كبدي وتشعل النار في حلقي.. عيون الاطفال لا تضيّع الاسرار الدفينة ابدا.. كم اخجلني الحاح سوزان.. ابنة امها.. شبيهة لك يا صديقتي.. بترقبها الصامت.. متصلة بي وبقناة مهجتي.. تقرأ ما على سحنتي وما ورائها.. ولم تقتنع بما قلته.. في حين اشاح اوزان بنظراته الرمادية وقد طمأنته كلماتي.. وماذا في جعبتي من قول غير اني اغدق عليهما من حبي.. ولا خطب هناك.. بيد ان سوزان التقطت ذلك ال هناك برؤيتها الثاقبة.. واضطررت لأن ابتعد عنهما حاملة اطباق افطارهما الى المطبخ..
هاربة من ابنتي الذكية..
لكن نضالي ذهب في الحضيض..
قاومت نفسي..
ظنا مني..
ان قدرتي على الابتعاد موجودة..
والشوق من بعيد..
وجدت نفسي..
ابتعد في مسار دائري مختوم..
اركض لأرجع لنفس النقطة..
لذات الوصل..
لتمام العقدة..
اصبحت اتمنى لو انه يتجاهلني..
ان يعاملني وكأني..
غير مرآية..
مخفيّة..
تمنيت لو انه..
كان منحطا حقيرا..
منحرفا جبانا..
ليغدو في عقلي صغيرا..
تمنيت لو انه كان نذلا..
يلاحق المتزوجات..
يضحك على الفتيات..
رغبت ان يكون مختلا
مسطول عقليا..
منافقا جليا..
هيهات هيهات..
بت ادرك اليوم يا صديقتي.. اني احب زوجي ولا أعشقه.. هو صديقي و حبيبي ورفيق دربي و اب اولادي.. لكني لا اعشقه.. امقت نفسي بسبب هذا الاعتراف.. اكرهني .. اعذبني.. انتحر داخل حياة اسرتي لأخلق من جديد في حديقة احلامي البهيجة.. ملكها هو.. هو الاسد.. وانا اللبوة.. هو الوحش.. وانا الجميلة...
واكنز بين صفحاتك اني استيقظت اليوم الساعة السادسة صباحا.. بينما مر ليلي كله احلام يقظة.. ابيع الغالي والنفيس لأنساها.. واحتقر نفسي لأني لا اريد ان انساها.. واخيط شفتاي بالخيط والابرة.. لأمنعني من تلك الابتسامة المذلة الخائنة.. وتقلّب بصحوتي زوجي وسألني بتعب عن سبب استيقاظي باكرا واليوم عطلة اسبوع.. هل كنت لأصارحه اني كنت ارسم الصور والمشاهد مع رجل غير.. وانا استلقي بجانبك على فراشنا المقدس؟
افقدني جرأتي الوقح.. وسلبني براء لقبي كزوجة.. واعرف انك تستغربين لومي له الان.. ماذنبه هو؟ لا ذنب له حقيقة.. ذنبه انه جميل.. انه محترم.. انه رجل تتمناه اي امرأة.. ذنبه ابتسامته.. ذنبه نظراته.. واعجابه بي.. يالأنانيتي.. لا حق له بان يعجب بي.. وانا لدي كل الحق؟ ومن اين لي ان اتأكد من اعجابه؟ كيف اكون واثقة لهذه الدرجة؟ ماذا لو كان اعجابه بريئا.. لأني امرأة قوية.. عملية.. ناجحة.. ومميزة بجودة انتاجها في الورشة؟ هل اسألك عن هذا كله؟ ام اسأل نفسي؟ ام اتمني اجابات نعلم انا وانت كيف نريد اجاباتها؟ هل اطرح هذه الاسئلة عتابا عليّ؟ ام رغبة شافية في ان تكون كما يتطلع فؤادي؟ ماذا اريد يا صديقتي؟ ارجوك صارحيني بما أريد.. لا، لا تفعلي.. أنا لا اجرؤ على الاعتراف بما أريد فقط.. هذا كل شيء.. أنا حقيرة، بلى انا كذلك.. ولا تسأليني ذلك السؤال الخطير، المهدد لي ولرباطة جئشي، لا تجعليني اعلق لك عن شيء، لا أعلم صدقا كيف سأقاومه ما اذا كان رنوه الي غير بريء.. لا تفقديني تماسكي، لا تهدميني بصمتك المنتظر، لتصريحات وتعليقات عارية، توقفي عن ذلك، على الاقل الى حين..
وكذبت على زوجي، مثلما افعل عادة وقت يسألني في أي شيء سرحانة انا، تبدين غائبة عن الوجود هذه السنة، مالذي يؤرقك؟ مالذي يأخذك من اللحظة؟
قلت له اني اريد الجري لبضعة اميال، احس ان لياقتي ضعيفة، ذلك ما كنت سأفعله اصلا، لقد منعني من راحة البال، واخذت العزم على ان افرغ غضبي من خيانة قلبي ومن وجوده الذي زحزحني، وحجب الاوكسجين عن دماغي...
وقفت امام المرآة، تفحصت ملامحي، كان هناك وجوم، كتفين متخاذلين من القلق الدائم، كان هناك عبوس، صمت يحثني على النطق بما اعجز عنه، اندفاعات مختلطة تحفزني على نتف شعري الاشقر، بغضب، بأسى، بأنهيار، احب أن اصرخ حتى يبح صوتي، ارغب في ان ابكي، في ان تغرق حزقيتي الصفراء في دمعهما، لو اذرف دما قانيا؟ لو افقد ملامحي؟ لو احلق حاجباي الابهقين الكثيفين؟ وافقد قسماتي ومعناها، وينظر الي هو، بلمحة غير اللمحة التي تخلع عني كل الاقنعة لترنو الى روحي، لو يبصر من دون عمق، من دون حنان وترقب، وكأنه يناديني من الداخل، وكأنه محام قضيتي على اني سجينة، بين اقفاص صنعتها بنفسي، واسست لها، وزرعتها الاوتاد، وكأنه ينزع جذور الدفعة التي تغذيني، والتي أرضتني واقنعتني قبل ان يظهر، قبل ان يرمقني يا صديقتي، قبل ان يفعل، رفيقتي اكرر لك اني استغيث في الداخل.. في الداخل.. انصتي الي!!! انصتي من فضلك!!!! آآآآآآآآآه..
آآآآآآآآآآآخخ.. في الداخل.. هل تعلمين اني كسرت الزجاج؟ وهرع زوجي مرعوبا.. ورآني احدق في فراغ وارتعد وشظايا المرآة عند اصابع قدمي.. وحضنني، وقبل رأسي، وقال لي ماذا دهاك؟ ودفعته بأنفعال.. واتسعت عيونه بأستهجان.. كانت اول مرة ادفعه، وتسائل في حيرة عن ما يحدث لي.. فصرخت به من دون سبب.. انه يبالغ في ردة فعله.. ولا اريد ان اتحدث معه، اريد فقط ان اذهب للركض.. ووقف امامي مشدوها بصدمة بصيرته الرمادية، عيونه الرصاصية.. ولم ابرح مكاني ساكنة.. قصيرة العقل، قصيرة القامة، قصيرة الحكمة، وكل شيء.. بصري مهزوز الحدقتين وموجه نحو صدره الذي يعلو وينزل، بقميص نومه البنفسجي.. وتراجع الى الوراء ليفسح لي كي اخرج من الحمام.. وهرعت من الباب قبل ان يري دمعي.. وانظري الى تملصي، ولجوئي الي التجاهل، وانكار ما علي ان اواجهه.. انظري الى النتيجة التي ادى اليها ابتعادي عنك وعدم مشاركتي لما اعانيه معك.. لكن ليست واقعة الحمام ما دفعني اليك، وكأني أبحث عن أمي المرحومة بين صحفك، لا.. ما دفعني اليك بأستسلام وقهر، وانهزام.. هو ما حدث عندما ذهبت لأركض.. اتعرفين ذلك الاحساس؟ حينما تسير في طرق مختلفة، متباينة، لعلك تلوذ.. بينما تقودك كلها الى نفس الملتقى، الى نفس النتيجة.. كان ذلك الاحساس الذي اعتراني عندما صعدت رصيف الطريق في اخر شارع الحي الذي اقطن به.. مفرغة غضبي، واغنية موسيقى الروك الصاخب تصدع اذناي، وانا اعتلي قمته، في بنطال اليوغا الاسود، وسترة العرق الحمراء، وظفيرة شعري الصفراء تلوح نفسها بنفسها على ظهري، واصابع قدماي تعتصر مع بعضها، وتحتك لتولد الما طفيفا داخل جواربي، وحذاء النايك الرياضي الوردي، ثم اجده هو اسفل الرصيف، على بعد امتار ليست بالهينة، يجري بثبات وشعره الطويل الاسود يهتز ويرتمي على اكتافه العريضة، وهل يخفى هو على جهازي البصري، وهل اغفل عن مشيته المعهودة؟ وساقيه العظيمتين؟ وهل تخبو هالته؟ لا.. ابدا..
وتوقفت.. اجل توقفت ياصديقتي، وغاص قلبي وانكمشت عضلاته، واحسست بالدوار، واردت ان اعود ادراجي، لكن عقلي كان يعود بي من حيث اتيت، وجسدي يمشي في الاتجاه المعاكس.. حتى ان كل شيء سكن، وتوقف الزمن، وانصتّ الى دقات قلبي التي وصلت اذاني، وبين كل نبضة واخرى انصت لنهجه البعيد، شهيقه وزفيره يتلو ضربات عضلتي الضاخة للدماء.. واحترت ماذا افعل.. طبعا علي ان احيد عن مثل تلك الصدفة.. أليس كذلك يارفيقتي؟ ام انها حقا كذلك؟ ألم أقل لك ان جميع الطرق تؤدي الى روما؟ قلت ذلك يا عزيزتي.. واستدرت متعجبة من قدرتي على ذلك، وما ان اخذت اركض حتى جمدني صوته، صعقتني الكهرباء، والتف حولي دخان الكيمياء المنبعث، قل ما ينادي بأسمي في الشغل.. واذا فعل، يكون ذلك بطريقة رسمية، بيد ان جيسيكا خرجت من فمه حرة طليقة، لماذا احس انه يمتلك أي شيء يقوم به او يقوله؟ لماذا شعرت انه يتملكني بأسمي، يسيطر عليه.. واستدرت بجسدي مرة اخرى نحوه.. لأجد عيونه السوداء القاتلة بارزة شيئا ما بفعل الدهشة، وابتسمت انا ابتسامة عريضة مستدركة، وبالغت في ذلك حتى لاحظ هو، وارتسم طيف الابتسامة المعهودة، التي تجعل الحديد ينصهر، فما عساها تفعل انثى بدواخل ضعيفة مثلي؟ وسرنا نحو بعضنا، والتقينا في منتصف الرصيف، وازلت انا السماعات، ومدد هو ذراعيه فوق رأسه ليزيل تشنجها، ونزعت بصري من وقفته وضيّعته في الارجاء، جهة اشجار الغابة وجهة المنازل المصطفة بعشبها الامامي الاخضر، وشرفاتها الخشبية المصبغوة بالابيض، والسُقفْ الهرمية.. وقال لي انها صدفة جميلة، واننا لم نلتقي خارج العمل من قبل، وهززت انا رأسي موافقة من دون ان انبس، ومازلت البس، تلك الابتسامة الحمقاء على وجهي.. وركضنا مع بعض في صمت كهربائي، ونبض محتدم، لو اشعل احدهم فتيلا لأحترق الفراغ بيننا.. وما يغيظني هو تحكمه في الاجواء، وهيبته، واحترامه للمسافة التي كُتبت، كما لو أنه يثبت لي ان اعجابه بي لن يتخطى حدود كوني متزوجة.. ابله متفاخر.. من انت؟؟ وما يقتلني اكثر هو تبسمه الطفيف، الذي يبدو ساخرا غير مهتم في كل الاحوال..
ههههههه.. آه لقد قالوا كثرة الهم تضحك.. وها انا ذا امامك ياصديقتي، لوميني لوميني ولا تشفقي! لقد اشبعت الرجل سبا بين اضرحتك.. نعم هو الرجل.. هو الرجل الذي ينظر الي، يحرق بدني من دون ان يلمسه، يتطلع الي بين الفينة والاخري داخل اروقة ورشة العمل.. يمر بجانبي ويبتسم، يقف وهو يتأمل تصاميمي، يميل قربي ليتفحصها، ولا يعلم اني ثملت من رائحة جسده، وحضوره الطاغي، وان عيوني لا تفارق ياقة قميصه المفتوح، هو الرجل الذي ركضت معه لأول مرة بعد زوجي، وتمنيت لو تطول المدة والساعات، لو نجري جنب بعضنا الى الابد.. هو الرجل الذي.. هو الرجل الذي تخيلته دائما زوجي.. منذ مراهقتي، فارس الاحلام، وللأسف.. لا تنال كل الاحلام فارسها، لذلك تظل اوهاما، ولو كانت جميعها تتحقق ما سميت احلاما..
ذلك هو سبب عودتي اليك يا صديقتي، لم اقدر على تحمل عبث الاقدار مجددا.. لم اصبر ولم تتحمل نفسي وفاضت بما يغمرها اليك.. وقد عدت من الركض متألقة من الخارج بالعرق، ومن الداخل بصدفة لقياه.. بينما استغرقنا الحديث والعدو في تصاميم الديكورات الجديدة التي نعمل عليها.. وتواعدنا لقائا في العمل، وقد تمنيته عشائا من شدة الأمل.. وها انا هنا امامك مرة اخري.. اخلع ثياب الزوجة في حضرتك.. اشهدك على قبحي.. وخيانة قلبي التي غدرتني وقت سهو حياتي المخططة مسبقا.. ها انا هنا.. ضامة ركبتاي الى حضني، وقد وضعتك فوقها اكتب لك.. بعدما استقبلني زوجي بأبتهاج قتلني.. بعد حادثة الحمام.. ها انا هنا يخنقني الذل امام قلبه المخلص، بينما يختبئ قلبي الخبيث بين سطورك...
السابع من غشت:
يقال ان الحب بذرة مزروعة في تربة الالفة. يقال ان الحب يأتي بعد الزواج، وان الزواج يأتي بعد الحب، ان الحب مجرد وهم، انه يأتي من طرف واحد، انه ارض العذاب، انه زجاج تكسره مطارق التغيرات، ان المرء يتبدل متى تخمد الشرارة الاولى، انه كذبة ابريل في احضان الليل، انه وعاء تفرغ فيه الرغبات، انه بضاعة لها مدد صلاحيات، انه تماس بين جنسين مختلفين، يحرق الاثنين، ويقضي على كل امل خصب تجلى يوما داخل القلوب. يقال ان الحب يقتل، بما ان روميو لحقها بعد ان انتحرت جولييت.
لكن، ماذا اقول انا يا رفيقتي؟ ماموقفي بعد الان؟ اين الصواب الذي كنت اراه؟ يا صديقتي اين ايماني القاطع بحياتي؟ اين سعادة البارحة المطلقة؟ التي بت احسبها اليوم زائفة؟ اين تصديقي بدين حب الزواج؟ الذي اشك به حالا.. اصحيح انه ليست كل الناس عاشقة؟ احقا لا يهمنا العشق مادمنا اصبنا من هذه الدنيا ما يرضينا ويشبع قناعاتنا؟ هل العشق موجود فقط في الروايات والرومانسيات؟ هل يروي ضمأنا العيش وسط حكايات الصحف؟ والتمني بخوف.. التضرع لنفحة ادمان من احداث ننتشي بها في وهم اللحظة.. لنَرِجع في انفسنا في الداخل.. في الداخل.. كما يرجع البطن للخارج.. ما هو الحب وما هو العشق؟ ومالفرق بينهما؟ بت لا اعلم.. صديقتي انا.. اللعنة علي انا.. اتأمل في شخصي قبل سنة.. وكيف كنت مستقرة واثقة الجلسة متفاخرة.. وانا اتفاخر بزواجي امام صديقاتي. نجتمع في يوم الكيتورينغ ونتبادل الحديث والحوار.. ونبدي ارائنا بقوة وعنفوان.. كيف كنت اهوي بمطرقتي على صديقاتي اللواتي كن ضحايا لمغامرات الحب، لفشل علاقتهن واستسلامهن للرجال، واذعانهن للعلاقات العابرة، او تصديقهن لكلامهم المعسول المدروس. كنت اهتف بأنه لا يوجد شيء اسمه عشق، انه مجرد اندفاع مؤقت يخمد فتيله بمرور الزمن، كنت كل مرة تأتيني الفرصة اذكر زواجي كمثال على الاستقرار وتأسيس بيت متكامل.. وان حب الالفة والصداقة اقوى من اي عشق.. كنت اصول واجول بين وجوههن وارى اعجابهن بحياتي الزوجي المثالية.. لا اعلم.. ربما اقنعت نفسي حينها بما لم يستطعن ان يصبرن عليه.. ربما كنت ادافع عن سقيي لورود حب اسرتي بماء التعود والظروف.. لعل ندمي على قراراتي هو من جعلني امجد لأفكار الالفة، والبناء على ركائز الخيار التقليدي.. اللهم زواج من بعد اعجاب ام انتظار عشق مستحيل، وقتها كنت مستعجلة، وربما مغرورة بجمالي وصفاتي حتى اني لم اتقبل تعطل العشق عن محطتي.
اقول يا صديقتي.. العشق، الحب الاعمى، اسميه ما اشاء، هو تفاعل.. اختلاج واحد احد.. لمحة بصر.. كيمياءُ فيزياءٍ حركية.. اقول يا عزيزتي، عشقي انا لم يستغرق غير ثانيتين.. والتفاعلات تستغرق
اقل من ذلك بكثير.. عشقي انا كالموجب.. مثل السالب، ولا موجب بدون سالب، وهكذا دواليك..
دموعي تتبقع على اوراقك، سامحيني! لضعفي وهذياني.. لجهنمي التي لا تخبو، ولحماقاتي المتتالية، تلاحق نفسها، تتابع وكأني مراهقة امل من شيء لأقفز الى اخر من دون تعقل. انا اسفة صديقة قلبي، وحافظة اسراري، اسفة لأني لم اعد وفية الفؤاد، ولأني امتحنك معي، فمن يعلم لو كانت صفحاتك جلدا حيا لتمزق من كثرة المشاعر الطاعنة والقاتلة.. انا اعلم اني لم اعد اساوي شيئا.. وادرك انه لا يحق لي ان اعشقه، ويتحتم علي ان اقتل قلبي ليصمت دماغي ويرتاح، اعلم ان اخلاصي لزوجي، ان لم يعد ممكنا من حيث الاحاسيس، فليكن من حيث البدن، لكن مالحيلة؟ اعتقيني انت من ذاتي السوداء.. ارحميني لأرحم نفسي، لأشفى من علل العشق وكدماته.. لتنفتح جروح فؤادي في سبيل الالتزام بأسرتي..
كتبت فيك اليوم مئات الحروف وانا اذرف دما من مآقي.. لو تعلمين، لو تتجسدين في شبح والدتي المرحومة لاعانقك مذلولة مهانة، مستسلمة، منهارة بين حطام اسواري.. لو تفعلين! لم احتج امي بهذا القدر من قبل.. لم اشتق اليها بهذه الطريقة في السابق.. كانت أمي معلمتي وصرح شخصيتي، وبئر اسراري قبلك، ويوم رحلت، شعرت اني ذهبت معها، جزء مني انتزع وصعد الى السماء.. بتر عضو مني.. اعتراني النقص وعراني، اصابني مرض فقدانها بشدة، واخذني الاحباط لشهور.. لم استطع العودة الى الحياة.. فقدت دليلي في الدنيا ومرشدي.. رغم ان والدي مازال حيا، لكن المسكين مالذي يفهمه في هذه الاشياء، وحتى ان كان يفعل، لا اجروء انا ان اشاركه كما كنت افعل معها، ولا احب ان اخذه من بين مكتبته، وغرقه بين صفحات الكتب.. لاحكي له عن هذه الاحاسيس المحرمة علي...
طبعا تنتظرين.. الم احفظك انا؟ الا احس بك وبتواصلك معي انا؟ طبعا تتبحثين عن ما اخفيه وراء كل هذا الكلام.. طبعا حدست اختبائي بين حشد هذه العبارات.. اني اهرب من ذاتي لاعود اليها بين اوجهك يا صديقتي.. لكن سبب دمعي اعظم من ان اتقبله، تعلمين ان تأثيره علي اصابني بالخوف، فترجم الى اهتمام زائد بأسرتي، تعلمين ردة فعلي تلك فقد حكيت لك عنها، صدقيني انا حائرة الدواخل في هذه اللحظة.. لا اعلم كم استحق من السماع والانصات، لم يعد لي حق ان اكتبك حتى.......
انتظري لأجلب بعض المحارم.. اصلا هناك كومة منها بجانبي، لقد تلبدت وجنتاي بالدموع.. انا مقهورة ياصديقتي.. احس ان السم يتقطر في حلقي، ويهزم عروقي وجهاز تنفسي.. اخبرتك من قبل اني نمت مع زوجي بعد تهديد معشوقي لقلبي بنظراته.. وصباح اليوم شعرت بتوعك فذهبت الى طبيبتي الخاصة فأخبرتني اني حامل.. طبعا يجب ان افرح، يجب ان ينتابني السرور واطير من الغبطة.. بيد اني عبست وانتشرت الصدمة على محياي.. فقلقت الطبيبة وشكت اني لا اريد الانجاب.. انا كنت غائبة عن الوعي حينها.. كانت ردة فعلي غير معهودة حتى بالنسبة لي.. لكن الحقيقة واضحة جلية ياصديقتي.. لم اخطط لحمل جديد، حتى اني فكرت بطريقة ابشع من ذلك.. اول ما فكرت فيه هو ان هذا عائق اخر عظيم امام عشقي الذي هو مستحيل اصلا.. تخيلي؟! امسيت امرأة اخرى.. تفكر وتعتقد وتأمل بحوائج مهولة.. لو عرضت ما اكتبه فيك لشخصي قبل سنة لأصابه الشلل.. انظري الى التدني الناحر، انظري الى البراكين التي فاضت مني، انظري الى الزلزال الذي افتعله هو، صاحب العيون السوداء.. وسألتني الطبيبة ما اذا كنت افكر في عدم انجابه.. قلت اني لم تكن لي نية في مولود.. وانا لا اعرف ماذا افكر حينها.. وذهبت من عندها بعينين فارغتين.. ومشية مهزوز..
والحق اني قبل ان اخذك بين يدي فكرت مليا.. وغرقة في حوض ماء ساخن لنصف ساعة احاول تصفية ذهني.. مماذا؟ لا اعلم.. امن حضرته وابتساماته، اوسحره الذي ينتشر في الجو ما ان يدخل الورشة؟ أم من غمازات وجنتيه؟ ام فكي وجهه المحلوق الاخضر، بعظمتيهما البارزتين.. ام انفه الشامخ اللامع، او اسمه الذي يظل يتردد داخل عقلي بعدما ينده عليه زملاء العمل.. روجر، روجر، روجر.. غطست في الحوض اكثر بحنق على نفسي، بعد ان وجدت شفتاي تتمتم اسمه.. قلت لك هذيان، لكنه هذيان جعلني اخلص الى شيء مهم، قد يكون حاسما في حياتي المستقبلية، وهو حقيقة اني لا استطيع ان انجب مرة اخرى.. مشاعري لم تعد ملكا لعزيزي سام.. زوجي الحبيب.. لذلك لا استطيع ان اظلم هذا الاخصاب، لا اقدر ان اجعله يكون وانا مدمرة الى هذا الحد..
سام.. زوجي العزيز، لشدة ماهو جيد، اكثر من اللازم.. لشدة ما يعاملني بلطف وبحنان واهتمام.. لا يمكنني.. مستحيل ان اخونه، او ان افعل اي شيء يضره، لن اسامح نفسي ابدا.. لقد عشت معه ايام السعادة والنقاء.. والاسرة والبهاء.. كان هو سندي في احلك اللحظات.. ومعيني في النزلات والطلعات.. وملاكي ساحر البهجة، سام عزيز على قلبي، أب اولادي.. دخل علي المطبخ قبل يومين، وجدني سارحة وماء الصنبور يجري.. كنت معزولة ومحبطة.. تائهة في وجومي المطبق على صدري.. اقترب مني واغلقه، ثم ربت براحته على كتفي ورنا الي بأبتسامته الحنونة الدافئة.. ولم اتمالك نفسي وسال الدمع من حدقتاي.. وارتميت في حضنه اهتز من البكاء.. مسد على شعري وضمني الى عنقه.. لأشتم رائحته المرحبة.. رائحة عودية خريفية.. تذكرني بمدى تكامل هذه الاسرة وتخضبها بالعطاء والنبض.. تذكرني بالبيت الذي بنيته معه، وتأخذني من لعنة فؤادي قليلا ومرارته.. صدر انينه ليختلط بنحيبي، وهمس في اذني بكلماته المعهودة.. المطمئنة، قال لي انا هنا جيسيكا.. اخبريني ماخطبك.. انا معك دائما.. يعذبني ان اراك هكذا.. لاتبعديني عنك، انا اريد ان اشاركك المك، واتعذب عندما اشاهدك، لم تكوني على هذه الحال منذ موت والدتك..
اه يا زوجي الحلو.. اخ يا رفيق دربي، ليس بيدي. ورفعت رأسي عن كتفه لأنظر في وجهه الدائري.. وحاجبيه وعيونه الرمادية.. خصلات شعره الفضية تغطي جبينه، وابتسامته المشجعة البيضاء تتسع شيئا فشيئا.. واصابعه تضغط بلطف على ذراعي.. تأملته مليا، لم يكن لدي ما اقوله غير ان لا شيء مهم.. انا عن نفسي لا اعلم ماذا هناك.. لا اعلم ماخطبي، والى اين انا راحلة بحقائب الهوى هاته، الى اين انا اجمع امتعتي واتملص من اسرتي الوحيدة، الى اين تجرني لعنة فؤادي، انا في متاهة وعدم محض، انا اقف اما جدار لا نهاية له ارمق افقه عسى ان انظر نهايته او حافته، انا اغرق في كياني، واذوب بين جناباتي، واخذني الى بعيد، الى حيث المغامرة، والوحشة، والشباب، والنظارة والتألق.. الى حيث الادرينالين والاندفاع.. الخطر والمصارعة.. العيش كرحالة، اكتشاف معالمي المعتمة وايضاحها قبل اكتشاف الطبيعة وما تخبئه وتخفيه، التحليق في سماء خضرتي اولا لأجد حب الحقول وزرعها، واحسب ثمرها ما بين الجذور.. لارى اين تعيش مخلوقاتي واين تستقر، واين اجد بيتي الذي ينفث دخان اسودا من قمته.. وامامه تتمايل السنابل.. وفي زاوية ما هناك ارجوحة.. هناك بيت صغير لكلب، وعند شرفة منزل مهجتي هناك هو واقف.. واخرج انا من بين الحقول التي زرعها هو مغمضة العينين.. واريد ان افتحهما اتمنى بعقلي ان اجد سام، ويتمنى فؤادي ان يرى روجر.. وافتح لأجد.. لأجده.. في بنطال الجينز.. والعرق يسيل من عضلات صدره وبطنه وذراعيه، يرتدي بنطال الجينز، ويرفع الشاقور لأعلى ليهوي به على خشب الحطب، ويلحظني اقترب في فستاني الابيض، ويرفع عيونه السوداء ليذيبني كل مرة ينظر فيها، ليجعل قلبي ينبض كأول مرة تلتقي العيون، وتتراقص خصلات شعره الطويلة، وينبعث سحر هالته من جديد، واغوص انا في احلامي مجددا، مرارا وتكرارا، وكأنه الخلود، وكأنه النقطة حيث اذهب واعود...
اذعي ان رأسي يؤلمني واتهرب من سام مرة اخرى، واتركه واقفا في المطبخ، من الاسى والحيرة، وهو يشعر ببعدي، وبالمسافة تتسع بيننا، وانا اليوم اكتشف اني احمل طفله الثالث، من دون قصد.. فماذا انا فاعلة.. صديقتي، ان لم التمس منك السلوى والمنفعة والاشارة، ان لم استدعيك وقت الجروح والمطبات، ان لم اسألك عن الوجهة التالية، فمن اسأل؟ فمن استشير ومن اخطر؟ انا وحيدة كما عرفتني.. لا احد يفهمني كما عهدتني.. انت فقط ركني الخفي، الذي انزوي فيه عندما انحصر، وعندما اشعر بالجدران الاربعة تضيق علي وتخنقني.. وحينما احس اني ازداد ضعفا امامه يوما بعد يوم، اسبوعا بعد اسبوع، واني صابرة، حتى يأتي الفرج، او انتزع هذا العشق؟ علي من اضحك.. انا التي ادعي ان النسيان دواء العشق، وان المسافة تشفي منه، على من اتحايل؟ هذا شيء اخر، شيء نادر، فريد، رباني، هذا شيء قاهر، خارق، مستهلِك، انه شيء يضرب كل قوانين العقل ومنطقه عرض الحائط، لا يعترف بتقاليد وقيود وقوانين واديان وصناديق عادات.. هذا شيء متمرد، ثوري، محرر للروح، هذا شيء ان لم تعشه بحرية عذبك، ونغص عليك ايامك وهزمك، شيء ان لم تستسلم له ارغمك واستبد بك وبطش بك وانقض عليك بقوة، هذا شيء كل ما كبته تضاعف وتفاقم واخذ بثأره في اللحظة التي تظن فيها انك سليم في السليم.. انه المرض الذي لا دواء له، انه الشيء الذي ينسيك الطعام والشراب، ينسيك ان لك نفسا، يسكب روحك في مزهريته ويحتويها ويضيق عليها، حتى تذبل، حتى تهرم قبل الاوان، انه شيء لا سلطان عليه ولا امبراطورية تحكمه ولا رسائل كهنة تطعن فيه، انه شيء ابدي غير انساني، شيء سام عظيم معظم، مبجل ومسيطر، ويأتي وقت ما يشاء، ولا يذهب ابدا.
دعيني اكتب فيك ما حدث البارحة في الورشة، حين انهى عمله قبلي، فهو ذهنه لا يشتت ومركز دائما، ويمشي هنا وهناك، ويدخل من هذا الباب الى الاخر حاملا الاوراق والادوات، ويضع ويلصق ويقطع ويرسم ويهندس، ويقف شامخا بظهره المشدود تحت قميصه الازرق، وساقيه الطويلتين في سرواله الاسود، يتأمل تصاميمه من زوايا مختلفة، يبحث عن اخطاء او عيوب، عندما رأيته في ذاك الموقف، من خلف زجاج مكتبي.. قلت لنفسي وانا ابتسم بينما اشاهده كيف لشخص مثلك ان يصمم شيئا به عيوب، ومع ذلك فهو لم يكن راضيا، وظل يخمن ماسكا ذقنه بسبابته وابهامه، ووجدت نفسي اترك مكتبي واتوجه نحوه مبتسمة وكرة متهدجة من الحماس تتكون داخلي، وقبل ان اصل اليه، ظهرت صديقته المقربة جينجر التي تزوره عادة عندما يقارب الدوام على الانتهاء.. وعانقته وقبلت وجهه، بوجهها البيضاوي الضئيل، وحاجبيها الدقيقين المنمقين، عيونها البنية الكبيرة مثل عيون الغزال، وفمها المتوسط الوردي، نشطة بشعرها البني القصير وقميصها الاسود المكتوب عليه حرفي "او" و "سي" بالابيض، وتنورتها القصيرة المخططة بالاحمر والازرق، وجواربها الكستنائية الطويلة التي تغطي ساقيها، وحذائها الابيض المسطح، تعلق حقيبتها على ذراعها في كل مرة تنزلق، وتلوح بأصابعها تلقائيا في الهواء بالقرب من محيى روجر عندما تتكلم.. هه تجعله يبتسم بطلاقة، توقفت للحظة عند باب مكتبي ارمقهما، لم تكن اول مرة اغير منها، فقد غرت منها اول مرة جائت الى الورشة، وازدادت غيرتي كلما اتت، وكلما قبلته وعانقته، لم امنع نفسي، لم احاول حتى، ومالذي سيحدث اذا فعلت؟ فقط سأحك مكان العدوى لتنتشر اكثر، لكن تأملي لهما كان ابعد من ذلك، قلت لنفسي، ياليتني المسه بتلك الطريقة العفوية، واعانقه من دون قيود او توتر، ياليتني اجره من يده الان واخرجه من هنا واذهب به حيث ما شئت، ياليتني اولد من جديد حرة طليقة والتقي به، ياليت..
واستدارت جينجر على غفلى لتجدني استند على جانب باب مكتبي، فلوحت لي بيدها قائلة مرحبا يا مدام جيسيكا، والتفت هو بدوره وملامح الدهشة قد ارتسمت على وجهه، وابتسمت لها بدوري حتى انكمشت عيني، وحركت يدي مرحبة، وقد طعنتني كلمة "مدام" في الصدر بحضوره.. والتقت العيون تارة اخرى لتفتح بوابة جهنم.. توقف ارجوك، اتوسل اليك لا ترمقني بتلك الطريقة، لا تتطلع الى روحي بسوادك ذاك، فكرت وقد استحال علي ان انزع نظرتي من نظرته، وكأنه كان يخبرني "اذا فأنت تراقبينني!" واخبرته بعيني اني اتأمل تصاميمه فقط.. وهل يصدق؟ محال.. اشحت بنظري بقهر، ذراعاي معقودتين، اثبته على حذاءي بتوتر، لم استطع النظر باتجاهه مرة اخرى، تنفست الصعداء لأنه حررني واشاح بمقلتيه ليصرف جينجر ويطلب منها ان تنتظره بالسيارة.. دخلت انا مكتبي، ورمقت اوراق التصاميم والرسومات المتناثر فوقه، وقد شتت انتباهي وافقدني تركيزي مرة اخرى.. تخاذلت على مقعدي وانا احس بغصة في حلقي..
صديقتي، ان كل يوم معه في الورشة عذاب بالنسبة لي.. انا.. انا.. امشي في بعض الاحيان عبر اروقة الورشة فقط لأشتم رائحته، وعندما لا يكون في مكتبه، ادخل اليه، المس ادواته، واتحسسها وقلبي ينبض، واتأمل تصاميمه من دون ملل رغم اني رأيتها في اجتماع الورشة.. حالتي ليست بحالة اعلم ذلك.. لكن بينما انا متخاذلة على مقعدي، واحس بالحرارة بين جفوني، أتي صوته وهو مستند على حافة الباب عاقدا ذارعيه وشعره يلامس سقفه، وسألني مااذا كنت بخير، وشهقت لأنه فاجئني، وابتسم هو ابتسامته المعهودة.. ورفعت احد حاجبي ردا على ابتسامته وقلت اذا توقفت عن الظهور بتلك الطريقة سأكون كذلك.. ابتسم اكثر واشار بأبهامه ورائه قائلا انه كان سيسألني عن رأيي في التصميم.. رمشت وقد سجن عيوني بنظرته مجددا.. ثم همست اني كنت اتية لأخبره برأيي.. وارتفع صوتي قليلا بعدها وقلت له وقد اتسعت جفوني ببطئ وانا احاول ايجاد نقطة واضحة في سواده، قلت له الى ان ظهرت العزيزة جينجر، ولا اعلم لماذا قلت اسمها بتلك الطريقة، لكن ملامحه جمدت قليلا وانفتحت شفتيه وتألقت عينيه وعقد حاجبيه، وها نحن من جديد، لو تحسين بما يختلجني عندما يرمقني حينها يا صديقتي.. احس انه ينزع عني ثيابي، ويخترق جلدي ويتخلل عظامي وعضلاتي ويتسلل الى دماغي، احس.. احس انه حيث ابدأ انا وانتهي، احس اني اريد ان اقوم بأي شيء يقول.. احس بشعوذته وهيمنته.. احس بسلطنته وامبراطورية سواد حزقيته.. اشعر بما لم اشعر به من قبل.. وقال افهم من تأملك انه اعجبك.. واومئت له من دون ان انبس، ثم ودعني وغادر الورشة قبلي وانا ارنو لأعقابه وقلبي يوجعني.
رفيقة دربي.. انا فقدت عذرية زواجي، واخذني العشق الى مستوى اخرى، ولا ادري الى اين تكون المحطة، وكم من حشود اخطائي ستستقبلني، واسراري.. والى اين الترحال بهذا القلب النازف.. ان ما اقصه عليك يا صديقتي، مذكرتي العزيزة، وما اسره بين جناباتك، يأخذني الى هناك، الى البعيد حيث ازدهار الذات واطلاقها.. ومتى العودة؟ هل هناك عودة اصلا؟ واختم هذا اليوم الى وقت مقبل.. فسام يطرق باب الغرفة يريدني في المطبخ.. سأتركك الان يا صديقتي، ولكن لي عودة، لي انس لك ولصحفك الثمينة، فلاتحرميني من قلبك الامين وبئر اسراراك الواسع.. فانا مازال لدي الكثير لاجربه.. مازال لدي ايمان بالعودة المحتومة...
Published on March 24, 2019 10:43
•
Tags:
مذكرات-ادب-كلمات
No comments have been added yet.
Amedine's Blog
- Amedine's profile
- 44 followers
Amedine isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.
