ضَلَ المُتيمُ

المشهد. رصيف متداعٍ، نفوس متداعية؛ هناك من يمشي ناظراً إلى أعلى وآخر يمشي مطأطئ رأسه. وهناك، هو، ملتحف بشالٍ قديم بالٍ، شعره الأسود الذي حظى ببياض السنين يغطي جبهته. هناك، مصباحٌ مستريحٌ بجانبه على الرصيف، رائحة المسك تعطر المكان برغم البول الذي يتركه المارة في الرواح والمجيء.
صبحٌ يتنفس. يفيق فيشتعل المصباح من تلقاء ذاته ويلف به بين شوارع المدينة وهو يذكر ويهذي بأبيات لابن الفارض لا يعلم ماهيتها سوى من تعرض لها أو قرأها من قبل: ما بين ضال المنحنى وظلاله..ضل المتيمُ واهتدى بضلاله؛ يلحنها؛ يذكر بصوتٍ عالٍ؛ يرفض الصدقة، فممَ يقتات، لا أحد يعلم. عندما يمر أحدهم عليه بطعام أو مال يعلو صوته بما قالت مريم: إن الله يرزق من يشاءُ بغير حساب..بغير حساب، ويعيد المال إلى صاحبه.
ليلٌ يعسعس. ينطفئ المصباح.ينام. ويصحو فيعيد الكرة.
"الليل كالنهار، والنهار كالليل. آيةٌ وُجدت وأخرى كانت ثم مُحيَت. لا أشعر بالبرد ولا بالحر، بل بالمسبب، وإنه للطيف بعبادِه إذ ينسيني كل ما عداه..الله..الله"
________________________________________________________________
المشهد. تبدو حزينة، شعرها منسدلٌ على كتفها باضطراب من أثر الريح، البارحة كانت جالسة مع أصدقائها في المقهى ويبدو أن حدث ما يؤرق ذهنها حيث أن عينيها ممتلئتان بالدمع. أخرجت حجابها، وغطت رأسها وبدأت تصلي.
"إليك يا خالق البرايا أشكو، إنني أحبه ولا أستطيع البعد عنه وهو لا يعيرني اهتماماً فلم وضعت حبه في قلبي؟! أشعر بالأسى، اليوم كنا جالسين جميعاً وهو لم ينظر إلي بل نظر إليها هي، أنى لي أن أطلعه على ما أكن من ولع وإن أطلعته، هل سيتجاوب معي، يا الله أنا لا استطيع تخيل نفسي مع غيره"
خلعت حجابها ثم انطلقت إلى الشارع، إنه ذلك الرجل الذي تمر عليه كل يوم. متشردٌ، ثيابه مهلهلة، لكن ثمة ما يجذبها إليه وإلى المصباح المضاء دائماً، كانت قد حادثت شاباً في الهاتف منذ قليل لتقابله في المقهى ذاته.
"ياء: أنا مولعةٌ بك، لا أستطيع غير التفكير فيكَ، لابد أنك تشعر بمعاناتي"
-"لا"
قام وترك المقهى وتركها شبه خاوية، ارتعشت أطرافُها،" أنى لله أن يضع كل ذلك العشق في جسدي فأضنى وأنطفئ."، أأؤمن أم أكفر، إنني أصلي له كل يوم، إنني أدعوه كل يوم، إنني أحمده وأثنى عليه وأصلي على نبيه، إنني أفعل كل شيء كما ينبغي، أكنت مُضلة، أكنتُ أعبد إلهاً غير الإله الحق، لقد تركني بين لوعتي وخجلي"
هامت على وجهها، ووجدت نفسها تجلس على الرصيف بجانب المُشرد تبكي.
حين بدأ بالتلاوة: والضحى، والليلُ إذا سجى، ما ودعك ربُكَ وما قلى، ما ودعَكَ ربُكَ وما قلى. أطرد في التلاوة بصوت عالٍ فإذ هي تقوم وتسرع في الخطو وهو يمشي وراءها. إنها خائفة، ما مدلول ذلك، ماذا علي أن أفعل، ركضت إلى منزلها، خلعت ملابسها ونامت عاريةً في سريرها، دفست وجهها في الوسادة حتى انهار قطنها من أثر البكاء، لكنها ما تفتأ تفكر فيه، ذلك الآخر الذي لم يتركها حين كانت وحيدةً. التحم الجسد العاري بما حوله، خُيل إليها أن ما حوله ترابُ، خيل أنها في قبرها آمنة من مكر البشر، آمنةً من الجزع والخوف، آمنة من الاستيقاظ في الصباح فتطاردها الذكرى ويعنفها أمل مضى. ظلت كذلك إلى الصبح. لم يكن يتنفس، بل كان مختنقاً؛ ظلمة، لا تريد من الحياةِ شيئاً، لا تريد أن تتنفس، فتحت خزانتها وأخذت أقراص المنوم، علها تجد الراحة. إنها لا تريدُ أن تقتل نفسها، بل تريد أن تموت. حين تغمض أعينها فإنها تموت وهي لا تريد لهما أن ينفتحا مجدداً.
______________________________________________________________
أفاقت على صوت يناديها ألا تحزني. إنه صوت المشرد، إنه يعرف اسمها، إنه لرسول رب العالمين إليها ونعمَ به من رسول.
المصباحُ مضاء. الصبح يتنفس. لفت حجابها ثم انطلقت باحثةً عنه في المقابر، عند قبرِ جدها الذي كان قد رحل وآلمها كثيراً رحيله؛ بحثت عنه على الرصيف . لم تجده. فقط ذاتها تتنقل وتذكر: ما بين ضال المنحنى وظلاله..ضل المتيمُ واهتدى بضلاله. إنه هي، وإنها هو. المصباح ويدها جزءان من كل. كلٌ مضاءٌ وكلٌ حزين، كلٌ مآله إلى رب العالمين.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 03, 2020 17:31
No comments have been added yet.