فينديتا
في الرواية المصورة: “فينديتا”، يرسم “آلان موور” و”ديفيد لويد” بطلاً يخفي وجهه تحت قناع، لن نرى وجهه طوال الرواية، سنرى جسده، متسربلاً بعباءة معظم الوقت، أومرتدياً زياً نظامياً. وسنراه أيضاً محترقاً، خارجاً من زنزانته، رقم خمسة، المشهد الذي سيفسر لنا لِم حافظ “في” على هذا الغموض طوال الوقت؛ كان عليه أن يحترق حتى يتطهر.
يفترض “في” أن الحل يكمن في الثورة الشاملة، في تفجير مبنى البرلمان، والتمثال الرامز للعدالة، وفي قتل رؤوس السلطة والإعلاميين. في بريطانيا الخيالية التي يحكي عنها “آلان موور”، تقوم حرب عالمية ساحقة، ثم يغمر فيضان مدينة لندن، وتنهار الدولة، لتعم بريطانيا حالة من الفوضى والانفلات الأمني، تعقبها مباشرة سيطرة مجموعات فاشية شبه عسكرية على البلاد، لتصبح هي السلطة الوحيدة. تتم السيطرة على الشعب تماماً، لدرجة أن الشعب يضحى بحرياته الشخصية في مقابل أمان مزعوم، بعد شهور من سيطرة الفاشيين. تنتشر الكاميرات التلفزيونية في أرجاء المدن، لا لتراقب الجرائم والمجرمين، كما تعلن السلطة -هل ستمنع الكاميرا المجرم؟- بل لكي تنقل للسلطة تحركات الناس.
تخلق السلطة هاجس ثورة الناس مع مرور الوقت. بعد اكتمال سيطرتها، تتحول السلطة في خلال سنوات قليلة من السلطة الخادمة للناس، إلى السلطة القاهرة لهم، ليصبح هدفها الأول: المحافظة على الدوام على “سلطتها”. ثم تقوم بوضع عراقيل عديدة أمام أي ثورة قد يقوم بها الناس، في الرواية، وبعد سيطرة السلطة الفاشية على البلاد، تفتح بوابات معسكرات الاعتقال لتملأها ب “المختلفين”، كل مميز هو شخص شاذ، كل من له رأي مخالف أو تفكير خاص يجب اعتقاله، ثم تقوم السلطة الفاشية بتقييد حرية الناس كلهم، المعارضين والمؤيدين، خوفاً من ثورتهم، لتؤدي تلك السياسة في
النهاية إلى قيام الثورة.

الثورة في الأصل كسر للقوانين، تحطيم للدساتير، وتدمير للنظام وانحياز للفوضى، تقوم الثورة في الرواية عندما يتأكد
الناس من استحالة التغيير، فالبرلمان الممثل للشعب، مسيطر عليه بالكامل، القوانين الحاكمة للناس تصدر بموافقة السلطة الفاشية فقط، والدستور المنظم للعلاقة بين الحاكم والناس، كتبه الحاكم منفرداً!. كذلك الإعلام، تتحكم فيه السلطة الفاشية بالكامل، وتستخدمه كنافذة لبث الخوف والرجاء والرضى بين الناس، مشاعر متضاربة غرضها في النهاية إثارة البلبلة. لا توجد مؤسسات خارج السيطرة، كل شيء جزء من النظام. كان “في” حريصاً على تفجير مبنى البرلمان في البداية، رمز تمثيل الشعب المزعوم.
يحتفظ “في” بالكثير من الأعمال الفنية والكتب في بيته، نتاج تفكير وجهد “المختلفين”. قامت السلطة الفاشية بمصادرة الكتب ومنع نشرها بإخلاص، الحكومة هنا حكومة مثالية، تمارس الكذب على الناس بانتظام، وتمنع كل ما هو إبداعي، كل ما قد يدفع الناس للتفكير، لظنها أن مجرد التفكير قد يدفع الناس للثورة.
تتباعد المسافة بين الناس والسلطة، الناس في هوة عميقة، بعيدون تماماً عن السطح، بينما السلطة تنظر إليهم من أعلى، عبر كاميرات المراقبة، يتحول الناس إلى مجرد صور ملونة على الشاشة، ترهق عين السلطة إذا أطالت النظر إليها. مراقبة الناس أمر صعب، مرهق، تعتاد السلطة المراقبة، وتتحول مع الوقت إلى فعل روتيني، ثم تتحول إلى عبء على كاهل السلطة، لا تراقب السلطة الناس لتتأملهم، أولتحقق مطالبهم، بل لكي تدرس تحركاتهم، وتطلق يدها الطويلة للسيطرة عليهم حال ثورتهم. تختزل السلطة وسيلة الاتصال بالناس لمجرد عصيّ وهراوات، تهبط على أجساد الناس طوال الوقت، لتصبح هذه هي الوسيلة الوحيدة للسيطرة عليهم؛ الأذى الجسدي الجماعي، احتفال تقيمه السلطة على شرف الجسد.
تصل رسالة “في” للناس بالتدريج، عندما يعرفون أن مبنى البرلمان قد تم تفجيره، عندما يستمعون لصوت “القدر” المتغير.
“القدر” في الرواية صوت إذاعي، يرشد الناس لسنوات طويلة، يشير عليهم وينير لهم طريق الصواب، يسيطر عليهم سيطرة تامة، في تخطيط بالغ الذكاء من الحكومة الفاشية، يدمن الناس صوت القدر، ويحرصون على الاستماع له يومياً في ميعاد محدد، لكن السلطة تناست المشكلة الأزلية؛ “القدر” ليس خالداَ، “القدر” ميت لا محالة، وعندما يقوم “في” باختطاف “القدر” ويفقده النطق، تستبدل السلطة الفاشية صوت “القدر” بصوت آخر شبيه، في محاولة يائسة منهم لاستمرار فرض السيطرة، لكن المدمنين يكتشفون فرق النبرة، فيتحررون تلقائياً من سيطرة صوت القدر.
ينقذ “في” فتاة من مصير بائس، “إيفي” فتاة وحيدة تتعرض لمحن شتى، لتلتقي ب “في”، الذي يرافقها في طريق طويل وشاق، طريق مر هو به من قبل، كان عليه أن يحترق حتى يتطهر. ولم يجد “في” أفضل من هذا الطريق ليجند “إيفي”، لتصبح في النهاية خليفته، لتحمل الراية من بعده.
يحرص “في” طوال الوقت على وضع قناع باسم، يخفي وجهه الذي لن نعرفه مطلقاً، القناع الباسم سيصبح رمزا للثورة في العالم، ستحمله رؤوس كثيرة أثناء المظاهرات والاحتجاجات، سنراه بعد عقود من نشر الرواية في ميدان التحرير، ربما لم يقرأ صاحب القناع رواية في، على الأرجح شاهد الفيلم المأخوذ عن الرواية، لكنه بالتأكيد أدرك أن الفوضى هي الحل.
القناع عبارة عن تصوير هزلي لوجه جاي فوكس، الذي شارك في التخطيط لمؤامرة لتفجير البرلمان الانجليزي عام 1605، فشلت المحاولة، وتحول يوم الخامس من نوفمبر إلى يوم احتفالي، يحتفل فيه الانجليز بفشلها، يحرقون خلال اليوم دمى تمثل جاي فوكس.
اقترح ديفيد لويد أن يرسم قناعاً على وجه بطله، يمثل جاي فوكس، وافقه آلان موور على الفور، ادعى موور أن فكرة قناع جاي فوكس هي التي حلت كل المشكلات الروائية في نصه، قال: “تجمعت كل الشذرات المتفرقة في رأسي في اماكنها الصحيحة، خلف قناع جاي فوكس” اختار ديفيد بطلاً عكسياً، مجرماً في نظر الحكومة والشعب، لينتشر القناع بعد ذلك على وجوه المتظاهرين في العالم، رامزاً لثورتهم على الطغيان.
نشرت “فينديتا” مسلسلة بين عامي 1982 و 1989، ثم نشرت بعد ذلك مجمعة في مجلد واحد.
********
نشر هذا المقال في العدد الثالث من مجلة الدشمة، مع ترجمة لمشهد من الرواية، الدشمة مجلة كومكس يصدرها مركز هشام مبارك للقانون، تجدونها في مركز هشام مبارك ودار ميريت للنشر.
يفترض “في” أن الحل يكمن في الثورة الشاملة، في تفجير مبنى البرلمان، والتمثال الرامز للعدالة، وفي قتل رؤوس السلطة والإعلاميين. في بريطانيا الخيالية التي يحكي عنها “آلان موور”، تقوم حرب عالمية ساحقة، ثم يغمر فيضان مدينة لندن، وتنهار الدولة، لتعم بريطانيا حالة من الفوضى والانفلات الأمني، تعقبها مباشرة سيطرة مجموعات فاشية شبه عسكرية على البلاد، لتصبح هي السلطة الوحيدة. تتم السيطرة على الشعب تماماً، لدرجة أن الشعب يضحى بحرياته الشخصية في مقابل أمان مزعوم، بعد شهور من سيطرة الفاشيين. تنتشر الكاميرات التلفزيونية في أرجاء المدن، لا لتراقب الجرائم والمجرمين، كما تعلن السلطة -هل ستمنع الكاميرا المجرم؟- بل لكي تنقل للسلطة تحركات الناس.
تخلق السلطة هاجس ثورة الناس مع مرور الوقت. بعد اكتمال سيطرتها، تتحول السلطة في خلال سنوات قليلة من السلطة الخادمة للناس، إلى السلطة القاهرة لهم، ليصبح هدفها الأول: المحافظة على الدوام على “سلطتها”. ثم تقوم بوضع عراقيل عديدة أمام أي ثورة قد يقوم بها الناس، في الرواية، وبعد سيطرة السلطة الفاشية على البلاد، تفتح بوابات معسكرات الاعتقال لتملأها ب “المختلفين”، كل مميز هو شخص شاذ، كل من له رأي مخالف أو تفكير خاص يجب اعتقاله، ثم تقوم السلطة الفاشية بتقييد حرية الناس كلهم، المعارضين والمؤيدين، خوفاً من ثورتهم، لتؤدي تلك السياسة في
النهاية إلى قيام الثورة.

ينقذ "في" فتاة من مصير بائس، "إيفي" فتاة وحيدة تتعرض لمحن شتى
الثورة في الأصل كسر للقوانين، تحطيم للدساتير، وتدمير للنظام وانحياز للفوضى، تقوم الثورة في الرواية عندما يتأكد
الناس من استحالة التغيير، فالبرلمان الممثل للشعب، مسيطر عليه بالكامل، القوانين الحاكمة للناس تصدر بموافقة السلطة الفاشية فقط، والدستور المنظم للعلاقة بين الحاكم والناس، كتبه الحاكم منفرداً!. كذلك الإعلام، تتحكم فيه السلطة الفاشية بالكامل، وتستخدمه كنافذة لبث الخوف والرجاء والرضى بين الناس، مشاعر متضاربة غرضها في النهاية إثارة البلبلة. لا توجد مؤسسات خارج السيطرة، كل شيء جزء من النظام. كان “في” حريصاً على تفجير مبنى البرلمان في البداية، رمز تمثيل الشعب المزعوم.

كان "في" حريصاً على تفجير مبنى البرلمان في البداية، رمز تمثيل الشعب المزعوم
يحتفظ “في” بالكثير من الأعمال الفنية والكتب في بيته، نتاج تفكير وجهد “المختلفين”. قامت السلطة الفاشية بمصادرة الكتب ومنع نشرها بإخلاص، الحكومة هنا حكومة مثالية، تمارس الكذب على الناس بانتظام، وتمنع كل ما هو إبداعي، كل ما قد يدفع الناس للتفكير، لظنها أن مجرد التفكير قد يدفع الناس للثورة.
تتباعد المسافة بين الناس والسلطة، الناس في هوة عميقة، بعيدون تماماً عن السطح، بينما السلطة تنظر إليهم من أعلى، عبر كاميرات المراقبة، يتحول الناس إلى مجرد صور ملونة على الشاشة، ترهق عين السلطة إذا أطالت النظر إليها. مراقبة الناس أمر صعب، مرهق، تعتاد السلطة المراقبة، وتتحول مع الوقت إلى فعل روتيني، ثم تتحول إلى عبء على كاهل السلطة، لا تراقب السلطة الناس لتتأملهم، أولتحقق مطالبهم، بل لكي تدرس تحركاتهم، وتطلق يدها الطويلة للسيطرة عليهم حال ثورتهم. تختزل السلطة وسيلة الاتصال بالناس لمجرد عصيّ وهراوات، تهبط على أجساد الناس طوال الوقت، لتصبح هذه هي الوسيلة الوحيدة للسيطرة عليهم؛ الأذى الجسدي الجماعي، احتفال تقيمه السلطة على شرف الجسد.
تصل رسالة “في” للناس بالتدريج، عندما يعرفون أن مبنى البرلمان قد تم تفجيره، عندما يستمعون لصوت “القدر” المتغير.
“القدر” في الرواية صوت إذاعي، يرشد الناس لسنوات طويلة، يشير عليهم وينير لهم طريق الصواب، يسيطر عليهم سيطرة تامة، في تخطيط بالغ الذكاء من الحكومة الفاشية، يدمن الناس صوت القدر، ويحرصون على الاستماع له يومياً في ميعاد محدد، لكن السلطة تناست المشكلة الأزلية؛ “القدر” ليس خالداَ، “القدر” ميت لا محالة، وعندما يقوم “في” باختطاف “القدر” ويفقده النطق، تستبدل السلطة الفاشية صوت “القدر” بصوت آخر شبيه، في محاولة يائسة منهم لاستمرار فرض السيطرة، لكن المدمنين يكتشفون فرق النبرة، فيتحررون تلقائياً من سيطرة صوت القدر.

القدر في الرواية صوت إذاعي، يرشد الناس لسنوات طويلة
ينقذ “في” فتاة من مصير بائس، “إيفي” فتاة وحيدة تتعرض لمحن شتى، لتلتقي ب “في”، الذي يرافقها في طريق طويل وشاق، طريق مر هو به من قبل، كان عليه أن يحترق حتى يتطهر. ولم يجد “في” أفضل من هذا الطريق ليجند “إيفي”، لتصبح في النهاية خليفته، لتحمل الراية من بعده.
يحرص “في” طوال الوقت على وضع قناع باسم، يخفي وجهه الذي لن نعرفه مطلقاً، القناع الباسم سيصبح رمزا للثورة في العالم، ستحمله رؤوس كثيرة أثناء المظاهرات والاحتجاجات، سنراه بعد عقود من نشر الرواية في ميدان التحرير، ربما لم يقرأ صاحب القناع رواية في، على الأرجح شاهد الفيلم المأخوذ عن الرواية، لكنه بالتأكيد أدرك أن الفوضى هي الحل.

الفوضى هي الحل؟
القناع عبارة عن تصوير هزلي لوجه جاي فوكس، الذي شارك في التخطيط لمؤامرة لتفجير البرلمان الانجليزي عام 1605، فشلت المحاولة، وتحول يوم الخامس من نوفمبر إلى يوم احتفالي، يحتفل فيه الانجليز بفشلها، يحرقون خلال اليوم دمى تمثل جاي فوكس.
اقترح ديفيد لويد أن يرسم قناعاً على وجه بطله، يمثل جاي فوكس، وافقه آلان موور على الفور، ادعى موور أن فكرة قناع جاي فوكس هي التي حلت كل المشكلات الروائية في نصه، قال: “تجمعت كل الشذرات المتفرقة في رأسي في اماكنها الصحيحة، خلف قناع جاي فوكس” اختار ديفيد بطلاً عكسياً، مجرماً في نظر الحكومة والشعب، لينتشر القناع بعد ذلك على وجوه المتظاهرين في العالم، رامزاً لثورتهم على الطغيان.
نشرت “فينديتا” مسلسلة بين عامي 1982 و 1989، ثم نشرت بعد ذلك مجمعة في مجلد واحد.
********
نشر هذا المقال في العدد الثالث من مجلة الدشمة، مع ترجمة لمشهد من الرواية، الدشمة مجلة كومكس يصدرها مركز هشام مبارك للقانون، تجدونها في مركز هشام مبارك ودار ميريت للنشر.

Published on April 15, 2012 12:27
date
newest »

message 1:
by
عسري
(new)
Jun 04, 2012 02:41PM

reply
|
flag