الأبُ والجثمان - من المجموعة القصصية (ما يَحدثُ في هدوء)

يكادُ البردُ يقتلُني. أقولُ يكادُ لأنّي واثقٌ أنه لن يستطيعَ قتلي وإنأراد!
ربما منذُ ألفِ عامٍ فقط كان الناسُ هنا يظنّون أني لا يُصيبُني البردُ ولايدهمُني الحَرُّ، والحَقَّ أقولُ، كان هذا يُطريني ويُطربُني. والآنَ وأنا أجرّرُقدمَيَّ مع جُثّة ابني على هذا السرداب- لا يعرفُ أحدُهم ما يحدثُ هنا، ولا يخطرُببالِهم أصلاً – أشعرُ ببردٍ ينقُرُ عِظامَ رُوحي ويوجِعُني.
منذُ ألفٍ فقط من السنين، كنتُ أظنُّ أنّ القوةَ باقيةٌ لي. لكنني الآنَمُدرِكٌ تمامًا أن ليسَ ثمّةَ ما يميزُني إلاّ الخُلودُ. فأيُّ بُؤسٍ هذا؟! خالدٌفي شيخوختي؟!
واوَلَداه. وامَلِيكاه. حُزني عليكَ لم يخفُت ساعةً يا مَلِكَ مِصر. ياخالدَ الاسمِ بينَ البشرِ الذاهبينَ إلى النسيان. يا مَن أردتَ أن تَقومَ في النَّهارِبعدَ موتِكَ لتلتحمَ بأبيك.
خوفو. سامحني يا وَلَدي على ما أفعلُهُ الآن. جثتُكَ المحنَّطَةُ التي خفَّوزنُها أصبحَت ثقيلةً على أبيكَ الإله العَجُوز. ولا ينتظرُهُ في الصحراءِ بعدَ أنيخرُجَ بك إلاّ مزيدٌ من البرد. سامحني. أعرفُ أنكَ أخلصتَ لي. وحفظتَ ولاءكَ ليسِرًّا، ولم تنتسِب إلى آلِهة مِصرَ الأخرى لأظلَّ وحدي في قلبِك. ذريتُكُ لم يسيروافي ظلِّكَ وأنتَ تعرف هذا. انتسبوا إلى (رَعْ). وتركوني. تركوا (سِتْ) الواحِدَ فيالصحراء. تنوشُهُ الرّيحُ ولا يحتفي باسمِهِ ملِكٌ من بَنيه إلاّ قليلا.
آهِ. ها أنَذا عند المَخرَجِ من الهرَم. الليلُ مُطبِق. وألوهيّتي لم تُبقِلي إلاّ الخُلُودَ، فما أقسى هذا البَردَ ياخُوفو!
تعالَ يا ولدي، امتثِل ليَدَيأبيكَ المرتعشتين، وسامحهُ إن جرّكَ في الرمالِ خارجَ قبرِكَ العظيم. آهِ لو كنتُمستطيعًا أن أمنحَكَ من خُلودي. إذَن لرأيتَ بلادَكَ تسقُطُ في أيدي الغُزاةِمرّةً ومرّةً ومرّة. ورعاياكَ ينسون أباكَ ويغرقونَ في النسيانِ وهم أحياءٌ،ويسلّمون أنفسَهم لكلِّ شجاع. لكن. شكرًا للقدَرِ الّذي حرمَكَ الخُلود. أنت الآنَمستريحٌ من حُزني الذي أحملُهُ منذُ سقوطِ مصرَ الأول والثاني والثالث. غزاةُالشّرق. يالَغُزاةِ الشّرق! لا يعرفون شيئًا عن (سِت) ملِكِ الصحراء. ومجيئُهمأغرى المصريين بي، فصاروا يكرهونني، ويقولون إنني أنا الشّرّ، وكأنهم نسوا أنهمجاءوا منّي، من الصحراء. ولماذا أقولُ (كأنهم)؟ بل قد نسوا بالفعل. ألم أقُل لك ياولدي إنهم غرقوا في النسيانِ وهم أحياء؟!
لو أستقبلُ من حياتي ما استدبرتُه. لكنتُ انتبهتُ إلى (حُور) المخاتل. ذلكالصقر الذي أذاقني الحسرةَ الأولى فزللتُ عن عرشي الذي كان على قلوبِ المصريينقائما.
أذكرُ بالطبعِ ذلك اليومَ يومَ النحس. أغراني بالاحتكامِ إلى الآلِهة، ولمأكن أدري ما الآلِهة. وافقتُهُ ياولَدي، فقد كان في منقارِهِ المعقوفِ ما يمنعُنيمن الرفض، وكان في عينيه المدورَتين ما يُغريني بالقَبُول.
قال: "ستنامُ معي، وسأنامُ معَك. وسترى الآلهةُ أكثرَنا فحولةًوسيكونُ له الأمرُ في مصر".
قبلتُ يا ولدي. وحينُ قذفتُ ماءَ حياتيتلقّاهُ بيدِه، ولم أدرِ ما فعلَ به، لكنّي رأيتُ فيما بعدُ ونحنُ نتحاكمُ لدىالآلهة أنه ألقاهُ في النيل. وحين قذفَ ماءَ حياتِهِ تلقّاهُ هو أيضًا بيدِه ولمأدرِ ما فعلَ به. لكني رأيتُ فيما بعدُ أني قد أكلتُه!
نعم! أكلتُه ياولدي مع نبتة الخَسّ التي أحبُّها. المخاتلُ نثرَ ماءَحياتِهِ عليها لأنه يعلمُ أني سآكلُها. وحينَ نُودِيَ ماءُ حياتي أجابَ النهر.ضاعَ ماءُ حياتي ياولدي. وحين نُودِيَ ماءُ حياتِهِ أجابَ مِن أحشائي!
يالَخُسراني. يالَحسرتي يا ولدي.
وأنتَ على ذلك عبدتَني وأفردتَني بالولاء. فكيفَ أنساك؟
ازدحمَ الأكَلَةُ على مصر يا ولدي. غزاةُ الشرق.
ها نحنُ في وسطِ الصحراءِ أيها الملِك. وأنا جائعٌ مطرودٌ وذنَبي يؤلمني.أظنُّهم سيقولون بعد ألفين من السنينَ في اختفاءِ جثمانِكِ الأقوال. ربما يقولونانتهبَه اللصوصُ مع كنوزِه. ربما يقولون شرّحه الغزاةُ ليعرفوا موضعَ رُوحِه.وسأكونُ أنا قد نُسيتُ تمامًا ومُحِيَ اسمي إلاّ من بقيّةٍ من نقوشٍ على المعابدالتي أقامها أبنائي قديما. لكنني سأظلُّ هنا في الصحراء. خالدًا في الظُّلمةِوالبرد. واحدًا في حكايتي وكأنني لم يعبدني آلافُ آلافٍ من أبنائي. لن يخطُرَببالِهم أنكَ في أحشائي. فما أنتَ إلاّ بعضُ ماءِ حياتي. وها أنذا جائعٌ وأنتَ لنتشعُرَ بي آكلُكَ يا ولدي.
امتثِل ليَدَي أبيك المُرتَعِشَتَين يا ولدي، وكُن حنونًا على ما بَقِيَمِن أسنانِه التي أسقَطَها الغُزاة. كُن بارًّا بأبيكَ (سِتْ). وسامحهُ إن حرمَكَمن البعثِ في النهار، بينما الجوعُ يقرصُهُ في بردِ الصحراء.
2016