في مئوية ميلادِه: وجدانُ (محمد الموجي) الديني في لحنَين


     

 في الرابع من آذار/ مارس 2023 حلّت الذكرىالمئوية لميلاد الموسيقيّ المجدِّد المرحوم محمد الموجي. وممّا يَبعث على

 الأسف أنيُحتفلَ بذكرى الركن الظاهر من أركان العمل الفنّي دون الأركان الباطنةِ الآصَل فيإنتاج ذلك العمل. هكذا يأخذ الممثّلون نصيبَ الأسَد من الاحتفاء الشعبيّ والرسميّفي حياتِهم وبعدَ مماتِهم، بوَصفِهم الركن الظاهر في العمل الدرامي، وكذلكالمُطربون بوَصفهم الأظهَر في الأغنية. ويتوارى الشعراء الغنائيّون والملحّنون كمايتوارى الكُتّاب والمُخرجون. وقد مثَّلَ محمد الموجي مع كمال الطويل وبليغ حمديثلاثيًّا وضع لمساتٍ جديدةً في صرح الأغنية المصرية والعربية، وسواءٌ آتّفقنا معمشاربهم التلحينية أم اختلفنا، وسواءٌ أراقَتنا أم لم تَرُقنا، فإنّ بصماتِهم تبقىواضحةً ومهمّةً، ومنجزَهم يبقى جديرًا بالقراءة والالتفات إليه.

     وصحيحٌ أنّ إنجازَ الموجي الأشهر كان مالحّنه من أغانٍ طويلةٍ لأمّ كلثوم ("للصبر حدود" مثلًا)، وقصائد لعبدالحليم حافظ، لاسيّما قصيدتَي نزار قبّاني "رسالة من تحت الماء"و"قارئة الفنجان" الجديرتَين بدراسةٍ مستفيضةٍ لنَهج الموجي التلحينيّفيهما، لكنّ الأغنية الدينية تحملُ من رُوح الفنّان نفَسًا يصعبُ أن نلمسَه بكاملتجسُّدِه في غيرِها من الأنواع الغنائية. ولذا سنتناول نموذجَين منها في هذاالمقال الاستعاديّ القصير.

* أوقدوا الشموس:

https://www.youtube.com/watch?v=ZnSu0JSCkOI

     لحّنَ الموجي هذه القصيدةَ من شِعر طاهر أبوفاشا للسيدة أم كلثوم لتشدو بها في مسلسل إذاعي عن رابعة العدوية عام 1954، ثمّتحوّل المسلسل إلى الفِلم الشهير الذي أخرجَه نيازي مصطفى عام 1963. وضع أبو فاشاالكلمات في أشطر قصيرة في وزن "فاعلُن فَعُولْ"، وهو اختيارٌ عَروضيٌّيدفعُ المتلقّي إلى تأمُّل ما تكتنزُه الجُمَلُ القصيرةُ من معانٍ كبيرة. يبدأاللحن بمقدمةٍ في مقام الحجاز على درجة دو، تؤديها الجوقة النسائية بآهات علىخلفية الوتريات، ويساندها الناي. وهي مقسّمة إلى أشطر قصيرة يبدأ كلٌّ منها منالنغمة التي انتهت بها سابقتُها، صاعدةً المقام من قراره إلى جوابه. ويتضافر هذاالتصرُّف اللحني مع مقام المقدمة الممسوس بالحُزن الرصين في الإيحاء برحلة مجاهدةالنفس التي خاضتها شهيدةُ العشق الإلهي ومراحلِها المتعاقبة إلى أن فاضَت رُوحُهاإلى بارئها. ثم ما تلبث الآهات أن تتبدّل وتتجسّد في كلماتٍ "أوقدواالشُّموسْ/ انقُروا الدُّفوفْ/ موكِبُ العَروسْ/ في السَّما يَطوفْ". ثمّيكونُ جسرٌ قصيرٌ في مقام الراست على درجة (فا) تعزفه الكمنجات، لتتسلّم أمّكلثومٍ عائدةً باللحن إلى مقامه الأصلي (الحجاز) وهي تشدو بـ"الرضا والنُّور/والصَّبايا الحُور/ والهوى يَدور/ آنَ للغريبْ/ أن يَرى حِماهْ/ يومُه القريبْ/شاطئٌ الحياةْ" ليستقرّ مع صوتِها القويّ الواثقِ المُعجِز جوُّ التأمّلالرصين الممسوس بالحُزن، ثم تتحول إلى فرحة مقام الراست التي هيَّأَنا لها ذلكالجسر القصير الذي تسلَّمَت به اللحنَ من الجوقة، وذلك حين تبدأ في "والمُنىقُطوفْ/ في السما تَطوفْ/ انقُروا الدُّفوفْ" على خلفية الكمنجاتوالكونتراباص، مع مسانداتِ الناي المتّقِدة، فتُخرجُنا بذلك إلى فرحة العُرسالسماويّ بصعود رُوح العارفةِ بالله. تتكرر المقدمة بالآهات من الجوقة، ثمّ يتكررالجسر القصير في مقام الراست، قبل أن تتسلّم أم كلثوم قائلةً "يا حبيبَالرُّوح/ تائهٌ مجروحْ/ كلُّهُ جُروحْ" في مقام الحجاز، حيث تصعد في الشطرَينالأوَّلَين من "فا" إلى "سي بيمول" لتهبط في الشطر الثالث"كلُّه جروح" من "دو الجواب" إلى "فا" هبوطًاموحيًا بما في جروح رحلة الدنيا من تعبٍ ووهَن. ثم تتحول إلى الراست على درجة"فا" مجدَّدًا مع "لائذٌ بالباب/ شوقُه دَعاهْ/ والرِّضا رِحابْ/يَشملُ العُفاةْ" لتُخرجَنا ثانيةً من تعب الرحلة الدنيوية إلى فرَح العودةإلى الله وقَبول الله للّائذِ ببابِه وعفوِه عنه. أمّا الغصن الأخير من الأغنية"طافَ بالسلام/ طائفُ السلام/ يوقِظُ النِّيامْ/ عهدُه الوثيقْ/ شاطئُالنجاةْ/ أولُ الطريقْ/ هو مُنتهاهْ" فقد وضعَه الموجي بالكامل في مقامالراست مكرّسًا ذلك الفرحَ الكامنَ في خلوة الصوفيِّ بربِّه، وهو فرحٌ يجعلالدموعَ تَطفرُ شوقًا إلى التحرُّر الكاملِ من الجسد والعودة إلى الله الذي هوأولُ الطريقِ ومُنتهاه، ويقوّي الموجي هذا الأثرَ المُبكي فرَحًا بركوز الفواصلالآليّة بين أشطُر "عهدُه الوثيق/ شاطئ النجاة/ أولُ الطريق/ هو منتهاه"على درجة "لا نصف بيمول" كما لو كان المقامُ هو "هُزام على درجة لانصف بيمول" رغم أنه لا يَخرج إلى هذا المقام حقًّا، والهُزامُ مقامٌ مُبكٍبطبعِه. ثم يتكرر المذهب أخيرًا "والمنى قطوف" والمقدمةُ بالآهاتتنشِدُها أمُّ كلثومٍ والجوقةُ معًا، ليكون أولُ الطريق هو منتهاه على الأصعِدةِكافّة.

     والخلاصةُ أنّ اللحنَ يَنطق بحساسية الموجيالمُفرِطة للكلمة، ورهافة شعوره بالمعاني الدينية، فضلًا عن صنعتِه اللحنيةالمتفردة.

* يا خالق الزهرة:

https://www.youtube.com/watch?v=iRX1ZpznYCw

     هيأغنية ضمن مجموعة مناجَياتٍ شدا بها عبد الحليم حافظ من كلمات عبد الفتاح مصطفىولحن الموجي وتوزيعه عام 1968، تبدأ جميعًا بالمقدمة نفسِها في مقام الهُزاميعزفُها الكونتراباص منفردًا، بطريقة متقطّعة بالطبع Staccato مع مصاحبةإيقاعية، ما يعطينا شعورًا بأنّ المناجاةَ خارجةٌ من قلبٍ نابضٍ، كما نتصوّر حُزنَالمقام حزنًا على كلّ غفلةٍ عن آيات الله التي تتغنّى بها هذه المناجَيات. وفي هذهالأغنية بالذات ينتقل اللحن بغتةً من المقدمة الجامعة للمجموعة إلى المقدمةالقصيرة الخاصة للأغنية، يعزفُها الناي في مقام عجَم عُشَيران، أي أنه سلّم كبيرمرتكز على درجة "سي بيمول"، وسريعًا ما يتسلّم منها حليمٌ الغناء مكررًالفظ الجلالة بين نغمتَي "لا" و"مي بيمول"، وهكذا يهيمِن جوُّالفرَح من البداية الخاصة للأغنية، وهو فرَح قلب المؤمن الناظر في آيات الله دِقِّهاوجِلِّها، ثمّ ينطلِق حليمٌ في خطَّين متوازيَين حسبَما أرادَ توزيعُ الموجي، حيثيُنشِد في السلّم نفسِه في منطقتَي قرارٍ وجوابٍ "يا خالق الزهرة في حضنالجبل من فوق/ لونها ومنظرها آية للجَمال والذوق" تلك الكلمات التي صاغَهاالشاعرُ في البحر البسيط "مُستَفعِلُنْ فاعِلُنْ مستفعلُنْ فعِلُنْ"المتجذّر في الوعي الإيقاعي العربي. ونحن نعرف أنّ صوت حليمٍ أقربُ إلى المنطقةالمنخفضة الغليظة، أي أنه بتصنيف الأصوات الغربيّ أقربُ إلى الباص Bass ، فيما يؤدّيهنا الخطّ العاليَ أو الجَواب بمهارة. والمهمّ أنّ هذا التوازي الذي قرره الموجييُشعرُنا بأنّ هذا الذي يُناجي اللهَ مأخوذٌ بما يرى من آياته لدرجة أنّ لسانَهيسبقُه وينطلِق مناديًا ربَّه فيما قلبُه منشغلٌ بالمناجاةِ سِرّا. وفي المقامنفسِه يمضي حليم منشدًا: "تطلع وتدبل على دمع الأمل والشوق"، ثم يتحولإلى مقام الصَّبا على درجة ري مع جملة "لا يدرى بيها ولا يعلمها غيرالله" إلى قولِه "سبحانك يا ربّ سبحانك" في جوٍّ من اللوعة يكرسُههذا المَقام، كأنها لوعةٌ على وحدة المخلوق بين الموجودات، فهو في النهاية كمٌّمهمَلٌ مهما بدا جميلًا، إلا في عين اللهِ خالقِه اللطيف الخبير الذي أذِن لهبالوجود فوُجِد ثمّ أذِن له بالموت فمات.    

      والشاهد هنا أنّ حساسية الموجي تتجلى فياختياره التوزيعيّ المتمثل في الخطّين الأدائيين المتزامنَين لصوت حليم، وهواختيارٌ لم يجئ عبثًا وإنما أدى وظيفةً تعبيريةً ربما لا نَعيها في التلقّي الأوّلوعيًا كاملًا، إلا أنها تجِد طريقَها إلى وجداننا في يُسر. هذا فضلًا عن النقلاتالمَقاميّة المحسوبة التي تَخلُق الكلماتِ خَلقًا آخَر، وتجسِّمُها تجسيمًا أكادُأُراهن على أنّ شاعرَنا عبد الفتاح مصطفى قد عجِبَ له حين استمعَ إلى اللحن.

     رحم الله أولئك الذين اشتركوا في صُنع هاتينالتحفتين الموسيقيتين الخالدتَين، ورحمَ أستاذنا الموجي الذي مازالَ فنُّه باعثًاعلى التأمل والتفكير ومُثريًا للوجدان.

نُشِر في موقع (عربي 21) في مارس 2023

محمدسالم عبادة

الأحد 13 شعبان 1444ه – 5 آذار/ مارس 2023 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 26, 2025 05:36
No comments have been added yet.