طبيعة النص القرآني
أظنني بحاجة إلى تقديم اعتذارين بين يدي هذه المقالة، اعتذار عن الاختصار الشديد في مسائل تحتاج إلى مزيد من التفصيل، واعتذار آخر عن أسلوب الكتابة، فأصل هذه المقالة تغريدات في موقع تويتر، ثم رتبتها ووضعتها في صفحتي على الفيس بوك، وللتغريدات طريقتها في الكتابة، ولو أني أجلت نشرها إلى حين إعادة صياغتها، لصار مشروعا مؤجلا، لذلك فضلت أن أنشرها كما هي.
(1)في الطبيعة الوجودية للقرآن الكريم
من القضايا التي أخذت جدلا واسعا بين المفكرين والعلماء قضية خلق القرآن، والسؤال هو: هل القرآن كلام الله أم أنه مخلوق؟ القضية من الناحية العقدية والكلامية قديمة جدا وهو خلاف مشهور في التاريخ بين أهل السنة والمعتزلة، حيث قال أهل السنة بأنه صفة أزلية وقال المعتزلة بأنه مخلوق.. وحديثا أثار القضية بعض المفكرين العرب وسبب إثارة الموضوع بنظرهم أن القول بخلق القرآن يعني أنه نص لغوي وليس نصا سحريا.. له طبيعة مثل طبيعتنا.. بإمكاننا فحصه.. وسيكون ابن اللحظة التاريخية التي نزل فيها وبالتالي لن نواجه مشكلة التاريخية.. فهو نزل في ظروف تاريخية معينة وبالتالي سيكون مراعيا لها.. ومن ناحية أخرى سنتخلص من مشكلة التقديس المبالغ فيه في التعامل مع القرآن..
أما إذا قلنا إنه كلام الله فهذا سيعني أنه خارج عن قدرتنا في الفحص والدراسة.. وأنه بخلاف بقية النصوص سيكون متعاليا على الزمان والمكان الذي نزل فيه.. وسيتم التعامل مع القرآن بوصفه نصا فوق قدرة الإنسان على الفهم..
يعتقد البعض أنه لا يمكن أن نصل إلى فهم عقلاني للقرآن، غير أسطوري ولا سحري، إلا إذا قلنا إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، حسنا.. دعونا نتفحص هذه المسألة التي أخذت جهدا من النقاش والجدال في الفكر المعاصر.. نحن الآن أمام مسألة عقدية، هذه المسألة تطرح تصورا للقرآن قبل وجوده في عالم الشهادة، هل هو مخلوق أم صفة إلهية، تتحدث عن القرآن في عالم الغيب.. ولكن ماذا بعد وجود القرآن في عالم الشهادة؟ هذا القرآن الذي بين أيدينا نزل بلغة العرب في زمان النبوة في فترة ٢٣ سنة، ولم ينشئ لغة جديدة.. استعمل التشبيهات والمجازات.. ونفس المصطلحات.. وطورها بالقدر الذي تسمح به اللغة.. فالقرآن ليس نصا سحريا.. بل هو نص لغوي.. يمكن فهمه وتعقله وفق قواعد اللغة العربية.. هذا القدر من التصور لا علاقة له بكون القرآن مخلوق أو صفة إلهية..
بمعنى أن القرآن حين نزل بلغة العرب في عصر التنزيل فإنه بالتالي جعل نفسه محلا للدراسة وفق قواعدهم في اللغة.. فالقارئ للقرآن والمؤول له يتعامل مع نص لغوي بين يديه.. وأثناء التعامل لا يوجد فرق إن كان يعتقد أن هذا النص في أصله صفة إلهية أم كلام مخلوق..
من يتعامل مع القرآن تعاملا أسطوريا.. هو لا يفعل ذلك انطلاقا من كونه صفة إلهية.. ولكن من حالة الوعي الأسطوري الذي تعيشه مجتمعاتنا.. ومن حالة التخلف في العلوم الإنسانية المختلفة.. بالتالي أظن أن الخلاف بين من يقول بخلق قرآن ومن يقول بكونه صفة إلهية.. هو خلاف لفظي في هذا الجانب.. أي فيما يترتب عليه من عمل في الدنيا.. هذه مسألة وجودية عقدية غيبية
(2) في مفهوم التاريخية
مفهوم التاريخية من المفاهيم الشائكة جدا في طبيعة النص القرآني.. وقد شوهت التاريخية لدرجة كبيرة.. وصار البعض يعتقد أن من يقول بالتاريخية يكون قد نفى خلود القرآن وصلاحيته لكل زمان ومكان.. وهذا ليس صحيحا في رأيي.. سأوضح مفهوم التاريخية بشكل عام ثم أفصل قليلا.
النص اللغوي هو إنتاج بشري.. هناك خلاف في أصل وجود اللغة.. لكن اللغة التي نعيشها الآن نحن من ينتجها.. ولذلك فهي شديدة الصلة بالثقافة.. اللغة والثقافة والفكر والوجود.. هذه عناصر متداخلة.. اللغة ينتجها الإنسان وفق ثقافته وتاريخه وأفكاره.. ولذلك تتطور اللغات وتتغير
حين نزل القرآن الكريم نزل بلغة العرب في زمان النزول.. واستعمل لغتهم نفسها.. نفس الاستعمالات والمصطلحات.. لم يأت بلغة مختلفة.. ولم ينشئ مصطلحات جديدة.. مثلا وصف العلاقة بين الإنسان وربه بالحب (يحبهم يحبونه) كلمة الحب يعرفها العرب من خلال علاقاتهم المختلفة بالحبيبة والأم والأم والصديق.. الخ، وبالتالي فلهذه الكلمة معانيها في النفس، لم يأت القرآن بمصطلح جديد ويضع له تعريفا جديدا، وإنما أخذ مصطلحات العرب وطورها داخليا (داخل النص) كعادة النصوص في تكوين نظامها الداخلي
هذا المعنى السابق باختصار شديد هو معنى التاريخية.. أن النص القرآني جاء متموضعا تاريخيا.. جاء وفق لغة العرب زمن النزول.. اللغة التي هي من إنتاج العرب أنفسهم والتي تعبر عن ثقافتهم وتفكيرهم.. وهذا المعنى لا يعارضه المفسرون.. فهم يقولون إن القرآن نزل ( على عادات العرب في كلامهم).. وأنه مرتبط بشكل ما بالزمان والمكان.. ولذلك تحدثوا عن أسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ..
المسألة هنا.. أنك كلما ابتعدت عن زمان ومكان النزول.. ستبتعد عن الثقافة التي نزل فيها النص.. وبالتالي سيكون فهم النص أصعب بالنسبة لك.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ستواجه مشكلة في التأويل.. لأن الثقافات تختلف من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر.. فكيف ستجعل القرآن صالحا لكل زمان ومكان.. علما بأن القرآن لم يأت لتثبيت الزمان والمكان.. هنا سينتج كل كاتب معادلته الخاصة به في التوفيق بين تاريخية النص وخلوده.. وستجد اختلافا كبيرا بينهم
الخلاصة أن أصل فكرة التاريخية لا يستطيع أحد إنكارها.. وإنما الاختلاف سيكون في مدى ارتباط النص بزمان ومكان النزول ومدى تعاليه عليه.. وما هو مفهوم صلاحية النص لكل زمان ومكان.. وكيف سيتم ذلك.. بمعنى كيف سيؤول النص ليبقى صالحا لكل زمان ومكان
(3) القرآن بين زمنين
من القضايا المهمة جدا في طبيعة النص القرآني التفريق بين زمانين.. وأظن أن لهذا التفريق أثر كبير في تصورنا للقرآن .. وما يتبع ذلك من تأويل
الزمن الأول: عصرة النبوة، والثاني: مابعد النبوة..
سأبدأ بالزمن الأول.. نزل القرآن القرآن الكريم منجما، أي مفرقا في ٢٣ سنة، نزل القرآن بمنظومة قيمية جديدة، بنموذج غير معهود لدى الناس، والدعوة لنموذج جديد عملية صعبة للغاية، بل هي مهمة تكاد تكون مستحيلة، في كثير من الأحيان نحن ندعو لتصحيح النموذج (الإصلاح)، لكننا في الواقع لا نستطيع الإتيان بنموذج جديد بالكامل، صحيح أن هناك بقية من الحنيفية في مكة، وأن أهل الكتاب كانوا في المدينة، لكن هذا لا يشكل إرثا ولا أرضية صلبة للدين الجديد، فلم يتبق من الحنيفية إلا بقايا لا تشكل دينا، وكان دين أهل الكتاب في جزيرة العرب دينا أسطوريا، بمعنى أن المدينة كانت متخلفة دينيا بالنسبة لمناطق أخرى مثل مصر والشام
يذكر بعض المفكرين أن إقامة نموذج جديد من الصعوبة بمكان، وأنها بحاجة إلى زمن يقدر من قرن إلى قرنين، ونجاحه غير مضمون.. وكان على النبي عليه الصلاة والسلام أن ينجز هذه المهمة في فترة قصيرة جدا (٢٣ سنة)، وبالتالي حدثت استثناءات كثيرة في هذه الفترة، وأظن أن أهم استثناء هو وجود النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى أن وجود إنسان يأتيه الوحي من السماء هي حالة استثنائية في التاريخ
من ناحية بناء المنظومة، يعد الوحي اختصارا للزمن، لأنه يحسم الخلاف بين الخير والشر، يحدد منطقة الخير والخير في كل حادثة، هذا السؤال الذي يأخذ منا جهودا كبيرة ويستغرق عقودا، حتى تتبين لنا مساحة الخير ومساحة الشر في حادثة تاريخية ما
نعود إلى القرآن الكريم، من هذه الاستثناءات نزول القرآن منجما، وهو ما استشكل على العرب، قياسا على ما يعلمونه عن الأمم السابقة من نزول الكتب السماوية جملة واحدة
نزول القرآن مفرقا يجعل تقبله وتطبيقه عملية تراكمية، ويجعل انسجامه مع الواقع أسهل وأقوى، ولذلك اقترن العلم بالعمل عند الصحابة، لكن المهم هنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعيد ترتيب القرآن بعد نزوله، فيقول ضعوا هذه الآية في الموضع الفلاني، فمن هنا صار عندنا ترتيبان.. الترتيب الأول هو ترتيب النزول، والثاني هو ترتيب المصحف، لكن لاحظ أن ترتيب النزول هو ترتيب واقعي، أي حكاية ما حدث في زمن النبوة وترتيب المصحف هو الترتيب الداخلي للقرآن، الذي أمر به الرسول (ص)، وهناك خلاف حول ترتيب السور هل هو توقيفي أم اجتهادي، لكن هناك إجماع حول ترتيب الآيات داخل السورة، وهو الأهم، لأن لكل سورة سياقها المستقل، ونظامها الخاص بها
الزمن الثاني: هو زمن ما بعد النبوة، وهو زمن اكتمل فيه القرآن، وصار له ترتيبه الخاص، وصار مصحفا، صار (الكتاب)، والقرآن وصف نفسه أنه (الكتاب) في مرحلة مبكرة، مثلا في سورة الكهف، وهي نزلت مبكرا، (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، والكتاب تعرفه العرب، فهو كما يوصف (ما يعلم أوله وآخره) يعني أن له ترتيبا محددا، أي هو ليس ملفا (دوسيه) توضع فيه الأوراق بشكل عشوائي، وإنما هو كتاب له ترتيبه، وهو (ما يوضع على الرف) أي أن العرب كانت تعي معنى هذه الكلمة، وبالتالي فالقرآن يصف نفسه باعتبار ما سيكون، يصف نفسه بعد اكتماله، بعد زمن النبوة بأنه كتاب له ترتيبه
أصبح لكل سورة من القرآن سياقها الخاص بها، تعرض السورة الفكرة من بدايتها إلى نهايتها بطريقتها الخاصة، هناك ما يسمى الوحدة العضوية للسورة، السورة متماسكة بأفكارها، بأسلوب القرآن في العرض، وهذا بالطبع يختلف كثيرا، عن ترتيب النزول، لأن نزول القرآن مفرقا لم يكن بالسور وإنما بمقاطع الآيات، وبالتالي سنلحظ فرقا كبيرا بين الترتيبين
بالنسبة لي أنا قارئ القرآن الآن، أجد بين يدي مصحفا مكتملا، أقرأ كل سورة على حدة، مكتملة، وأقرأ القرآن في ظل وجود نموذج إسلامي ما، بالنسبة للصحابي في زمان النبوة، كانت الآيات تنزل مفرقة، ثم يعاد ترتيبها، وهو بالتالي يتعامل مع القرآن بطريقة مختلفة، وقد كان الصحابي يقرأ القرآن المنزل في ظل وجود تصورات سابقة، هي ليست إسلامية، وجاء القرآن متمما بها أو معارضا لها.. وأيا كانت النتائج التي سنخرج بها، فأظن أن مجرد ملاحظة الفرق بين الزمنين مهمة جدا.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 182 followers
