لماذا يا فيليكس؟

التعليقات حول قفزة فليكس في مواقع الانترنت خصوصا المواقع الاجتماعية مثل (فيس بوك) و(تويتر) أخذت في الغالب طابعا كوميديا، ونقاشا طريفا، لكنها في الوقت نفسه أخذت بعدا تصوريا تجاه علاقة الإنسان بهذا الكون، حاولت أن أطرح السؤال نفسه على طلاب في الكلية، عن رأيهم في هذه القفزة من الفضاء إلى الأرض، وكانت التعليقات مشابهة إلى حد كبير لما قرأته في مواقع الانترنت.


لست متخصصا في الفيزياء لأفتي في الموضوع، لذلك لن أتحدث في ماهية وحقيقة الانجاز العلمي لقفزة فيليكس، لكن المدهش هو اعتقاد الكثيرين أن فيليكس قلب الطاولة على نيوتن، وسيخرج لنا قوانين جديدة في الفيزياء، وسرعان ما نفى عدد من المختصين هذا الوهم، ولو حاولنا أن نبحث في سبب هذه الشائعة لربما كانت عدم تقبل مغامرة بهذا الحجم دون نتيجة بهذه الضخامة، بمعنى أنه لا يوجد سبب مقنع يجعل فيليكس يقوم بهذه المغامرة، إلا أن يكون إيجاد قوانين فيزيائية جديدة، وإلا فالمغامرة لا تستحق.

بعض المعلقين أصر على أن القفزة هي عمل تجاري بامتياز، فشركة (ريد بول) دفعت مبلغا محترما لتمويل هذه القفزة، وللمغامر فيليكس، بمعنى أنه تم تسليع التجربة العلمية، وأن هذه القفزة هي استمرار لسطوة الرأسمالية.. الخ، ويبدو أننا لا نزال في المشكلة نفسها، وهي عدم قبول فكرة المغامرة إلا لسبب مجز.


من إيجابيات هذه القفزة مشاركة وتعاطف المشاهدين والمتابعين مع هذا المغامر، ومن تابعها على الهواء يستطيع أن يستشعر كيف شعر ببرودة في جسده خوفا من فشل هذه التجربة بغض النظر عن فهمه حقيقتها ونتيجتها العلمية، هذا التعاطف هو حالة إنسانية بامتياز، فقد تفوق فيها الإنسان لمجرد أنه إنسان، وتم تأجيل كل الاختلافات الدينية والعرقية والفكرية والسياسية إلى حين آخر, بل حتى جدوى التجربة وأثرها العلمي لم يعد مهما، المهم أن فيليكس أراد التجربة، واختار المغامرة، وبالتالي فنحن المشاهدون نتعاطف معه ونتمنى له النجاح، ونخشى على فشله، وهدر حياته، هذا ما قصدته بأن تجربة فيليكس هي عمل إنساني بامتياز.

لا أدري لماذا يقلق البعض من هذه المشاعر، واللحظات التي تتلاشى فيها الفروق وتبقى فيها الأخوة الإنسانية، لماذا يصر بعضنا على المقارنات من أجل إفساد اللحظة، لا أعتقد أن لفيليكس علاقة بنظام بشار الأسد حتى تكون له مصلحة في إفساد تعاطفنا مع شهدائنا في سوريا، هذا أمر وذاك أمر آخر، لا علاقة لهذا بذلك، ولكل مقام مقال، وكوني تعاطفت مع هذه المغامرة، لا يعني أن تناسيت أو تغافلت عن قضاياي المصيرية، لذلك لست أفهم هذه المقارنات إلا في سياق التأزم النفسي، الذي يصيبنا بالتوتر من كل قضية جديدة،

وليس أقل من هذا التأزم ذاك الذي حاول مقارنة قفزة فيليكس بصعود النبي عليه الصلاة والسلام إلى السماء في معراجه. لست أفهم العلاقة إلا في محاولة لإفشال التعاطف مع فيليكس وتجربته بلباس ديني، وإلا فهي مقارنة تخلو من وجود أي نوع من العلاقة.

لنعد إلى القضية الرئيسة، وهي المغامرة لأجل إثبات نظرية أو نفيها أو تدعيم نظرية أخرى، أو تطبيق نظرية في الواقع، أيا كان حجم النتيجة العلمية، ولن أستبعد وجود المردود المادي لهذه المغامرة، وقد يكون مردودا مجزيا، ولن أستبعد أيضا وجود حب ورغبة للشهرة والنجومية، فهذا أيضا وارد جدا، ورغبات الإنسان هي خليط من هذا وذاك، لكن في كل الحالات لابد من استشعار حجم المغامرة، التي قد تؤدي إلى موت محقق، وربما شنيع أمام أعين الناس.

للمغامرة فلسفتها، ولها دوافعها، والحضارة والنهضة تقوم في جزء منها على قدرة أفرادها على المغامرة، السياسة مغامرة، وكذلك التجارة، ومثلها الاكتشاف والاختراع، وحده الإنسان المستهلك هو الذي لا يغامر، لأنه يشتري ويدفع الثمن، ويتابع آخر الاختراعات لأجل أن يشتري، وليس هو موضوعنا، بل نحن نتحدث عن ذاك الإنسان القادر على المغامرة، أو ربما نستطيع تسميتها بـ (قابلية المغامرة).

أعتقد أن لهذا علاقة بتصورنا وعلاقتنا تجاه الكون، هل نحن مسؤولون عن الإبداع فيه، وبالتالي نحن مسؤولون ابتداء عن فهمه واكتشاف طبيعته وقوانينه، فهمنا للكون وإحساسنا بأن هذه مسؤولية دينية وأخلاقية وأن هذا الفعل هو عمل صالح يقربنا إلى الله هو ما يدفعنا إلى المغامرة من أجل هكذا اكتشاف ولو كان صغيرا، والعكس صحيح، من يفهم الدين أنه رهبانية أو مجرد نسك يؤديه فإن العقلية الاستهلاكية هي الأنسب له، لأنها تفرغه لرهبانيته، وتلقي بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الكون على عاتق الآخرين.


 


رابط المقال في صحيفة اليوم

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 17, 2012 06:17
No comments have been added yet.


مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.