المستمتعون بصمتهم
مصطلح (الأغلبية الصامتة) يتم تداوله في المجال السياسي، وهو يعني: الأغلبية العامة من الناس فى بلد أو مجموعة ما التى لا تعبر عن آرائها علانية، ويقال: إن أول استعمال لها كان في المجال الأدبي في إلياذة هوميروس، حين وصف القتلى في معركة طروادة بالأغلبية الصامتة، فهؤلاء القتلى يمثلون الأغلبية أمام من بقي من الأحياء، لكنهم بسبب صمتهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، وأصبح بإمكان الجنود الأحياء أن يعبروا عنهم، وأن يتحدثوا باسمهم، فيزعمون أنهم كانوا يقولون كذا ويعتقدون كذا، ويحلمون بكذا، وأنهم يؤيدون هذا، ويرفضون ذاك، في الوقت الذي لم يعد بإمكان الموتي تصديق ما يقال باسمهم ولا تكذيبه.
الأغلبية الصامتة موجودة في الدول الديمقراطية، فمهما بلغت الحريات في دولة ما، تجد أناسا لا يرغبون في إبداء رأيهم في الشأن العام، يكتفون بدوائرهم الخاصة، وربما يشاركون بفعالية في التصويت، لكنهم لا يعلنون عن آرائهم صراحة، وتتفاقم المشكلة، وتزداد نسبة هذه الأغلبية في الدول الشمولية، ومن أهم أسباب تفاقمها الخوف من التبعات الوخيمة لإبداء الرأي، وعدم وجود منابر حقيقية يمكن من خلالها التعبير عن الرأي في الشأن العام، فعادة تعاني هذه الدول مشكلة حقيقية في الحريات، وتفتقد لوجود مجتمع مدني حقيقي، وبالتالي تفتقد للمنابر والقنوات الشرعية والصحية لإبداء الرأي، وحتى إن وجدت تكون مفرغة من مضمونها.
في الدول الشمولية تتحدث الدولة باسم الأغلبية الصامتة، وتزعم أنها توافقها في آرائها وتوجهاتها، ولا يمكن لأحد أن ينفي ذلك، لأنه لا توجد طريقة لنفي ذلك في الواقع، فالإعلام والمنابر الدينية والثقافية كلها تحت سيطرة النخبة المتحالفة مع السلطة، فهناك طريق واحد، وفكرة واحدة، وحقيقة واحدة، والجميع يعتقد أن الجميع يؤمن بها، ربما تغيرت هذه المعادلة مع وجود الانترنت، خصوصا مع ظهور الإعلام الاجتماعي التفاعلي، فمواقع مثل ( تويتر ) و (فيس بوك) و(يوتيوب) كسرت احتكار هذه الدول، وأصبحت التيارات الأخرى المهمشة قادرة على إيصال رأيها وصوتها إلى تلك الأغلبية، بل صارت قادرة على مشاركتها الادعاء أن الأغلبية الصامتة ليست معكم وإنما معنا.
على أرض الواقع هناك خطاب تحميه السلطة، وهناك خطابات أخرى تبدو في خندق المقاومة، لكن في موقع تويتر ـ مثلا ـ كل يأتي وقد خلع مشلحه، وتخلى عن سلطته، ليقف متسلحا بسلاح واحد وهي الحروف المائة وأربعين، ربما لا يبدو كلامي دقيقا جدا، فلاتزال السلطة والخوف من تبعات الكلمة تلاحق الناس في تلك المواقع، لكن على الأقل ثمة فرق كبير بين الواقع ومنابر الانترنت.
بإمكانك أن تلاحظ المعركة الدائرة في الانترنت حول الحديث باسم الأغلبية الصامتة، معركة ( الفولورز ) مثلا في موقع تويتر، فرح الأتباع بوصول صاحبهم إلى رقم معين، وقلق الآخرين من هذا الرقم والتشكيك في مصداقيته، وعدد المشاهدات لمقاطع (اليوتيوب)، وعدد الدخول إلى موقع ما، كلها رسائل توصلها التيارات لبعضها أننا الأكثر حظوة وقبولا لدى الأغلبية الصامتة، وهي كذلك رسائل إلى السياسي، أننا التيار الأكثر تواجدا والأقوى حضورا في تلك الأغلبية، بل أحيانا تكون رسائل للخارج، أننا الأكثر فاعلية في مجتمعنا، وتبقى الأغلبية الصامتة تشاهد ولا تخرج عن صمتها، لا تصدق ولا تكذب.
بإمكان كل تيار أن يطلق الأرقام والنسب التي يرغب فيها. من الممكن أن نقول: إن المجتمع السعودي يرفض مشاركة المرأة في الأولمبياد، وبإمكاننا أن نقول: إنه يؤيد في أغلبيته مشاركتها، وبإمكاننا أن ندعي أن المجتمع السعودي مجتمع متدين محافظ، وبإمكاننا الادعاء أنه مجتمع ليبرالي منفصل عن خطاب المؤسسة الدينية، والواقع أننا في مجتمع تغيب عنه الأرقام الصادقة، بمعنى أننا مجتمع يجهل نفسه، ولا يعرف مزاجه، لذلك يتفاجأ من ردات فعل أبنائه تجاه بعض القضايا، والعجيب أن هذه الأغلبية الصامتة التي يتحدث باسمها الكثيرون، لا تخرج عن صمتها لتصدق هذا أو تكذب ذاك، وإنما يصدر التصديق والنفي من التيارات نفسها، ولا سبيل إلى معرفة مزاجها وتقلباتها وهواها، إلا من خلال استفتاء عام، أو دراسات إحصائية علمية مستمرة ومعلنة، وهو ما نفتقده.
ستبقى الأغلبية الصامتة في صمتها، لأنها موجودة حتى في الدول الديمقراطية، لكنها في الدول الشمولية أصابها العجز والسلبية فوق صمتها، ربما بسبب اليأس من جدوى الكلمة، أو لعدم إدراك أهميتها، والإنجاز الحقيقي هو في إخراج هذه الأغلبية من دائرتها الخاصة، إلى الاهتمام بمجتمعها، أن تكون فاعلة ومشاركة، حتى لو كانت صامتة.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 182 followers
