حتى تكون متمردا محترفا
الحالة الصناعية والتطور التكنولوجي الذي يعيشه العالم اليوم، والذي نعيشه أيضا في بلادنا بشكل من الأشكال، باستخراج النفط وتصديره، وشراء واستهلاك منتجات الحداثة بثمنه، هذه الحالة أوجدت حياة مريحة وسهلة وفتحت المجال لوعي أكثر رشدا ونضجا، ولكنها أيضا أورثت العالم سلبيات متعددة، مما جعل كثيرا من المفكرين يتحدث عن مشكلات الحداثة أو مأزق الحداثة.
الحالة الصناعية أوجدت تكدسا للسكان في أماكن محددة بأعداد كبيرة، فالمدن الصناعية مثلا لم تكن ذات كثافة قبل الدولة الحديثة، مما عظم من تمدد الدولة ومركزيتها في كل أنحاء العالم، فهي من خلال الشركات الضخمة تستطيع أن تحدد وتتحكم في مسار الشعوب، والراتب الشهري المحدد الذي يستغني به المواطن عن أي دخل سواه، والذي بمقابله يستميت الموظف في العطاء لأجل رقيه الوظيفي خصوصا إذا كان المقابل مجزيا، هو في حقيقته نوع من الاستعباد الناعم والخفي.
ما يهمني في هذه المقالة هو الفرد، هذا التكدس في المدن، وهذا التمركز والتمدد للدولة، كان الفرد ولا يزال هو ضحيته الأولى، المدن الصناعية الحديثة ذات الطابع الاستهلاكي جعلتنا متشابهين .. اننا متشابهون في عملنا ولحظة استيقاظنا، وفترة قيلولتنا، ووقت إجازتنا، وشكل سياحتنا، وأول جريمة للتنميط والتشابه ترتكب في حقنا تكون في المدرسة، حين نقف في طابور واحد بلباس واحد، وكلنا ينال تعليما وحدا، لأجل مستقبل واحد.
فكرة الجماعة أخذت بعدا أكثر من اللازم في العصر الحديث، وغاب الفرد وغابت أمنياته وأحلامه، حتى أصبح التفكير الفردي هو نوع من التمرد المرفوض، وأصبح حلما متمردا لدى الكثيرين خصوصا من جيل الشباب، هذا على مستوى الدولة الحديثة بعموم، فما بالك إذا كانت شمولية أيضا، تؤمن بالرأي الواحد والحاضر الواحد والمستقبل الواحد.
في لحظة ما ينقض السؤال الوجودي علينا بكل ثقله، سؤال وجودنا، لماذا أنا هنا؟ ومن هو أنا؟ وما معنى وجودي؟ وما الغاية مني ومن الحياة ومن التقائي بها؟ ولا تكفي الإجابات العامة لإشباع حاجة هذا السؤال، لأن السؤال هنا ليس سؤالا جماعيا بل فرديا، خلق الناس للعبادة، ونحن أمة ذات رسالة، والوطن عزيز علينا، هذا كله بالنسبة للجماعة، لكن السؤال الملح هو سؤال فردي، هو سؤال عني أنا، من أنا؟ وما الغاية من وجودي أنا؟
إذا نشأ هذا السؤال فإنه لا يغيب، بل يبدأ يشتغل في العقل والنفس يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، ويستاء القوم أصحاب العقول المستريحة والراضية بالسائد من هذه الأسئلة، فتبدأ الإشارة إلى أصابع المؤامرة، فثمة تغريب وكتب وخلايا مندسة تنشر أفكارا غريبة يجب منعها، والواقع أن أسئلة الوجود والبحث عن المعنى أسئلة ملحة في العصر الحديث، وهي استجابة لواقع الدولة الحديثة والشمولية.
يفكر الفرد في الإجابات، ولأن العالم حوله متشابه، ولأن الأسئلة التي طرأت في ذهنه فجأة لا تؤرق كثيرا من أصدقائه، لا يجد من يطور معه السؤال ويتعمق في الجواب، فيصل إلى طريق شبه مسدود، ويجد أن الحياة عبثية، فاقدة للمعنى، الإجابات جميعها متكلفة ومزورة، فتفقد الحياة بريقها في النهاية، ولا يجد فائدة من الاحتكاك بها، أو أنه يلجأ إلى طريقة أخرى، إلى تحايل عقلي ربما بشكل لا واعي، يبرر فيه الواقع ويتعايش معه، ويكون التبرير إما دينيا أو ثقافيا أو واقعيا، ويكون أشبه بالمهزوم الذي يطلب السلام.
حتى لا يقع الفرد في هذين الاحتمالين العدمية أو التصالح المهزوم، يقترح كثير من المفكرين أن يطور الفرد أسئلته عن طريق الوسائط، وسائط اللغة والفكر والرموز والثقافات، أي من خلال القراءات المختلفة والمتنوعة، والسفر والترحال والتأمل في حياة الناس وحاضرهم وماضيهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وأديانهم وأخلاقهم.
الأمم تكثف أفكارها وماضيها في (الرموز)، في نصوصها، وفي مدنها وعمارتها ولباسها، وغنائها ورقصها وأشعارها، والتأمل في كل هذا يعمّق نزعتنا الإنسانية، ويختصر علينا مسافات من التفكير القابع في صندوق مغلق أو الدائر في حلقة مفرغة، فالرمز هو وسيلة الإنسان في التعبير عن وجوده، ووسيلته أيضا في العثور على هويته.
سفرنا السياحي ليس له علاقة بكل ما سبق، سفر المولات التجارية، ومدن الألعاب، والمطاعم الفاخرة… الخ، هذا يعمق الأزمة ويسد طريق الأسئلة، ولا يخلق الحل، ومثلها الكتب التي تتم قراءتها بناء على توصيات أيديولوجية سواء كانت فكرية أم شرعية، لأن القراءة مبنية على سؤال داخلي، على حالة قلق تسبق القراءة، ومحاولة للفهم أثناءها، وانفتاح على العالم بعدها، فيتحول الوجود كله إلى نص، ثم يتحول النص إلى وجود مفتوح، وقائمة الكتب الخاصة بي لا تصلح لغيري، وما أوصل غيري لفكرة ما ليس بالضرورة أن يوصلني إليها.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 182 followers
