في ذكرى رحيل فرانز كافكا

"إن كل ما كتبته في حياتي انما هو نتاج الوحدة ." - فرانز كـافكا

اليوم ذكرى وفاة الكاتب التّشيكي "فرانز كافكا" الذي أبهرني في "المُحاكمة" و أصابني بالذعر في "مستوطنة العقاب"، ثم أتعبني في البحث عن "رسائل إلى ميلينا" ولم أكتب عنه شيئاً يستحقّه !

"أحيا على أرض شديدة الهشاشة، وربما كانت غير موجودة إطلاقاً، أحيا فوق ثقب معتم تنبعث منه قوى غامضة، حيثما شاءت، لتدمّر حياتي، دون أن تأبه لِتأتأَتي.."

هكذا عبّر كافكا عن القلق الذي يصيبه، وعن استحالة العيش في عالم يتّسم باللامعقولة والفساد من كلّ جانب؛ ولربما كانت قدرته على التعبير بطريقة غير مسبوقة هي ما جعل منه كاتباً عبقرياً.

لم يستطع كافكا إذن الإنسجام مع ذلك العالم المليء بالتناقضات والقسوة، واستمر في نبذ الحياة على تلك الطريقة بسلاح العزلة وكتابة الخربشات في كلّ ليلة، وقد كان أعداؤه ينعتونه بالمريض أو غير الطبيعي لغرابة مواقفه واختياراته، غير أنه كان يردّ بعبارته الشهيرة : " أن تكون انساناً ( غير طبيعي ) ليس أسوأ ما في الحياة لأن الناس يعتبرون الحرب العالمية أمرا طبيعياً.."
غير أن تلك التّهم - وغيرها - ظلت تلاحق كافكا حتّى بعد وفاته، كما تلاحق الآن الكثير من أمثاله، لأن المجتمعات تنظر دوماً إلى المُختلف على أنه مريض وغير طبيعي بالمرّة، وتنسى أنّ فسادها هو الذي يزرع التّمرد في رؤوس هؤلاء الذين تختلف جيناتهم عن جينات الآخرين، ويملكون أدمغة خالية من كلّ ما تحاول الأنظمة زرعه فيها عن طريق السّائد.

كما كان كافكا يرتعب من فكرة الزواج على الرغم من أنه تعرف على بعض الفتيات، و ارتبط بفيليس صديقته بخطبة فسخها مرتين. كما عرف ميلينا وكتبَ من خلال جمع مراسلاتهما "رسائل إلى ميلينا" التي تعتبر مهمّة جداًّ وفريدة من نوعها.
ببساطة، كان كافكا يخشى تعارض الزواج مع ميولاته الأدبية، فبالإضافة لقوله "سأكون زوجًا غير صالح، يخونك كل ليلة مع كتاباته" يقول في موضع آخر : "ليس لي من كَينونة خارج الأدب (...) كلّ ما ليس أدباً يقلق راحتي، وأشعر تجاهه بالكراهية... وليس هناك من شيء آخر يمكنه إشباع رغبتي."

"المُحاكمة" من أهم روايات كافكا، تبدأ بمشهد مُثير لموظف في بنك منضبط جدّاً في عمله، وهو جوزيف ك. الذي يلقى عليه القبض صباحاً دون أن يتم تقديم أية أسباب لذلك الإعتقال.. ثم يحاول الدفاع عن نفسه عبر بعض المحامين الذين لا يتمكن أحدهم من مساعدته فيظلّ طيلة حياته يدور في حلقة مفرغة، وكأنه كابوس يعيشه البطل كما القارئ في اليقظة، وتؤكد هذه الرواية، كما جلّ أعمال كافكا، أن الوجود يشبه المسطرة القضائية التي لا ينتهي أجلها، والتي تأسر الإنسان حتّى الموت، وترغمه على البقاء تحت سيطرتها.

كان كافكا مراهقاً حين كتب في تحديد معنى الأدب : "نحن بحاجة إلى كُتب يكون لها نفس تأثير فاجعة نتألم بسببها كثيراً، أو موت شخص نحبّه أكثر من ذواتنا، وتجعلنا نشعر كأننا نُبذنا، وحُكم علينا بالعيش في الغابات بعيداً عن كلّ البشر؛ ويجب أن يكون الكتاب - مثل واقعة انتحار - ذلك السّاطور الذي يكسر جليد بحرنا الداخلي." (من رسالة إلى صديقه أوسكار بولاك)
ولعلّ هذه من بين كتاباته الأكثر انتحارية وإنقاذاً، فمن جهة تؤدّي بقارئها إلى هاوية الموت بين السّطور وتُحرقه بنار الأسئلة، ومن جهة أخرى تسمح له بفهم الكثير فيما يخصّ وجوده، وتدلّه على أقصر طريق نحو الصّمود. .

إن من يقرأ روايات كافكا وسيرته الذاتية وما قيل عنه على ألسن النّقّاد يعرف أنه في مواجهة رجلٍ يعبّر عن جيل بأكمله، أو لنقل أجيال مضت ولا زالت وأخرى ستأتي، فهذا الكاتب ليس عادياً أبداً، إذ أنه كتبَ دوماً كالمُسافر بداخل نفق مظلم لا يدري متى نهاية طريقة ولا هل يسلك الطّريق الصّحيح، كما كان يعرف أنه هناك هدف لكن الطّريق إليه مُنعدم..

بين مشاهد كابوسية وأخرى مُشبعة بنار الخطيئة والذّنب الذي يستشعره، ظلّ كافكا يبحث عن عزائه في الكتابة والأدب، حتّى حدود سنة 1917 حيث ظهرت عليه أولى علامات داء السّل، فوجد مُبرّراً للتحرر من كلّ القيود والإلتزامات الإجتماعية، فرحل إلى منطقة ببوهيميا حيث كانت تعيش أخته أوتلا.

ثم في سنة 1918 أصبحت لكافكا خطيبة ثانية - بعد الأولى التي تدعى فيليس باور - قرّر الزواج بها غير أنه لم يفعل ذلك.. فقد التقى حينها بـ ميلينا التي كانت تنوي ترجمة أعماله للتشيكية.
أما في سنة 1924 فقد تفاقمت علّته ومات في الثالث من يونيو، في مثل هذا اليوم، تاركاً وراءه العديد من " كافكا " في كلّ الأوطان!


إيمان ملال
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 03, 2013 13:50 Tags: كافكا
No comments have been added yet.


Imène Mellal's Blog

Imene MELLAL
إيمان ملال
Follow Imene MELLAL's blog with rss.