العاديون لا صخب لهم.. ولا موت أنيق

"لا ياسمين هناك، ولا موت أنيق، ولا ملثمون، ولا أقليات منتهكة، كل ما هناك عادي جدّاً، وخارج شروط نجاح الصورة، العاديون لا صخب لهم، ولا موت أنيق".
هذه الكلمات ليست لي، ولكنها مقتبسة من تعليق على صورة لبعض الجثث العادية، التي دفعتني للتأمل في معناها، ومعنى أن يموت الشخص بشكل عاديّ في زمن لا اعتياد فيه إلا على القتل. أن يموت هكذا، كأنه ضمن سرب، أو قطيع، بلا هوية واضحة، أو أهل يحملونه، أو جنازة، أو صندوق خشبي يُحمل فيه، أو أناس يبكون عليه.
دون شاشات تليفزيون تصور مقتله وكأنه "حدث"، أن تنتهي حياتك بلا ذنب اقترفته سوى أنك عربيّ، لا تتهافت وكالات الأنباء على صورك، ولا تسعى حكوماتك لاقتناص حقك، ومعاقبة قاتلك، تموت هكذا كأنك ذرة تراب وطارت مع الريح.
لا تقلق يا عزيزي القارئ، لن أقلق منامك أو واقعك بكلمات عن القتلى السوريين، فمنذ أربعة أعوام واعتاد العالم على قتلهم، حتى أن السوريين أنفسهم احتفلوا منذ فترة بأول يوم بلا قتيل واحد! وكان بسبب سوء الأحوال الجوية، وكأنها أجازة قصيرة لملاك الموت الموكل بمهمة طويلة في هذه البقعة السوداء من العالم.
قبل سنوات، وعندما قررت دراسة الإعلام، كانت أخبار الشهداء الفلسطينيين جزء لا يتجزأ من أي نشرة أخبار، فهناك دائمًا قصف هنا، وشهيد هنا، وحزام ناسف، وأرض فيها العدو واضح وصاحب الحق واضح، ربما كان هذا ما يدفع الناس للتعاطف مع القضية – ونقصد هنا بالتعاطف فقط أي تقطيب الجبين وذرف دمعتين ليس أكثر.
وبعدها دخلت العراق في سباق الجري نحو الموت، وأصبحنا نتابع مقتل العراقيين بسبب النظام مرة، وبسبب الاحتلال مرة، وبسبب الإرهابيين مرّات، ولا نعرف إن كانوا جميعًا يد واحدة لملاك الموت، أو وكلاءه على الأرض، ولكن الأكيد أنهم يؤدون نفس المهمة، يحملون نفس المنجل الذي يحصد الأرواح.
ولأننا كعرب مميزون بالغيرة والتنافس والتدافع الأحمق، دخلت سوريا في السباق، وتفوقت على الكل في كل أشكال القتل. بالرصاص، والقنابل، والطعن، والشقّ، والحرق، والكيماوي، والبراميل، والذبح، والرمي من أعلى، والإغراق، والدفن، والتعذيب، والسلخ، وهم الآن في مأزق، يبحثون عن ابتكار طرق جديدة للقتل، وربما نراها مستقبلًا.
عندما أشاهد صور القتلى، أفكر في مدى وحشية الإنسان، وأرفض أن أقول أن هناك "حيوان" قابع داخلنا، لأنه حتى الحيوانات لها قانون في غابتها. فالأسد لا يأكل إلا إن كان جائعًا، وعندما يأكل يشبع. أما نحن فلدينا أكثر من أسد مسعور، يقتل لأجل القتل، ولا يشبع. كأنه مصاص دماء تُثار شهوته بالأحمر القاني الدافئ الخارج في نافورة صغيرة من عنق صبي، أو رأس طفلة. وكلما شاهدت جريمة على الشاشة أو 10 قتلى في شريط الأخبار، علمت بأن هناك ضحايا أكثر انشغلت عنهم الكاميرات.
أفكر دائمًا في الموتى المنسيين، فيمن جاءوا وذهبوا بلا ذنب اقترفوه. فيمن يكملون تعداد الموتى ليصبح رقمًا ضخمًا ربما يعيد تفكير أصحاب القرار. أفكر أن هؤلاء كانت لديهم أحلام طيبة عادية مثلهم، يريدون بيت وأسرة وبعض المال وحياة هادئة. أفكر بأن الأشرار لا يموتون مثل هذه الميتات القاسية، لا يتعذبون في لحظاتهم الأخيرة، وليس لديهم ما يبكون من أجله. أفكر، بأننا كبشر، أصبحنا كأوراق الشجر، مع أي هزّة ريح يسقط منا الكثير، يذهبون ولا نعرف مصائرهم، إن كانت داست عليهم الأقدام، أم حملتهم الرياح لمكان أفضل، أم أكلهم جائع مضطر لا يجد قوت يومه.
لا أعرف جدوى لهذا الكلام، فهو لا يغير شيء، لا تستطيع الكلمة أن تتلقى قنبلة مكان بيت، أو تمنع رصاصة من الرشق في صدر رجل، أو برميل من السقوط فوق رأس أم وأطفالها، لا جدوى لكلامنا، لكنني عربية، ولا حيلة لي إلا الكلام، هكذا تعلمنا، نتكلم ونموت ولا يدٌ لنا في تغيير شيء لأننا لا نستطيع تغيير أنفسنا، ولو استطعنا لتنازلنا عن وصمة العروبة، ثم وصمة الإنسانية، فالله لم يخلقنا لنقتل، أو نقبل القتل تحت أي ظرف، لقد كانت خطيئة أبناء آدم الأولى، أول درس في البشرية، ويبدو أن البشر لم يفهمونه بعد.
عندما أرى جثة رضيع مغطاة بالتراب، أو يدٌ لطفلة لا أعرف مصير بقية جسدها، أو أم فقدت عينها، أو رجل مات غدرًا، أفكر بأن الغراب كان أرحم كثيرًا عندما قتل أخيه ودفنه برحمة. وبأننا – كبشر – أبشع كائنات الكوكب، وبداخلنا وحوش سادية تود لو تنهش أجساد بعضنا، وتشوهها، لتتلذذ فقط. أفكر بأن يدي تستطيع أن تخترق الصورة، وتربت على كتف الأم، وتبحث عن طفلة فقدت يدها، وتواسل أهل الرجل المقتول، وأتمنى أنني أستطيع أن أهب حياتي لهذا الرضيع الذي مات قبل أن يعيش، وأعود لأفكر، هل كانت رحمة أنه غادر مبكرًا قبل أن يكبر ويدرك؟ أم كان ظلمًا أن يسلبه شر البشر ما منحه إياه خالقه؟
أفكر في سؤال الملائكة يوم خُلِق آدم "قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" أفكر فيما يعلمه الله، وحكمته من كل ما يحدث، وأحدق في شاشات التليفزيون كما تفعل هذه الطفلة "الصورة المرفقة"، بنظرة لا تفهم إن كانت ترقب، أم عتاب، أم خوف، لا أعرف إن كانت لا تزال حيّة.. أم رحلت ككل من هم مثلها.
الجملة "عنوان المقال" نشرتها صفحة للثورة السورية، التي ما عدنا نعرف إن كانت لا تزال هناك، أم أنها تمت إبادتها وقتلها مع كل من قتلوا.

Published on March 10, 2015 15:13
No comments have been added yet.