الراس

في الأسفل، في الحفرة الضخمة، التي يسميها الحفارون خطأً "لِبشة"، كان "اللودر" يرقد على جانبه. نزلتُ مسرعاً، الرمل يدخل في حذائي ويضايق قدمي، الكثيرون ينزلون معي، كلنا نصل إلى مكان اللودر، ندور حوله، ثم يزحف أحدهم في المسافة الصغيرة الضيقة بين اللودر والأرض. قال إنه شاهد قدمه.
أرسلتُ أحدهم ليأتي ب"ونش" ليرفع اللودر، هناك على بعد كيلومترين سيجد الكثير من المعدات القادرة على تحريك ستين طناً من الحديد. بينما بقينا إلى جانب اللودر، كان السائق يجلس على الأرض، ناظراً إلى ما أسفل اللودر، منادياً الراقد تحته في سلام، المختفي تماماً تحت الأطنان الحديدية، كان ينادي بإيقاعٍ ثابتٍ مملٍ، قادرٍ على تبديد أي تعاطف قد ينتج من هول ما حدث، لكن السائق -مع ذلك- كان ملتاعاً، كان يردد: يا عبدالحكيم.
صديقي أخبرني اليوم صباحاً أن أحدهم كتب على أبواب سيارته الجديدة "عبدالحكيم"، كتبها بمسمار، أزال طبقة الطلاء المعدني الغامقة الرقيقة، لتظهر تحتها طبقة أخرى فاتحة اللون، رسم خطوطاً ومنحنياتٍ مكونة أحرف كلمة "عبد الحكيم" كان صديقي يكرر: على الباب الأمامي "عبد الحكيم" على الخلفي "عبد الحكيم" في كل مكان "عبدالحكيم". ولارتباط شرطيّ خاص به، سمعته يلحق شكواه باسم "عبدالحكيم عامر". أطلتْ أنف عبد الحكيم عامر في وجهي، كنت أراها ضخمةً جداً، غير متناسقة مع وجهه، الذي ظننته سيكون أكثر وسامة بدونها. أقصد: بأنف أصغر منها. أطلت برلنتي عبدالحميد باستداراتها وصوتها الحلقي المثير. ثم أطل الطبيب الذي رافق عبد الحكيم عامر أثناء اقتياده إلى استراحة الهرم، محله الأخير.
لما رفعنا اللودر، وجدنا عبدالحكيم مستلقياً على جانبه، كأنه نائم، لم يكن في وضع جنيني، الوضع الذي يسمح باتزان مستقر. لكن وضع ساقيه وذراعيه المستقيم سبب توازناً قلقاً لجثته، فبقيت هكذا في انتظار أي لمسه لتنهار.
كنتُ أظن أن مرور ساعتين على وفاته سيسبب التخشب الذي سمعت به من قبل. أتذكرُ قاتل أسرته، يطل ولده المتخشب في غرفته، الولد قاوم أباه، لكن الأب صرعه واستقرت الجثة بالقرب من السرير، وجدوها متخشبة كأنها تمثال رخامي. يطل الخفير –أو الفلاح؟- الذي أخرج جثة من التراب ليسأل طبيب القرية: هل هذا ما تدعوه التخشب الرُمي؟. لكن والحمد لله لم يكن عبدالحكيم متخشباً، لكني وجدتُ رأسه غائبة.
لا أعلم لماذا لم ألحظ غياب الرأس، تقدمت نحوه وكأني سأحرك الجثة وأريحها على ظهرها، لكن كل من حولي "تخشبوا" فوراً. لما اقتربت، بعدما أطل القتيل المتخشب في غرفته، لاحظت الرأس الغائب. والدائرة اللحمية الدامية أعلى الجسد. خاورني ذلك الشعور بسائلٍ كثيفٍ دافئ يسيل من أنفي، ليس مخاطاً، بل دمٌ لا يمكن السيطرة عليه، رفعتُ يدي تلقائياً، لكني وجدت أنفي جافاً بلا رعاف. أنقذني أحدهم، لا أعرفه، أخذ يحفر الأرض بالقرب من جسد عبدالحكيم باحثاً عن الراس.
انهمكت في الحفر، أحفر الرمل بيديّ العاريتين. بعد ست ساعات من الحفر، رفعت رأسي لأجد العشرات يحفرون بحثاً عن الراس، لم يعد رأس عبدالحكيم، بل أصبح راساً مستقلاً الآن، وعلينا بأي ثمن أن نجده، علينا أن نحطم استقلاله ونعيده إلى عبد الحكيم مرة أخرى. نبحث لأكثر من ثلاث ساعات، ولا راس ظهر حتى الآن. أكثر ما أخافه غياب الشمس، الظلام سيمنعنا حتماً من مواصلة البحث. أتي شرطي ليكتب المحضر. أثبت فيه أن رأس عبدالحكيم غائب. و قبل أن يرحل أمرنا ألا نحرك الجثة حتى يأتي وكيل النيابة ليعاينها. تأكدت حينها أن الجثة ستتخشب.
في الواحدة صباحاً أتت مجموعة من الناس، حملوا جثمان عبدالحكيم في عربة ومضوا، أهل عبد الحكيم علموا بموته، بعثوا عربة من قنا لتأخذ الجثمان، يريدون أن يُدفن في نفس اليوم. كانوا قد جهزوا كل شئ، أعلنوا الوفاة و حضروا الكفن و اتفقوا مع التربي، بل وبدأوا في تلقى العزاء. لم يبق إلا الجثمان، لما وجدوه غائباً أخذوا يتفحصون قدميه و كفيه، يتأملون أنامله، يمسكون إبهام قدمه ويحركونه، أخيراً، وقفوا يتشاورون، ثم وضعوه في الصندوق الخشبي، ورفعوا الصندوق فوق العربة. لم يجرؤ أحد على إيقافهم، اتفقنا على الصمت. عدتُ أنا للمنزل.
في اليوم التالي، وقفت مكان جثة عبدالحكيم، الرمل مازال على حاله، آثار حفر الليلة السابقة ظاهر على وجه الأرض، لكن المشاهد لن يفهم أبداً ما حدث، لن يتصور أننا كنا نبحث عن الراس. أود الآن أن أحفر في الأرض لأجد الراس. سأجده حتماً هنا، تحت قدمي بالظبط. متأكد أنا من وجوده في هذه البقعة بالذات، تحت الرمل بعشرين سنتيمتراً. عبدالحكيم دُفن بلا رأسه، وهو عمل لا أتصوره صحيحاً على الإطلاق. عبد الحكيم لن يستطيع القعود في قبره، حينما يأتي الملكان ويسألانه، لن يستطيع الإجابة، لن يرد، فقط سيشير بيديه وذراعيه، وأظن أنهما لن يفهمانه. ربما لن يستطيعا تمييزه، سيبحثان في الدفتر، سيبحثان عن صورته، سيتطلعان للصورة الصغيرة المرفقة. لكنهما سيقفان أمام الجثة في حيرة. لن يتفحصا قدميه و كفيه، لن يفهما كيف تتميز أطراف عبد الحكيم عن بقية البشر.
لكن لا، هذا غير صحيح، الكثيرون قطعت رؤوسهم، بعضهم دفنوا مع الراس، بعضهم ضاع راسه أو تشوه. آخرون دفنوا في مكان، ودفن راسه في مكان آخر. لابدأن هناك وسيلة أخرى لدى الملكان. مع كل هذا يجب أن أجد الراس.
ربما طارت الراس الى المبنى المجاور، تحت الإنشاء ولكنه فارغ تماماً، خال من العمال والبشر و الخفر. أبحث عن الراس في داخله. أصعد الطوابق كلها، ثم أعود فأنزل السلم باحثاَ عن الراس في كل طابق، في كل حجرة. لما رأيت آثار حفرنا من خلال أحد النوافذ، أدركت أني أبالغ في ظنوني.
ربما الراس الآن في صندوق الزبالة على ناصية الشارع، أقترب من الصندوق متردداً، أنظر في داخل الصندوق، ثم أنظر حولي لأتأكد أن لا أحد يتابعني. أقلب بيدي محتويات الصندوق، أتوقع رؤية شعر الراس هنا أو هناك. لكني لا أجد الراس.
ربما الراس في هذه السيارة، تدحرج بعدما قُطع، حتى وصل إلى السيارة، كان بابها مفتوحا فقفز الراس إلى الداخل. أنظر من خلال الزجاج، ربما أجد الراس على المقعد، أو في الأسفل مكان الأقدام، ربما الراس مستقر تحت مقعد السائق، هذه مبالغة، فالمسافة ضيقة جداً تحت المقعد.
أظن أن البوح أفسد كل شيء، أكتب الآن بلا رغبة أومتعة، أكتب لأني قلت إني سأكتب. لأسجل اللحظة فقط، وأدعي التحذلق والروح الفنية الكئيبة، أدعي بطريقة آلية وإن كانت إدعاءاتي السابقة تحمل أحد المتع. ربما أكتب كي أسجل الفكرة باسمي، لن يسجلها أحد ممن حدثتهم عنها، أنا تحدثتُ وبحتُ بالمكنون، وهذا خطأي أقومه الآن، أسجل الكلمة لأقدسها. التسجيل مُقدِس، إذا ما تحول الكلام إلى كتابة قُدِس.
أظل بلا نوم لأيام كثيرة، ثم أعود إلى نوم مضطرب بعد فترة من الأرق، تطل الدائرة اللحمية أعلى الجسد عليّ مراراً. يتضاءل الجسد ويفنى، تبقى الدائرة اللحمية واضحة حمراء. تنتظر أن يظهر الراس مرة أخرى ليلتحم بها.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 26, 2010 03:00
No comments have been added yet.