رجل الزبالة

نشرت في أخبار الأدب بتاريخ 9 مايو 2010


الفتاة الكبرى تمسك بيد رفيقتها الصغرى و تعبران الشارع، هما في الثالثة عشرة و الثامنة، أو أقل، لا أعلم على وجه التحديد. أعرف أنهما لا يدركان شيئاً مما يحيطهما، لا شئ واضح أو مفهوم.


منذ عدة شهور و هما تجلسان يومياً على الرصيف، في انتظار رغيف أو طبق طعام أو ثمرات نصف فاسدة، في حال الشدة تستيقظان صباحاً ليعبثا في أكياس النفايات السوداء. تتفننان في إخراج بقايا تفاحة أو كسرة خبز. هناك دائما بقايا أرز مطبوخ و قشور برتقال. ليست هذه بصدقات، لذلك تأكلناها بنهم و استمتاع.


يأتي من حين لآخر رجل يأكل من الزبالة، هو أقدم منهما، معروف لكل من يسكن الشارع، معروف للزبالين أيضاً. الزبالون بعد إعدام الخنازير الجماعي أصبحوا يتركون أكياساً سوداء على ناصية الشارع، النفاية العضوية أصبحت عبئاً عليهم. رجل الزبالة حل هذه المشكلة، يقوم الزبالون يومياً بفرز سريع للغاية لمحتويات الأكياس، يعرفون الأكياس الخاصة بهؤلاء المبذرين، غير الحريصين على بقايا الطعام، يرمونها في الأكياس السوداء بدلاً من أكلها. آخرون لا يرمون طعاماً أبداً، يأكلون كل شيء، يتندر الزبالون على سكان البيت الازرق في منتصف الشارع، حتى الموز يأكلونه بدون تقشير.


يفرز الزبالون نفايات المبذرين بسرعة، يجمعون بقايا الأكل و القشور في أكياس بعينها، يرمونها على الرصيف على الناصية، ثم يرحلون مسرعين، أصبح التقاطع مكاناً دائماً للنفايات العضوية. يأتي رجل الزبالة يومياً ليأكل، في البداية يفتح الأكياس بسرعة، يمزقها، يبحث بسرعة محمومة، يمسك بالطعام في يده، يرفعه إلى فمه و يلوكه. المراقب له سيلحظ غياب قواطعه، مما يجعل قضم الطعام مستحيل، هو يكسر بقايا الطعام بيديه، ثم يدخل القطع إلى فمه لتطحنها اضراسه. مع الوقت يبدأ في الإقلال من سرعته، يأكل على مهل، يمسح بقايا الطعام في قميصه المتسخ في الأصل. ثم يأكل و يمضغ بهدوء. يجلس على الأرض بعدما يشبع، ثم يبدأ في فرز آخر للأكياس أمامه، هناك دائما فائض من النفايات، يكتشفه رجل الزبالة بعد أن يشبع تماماً، يجمع كل ذلك في كيس أسود، ثم يرحل. يمر يوم أو يومان، ثم نراه ينبش في الأكياس مرة أخرى.


رجل الزبالة كان زبالاً في أحد الأيام، كما يفعل الزبالون الآن، كان يرفع غلقاً ضخماً مصنوعاً من الخوص، يحمله على ظهره بعدما يملؤه بالأكياس السوداء. يظل يمشي و هو يحمل الغلق، ينحني ظهره بزاوية تكاد تكون قائمة، وجهه نحو الأرض. لا ينظر أمامه ليتحاشى الناس، الناس هم من يتحاشونه، السيارات تخاف الاقتراب منه. الكل يتوقف حينما يمر هو، مهدداً إياهم بالقذارة و الرائحة المنتة. ثم طارت عينه اليمنى، وانزلق غضروفه، و كان لا ينطق سوى عدة كلمات، لم يسعفه جسده الآن، لذلك ترك نقل الزبالة و أصبح يمر على البيوت أول كل شهر ليجمع أجرة الزبال، يمسك بالمال و يقربه من عينه اليسرى، حتى سنتيمرترات قليلة، يعد الورقات على مهل، ثم ينظر إلى صاحب المال و يومئ برأسه ثم يرحل. لا ينطق إلا ببضع كلمات، كأنه لا يعرف الكلام. ثم وجدناه في أحد الأيام يفتح الأكياس و يأكل ما فيها.


الفتاتان ظهرتا بدون مقدمات، تحتلان واجهة بيت مهجور، بلا محلات في طابقه الأرضي، تجلسان على الأرض طوال اليوم، تتحركان مع الشمس في الشتاء، تسطع الشمس عليهما من ُفرج متعددة، نتجت من عشوائية ارتفاع المباني الفارعة في وجه شعاع الشمس. بينما في الصيف تسير الشمس في مدار آخر فيتغير النظام العشوائي لظل الارتفاعات الفارعة، يمر الشعاع الشمسي بعيداً عن وجه الفتاتين في الصيف، لكن السمرة المستغربة لشقرة شعريهما تظل واضحة.


شجار أليم اندلع، انتهى بأن ُضربت الفتاة الكبرى بعنف، علقة ساخنة تلقتها من رجل الزبالة، ضرب حقيقي، أمسك بشعرها و أخذ يلطمها حتى فقدت الوعي، تركها لتقوم بعد ثوانٍ، عاد هو إلى الناصية ليأكل. فهم الجميع أن هذا صراع على زبالتنا العضوية، انتصر فيه الرجل ببساطة. إيماناً منا بأن الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوى، لم نفعل أي شيء.


بعد أيام وجدنا الفتاة الكبرى تجلس على فخذ رجل الزبالة، يضحك هو و تضحك هي، يربت على ظهرها، و الأخرى الصغيرة تجلس على الرصيف بجانبهما. الآن كل شيء على ما يرام.


تبدو أمورنا التافهة أهم كثيراً من طعام الثلاثي المتعايش في الشارع، سيفكر الكثيرون في وضع نفايات عضوية أكثر المرة القادمة في الكيس الأسود، هي طريقة غير مباشرة، تحمل معانٍ سامية، تضامن إجتماعي و تعايش اشتراكي، على الجانب الآخر تبدو هذه طريقة شريفة لكسب الطعام، على الأقل أفضل كثيراً من التسول وطلب الإعانة و ما يصاحبهما من إهانات.


ثم أفقنا على صوت شجار آخر أكثر عنفاً ، الفتاة تضرب رجل الزبالة هذه المرة، نمرة تخمش وجهه و أذنيه و هو يحاول عابثاً رد أظافرها. انتصر هو في النهاية، كفين اثنين، كانا كافيان لإفقادها الوعي.


هذه المرة، و بكل هدوء، اتجه صاحب الفرن إلى الرجل، وقف أمامه صامتاً أو هكذا بدا لنا، لكنه كان يحدثه و هو ساكن تماماً، لم يتحرك. ثم استدار و دخل إلى الفرن. أطاح رجل الزبالة بذراعه في الهواء مستهيناً بالآخر.


استمر رجل الزبالة في المجيء، هذه المرة منع تماماً الفتاتين من الأكل من الزبالة، يظل طوال اليوم يأكل و يأكل، بعد عدة ساعات يرتب الزبالة بجانب الحائط، ثم ينام بموازاة الحائط، حامياً زبالته من المتطفلين. يستيقظ ليتابع الأكل، يجمع بعض الفضلات في كيس بلاستيكي، ثم و في آخر الليل، يرحل.


كرد فعل ثوري، قرر الكثيرون وضع المزيد من الفضلات العضوية الصالحة للأكل في اكياسهم السوداء، على أمل أن يتخم رجل الزبالة و يقرر ترك الباقي للفتاتين، كرد فعل شعبي، قرر هو أن يتبرز في آخر الليل على ما يتبقى من فضلات عضوية.


في العصر، رأينا الفتاتين يتجهان إلى كومة الزبالة، تنبشانها، ثم تأكلان. في اليوم التالي تكرر الوضع، ثم اعتدنا على ذلك، لم يظهر رجل الزبالة أبداً. بعد عدة أيام سمعنا أنه مات، هو ينام في مكان بعيد، تحت شجرة ضخمة، بجانب سور المترو. قيل إن ثعباناً لسعه أثناء نومه، وجدوه ميتاً في الصباح. لم أعلم ان الثعابين قد تعيش على أسفلت الشوارع، وسط كل هذا الزحام.  مشينا في الشارع و نحن ننظر إلى بعضنا نظرات الدهشة، معترفين بفضل الله و مؤمنين بعدالته المطلقة.


بالتأكيد لم تفهم الفتاة الصغيرة ما حدث، صوت الطلقة كان قوياً، عالياً و مؤثراً، على الرغم من صوت ضوضاء الفرن، ربما ما أخافها و جعلها تبكي بحرقة الدماء المنثالة بغزارة من فم صاحب الفرن، أختها الكبرى، ظلت واقفة على الباب، في تلك الساعة كان شعاع الشمس يدخل الفرن المظلم ذي الجدران السوداء، يطل الشعاع من خلف الفتاتين، يطل عبر فتحة الباب، يقع جزء منه على ساقي صاحب الفرن، بينما باقي الفرن معتم.


كنت أقف على شباك الفرن، في الحائط العمودي على الحائط الحاوي للباب، أرى ساقي صاحب الفرن و هما تتشنجان بعد أن دوت الطلقة. كان المكان خالياً إلا منه، لذا أدركت أنه أطلق النار على رأسه. كان جسده مختبئاً في الزاوية، و ما زالت ساقيه تتشنجان. أرى الطفلة الصغيرة، أو أني لا أراها، فقط أرى و أسمع ما يدل على وجودها خلف الأخرى الكبيرة. فقط أسمع صوت شهقة، ثم صمت دام لثوانٍ، تبعه صوات طويل، طال حتى أني ظننت أن الزمن توقف، تبللت عيناي و أنا أظن أني سوف أسمع الصوات طيلة ما تبقى من أيامي. رأيت الرجال و النساء يتحركون و أنا أمسك بالأرغفة و أعود للبيت و الصوات في أذني، ثم أنزل مرة أخرى و أنجب ولداً وفتاةً و يموت الولد وتتزوج الفتاة و أسافر أنا إلى بلاد باردة ثم أموت في عربة مترو مزدحمة و الصوات مازال في أذني، أصبت بالصمم طوال تلك الأعوام و لم أسمع سوى الصوات. لكن الصوات الطويل توقف، لتتبعه صرخات أخرى قصيرة. كانت الفتاة الكبرى لا تزال تحجب الصغيرة بجسدها، رأيت الصغيرة، أو أني رأيت فعلها، رأيتها تسحب ذراع الكبيرة بشدة ترغب في الخروج، الكبيرة المسمرة أمام تشنج الساقين تحركت أخيراً و خرجا معاً، في تلك اللحظة حاولت تذكر وجه الصغيرة، لكني أدركت أني لم أره من قبل أبداً.


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 09, 2010 06:10
No comments have been added yet.