محمود راضي's Blog

January 13, 2025

المُفتتح والفصل الأول من ترجمتي غير المنشورة لرواية «الـصُّمُــود» لستــيــــڤن كِيــنـج




بالخارج، اشتعلت الشوارع
في رقصة موت حقيقية
بين الواقع والخيال
وها هُم الشعراء
لا يكتبون كلمة واحدة
بل تقهقروا تاركين الأمور على حالها
وفي جوف الليل
بلغوا لحظتهم المنشودة
وحاولوا أن يقفوا وقفة صادقة
فاستحالوا جرحى
وليسوا حتَّى موتى
الليلة في أرض اﻷدغال.

- بروس سبرنجستين

واتضح أنها لا تستطيع المُضي!
انفتح الباب وهبَّت الرياح
وانطفأت الشموع ثمَّ اختفت
وتطايرت الستائر ثمَّ ظهر
فقال لها: «لا تخافي..
وأقدِمي يا ماري«.
فزال الخوف من قلبها
وسارعت إليه
وشرعا معًا في الطيران..
أمسكت يده..
«أقدِمي يا ماري..
ولا تخشي حاصد اﻷرواح!».

-بلو آويستر كَلت

ما هذه الكلمة؟
ما هذه الكلمة؟
ما هذه الكلمة(1)؟

- كانتري چ‍و آند ذا فيش


الدائرة تنفتح


ارتأى الشاعر قائلًا: نحتاج إلى العون
-إدوارد دورن



»سالي«.
غمغمة.
»أفيقي حالًا يا سالي«.
تعالت الغمغمة. خلِّنِي أنام.
هزَّها بوتيرة أشد.
»استيقظي، عليكِ أن تستيقظي«.
تشارلي.
صوت تشارلي، يناديها، منذ متى؟
أفاقت سالي من نومها.
في البدء حدَّقت إلى الساعة على الكومود، ورأت أن الوقت تخطَّى الثانية والربع صباحًا، لا ينبغي لتشارلي أصلًا أن يوجد هنا، بل في مناوبته، ثمَّ أمعنت النظر إليه جيدًا، وانتفض شيء ما في أعماقها، حدس مميت.
امتقع وجه زوجها بشحوب الموت، برزت عيناه وجحظتا في محجريهما، أمسك مفاتيح السيارة في يد، واستمرَّ في إيقاظها بيده الأخرى، رغم أن عينيها مفتوحتان. بدا وكأنه غير قادر على استيعاب حقيقة استيقاظها.
»تشارلي، ما الأمر؟ ما الخطب؟«.
بان عليه أنه لا يدري ماذا يقول. تذبذبت تفَّاحة آدم في رقبته دون فائدة، ولم يتردَّد أي صوت داخل البيت الصغير سوى دقَّات الساعة.
»هل نشب حريق؟» هكذا سألته بحماقة، فهذا هو الاحتمال الوحيد الذي أفلحت بالتفكير فيه عمَّا قد يُدخله في حالة كهذه، فهي تعرف أن والديه لقيا حتفيهما في حريق منزلهما.
أجابها: »تقريبًا، بل أسوأ، عليكِ ارتداء ملابسك يا حبيبتي، وأحضري بيبي لاڤ‍ون، علينا الخروج من هنا«.
سألت وهي تنهض من الفراش: «لماذا؟»، استولى عليها خوف قاتم، لم يبدُ شيئًا على ما يرام، كأن ما يحدث محض حُلم، «إلى أين؟ أتقصد الباحة الخلفية؟»، لكنها أدركت أنه لم يقصد الباحة الخلفية. لم تَرَ تشارلي قط بهذا الخوف على محيَّاه، التقطت نَفَسًا عميقًا، ولم تشم رائحة دخان أو رائحة احتراق.
«سالي حبيبتي، لا تطرحي أي أسئلة، علينا أن نلوذ بالفرار، إلى أبعد ما يمكننا، فقط أحضِري بيبي لاڤ‍ون وألبسيها ملابسها«.
«ولكن يجب أن.. ألا يوجد وقت لحزم الأمتعة؟«.
بدا أن هذا استوقفه، وأخرجه عن مسار أفكاره بعض الشيء. ظنَّت أنها خائفة بأشدِّ ما يكون الخوف، ولكن من الواضح أنها ليست خائفة. أدركت أن ما اعتبرته خوفًا يعتريها هو أقرب إلى ذعر مطلق. مرَّر يدًا متحيِّرة عبر شعر رأسه، وردَّ عليها قائلًا: «لا أعرف، عليَّ أن أختبر شدَّة الرياح»، ثمَّ تركها مع هذا الردِّ الغريب الذي لا يعني لها شيئًا، تركها واقفة وبردانة وخائفة ومشتَّتة الذهن، بقدمين حافيتين وقميص نوم ليلي على جسدها. يبدو وكأنه فَقَدَ عقله. ما علاقة قياس شدَّة الرياح بوجود وقت متاح لحزم الأمتعة من عدمه؟ وما هو المدى البعيد المنشود؟ رينو؟ لاس ڤيجس؟ سولت ليك سيتي؟ و..
وضعت يدها على رقبتها حينما راودتها خاطرة جديدة.
غ. د. ت. م. خ. الرحيل في قلب الليل معناه أن خطَّة تشارلي هي غ. د. ت. م. خ. (2).
اتجهت إلى الغرفة الصغيرة التي تعتبر حجرة نوم بيبي لاڤ‍ون، ووقفت للحظة، متردِّدة، تتطلَّع إلى الطفلة النائمة في ردائها الزهري. تعلَّقت بذلك الأمل الضعيف أن هذا لا يعدو مجرَّد حلمٍ واعٍ غير اعتيادي. سيمرُّ هذا الحلم، وستستيقظ في الساعة السابعة صباحًا كعادتها، وتأكل وتُطعم بيبي لاڤ‍ون في أثناء مشاهدتها للساعة الأولى من برنامج «توداي» الإخباري، وتُعِدُّ البيض لتشارلي عندما يعود من مناوبته في الساعة الثامنة صباحًا، من تجواله الليلي في البرج الشمالي للمنشأة على مدار ليلة أخرى. وفي خلال أسبوعين سيعاود العمل في الفترة الصباحية، من دون هذا القلق المفرط، وإذا كان نائمًا بجوارها في الليل، لن تراودها أحلام مجنونة كمثل هذا الحلم، و..
«أسرِعي!» هكذا همس لها، مبدِّدًا أملها الواهي «أمامنا وقت يتسع فقط لجمع بعض الأغراض.. ولكن لأجل المسيح يا امرأة، إذا كنتِ تحبينها..» ثمَّ أشار إلى مهد الطفلة «ألبِسيها ملابسها!»، بعدها سعل بعصبية في كفَّيه، وبدأ يخرج الأغراض من الأدراج، ويكوِّمها في عُجالة داخل بضع حقائب سفر قديمة.
أيقظت بيبي لاڤ‍ون، وهدَّأتها قدر استطاعتها، حيث قلقت الطفلة ابنة السنوات الثلاث وانزعجت من إيقاظها من نومها في قلب الليل، وهمَّت بالبكاء حينما ألبستها سالي لباسًا داخليًّا وبلوزة ورداءً خارجيًّا. زوَّد صوت بكاء الطفلة من خوفها عن ذي قبل، حيث ربطته في ذهنها بتلك المرَّات الأخرى التي بكت فيها بيبي لاڤ‍ون ليلًا، وهي في العادة أكثر الأطفال ملائكية: طفح جلدي بسبب الحفَّاضات، تسنين، خناق، مغص. تحوَّل الخوف ببطء إلى غضب حينما رأت تشارلي مارًّا على الباب شبه راكض ويديه محمَّلتان بملابسها الداخلية، وأشرطة حمَّالات صدرها مجرورة خلفه مثل الأشرطة الملفوفة للصافرات الصادحة في ليلة رأس السنة. قذفها داخل إحدى الحقائب وصفقها كي يغلقها. تدلَّى من الحقيبة طرف أفضل قميص داخلي لديها، وخمَّنت للتَّوِّ أنه تمزَّق.
صاحت: «ما الخطب؟» وتسبَّبت نبرة صوتها المضطربة في انفجار بيبي لاڤ‍ون بالبكاء بفيض من الدموع بعدما انتهى بها المطاف بالتنشَّق. «هل جُننت؟ سيرسلون جنودًا في إثرنا يا تشارلي، جنود!».
ردَّ عليها، وفي صوته تيقُّن شديد لدرجة تثير الرعب: «لن يرسلوهم الليلة، المسألة وما فيها يا حبيبتي يا سُكَّرَة أننا إذا لم نستعد للتحرُّك، فلن نفلح أبدًا في الخروج من القاعدة. أنا حتَّى لا أعلم كيف خرجت من البرج بحقِّ الجحيم. أظن أنه وقع عطل في مكان ما. لِمَ لا؟ فكل شيء آخر تعطَّل بحقِّ الرب» ثمَّ صدرت منه ضحكة صاخبة متوحِّشة أخافتها أكثر من أي شيء آخر اقترفه «أألبستِ الفتاة ملابسها؟ جميل، ضعي بعض ملابسها في هذه الحقيبة الأخرى. استخدمي حقيبة التسوُّق الزرقاء الموجودة في الدولاب لوضع الباقي، ثمَّ سنخرج من هنا حالًا. أظنُّ أننا على ما يرام. الرياح تهبُّ من الشرق. شكرًا للرب على ذلك».
سعل في يديه ثانية.
«بابا! عاوزة بابا! ها! اعمل حصان عشان أركب يا بابا! اعمل حصان عشان أركب! ها!» هكذا ألحَّت عليه بيبي لاڤ‍ون رافعة ذراعيها.
ردَّ عليها تشارلي: «ليس الآن»، ثمَّ توارى داخل المطبخ. بعدها بلحظة، سمعت سالي قرقعة الأواني الفخارية. كان يُخرج أموالها المُدخرة للطوارئ من زبدية الحساء الزرقاء على الرفِّ العلوي. بلغوا قرابة ثلاثين أو أربعين دولارًا نحَّتهم جانبًا، في كل مرَّة كانت توفِّر دولارًا أو خمسين سنتًا. إنه مالها المنزلي. إذن فالأمر حقيقي، أيًّا كانت ماهيته، فالأمر حقيقي، حقًّا وصدقًا.
وبعد رفض والدها أن تعتلي ظهره كالحصان، بعدما كان نادرًا أن يرفض لها طلبًا في أي وقت، همَّت بيبي لاڤ‍ون بالبكاء ثانية، وعانت سالي حتَّى تُلبسها معطفها الخفيف ثمَّ ألقت معظم ملابسها في حقيبة التسوُّق، وحشرتها بتعجُّل شديد، لأنه من السخافة بمكان إضافة أي غرض جديد داخل حقيبة السفر الأخرى، فقد تنفجر منها محتوياتها. اضطرَّت إلى أن تجثو كي تُحكم إغلاق مُفصلاتها. وجدت نفسها تشكر الرب أن بيبي لاڤ‍ون متدرِّبة على التحكُّم في جهازي إخراجها، وإنها لن تحتاج إلى القلق بخصوص الحفَّاضات.
عاد تشارلي إلى غرفة النوم، وصار الآن يركض. كان ما يزال يحشر الأوراق النقدية المُكرمشة من فئتي الدولار الواحد وخمس دولارات من زبدية الحساء في جيب بذلته الأمامي. حَمَلت سالي بيبي لاڤ‍ون. استيقظت تمامًا الآن وبمقدورها المشي دون مساعدة، لكن سالي أرادتها بين ذراعيها. انحنت وعلَّقت حقيبة التسوُّق على كتفها.
سألت بيبي لاڤ‍ون: «رايحين على فين يا بابا، أنا كنت ناااينة».
أجاب تشارلي وهو ينتزع الحقيبتين: «تستطيع طفلتي الحَبوبة أن تناااان في السيارة».
رفرف طرف قميص سالي الداخلي مع الريح. ما زالت عيناه تحملان تلك النظرة الشاحبة المحملقة.
ثمَّة فكرة -أو قناعة متنامية- قد بدأت في النشوء داخل عقل سالي.
همست: «هل وقعت حادثة؟ آه بحقِّ يسوع ومريم ويوسف، هذا ما حدث، أليس كذلك؟ حادثة، هناك».
أجابها: «كنت ألعب سوليتير، فنظرت إلى أعلى، ووجدت ساعة الحائط قد تغيَّر لونها من الأخضر إلى الأحمر. شغَّلت شاشة المراقبة. سالي، كانوا جميعهم..».
توقَّف عن الكلام، وتطلَّع إلى عيني بيبي لاڤ‍ون، الواسعتين والفضولتيين رغم أنهما ما زالتا مغرورقتين بالدموع.
ثمَّ قال: «كانوا كلهم م-ي-ت-ي-ن هناك، كلهم ما عدا شخص أو اثنين، ويحتمل أنهما ماتا أيضًا الآن(3)».
سَألت بيبي لاڤ‍ون: «يعني إيه م-ت-ي-ن يا بابا؟».
ردَّت عليها سالي: «لا يهمُّ يا حبيبتي»، وبدا لها صوتها كأنه قادم من وادٍ مُوغل في البعد.
بلع تشارلي ريقه. ثمَّة شيء طقطق في حلقه، «عندما تَحمرُّ الساعة، فمن المفترض أن تُوصَد جميع البوَّابات، فلديهم حاسوب شوب الذي يدير المكان برُمَّته، ويُفترض أنه حاسوب محصَّن ضد الأعطال. رأيت ما ظهر لي عبر الشاشة، وهرعت إلى الباب. حسبت أن ذلك الباب اللعين سيكسرني نصفين. كان ينبغي أن يُقفل بمجرَّد احمرار الساعة، ولم أعرف كم مرَّ من الوقت على احمرارها قبل أن أنظر إلى أعلى وأنتبه إليها. لكني بالكاد بلغت مرآب السيارات عندما سمعت الباب يرتطم وينغلق من خلفي. رغم ذلك، لو أني تأخَّرت في النظر إلى الساعة لنصف دقيقة، لحُبسِتُ الآن في غرفة التحكُّم تلك داخل البرج، مثل حشرة محبوسة داخل زجاجة».
«ماذا كان؟ ما..؟».
«لا أعرف، لا أريد أن أعرف. كل ما أعرفه أن هذا الشيء قتـ.. ق-ت-ل-هـ-م بسرعة. إن أرادوني، فعليهم أن يقبضوا عليَّ. تقايضت أموالا بُدَّل مخاطر، لكنهم لا يدفعون لي مالًا كافيًا كي أظل في الجوار. الريح تهبُّ غربًا، ونحن نقود السيارة شرقًا، هيَّا بنا، الآن».
تبِعته إلى الخارج –شاعرة ما تزال أنها شبه نائمة، وعالقة في حلم طاحن مرير- إلى الممشى حيث تقف سيارتهما الشيڤي(4) ذات الأعوام الخمسة عشر التي يأكلها الصدأ رويدًا رويدًا في عبق الظُلمة الصحراوية لليل كاليفورنيا.
قذف تشارلي حقائب السفر داخل شنطة السيارة، وألقى حقيبة التسوُّق على المقعد الخلفي. وقفت سالي هُنيهة بجوار مقعد الراكب، والطفلة بين ذراعيها، متطلِّعة إلى البيت الصغير الذي أمضوا فيه سنواتهم الأربع الأخيرة.
أطرقت مُفكِّرة: عندما انتقلوا إلى هذا المنزل، كان جسد بيبي لاڤ‍ون ما يزال ينمو، أمامها كل العمر المديد للركوب فوق الظهر.
«هيَّا!، اركبي السيارة يا امرأة!» هكذا قال لها.
ركبت السيارة، فتراجع. تدفقت الأضواء الأمامية لسيارة الشيڤروليه لحظيًّا عبر المنزل، وبدا انعكاسها على النوافذ مثل عينَيْ وحش مُطارد.
انكب متشنِّجًا على عجلة القيادة، وانعكس وجهه على الوهج الخافت للوحة العدادات، «إن انغلقت بوَّابات القاعدة العسكرية، سأحاول اقتحامها» وكان يعني ما قاله، جزمت بذلك. أحسَّت فجأة أن ركبتيها صارتا هزيلتين.
لكن لم يستدعِ الأمر تصرُّفًا استثنائيًّا كهذا، فبوَّابات القاعدة العسكرية مفتوحة على مصراعيها. يوجد حارس واحد برأس منتكس على مجلة. ولم تستطع رؤية الحارس الآخر، ربما كان واقفًا في المقدِّمة. هذا هو القسم الخارجي من القاعدة العسكرية، مجرَّد مستودع تقليدي للمركبات العسكرية. ليس من شأن أولئك الرفاق ما جرى داخل مركز القاعدة.
نظرت إلى الأعلى ووجدت الساعة احمرَّت.
ارتعشت ووضعت يدها على ساقه، وبيبي لاڤ‍ون تخلد إلى النوم ثانية.
ربت تشارلي على يدها لهُنيهة وقال: «كل شيء سيكون على ما يرام يا حبيبتي».
بحلول الفجر، كانوا يسارعون بالسيارة شرقًا عبر نيڤ‍ادا، وتشارلي يسعل دون انقطاع.


الكتاب الأوَّل
كابتن تِربس
من 16 يونيو: 4 يوليو 1990



هاتفت الطبيب
وسألته: أيًّا طبيب، أرجوك يا طبيب
أعاني من ذلك الإحساس، أرتعش وأترنَّح
أخبرني، ماذا عساه يكون؟
أهو داء جديد؟

-ذا سيلڤرز

حبيبتي، ألا تفتحي قلبكِ لرَجُلك؟
فهو رجل صالح،
حبيبتي، ألا تفتحي قلبكِ لرَجُلك؟

-لاري آندرود



الفصل الأوَّل

قبعت محطَّة وقود تكساكو لصاحبها هبسكوم على الطريق 93 شمال آرنت، مجرَّد بلدة ضئيلة المساحة فيها أربعة شوارع، تبعد عن مدينة هيوستن نحو 110 ميلًا. حَضَرَ الليلة في المحطَّة مرتادوها المعتادون، قاعدين قبالة مُسَجلة المدفوعات، يحتسون البيرة، ويتبادلون الأحاديث كيفما اتفق، ويراقبون الذباب المتطاير نحو اللافتة المضاءة الكبيرة.
يملك المحطَّة بل هبسكوم، ممَّا دفع الآخرين إلى الإذعان له رغم كونه رجلًا أحمق تمامًا، وتوقَّعوا نفس حالة الإذعان في حال تجمُّعهم في مقرِّ أحدهم، إلا أنهم لا يملكون أي مقرَّات تخصُّهم. كانت آرنت تعيش زمنًا عصيبًا، ففي العام 1980، امتلكت البلدة مصنعين، أحدهما يُصنِّع المنتجات الورقية (المخصَّص أغلبها للنزهات وحفلات الشواء)، والمصنع الآخر لصُنع الآلات الحاسبة. مصنع الورق الآن مغلق، ومصنع الآلات الحاسبة في حالة مزرية، حيث اتضح أنه يمكن تصنيعها بتكاليف أرخص بكثير في تايوان، مثل أجهزة التلفاز المتنقِّلة والراديو الترانزستور.
نورمان برويت وتومي واناميكر، العاملان السابقان في مصنع الورق، يتلقَّيان الآن إعانة مالية حكومية بعدما نفدت أموال تعويضهما عن البطالة منذ فترة. أمَّا هنري كارمايكل وستو ردمان، فيعملان في مصنع الآلات الحاسبة، لكنهما نادرًا ما يتخطَّيان حاجز ثلاثين ساعة عمل أسبوعيًّا، وڤكتور پ‍‍الفري أحيل إلى التقاعد، ويُدخِّن سجائر ملفوفة يدويًّا كريهة الرائحة، وهي كل ما يستطيع شراءه بالمال.
قال لهم هَب، واضعًا يديه على ركبتيه ومائلًا بجذعه إلى الأمام: «والآن ما أراه هو التالي: سيقولون لكم سحقًا لهراءات التضخُّم، وسحقًا لهراءات الدين المحلِّي. لدينا مكابس ولدينا ورق، سنطبع 50 مليار دولار ونضخها مباشرة في عجلة الاقتصاد بحقِّ المسيح».
أمَّا پ‍‍الفري الذي عمل ميكانيكيًّا حتَّى العام 1984، فهو الوحيد بين الحاضرين الذي تحلَّى بما يكفي من احترام للذات كي ينوِّه إلى أوضح تجلِّيات الحماقة في تصريحات هَب، حيث علق الآن وهو يلفُّ سيجارة أخرى من سجائره العفنة: «لا فائدة تُرجى من هذا. إن فعلوا ذلك، فسيحدث ما حدث بمدينة ريتشموند في العامين الأخيرين من الحرب الأهلية(5)، ففي ذلك الزمان، وحينما كانت تراودك الرغبة في قطعة من كعك الزنجبيل، وتعطي الخبَّاز دولارًا كونفيدراليًّا(6)، يضعه الخبَّاز فوق كعك الزنجبيل، ويقتطع لك قطعةً منه بالحجم نفسه، فكما تعلم، المال مجرَّد ورق».
ردَّ هَب بصفوٍ متعكِّر: «أعرف أناسًا لن يوافقوك الرأي»، ثمَّ أمسك بحاملة أوراق بلاستيكية حمراء مُشحَّمة من فوق مكتبه، «إنني مدين لأولئك الناس، وها قد بدؤوا يشعرون بالقلق حيال الأمر».
كان ستوارت ردمان -الذي ربما يُعتبر أهدأ رجل في بلدة آرنت- قاعدًا على إحدى كراسي وولكو البلاستيكية المكسورة، حاملًا في يده علبة بيرة بابست، متطلِّعًا إلى الطريق 93 عبر النافذة الكبيرة لمحطَّة الوقود. عرف ستو الفقر، فقد ترعرع في كنفه في هذه البلدة، وهو ابن طبيب أسنان وافته المنية وقتما كان ستو في سنِّ السابعة، مخلِّفًا وراءه زوجته وطفلين آخرين بخلاف ستو.
حصلت والدته على وظيفة في موقف شاحنات ريد بول الواقع خارج آرنت بالضبط. ولولا احتراق موقف الشاحنات في العام 1979، لتمكَّن ستو من رؤيته الآن من مقعده. كان الراتب كافيًا ليأكل أربعتهم لكن لا أكثر من ذلك. في سنِّ التاسعة، التحق ستو بالعمل، وبدأ لدى روچ تاكر صاحب موقف ريد بول، مُساعدًا في تفريغ الشاحنات بعد الدوام الدراسي مقابل خمسة وثلاثين سنتًا في الساعة، ثمَّ عمل بعدها في حظائر المواشي في بلدة برينتري المجاورة، وكذب بخصوص سنِّه حتَّى يتسنَّى له العمل لعشرين ساعة قاصمة للظهر في الأسبوع مقابل الحدِّ الأدنى من الأجر.
والآن، وفي أثناء استماعه إلى جدال هَب وڤك پ‍‍الفري حول المال وطريقته الغامضة في النفاد، فكَّر في نزيف يديه بسبب جرِّه لعربات لا نهائية مُحمَّلة بجلود المواشي وأحشائها مع بدئه العمل. حاول إخفاء ذلك عن أمه، لكنها رأتهما بعد أقل من أسبوع على بدء عمله هناك. بكت لأجلهما قليلًا، وهي ليست بامرأة يسهل عليها ذرف الدموع، لكنها لم تطلب منه ترك العمل. كانت تدرك حقيقة الموقف. امرأة واقعية.
ينبع بعض الصمت الكامن بداخله من حقيقة أنه لم يحظَ بأصدقاء قط، ولم يملك حتَّى وقتًا لهم. كان يدرس، ومن ثمَّ يعمل. مات شقيقه الأصغر ديڤ بالتهاب رئوي في نفس سنة بدئه العمل بالحظائر، ولم يستطع ستو تجاوز ما حدث قط. اعتبره إحساسًا بالذنب. كان ديڤ أكثر شخص يحبه في الحياة، لكن موته معناه أيضًا أن عدد الأفواه التي تحتاج إلى الإطعام قد نقصت واحدًا.
في المدرسة الثانوية، وجد ضالَّته المنشودة في كرة القدم، وهو ما شجَّعته عليه والدته حتَّى حين يتقاطع مع ساعات عمله. قالت له: «العَب، وإذا سنحت لك الفرصة للخروج من هنا، ففرصتك في كرة القدم يا ستوارت. العَب. تذكر إيدي وورفيلد». كان إيدي وورفيلد بطلًا محلِّيًّا في اللعبة، وانحدر من أسرة أفقر من أسرة ستو، وحقَّق نجاحًا ساحقًا حين لعب في موقع الظهير الربعي مع فريق المدرسة الثانوية الإقليمية، والتحق بجامعة تكساس أي أند إم بمنحة رياضية، ولعب على مدار عشر سنوات مع فريق جرين باي باكرز ظهيرًا ربعيًّا في احتياطي الفريق أغلب الوقت، لكنه لعب في الموقع الأمامي في عدَّة مناسبات جديرة بالذكر. يمتلك إيدي الآن سلسلة مطاعم للوجبات السريعة عبر الجنوب والجنوب الغربي، وتحوَّل إلى أسطورة خالدة. ففي آرنت، حين يُذكر النجاح، فمرادفه إيدي وورفيلد.
لم يكن ستو ظهيرًا ربعيًّا، ولم يكن إيدي وورفيلد، ولكن بدا له حينما استهلَّ سنته الأولى في المدرسة الثانوية أن أمامه على الأقل فرصة تستحق المثابرة لأجلها في سبيل الفوز بمنحة رياضية صغيرة.. ومن ثمَّ هنالك برامج الدراسة/العمل، وأرشده المستشار المدرسي بخصوص برنامج الإقراض الذي يمنحه ق. د. و. ت(7).
ثمَّ مرضت والدته، وصارت غير قادرة على العمل. أصيبت بالسرطان. قبل شهرين من تخرُّجه من المدرسة الثانوية، ماتت، تاركة ستو وحيدًا مع شقيقه برايس كي يكفله. تخلَّى ستو عن فكرة المنحة الجامعية الرياضية، واتجه إلى العمل في مصنع الآلات الحاسبة. وفي النهاية، كان برايس الأصغر من ستو بثلاث سنوات هو مَن نجح في الخروج من البلدة، حيث يعيش الآن في ولاية مينيسوتا، ويعمل محلل أنظمة حاسوبية في شركة آي بي إم. لم يكتب إليه الرسائل بانتظام، وآخر مناسبة رأى فيها برايس كانت يوم الجنازة، عقب وفاة زوجة ستو، ماتت بنفس نوع السرطان الذي قتل والدته. راوده الظن أن برايس يحمل صليبه الخاص.. ويحتمل أن برايس يشعر بالعار بعض الشيء من حقيقة تحوُّل شقيقه إلى مجرَّد ولد صالح آخر يعيش في بلدة محتضِّرة في تكساس، يمضي أنهره سجينًا في مصنع الآلات الحاسبة، ويقضي أمسياته إمَّا في محطَّة بنزين هَب أو في حانة إنديان هيد يحتسي بيرة لون ستار.
عُدَّت فترة الزواج أسعد أوقاته، ودامت ثمانية عشر شهرًا فقط. حبلت زوجته الشابَّة بجنين شرير خبيث. وقع هذا منذ أربع سنوات مضت، ومنذ ذلك الحين، فكَّر في مغادرة آرنت، بحثًا عن شيء أفضل، ولكن غلبه خمول البلدة الصغيرة، أغنية هادئة تنشدها السيرانات عن الأماكن المعتادة والوجوه المألوفة. كان شخصًا محبوبًا في آرنت، وذات مرَّة، منحه ڤك پ‍‍الفري أسمى إطراء، مُطلقًا عليه «الصنديد العتيق».
وفي أثناء جدال ڤك مع هَب، ما زال في السماء قبس من نور الغسق، والأرض مغطَّاة بالظلال. لا تمُرُّ كثير من السيارات على الطريق 93 الآن، ويرجع هذا إلى سبب واحد، وهو أن هَب لديه الكثير والكثير من الفواتير غير المدفوعة، ولكن ستو رأى سيارة قادمة نحو المحطَّة الآن.
ما زالت السيارة بعيدة بنحو ربع ميل، وآخر ضياء النهار يرسم بريقًا مُغبَّرًا على القليل المتبقِّي من طبقة كروم السيارة. تمتَّع ستو بعينين ثاقبتين، واستخلص أنها سيارة شيڤروليه قديمة جدًّا، ربما من طراز 1975. سيارة شيڤي، وأضواؤها مُطفأة، لا تقطع أكثر من 15 ميلًا في الساعة، وتتمايل على طول الطريق. لم يرها أحد سواه حتَّى الآن.
كان ڤك يقول: «الآن لنقُل إن لديك رهنًا عقاريًّا على محطَّة البنزين هذه، مثلًا خمسين دولارًا في الشهر».
«بحقِّ الجحيم، المبلغ أكبر من ذلك بكثير».
«طيِّب، من أجل دواعي هذه المناقشة، لنقُل خمسين، ولنفترض أن الفيدراليين تحرَّكوا قُدمًا وطبعوا لأجلك شاحنة كاملة مُحمَّلة بالأموال، إذا سيأتيك موظَّفو البنوك من الناحية الأخرى، طالبين مائة وخمسين دولارًا، ستُفلس بهذه البساطة».
أضاف هنري كارمايكل قائلًا: «هذا صحيح»، فنظر إليه هَب مغتاظًا، حيث تصادف أنه يعرف بأن هانك(8) اعتاد سحب عبوات الكولا من ماكينة البيع دون إيداع المال فيها، والأنكى أن هانك عرف بأنه يعرف، وإن أراد هانك الوقوف في صفِّ أيٍّ من الطرفين، فعليه الوقوف في صفِّه.
ردَّ هب بثقل نابع من مستوى تعليمه المتوقِّف عند الصفِّ التاسع: «الأمور لا تسير هكذا بالضرورة»، وواصل التعليل.
أمَّا ستو، الوحيد الذي أدرك أنهم في مصيبة، فقد أخفض صوت هَب حتَّى تحوَّل إلى غمغمة بلا معنى، وراقب سيارة الشيڤي وهي تتمايل وتهتزُّ في مسارها على طول الطريق. لم يظن ستو أنها ستقطع مسافة أطول وفقًا لطريقة سيرها، حيث تخطَّت الخط الأبيض، ونثرت عجلاتها اليسرى التراب عن الحافَّة اليسرى للطريق. والآن ترنَّحت، ثمَّ لزمت مسارها في الطريق لهُنيهة، ثمَّ شارفت على الانحدار نحو الخندق الجانبي، وبعدها انطلقت نحو الطريق الإسفلتي مثل قذيفة استهلكت تقريبًا كل ما لديها من سرعة، وكأنما قد وقع اختيار السائق على لافتة محطَّة تكساكو المضاءة الكبرى لتكون منارة له. أمكن لستو الآن سماع الصوت العالي لمحرِّك السيارة المُنهك، وأزيز وقرقرة المُكربن المحتضر والصمامات المتفكِّكة. تجاوزت المدخل السفلي وارتقت حافة الرصيف. انعكست المصابيح الفلورية الموضوعة فوق مضخَّات البنزين على الزجاج الأمامي الملطَّخ بالوحل لسيارة الشيڤي، ممَّا صَعَّب رؤية ما بالداخل، لكن ستو رأى جسد السائق غير واضح المعالم وهو يلتفُّ دون قيد مع المطبِّ. لم تُبدِ السيارة أي نية لإبطاء سرعتها الجنونية عن 15 ميلًا.
«لذا أقول إنه مع وجود مزيد من المال في دورة الاقتصاد، ستكونون..».
«يُفضَّل أن تفصل مضخَّات الوقود يا هَب» هكذا أخبره ستو بتلطُّف.
«المضخَّات؟ ماذا..؟».
حانت التفاتة من نورم برويت إلى خارج النافذة، وقال: «يا مصيبتي!».
نهض ستو من مقعده، واستند إلى تومي واناميكر وهانك كارمايكل، وخبط بيده كل المحوِّلات فأنزلها دفعة واحدة، أربعة بكل يد، لذا فهو الوحيد الذي لم يَرَ سيارة الشيڤي وهي تصطدم بمضخَّات الوقود في البقعة العالية وتجتثَّها من الأرض.
انجرفت فيهم ببطء عنيد رهيب حسبما بدا، حتَّى إن تومي واناميكر أقسم في اليوم التالي في أثناء وجوده في حانة إنديان هيد إن الأضواء الخلفية للسيارة لم تومض ولو لمرَّة واحدة. استمرَّت الشيڤي في تحرُّكها الثابت على سرعة 15 ميلًا أو نحو ذلك، مثل سيارة تأمين(9) في موكب الزهور (10).
أصدر الهيكل السفلي صريرًا فوق البقعة الإسمنتية، وحين خبطتها العجلات، رأى الكل فيما عدا ستو رأس السائق وهي تتأرجح مرتخية وتصطدم بالزجاج الأمامي، فانشرخ.
وثبت الشيڤي مثل كلب عجوز تعرَّض للركل، وأطاحت بمضخَّة الاختبار، فانخلعت وتدحرجت، ساكبة بضع نقاط من البنزين. انحلت الفوهة وبقيت تتلألأ تحت الأضواء الفلورية.
رأوا جميعهم الشرارات التي صنعها أنبوب عادم سيارة الشيڤي وهي تحتكُّ بالإسمنت، أمَّا هَب الذي شَهِدَ على انفجار محطَّة بنزين في المكسيك، فقد غطَّى عينيه عفويًّا لحمايتهما من كرة النار التي توقَّع اندلاعها. وبدلًا من ذلك، انقذفت مؤخِّرة الشيڤي وانحدرت عن منطقة المضخَّات على جانب المحطَّة. تهشَّمت مقدِّمة السيارة في مضخَّة بنزين 100 أوكتان، وأطاحت بها مع طاااخ جوفاء.
وعن شبه قصد، أكملت سيارة الشيڤروليه استدارتها بمقدار 360 درجة، واصطدمت ببقعة الأرض ثانية، وهذه المرَّة بالعرض. برزت مؤخِّرة السيارة على رصيف المحطَّة واصطدمت بمضخَّة بنزين 87 أوكتان وبطحتها أرضًا، وفي هذه اللحظة استكانت الشيڤي، مخلِّفة في أثرها أنبوب العادم الصدئ. دمَّرت السيارة كل مضخَّات الوقود الثلاث على هذا الرصيف الأقرب إلى الطريق السريع. استمرَّ المحرِّك في الدوران بوتيرة متقطِّعة ثمَّ توقَّف عن العمل. تعالى صوت الصمت بشدَّة حتَّى أقلقهم.
«يا للهول! هل ستنفجر يا هَب؟» هكذا قال تومي واناميكر بنَفَس مُنقطع.
أجابه هَب وهو ينهض: «لو كانت ستنفجر، لانفجرت في حينها»، وخبط بكتفه الخريطة المُغلَّفة، فبعثر تكساس ونيو مكسيكو وآيرزونا في دروب شتَّى. انتاب هَب إحساسًا مكبوتًا بالابتهاج، فمضخَّات وقوده مُؤمَّن عليها، ومبلغ التأمين مدفوع، حيث ألحَّت ماري على دفع التأمين قبل كل شيء.
قال نورم: «هذا الرجل حتمًا شرب حتَّى الثمالة».
ردَّ تومي، وعلا صوته انفعالًا: «رأيت مصابيح سيارته الخلفية، لم تومض ولا مرَّة. ويحي! لو كان يقود على سرعة 60، لصرنا في خبر كان أجمعين».
هرعوا خارج المكتب، تقدَّمهم هَب، وستو آخرهم. وصل هَب وتومي ونورم معًا عند السيارة، شمُّوا رائحة البنزين وسمعوا التكتكة المتباطئة مثل عقارب الساعة لمحرِّك الشيڤي المتبارد. فتح هَب باب السائق، واندلق الرجل القاعد خلف عجلة القيادة إلى الخارج مثل حقيبة غسيل قديمة.
«اللعنة» هكذا صاح نورم بوريت، وكاد بِل أن يصرخ. أشاح بنظره بعيدًا، وأمسك كرشه العامر، وانتابه الغثيان. ليس بسبب الرجل الذي سقط خارج السيارة (الذي أمسكه هَب قبل أن يرتطم جسده بالرصيف)، وإنما بسبب الرائحة المنبعثة من السيارة، رائحة إنتان مُغثية تتألَّف من الدماء والمواد البرازية والقيء وتحلُّل الأعضاء البشرية، كانت رائحة صارخة ومُمرِضة إلى حدِّ الموت في شناعتها.
بعدها بهُنيهة، ابتعد هَب، وهو يجُرُّ السائق من إبطيه، وسارع تومي وتلقَّف الساقين المُجرجرتين، وحمله مع هَب إلى داخل المكتب، وتحت وهج المصابيح الفلورية فوق رأسيهما، اعتلى وجهيهما الحيرة والاشمئزاز، ونَسِيَ هَب ما يخُصُّ أموال التأمين.
نظر الآخرون إلى داخل السيارة، ثمَّ ابتعد عنها هانك، واضعًا يدًا على فمه، وبرز خنصره كمثل رجل رفع كأسه من النبيذ للتَّوِّ كي يقترح نخبًا. هرول إلى الطرف الشمالي من أرض المحطَّة، وترك عشاءه يتصاعد من معدته.
فتَّش ڤك وستو داخل السيارة لبعض الوقت، وتبادلا النظرات، ثمَّ نظرا مجددًا إلى داخل السيارة. على مقعد الراكب، توجد سيدة شابَّة، انحسر رداؤها الداخلي على فخذيها، ويميل عليها ولدٌ أو بنتٌ، في سنِّ ثلاث سنوات تقريبًا. كلاهما ميتان. عنقاهما منتفخان مثل أنابيب الدراجات الداخلية، واصطبغ لون العنقين بلون قرمزي- أسود، مثل الكدمات. انتفخ الجلد تحت أعينهما أيضًا. قال ڤك فيما بعد إنهما بديا مثل لاعبي البيسبول الذين يضعون السخام تحت أعينهم كي يحدُّوا من وهج الضوء. أعينهما جاحظة قليلًا. كانت المرأة ممسكة بيد الطفل، وثمَّة مخاط كثيف منسال من أنفيهما والآن صار متخثِّرًا. حام الذباب من حولهما، وأضاء في المخاط، وزحف إلى داخل وخارج فميهما المفتوحين. شارك ستو في الحرب، لكنه لم يَرَ قط شيئًا بائسًا لدرجة مروِّعة مثل هذا المشهد. عاودت عيناه الالتفات بدأب نحو اليدين المتعانقتين.
تراجع ستو بصحبة ڤك وتطلَّع أحدهما إلى الآخر بنظرات خاوية، ثمَّ اتجها نحو المحطَّة. رَأَيا هَب وهو يتحدَّث بوتيرة محمومة في الهاتف العمومي، وكان نورم يتحرَّك في اتجاه المحطَّة من خلفهما، ملقيًا نظرات من فوق كتفيه على آثار الخراب. ظل باب السائق في سيارة الشيڤي مفتوحًا في أسى، وتدلَّى زوجي حذاء الطفلة على مرآة الرؤية الخلفية.
وقف هانك قبالة الباب، يمسح فمه بمنديل متسخ، وقال بنبرة حزينة: «يا للمسيح يا ستو!»، وأومأ إليه ستو.
أغلق هَب الهاتف. كان سائق سيارة الشيڤي راقدًا على الأرض. «ستأتي سيارة الإسعاف إلى هنا في خلال عشر دقائق، أتظن أنهما..؟»، وهزَّ إبهامه نحو الشيڤي.
«إنهما ميتتان. انتهى الأمر». أومأ ڤك، كان وجهه الشائخ ممتقعًا ومُصفرًّا، والتبغ يتناثر من بين يديه على الأرض وهو يحاول لفَّ سيجارة من سجائره كريهة الرائحة «إنهما أَمْوَت ميِّتين رأيتهما في حياتي»، ثمَّ نظر إلى ستو، وأومأ إليه ستو، واضعًا يديه في جيبيه، شاعرًا باضطرام في داخله.
صدر من حلق الرجل المستلقي على الأرض أنين غليظ، ونظروا جميعهم إليه في الأسفل. وبعد لحظة، وحينما اتضح أن الرجل يتحدَّث أو يحاول التحدُّث بمشقَّة بالغة، انحنى هَب بجواره، فهذه المحطَّة محطَّته على أي حال.
أيًّا كان ما حدث للسيدة والطفلة في السيارة، فهو يحدث الآن أيضًا مع الرجل. سال المخاط من أنفه بلا هوادة، ولأنفاسه صوت غريب مثل أعماق البحر، تماوجٌ آتٍ من موضع ما داخل صدره. انتفخ الجلد تحت عينيه، لم يَسْوَدَّ لونه بعد، وإنما قرمزي مكدوم. بدت رقبته شديدة السماكة، وانضغط الجلد في رتل ممَّا منحه ذقنين إضافيتين. عانى حُمَّى شديدة، حتَّى صار الدنوُّ منه أشبه بالتقرفص على حافة شواية مفتوحة حيث يُوضع الفحم الجيد.
«الكلب، هل أخرجتموه؟» هكذا تمتم.
أجابه هَب وهو يهُزُّه برفق: «يا سيدي، لقد اتصلت بالإسعاف، ستصبح بخير».
نخر الرجل القابع على الأرض قائلًا: «احمرَّت الساعة»، ثمَّ بدأ يسعل في تفجُّرات متسلسلة مُعذِّبة، مرسلًا المخاط الكثيف ليتطاير من فمه في رذاذ ممتدٍّ ولزج. ارتدَّ هَب إلى الخلف، والتوت قسمات وجهه في يأس.
قال ڤك: «يُفضَّل أن تدير جسده، وإلا سيختنق بهذا المخاط».
ولكن قبل أن يتسنَّى لهم ذلك، خفت صوت السعال وعاد من جديد التنفُّس الخائر المتهدِّج. رمشت عيناه على مهل، وتطلَّع إلى الرجال المتحلِّقين من حوله.
«أين.. هذا؟».
أجابه هَب: «آرنت، محطَّة تكساكو لصاحبها بل هبسكوم، لقد حطَّمت عددًا من مضخَّاتي» ثمَّ أردف بعدها في عجالة: «لا بأس، فهي مُؤمَّن عليها».
حاول الرجل المنطرح على الأرض أن يجلس لكنه لم يقدر، واضطرَّ إلى وضع يده على ذراع هَب كي يستوي في جُلسته.
«زوجتي.. ابنتي الصغيرة..»
أجابه هَب: «إنهما بخير»، وابتسم له ابتسامة كلب حمقاء.
قال الرجل: «يبدو أن مرضي اشتدَّ»، والأنفاس تخرج من صدره وتدخل في خوار غليظ وضعيف، «كانا أيضًا مريضين، منذ تحرَّكنا من يومين فاتا.. سولت ليك سيتي» وارتعشت عيناه وأغمضهما رويدًا رويدًا «مرضى.. أظننا لم نتحرَّك بالسرعة الكافية رغم كل شيء..».
سمعوا صافرة سيارة إسعاف بلدة آرنت التطوعية، آتية من بعيد وتقترب.
قال تومي واناميكر: «ويحي! آه يا ويحي!».
رفَّ جفني الرجل المريض ففتح عينيه ثانية، وامتلأتا الآن بقلقٍ حادٍّ وشديد. جاهد نفسه ثانية كي يجلس، وسال العرق على وجهه، وشدَّ هَب من ملابسه.
ألحَّ في سؤاله: «هل سالي وبيبي لاڤ‍ون بخير؟»، وتطاير البصاق من فمه، وشعر هَب بحرارة جسد الرجل المُحرقة وهي تشعُّ خارجه، كان الرجل مريضًا، وشبه مجنون، ونتن الرائحة. تذكَّر هَب تلك الرائحة التي تعبق بها أحيانًا بطانية قديمة لكلب.
أجابه بإصرار محموم بعض الشيء: «إنهما على ما يرام، عليك أن.. تستلقي فحسب، وهوِّن عليك، اتقفنا؟».
رقد الرجل ثانية، واشتدَّ اضطراب تنفسه الآن. ساعده هَب وهانك وأداروا جسده وأرقدوه على جانبه، وبدا أن تنفُّسه هدأ بقدر بسيط.
قال: «كنت أشعر أني بخير حتَّى الليلة الماضية، مجرَّد سعال، لكني كنت بخير، واستيقظت في الليل بهذه الصورة، لم أفِرَّ بالسرعة المطلوبة، هل بيبي لاڤ‍ون بخير؟».
خفتت كلماته الأخيرة حتَّى استحالت غمغمة لم يتبيَّنها أي منهم، صدحت صافرة الإسعاف أقرب فأقرب. اتجه ستو إلى النافذة حتَّى يراقب المشهد منها، وبقي الآخرون متحلِّقين حول الرجل الراقد على الأرض.
سأل هَب: «بماذا أصيب يا ڤك؟ ألديك فكرة؟».
هزَّ ڤك رأسه: «لا أعرف».
قال نورم برويت: «ربما مَرِضَ بسبب طعام أكَله، لوحة السيارة مُسجَّلة في ولاية كاليفورنيا، أو تعلم، ربما أكلوا في كثير من الاستراحات على الطريق. ربما تناولوا شطائر همبرجر مُسمَّمة. هذا يحدث».
توقَّفت سيارة الإسعاف مع دورانها حول سيارة الشيڤي المُدمَّرة بحيث تقف بينها وبين باب محطَّة الوقود. صنعت الإضاءة الحمراء فوق السيارة دوائر ممتدَّة جنونية، غرقت الأجواء الآن في ظلام دامس.
صاح الرجل الراقد على الأرض فجأة: «أعطِني يدك وسأخرجك من هنا!»، وبعدها سكت.
قال ڤك: «تسمَّم من الطعام، آه، ممكن، آمل ذلك، لأن..».
سأله هانك: «لأن ماذا؟».
«لأنه بخلاف ذلك، فربما يكون مرضًا مُعديًا»، ونظر إليهم ڤك بعينين مضطربتين «شهدت بنفسي على تفشِّي الكوليرا في 1958، على مقربة من مدينة نوجالس، وبدا شبيهًا بهذا».
دخل ثلاثة رجال وهُم يُسَيِّرون سريرًا نقَّالًا، ونادى أحدهم: «يا هَب، أنت محظوظ لأن مؤخِّرتك الضامرة لم تَفْنَ من على وجه الأرض. أهذا هو الرجل؟».
تفرَّقوا حتَّى يدعوهم يمرُّون: بيلي فريكر، ومونتي سوليڤان، وكارلوس أورتيجا. رجال يعرفونهم جميعًا.
قال هب وهو ينتحي جانبًا مع مونتي: «هناك شخصان في هذه السيارة، امرأة وطفلة صغيرة، وكلتاهما ميتتان».
«اللعنة، أنت متأكِّد؟».
«نعم، وهذا الرجل لا يعلم بأمر موتهما، هل ستحمله إلى برينتري؟».
«هكذا أظن»، نظر إليه مونتي في حيرة، «ماذا أفعل مع هذين الاثنين في السيارة؟ لا أعلم كيف أتعامل مع هذا الموقف يا هَب».
«يمكن لستو أن يتصل بشرطة الولاية. أتمانع إذا ركبت معك؟».
«طبعًا لا».
وضعوا الرجل فوق السرير النقَّال، وفي أثناء تحرُّكهم به، توجَّه هَب إلى ستو. «سأتوجَّه بالسيارة إلى برينتري مع هذا الرجل، أممكن أن تتصل بشرطة الولاية؟».
«بالتأكيد».
«واتصِل بماري أيضًا، اتصِل بها وأخبرها بما حدث».
«حسنًا».
سارع هَب نحو سيارة الإسعاف وركبها، وأغلق بيلي فريكر الأبواب من خلفه ثمَّ نادى زميليه الآخرين، كانا يحدِّقان إلى سيارة الشيڤي المُهشَّمة بإنشداه قلق.
بعدها ببضع لحظات تحرَّكت سيارة الإسعاف، وانطلقت الصافرة، وألقى المصباح العلوي الأحمر بظلال دموية عبر مدرج محطَّة الوقود. اتجه ستو إلى الهاتف العمومي وأودع فيه ربع دولار.
***
مات رجل سيارة الشيڤي على بعد عشرين ميلًا من المستشفى، ندَّت عنه شهقة مبقبقة أخيرة، ثمَّ زفرها، وتلتها شهقة أدنى انحشرت في حلقه، ثمَّ وافته المنية.
أخرج هَب محفظة الرجل من جيب بنطاله ونظر بداخلها. احتوت على سبعة عشر دولارًا نقدًا، ورخصة قيادة صادرة من ولاية كاليفورنيا تُعرِّفه باسم تشارلز د. كامپ‍يون، كما احتوت على هوية شخصية عسكرية، مع صور مُغلَّفة بالبلاستيك لزوجته وابنته. لم يشأ هَب النظر إلى الصور.
حشر المحفظة ثانية في جيب الرجل الميت، وأمر كارلوس بأن يطفئ الصافرة. كانت الساعة التاسعة وعشر دقائق.
***
:هوامش المترجم

1- استهل كانتري چ‍و مكدونالد أغنية I-Feel-Like-I'm-Fixin'-to-Die Rag بهذا المقطع خلال تأديتها في مهرجان وودستوك الموسيقي في أغسطس 1969، طالبًا من الجمهور أن يرددوا معه كلمة Fuck بتعديد أحرفها ثمَّ ترديدها ككلمة واحدة، وكلمة Spell التي استخدمها كانتري چ‍و لها أكثر من معنى في الإنجليزية، فهي في هذا السياق معناها تهجئة الكلمة، ومعناها كذلك اللعنة أو التعويذة السحرية الشريرة، وأغلب الظن أن هذه اللعبة اللفظية مقصودة من قبل كينج، فالتهجئة تفصيلة درامية مهمَّة ومتكرِّرة على مدار أحداث الرواية، كما يحتمل أيضًا أن كينج يشير إلى الشرارة التي تنطلق منها الأحداث بالمعنى الثاني: اللعنة.

2- في الأصل AWOL، وهي اختصار لعبارة Absent Without Leave، ومعناها: (غياب دون تصريح من الخدمة

3- من عادة كثير من الآباء والأمهات في أمريكا اجتناب نطق كلمات صادمة أو مُحرجة على مسامع الأطفال كما هي، وبدلًا من ذلك يقسمونها إلى حروف حتَّى لا يفهمها الأطفال.

4- اختصارًا لشيڤروليه.

5- يشير پ‍‍الفري إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشتها مدينة ريتشموند في فترة الحرب الأهلية الأمريكية، حين عانى سكانها من التضخُّم المرتفع ممَّا أجبر المسؤولين وقتئذٍ على وضع سقف للأسعار في سبيل السيطرة على التضخُّم، إلا أن التجار تجاهلوا المراسيم الحكومية الخاصَّة بالالتزام بسقف الأسعار، وفشل المسؤولون في إحكام السيطرة على فوضى التسعير. على سبيل المثال، يروي طبيب عاش في ريتشموند في فترة الحرب الأهلية يُدعى ليڤن سميث چوينز أنه دفع دولارًا واحدًا في يناير 1865 مقابل رغيف خبز يبلغ وزنه ثلاث أونصات ونصف فقط.

6- أُصدر الدولار الكونفيدرالي الخاص بالولايات الجنوبية الانفصالية قبيل اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية في العام 1861، ولم يكن مُقوَّمًا بأي أصول تُذكر، وإنما بمجرَّد تعهُّد بالدفع لحامله بعد نهاية الحرب، خاصَّة مع رُجحان كفَّة احتمالية انتصار الولايات الجنوبية واستقلالها في بدايات الحرب، ولكن مع استمرار الحرب وتضاءل فرص انتصار الجنوب في الحرب، تضاءلت قيمته أكثر فأكثر، وبعد هزيمة الولايات الكونفيدرالية في الحرب، لم يعد للدولار الكونفيدرالي أي قيمة تُذكر، وصار مجرَّد ورق على حدِّ تعبير پ‍‍الفري أعلاه، ممَّا كَبَّدَ الأفراد والبنوك خسائر هائلة.

7- اختصارًا لـ (قانون الدفاع الوطني للتعليم) الذي أُقِرَّ في العام 1958 خلال عهد الرئيس دوايت آيزنهاور بهدف تقديم التمويل اللازم للمؤسسات التعليمية الأمريكية كافَّة في سبيل تعزيز الدفاع الوطني، خاصَّة في إطار الحرب الباردة مع الإتحاد السوڤيتي.

8- (هانك) اسم تدليل شائع في الولايات المتحدة لأي شخص اسمه (هنري) أو (هاري).

9- سيارة تُستخدم في سباقات السيارات بغرض ضمان خلوِّ مضمار السباق من أي عوائق أو مشكلات متعلِّقة بالجوِّ قد تؤثِّر على جودة المضمار، أو العمل على إبطاء سرعة السيارات أو الدراجات البخارية المتنافسة في حال وجود مشكلة في المضمار.

10- موكب سنوي يُنظَّم عبر شارع كولورادو في مدينة پاسادينا بولاية كاليفورنيا في الأول من يناير أو في الإثنين الأول من العام أو الثاني من يناير إن تصادفت بداية السنة مع يوم الأحد.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 13, 2025 13:04

January 11, 2025

ثلاثة فصول من ترجمتي غير المنشورة لرواية «الـصُّمُــود» لستــيــــڤن كِيــنـج 2-2


***
ريتشرد هوجنز شابٌّ أسود عاش طيلة حياته في مدينة دترويت بولاية متشيجن. أدمن ذلك المسحوق الأبيض الناعم الذي أسماه «هيراون» في آخر خمس سنوات. في خلال التفشِّي الفعلي لوباء الإنفلونزا الفائقة، مرَّ بأعراض انسحاب شديدة بما أن جميع التجَّار والمتعاطين الذين يعرفهم إمَّا ماتوا وإمَّا لاذوا بالفرار.
في خلال بعد الظهيرة الصيفية الوضاءة، كان قاعدًا على دَرَج مغطَّى بالقمامة في مدخل بناية، يشرب عبوة سڤن-أب دافئة، ويتمنَّى لو يحظى بجرعة صغيرة، مجرَّد جرعة صغيرة ضئيلة يحقنها تحت جلده.
بدأ يفكِّر في آلي ماكفارلن، وفي أمر سمعه عن آلي في الشوارع قبيل وقوع كل هذه المشكلات. كان الناس يقولون إن آلي -والذي يُعَدُّ ثالث أكبر تجَّار دترويت- قد تلقَّى شحنة فاخرة. كان الجميع سيسعد. ليس من ذلك الخراء البُنِّي، بل البودرة البيضاء الصينية (20) ، من الأصناف كافَّة.
لم يعرف ريتشي بشكل مؤكَّد أين قد يُبقي ماكفارلن شحنة كبيرة كهذه -لم يصح معرفة هكذا أشياء- لكنه سمع في خلال مروره في أوقات مختلفة أنه إذا استصدر الشرطيين إذنًا لتفتيش منزل جروس پوينت الذي اشتراه آلي لشقيق جدِّه، فسوف يبعد آلي إلى أن يستحيل البدر في السماء ذهبًا.
قرَّر ريتشي أن يتمشَّى إلى جروس پوينت، ففي النهاية، لا يوجد شيء أفضل يفعله.
حصل على العنوان الكائن في منطقة ليك شور درايڤ للوحيد المدعو باسم إرين د. ماكفارلن من دليل هاتف دترويت وتمشَّى إلى هناك. أوشكت السماء على الإظلام مع وصوله وآلمته قدميه. لم يَعُد يحاول إخبار نفسه أنها مجرَّد تمشية اعتيادية، فقد أراد ضربة حقنة، وأرادها بشدَّة.
ثمَّة جدار رمادي مشيد من حجارة الحقول حول العقار، وتسلَّق ريتشي فوقه كظل أسود، وجُرِحت يداه من شظايا الزجاج المكسور المغروسة على قمة الجدار. عندما حطَّم نافذة ليدخل، انطلق جرس إنذار، ممَّا دفعه إلى الفرار وصولًا إلى المرج قبل أن يتذكَّر عدم وجود شركة تستجيب للإنذار. عاد مهتاجًا ومبللًا بالعرق.
الكهرباء المركزية مقطوعة، ويوجد دون ريب عشرون غرفة في هذا المنزل الملعون. اضطرَّ إلى الانتظار حتَّى الغد حتَّى يعاين المكان كما يجب، وسيسلتزمه ثلاثة أسابيع في قلب المكان رأسًا على عقب بالطريقة الملائمة، ويحتمل ألا توجد البضاعة هنا أصلًا. يا للمسيح، اعترته دفقة من اليأس المقيت، لكنه سيفتِّش على الأقل في المواضع الظاهرة.
وفي دورة المياه بالأعلى، عثر على دستة أكياس بلاستيكية كبيرة ملآنة بالمسحوق الأبيض. كانت مخبَّأة في خزَّان المرحاض، حيلة قديمة مُجرَّبة. حدَّق ريتشي إليها، سقيمًا بالرغبة، وفي باله خاطرة مغمغمة أن آلي حتمًا دفع رُشًا لكل الأفراد المناسبين ما دام تمكَّن من ترك خبيئة كهذه في خزَّان مرحاض لعين. توجد ها هنا مخدِّرات تكفي رجلًا واحدًا لستة عشر قرنًا.
حمل كيسًا واحدًا إلى غرفة النوم الرئيسة وشقَّه فوق شرشف السرير. ارتعشت يداه وهو يُفرغ «الشُّغل (21) » ويحضر الملعقة لتسخين الجرعة. لم يخطر على باله قط أن يتساءل عن درجة تركيز هذا الصنف، ففي الشارع، بلغت درجة نقاء أثقل جرعة تعاطاها ريتشي على الإطلاق 12% وأدخلته في نوم عميق جدًّا شارف على الغيبوبة. لم يحنِ رأسه من النعاس، بل ضرب الحقنة وغفل في الحال، بغتة ثمَّ غاب عن الوعي.
حقن نفسه فوق المرفق ودفع المكبس لتستقر الجرعة. بلغ نقاء هذا الصنف قرابة الـ 96%. هاجمت مجرى دمائه مثل قطار بضائع قادم بأقصى سرعة فسقط ريتشي فوق أكياس الهيروين، فغطَّى وجه القميص كالدقيق. مات بعدها بست دقائق.
***
ليست خسارة فادحة.
***
***
***
هوامش المترجم:

1- عبارة دارجة تُستخدم في الوقت الحاضر لوصف جدال عقيم مُضيع للوقت ولا يُرجى منه فائدة عملية على الإطلاق، وتذكر مصادر عديدة أن أصل هذه العبارة ربما يعود إلى نقاشات لاهوتية جرت خلال القرن السابع عشر استهدف من خلالها البروتستانت دحض أفكار الفلسفة السكولائية وطريقتها في مساءلة الأفكار، والتي بعد من أبرز روادها توما الإكويني

2- تسمية دارجة وشائعة لدى الأمريكيين لمدينة نيويورك من بين أسماء عديدة لها، مثل: «المدينة التي لا تنام أبدًا، عاصمة العالم، مركز الكون، مدينة إمپاير (نسبة للبناية الشهيرة)، جوثام، متروپولس»، لا يوجد إجماع دقيق حول سبب أو أصل تسميتها بالتفَّاحة الكبيرة، ولكن توجد رواية تقول أن أول ذكر لها جاء على يد الصحافي الرياضي چون چ. فتز چيرالد، قائلًا بأنه سمعه من عاملي إسطبلات في مضامير سباقات نيو أورلينز بسبب الجوائز الكبرى التي تُمنح للمتسابقين في سباقات الخيل النيويوركية، كما راج اللقب أكثر خلال سبعينيات القرن العشرين بفضل إحدى الحملات الدعائية.

3- چيسي چيمس (1847-1882): من أشهر الخارجين عن القانون في التاريخ الأمريكي، عُرف بسرقة البنوك والقطارات، وكان من مُناصري المليشيات الكونفيدرالية الانفصالية خلال الحرب الأهلية الأمريكية، قُتِلَ على يد روبرت فورد.

4- لم يوضِّح كِينج على الإطلاق سبب تسمية الوباء بهذا الاسم، لا في هذه الرواية، ولا في القصَّة القصيرة (مَوجُ لَيليّ) ضمن المجموعة القصصية (وَرديَّة اللَّيل) [ت: محمد عبد النبي ومحمود راضي]، والتي تدور أحداثها في نفس عالم هذه الرواية، ويُرجَّح أنه فَضَلَ ترك حرية التفسير للقراء كما يشاؤون، ولكن توجد أربع نظريات شائعة ومنتشرة بين محبي وقراء أدب كِينج حولها. تقول النظرية الأولى أنه ربما يكون مردَّ الاسم إلى الأعراض التي يسبِّبها المرض ذاته، وهي الهذيان، وصداع شبيه بصداع الثُّمالة، بالإضافة إلى الهلوسات الشبيهة كالتي تنتاب متعاطي المُهلوسات مثل ثُنائِي إيثيلاميد حَمض الليسرجيك المعروف اختصارًا بالـ LSD، وعند تعاطيها، يشرع المرء في «رحلة»، والرحلة Tripهي المفردة الشائعة بين متعاطي المُهلوسات على متلازمة الأعراض التي تنتاب متعاطيها، وجمعها رحلات أو Trips.
أمَّا النظرية الثانية، فتقول إن الاسم إشارة إلى چيري جارسيا،عازف الجيتار في فرقة (ذا جريتفُل ديد)، والذي لُقِّبَ في زمانه بـ «كابتن تِربس»، والذي عُرِف عنه عادته في دسِّ المُهلوسات في كؤوس المشروبات الكحولية لمَن حوله.
أمَّا النظرية الثالثة، فيُقال إن الاسم نسبة إلى ألفرد ماثيو هابارد (1901-1982) الذي عُدَّ من مناصري استخدام مُهلوس الإل إس دي، لأنه من وجهة نظره يُطلق الطاقات الإبداعية والمتسامية، كما أنه عُرِف في زمانه بلقب «الكابتن».
ونصل إلى النظرية الرابعة والأخيرة، وهي تتناول منشأ الڤيروس، حيث طُوِّر داخل مختبر عسكري أمريكي، ثمَّ جاء الكابتن «وهنا في هذه النظرية معناه النقيب» حين أمسك الجرة التي تحتوي على الڤيروس، فسقطت من يده «والسقوط في هذا السياق معناه بالإنجليزية Trip، المفردة الإنجليزية نفسها المُستخدمة بمعنى رحلة في النظرية الأولى» وانكسرت الجرَّة على الأرض، فتحرر الڤيروس من مكمنه مثلما حدث مع جرّة پاندورا وفق الحكاية الشهيرة في الميثولوجيا اليونانية.
إذَنْ، مع استعراض جميع النظريات السابقة، يصير أمام المترجم حلَّان: إمَّا الترجمة، وأمَّا النقحرة، لكن ترجمة الاسم ستخلق إشكالية، وهي الاضطرار إلى الانحياز إلى نظرية على حساب أخرى، أو تغليب إحداها، وهذا عكس ما أراده كِينج من تجهيل سبب التسمية، وهو ترك الحرية للقارئ في اختيار أو حتَّى وضع النظرية التي يراها وفق قراءته، وهو ما يُحِيلُنَا إلى لحل الثاني الذي رأيناه الأنسب في هذه الحالة، وهو نقحرة الاسم حفاظًا على الهدف من وراء تجهيله.

5- محمية تأسَّست في القرن التاسع عشر ليسكنها السكان الأصليين من قبيلة شوشوني.

6- يقصد ما انكشف عن تورُّط وكالة الاستخبارات الأمريكية في عمليات الإتجار في الكوكايين الخاص بحركات الكونترا، وهُم ثوار نيكاراجوا من التيَّار اليميني المدعوم أمريكيًّا في مواجهة الحكومة الشيوعية النيكاراجوية، وهو ما أدَّى إلى سلسلة من جلسات الاستماع والتحقيقات الحكومية.

7- يقصد جماعة الكو كلوكس كلان العنصرية اليمينية المتطرِّفة، وهي أول جماعة إرهابية منظَّمة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استهدفت بجرائمها فئات عديدة، من بينهم: الأمريكيين الأفارقة واليهود والمسلمين والأمريكيين اللاتينيين والأمريكيين الآسيويين والكاثوليك والمهاجرين.

8- يقصد رسام الكومكس الأمريكي روبرت كرامب، الذي يُعَدُّ من رموز الثقافة المضادة بأمريكا، ومن أجرأ رسَّامي الكومكس المستقلِّين، من أشهر أعماله Fritz The Cat وWeirdo وZap Comix بالإضافة إلى اقتباسه لسفر التكوين من الكتاب المقدَّس كاملًا إلى الكومكس.

9- مليشيا يسارية ماركسية متطرفة، نشطت بين عامي 1969 و1977، ونشأت في حرم آن آربر بجامعة متشيجان، واستهدفت بعملياتها الإرهابية منشآت حكومية بالإضافة إلى عدد من البنوك.

10- اختصارًا لـ (طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي)، وهي جماعة طلابية يسارية نشطت خلال حقبة الستينيات.

11- إشارة إلى واقعة شهيرة بطلها نشطاء من حزب الشباب الدولي، حيث أقام عدد منهم في الثالث والعشرين من أغسطس 1968 مؤتمرًا ساخرًا يقدِّمون من خلاله مرشحهم للرئاسة: بيجاسوس، والذي لم يكن سوى خنزير حقيقي.

12- اختصارًا لڤيتنام، كما في الأصل.

13- ناثان بدفورد فورست (1821-1877): رجل أعمال أمريكي، خدم في صفوف الجيش الكونفيدرالي الأمريكي خلال الحرب الأهلية الأمريكية وترقى إلى أن صار چنرالًا، وتولى قيادة جماعة الكو كلوكس كلان العنصرية بين عامي 1867 و1869.

14- يقصد رداء أفراد جماعة الكو كلوكس كلان.

15- تشارلز ستاركويذر (1938-1959): قاتل أمريكي، قتل أحد عشر شخصًا بين عامي 1957 و1958 في نبراسكا ووايومنج.

16- يقصد لي هارڤي أوزوالد الذي اغتال الرئيس الأمريكي چون كينيدي في العام 1963.

17- كان دونالد ديفريز (الشهير بسينكيه) هو المتحدِّث الرسمي باسم قوات جيش التحرير التكافلي، وهي منظَّمة أمريكية يسارية متطرفة تشكلت في أوكلاند بولاية كاليفورنيا في العام 1973، أمَّا عن الوريثة المقصودة، فهي پاتي هرست حفيدة رجل الأعمال الشهير وليم هرست، والتي اختطفها جيش التحرير التكافلي في العام 1974، ثمَّ عُثِرَ عليها بعد تسعة عشر شهرًا من اختطافها، ولكن المفاجأة أنه قد قُبِض عليها بسبب اشتراكها خلال هذه الفترة في ارتكاب جرائم مع أفراد الجيش، وحُكِمَ عليها بالسجن 35 عامًا، ثمَّ خُفِّفت العقوبة إلى سبعة أعوام فقط، ومع تولي بل كلنتون رئاسة أمريكا، أصدر عفوًا رئاسيًّا عنها في العام 2001 بعد سنوات من السجن والخضوع للمراقبة.

18- تخصُّصٌ معنيٌّ بالتعامل مع الطلاب الذين يعانون من صعوبات في التعلُّم، وتوضع لهم برامج تعليمية خاصَّة يستطيعون بها تحسين مستواهم والاقتراب من مستوى أقرانهم.

19- أي يرتدي نظارة طبية، حيث يستخدم كِينج التعبير المتنمِّر نفسه الدارج لدينا في بعض الدول العربية.

20- الاسم الحركي في الولايات المتحدة لمخدِّر معروف مُعادل للفنتانيل.

21- في الأصل Work، وهي في هذا السياق لفظة دارجة من عشرات الألفاظ المتداولة والشائعة بين متعاطي ومروِّجي المخدِّرات، والمستخدمة للدلالة على المخدرات البيضاء، وخاصَّة مُخدِّر الكوكايين، وتتيح وكالة مكافحة المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية للمواطنين عبر موقعها الرسمي على الإنترنت حصرًا شاملًا بغالبية الشفرات والكلمات السرية والدارجة عن المخدرات بأنواعها كافَّة بغرض الاطلاع والتوعية، وقد اعتمدنا على هذه القائمة في الترجمة حين ورود كلمات مشابهة في أكثر من موضع ضمن أحداث الرواية، وأوردناها ضمن قائمة المراجع في نهاية المجلد الثاني.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 11, 2025 13:39

ثلاثة فصول من ترجمتي غير المنشورة لرواية «الـصُّمُــود» لستــيــــڤن كِيــنـج 1-2


الفصل الثامن

في الثامن عشر من يونيو، بعد مرور خمس ساعات على حديثه مع قريبه بل هَبسكوم، استوقف چ‍و بوب برنتود رجلًا تجاوز السرعة المقرَّرة على طريق تكساس السريع رقم 40 على بُعد خمسة وعشرين ميلًا تقريبًا شرق آرنت. المُسرع بسيارته هو هاري ترنت من برينتري، موظَّف تأمين. كان يسير على سرعة خمسة وستين ميلًا في منطقة لا يُسمح فيها بتخطِّي حاجز خمسين ميلًا في الساعة. حرَّر له چ‍و بوب مخالفة سير. قَبِلها هاري مُذعنًا ثمَّ ألهى چ‍و بوب بمحاولة بيعه بوليصة تأمين على منزله وحياته. شعر چ‍و بوب أنه على ما يرام، فالموت آخر فكرة في باله. رغم ذلك، صار بالفعل رجلًا مريضًا. حصل على شيء إضافي بجانب البنزين من محطَّة تكساكو لصاحبها بل هَبسكوم، وأعطى هاري ترنت أكثر من مجرَّد استدعاء مروري.
أمَّا هاري، وهو رجل اجتماعي يحب عمله، فقد نقل المرض إلى أكثر من أربعين شخصًا على مدار هذا اليوم واليوم الذي يليه. يستحيل تخمين عدد الأشخاص الذين انتقلت إليهم العدوى بسبب أولئك الأربعين، كأنك تسأل عن عدد الملائكة الذين بمقدورهم الرقص فوق رأس دبوس (1) . إذا تحتَّم عليك إجراء تقدير متحفِّظ يبلغ خمسة لكل فرد، سيصير لديك مائتا شخص. وباستخدام المعادلة المتحفِّظة نفسها في تقديرها، يمكن للمرء القول إن أولئك الأشخاص المائتين سينقلون العدوى إلى ألف، والألف سينقلونه إلى خمسة آلاف، والخمسة آلاف إلى خمسة وعشرين ألفًا.
تحت صحراء كاليفورنيا، وبدعم من أموال دافعي الضرائب، يوجد شخص ما صاغ رسالة متسلسلة نجحت حقًّا في تحقيق مرادها. رسالة متسلسلة شديدة الفتك.
في التاسع عشر من يونيو، ذلك اليوم الذي عاد فيه لاري آندرود إلى مسقط رأسه في نيويورك، وذات اليوم الذي أبلغت فيه فراني جولدسميث والدها بخصوص الغريب الصغير الموشك على القدوم من لدنها، توقَّف هاري ترنت في مقهى بيبز كويك-إيت لتناول وجبة الغداء. تناول شطيرة برجر بالجبنة وقطعة من كعكة بيبز اللذيذة بالفراولة على سبيل التحلية. أصيب بدور برد خفيف، وربما أصيب بحساسية البرد، استمرَّ في العطس واضطرَّ إلى البصق. نقل العدوى على امتداد رحلة الوجبة إلى بيب غاسلة الأطباق، وسائقي شاحنات قاعدين إلى طاولة جانبية بين مقعدين، ومُوصل الخبز، والرجل القادم لتغيير الأسطوانات في صندوق تشغيل الموسيقى. ترك لتلك البنُّوتة الحُلوة نادلته دولارًا بقشيش يغصُّ بالموت.
وفي طريق خروجه، توقَّفت سيارة محطَّات. فوقها حاملة حقائب، وحُملت السيارة حتَّى السقف بالأطفال والحقائب. للسيارة لوحة تسجيل مركبات نيويوركية، والسائق –الذي أنزل زجاج سيارته ليسأل هاري عن كيفية الوصول إلى الطريق السريع الأمريكي 21 بالتوجُّه شمالًا- يتحدَّث بلهجة نيويوركية. أبلغ هاري الرجل النيويوركي بتعليمات بالغة الوضوح حول كيفية بلوغ الطريق السريع الأمريكي 21. كما أصدر في حقِّه وحقِّ أفراد أسرته بأكملهم أوامر بالإعدام دون حتَّى أن يعلم بذلك.
النيويوركي هو إدوارد إم. نوريس، ملازم شرطة، وحدة التحقيقات، القسم السابع والثمانين بمدينة التفَّاحة الكبيرة (2) . كانت تلك أول عطلة حقيقية يحظى بها في خلال خمس سنوات. استمتع هو وأسرته بوقتهم. ذهب الأطفال إلى منتجع سفنث هڤن في ديزني ورلد بمدينة أورلاندو، وعقد نوريس النية على إخبار ذلك البغيض ابن العاهرة ستيڤ كاريلا أنه في الإمكان اصطحاب زوجتك وأبنائك إلى مكان ما بالسيارة وتمضية وقت طيب، دون أن يعلم أن جميع أفراد الأسرة سيموتون بحلول الثاني من يوليو. أراد أن يقول له: يا ستيڤ، ربما تكون محقِّقًا مُجدًّا في العمل، ولكنك رجل غير قادر على حفظ النظام بين أفراد أسرتك، ولا تساوي حفرة تبوُّل مشقوقة في ركام ثلجي.
تناول آل نوريس أكلة سريعة في مطعم بيبز، ثمَّ اتبع تعليمات هاري ترنت الدقيقة إلى الطريق 21. ذُهِلَ إد وزوجته تريش من حسن ضيافة أهل الجنوب بينما الأطفال الثلاثة في المقعد الخلفي يُلوِّنون. دار في خلد إد: على ماذا تنوي زمرة الوحوش في كاريلا.
أمضوا هذه الليلة في موتل واقع في إيوستاس بولاية أوكلاهوما. نقل إد وتريش العدوى إلى موظف الموتل. ونقل الأطفال مارشا وستانلي وهكتور العدوى إلى الأطفال الذين لعبوا معهم في ملعب الموتل، أطفال متجهون إلى غرب تكساس وآلاباما وآركنساه وتينيسي. أصابت تريش السيدتين اللتين تغسلان الملابس في المغسلة الواقعة على بُعد مربَّعي مبانٍ. أصاب إد -في طريقه عبر ممرِّ الموتل للحصول على بعض الثلج- رجلًا صادفه عند المدخل. صار الجميع متورِّطين.
أيقظت تريش إد في الساعات المبكِّرة من الصباح كي تخبره أن الصغير هك مريض. يعاني سعالًا جافًّا شنيعًا بالإضافة إلى الحُمَّى. بدا لها الأمر مثل مرض الخُنَّاق. تذمَّر إد نوريس وأخبرها أن تعطي الطفل بعض الأسبرين. لو كان بمقدور الخُنَّاق اللعين للطفل فقط أن ينتظر أربعة أو خمسة أيام أخرى، لأصيب بها في منزله، تاركًا لإد ذكرى إجازة مثالية (ناهيك بترقُّب كل هذه الشماتة التي خطَّط لها). سمع الفتى المسكين عبر الباب المُوصل وهو يقاسي مثل كلب الصيد.
توقَّعت تريش أن تهدأ أعراض مرض هكتور في الصباح، فالخُنَّاق مرض يستلزم الراحة، ولكن بحلول ظهيرة اليوم العشرين، اعترفت لنفسها أن هذا لم يحدث. لم يسيطر الأسبرين على الحُمَّى، وخلت عينا هك المسكين من الحياة. اتخذ سعاله نغمة هادرة لم تُرِحها، وخرجت أنفاسه مُجَهدة ومعبَّأة بالبلغم. أيًّا كان ما يمُرُّ به، فيبدو أن مارشا تعانيه، هي الأخرى، وأحسَّت تريش بوخزة واهنة مقرفة في مؤخِّرة حلقها كانت تدفعها إلى السعال، ورغم أنه مجرَّد سعال خفيف حتَّى الآن، فهي تستطيع احتواءه بمنديل صغير.
قالت في نهاية المطاف: «علينا اصطحاب هك إلى طبيب».
توقَّف إد بالسيارة في محطَّة وقود وعاين الخريطة المُعلَّقة بمشابك الورق على شمَّاسة سيارة المحطَّات. كانوا في بلدة هامر كروسينج بولاية كنساس. قال: «لا أعرف، ربما يمكننا على الأقل أن نجد طبيبًا يحيلنا إلى اختصاصي». تنهَّد ومرَّر يدًا غضوبة في شَعَره «هامر كروسينج، كنساس! يا للمسيح! أكان لا بُدَّ أن يمرض بشدَّة حتَّى نحتاج إلى طبيب في مكان منعزل لعين مثل هذا؟».
أمَّا مارشا، التي كانت تعاين الخريطة فوق كتف والدها، فقالت: «تقول الخريطة إن چ‍يسي چ‍يمس (3) سرق البنك هنا يا بابا، مرَّتين».
أجابها إد متذمِّرًا: «كس أم چ‍يسي چ‍يمس». صاحت تريش: «إد». ردَّ بـ «آسف» وهو غير آسف على الإطلاق. واصل القيادة.
بعد ست مكالمات هاتفية، والتي تمالك فيها إد نوريس أعصابه بحرص وطواعية، عثر أخيرًا على طبيب في پوليستون سيفحص هكتور إذا استطاع الوصول بحلول الساعة الثالثة. پوليستون واقعة خارج خطِّ سيرهم، على بُعد عشرين ميلًا غرب هامر كروسينج، لكن المهم الآن هو هكتور. اشتدَّ قلق إد عليه. لم ير الولد قط بهذا القدر الرهيب من الذبول.
انتظروا في المكتب الخارجي للطبيب براندن سويني بحلول الساعة الثانية بعد الظهر. حينئذٍ عطس إد هو الآخر، امتلأت غرفة الانتظار في عيادة سويني على آخرها، لن يتسنَّى أمامهم مقابلة الطبيب حتَّى حلول الساعة الرابعة تقريبًا. لم تستطع تريش أن توقظ هك لأكثر من شبه يقظة متثاقلة، وأحسَّت هي نفسها بشيء من الحُمَّى. ستان نوريس وحده، في سنِّ التاسعة، الذي ما يزال بحال جيدة كفاية حتَّى يشعر بالتململ.
في خلال انتظارهم في مكتب سويني، نقلوا المرض الذي سيُعرَف عمَّا قريب عبر أرجاء البلاد المتفسِّخة باسم كابتن تِربس (4) لأكثر من خمسة وعشرين شخصًا، بمَن فيهم سيدة في منتصف العمر جاءت فقط كي تسدِّد فاتورتها قبل أن تمرِّر المرض إلى كل عضوات ناديها للعب البريدچ.
هذه السيدة في منتصف العمر هي مدام روبرت برادفورد، أو سارة برادفورد حسبما تعرفها عضوات نادي البريدچ، أو كوكي كما يناديها زوجها وأصدقاؤها المقرَّبون. لعبت سارة جيدًا في تلك الليلة، ربما لأن شريكتها كانت آنچيلا دوپ‍راي، صديقتها المقرَّبة. يبدو أنهما تتمتَّعان بضرب محظوظ من التخاطر. حيث فازا بجميع الدورات الثلاث بنجاح مدوٍّ، وحققت فوزًا ساحقًا في الدورة الأخيرة. الشيء الوحيد الذي أزعج سارة هو إصابتها على ما يبدو بدور برد خفيف.
خرجت مع آنچيلا من أجل احتساء شراب لطيف في بار كوكتيلات بعد انقضاء السهرة في الساعة العاشرة. لم تتعجَّل آنچيلا العودة إلى المنزل. جاء الدور على ديڤيد كي يعقد جلسة لعبة الپوكر الأسبوعية في منزلهما، فلن تقدر على النوم مع كل هذه الضوضاء الجارية.. إلا إذا حصلت أولًا على مسكن بسيط وصفته لنفسها دون طبيب، وهو في حالتها هذه عبارة عن كأسين من كوكتيل السول چن فِز.
طلبت سارة كوكتيل وارد 8 وتناقشت السيدتان حول لعبة البريدچ التي خاضتاها. تمكَّنا في الوقت الحالي من نقل العدوى إلى الجميع في بار كوكتيلات پوليستون، بمَن فيهم شابَّين يحتسيان البيرة على مقربة. كانا في طريقهما إلى كاليفورنيا -مثلما ذهب لاري آندرود وصديقه رودي شوارتز ذات مرة- سعيًا وراء حظوظهما. وعدهما صديق لهما بوظيفة مع شركة صاعدة. توجَّها غربًا في اليوم التالي، ناشران المرض في مسيرهما.
الرسائل المتسلسلة لا تؤتي أُكلها. هذه حقيقة معروفة. تلك المليون دولار التي يعدوك بها إذا أرسلت فحسب دولارًا واحدًا منفردًا إلى الاسم الموجود على رأس القائمة، ثمَّ يُضاف اسمك في ذيلها، ومن ثمَّ تُمرِّر الرسالة إلى خمسة أصدقاء لا تصل إليهم على الإطلاق. أمَّا هذه الرسالة، رسالة كابتن تِربس المتسلسلة، فقد أبلت بلاء حسنًا. الهرم يُشيَّد بالفعل، ليس من القاعدة صعودًا إلى الأعلى، وإنما من القمَّة إلى السفح، والقمَّة المذكورة آنفًا تتمثَّل في حارس أمني عسكري وافته المنية يُدعى تشارلز كامپ‍يون. كل الدجاجات عادت إلى القنِّ كي تبيت. إلا إنه بدلًا من وجود ساعي بريد يُحضر لكل مشارك بالة تلو البالة من الرسائل، وكل منها تحتوي على ورقة بدولار واحد، فقد أحضر كابتن تِربس معه بالة شرور تتألَّف من غرف النوم التي تحتوي كل منها على جثَّة أو جثَّتين، والخنادق، وحُفر الأموات، وأخيرًا جثث جرفتها المحيطات على كل ساحل، وإلى المحاجر، وإلى أساسات المنازل غير مكتملة البناء. وفي النهاية، بالتأكيد، تتعفَّن الجثث أينما حلت.
عادت سارة برادفورد وآنچيلا دوپ‍راي إلى سيارتهما المركونتين معًا (نقلتا العدوى إلى أربعة أو خمسة أشخاص صادفوهما في الطريق)، ثمَّ تبادلتا القُبلات على الخدود وراحت كل منهما في طريقها. عادت سارة إلى المنزل ناقلة المرض إلى زوجها ورفاقه الخمسة من لاعبي الپوكر وإلى ابنتها المراهقة سامانثا. ومن دون علم والديها، اشتدَّ خوف سامانثا من انتقال عدوى السيلان إليها عن طريق حبيبها. إحقاقًا للحقِّ، فقد أُصيبت به فعلًا. وإقرارًا لحقيقة إضافية، فهو ليس بمرضٍ يستدعي القلق، مقارنة بما منحته إياها والدتها، فالإصابة الجدِّيَّة بالسيلان تماثل في جسامتها الإصابة ببعض الإكزيما في الحاجبين.
في اليوم التالي ستنقل سامانثا العدوى إلى الجميع في حمَّام السباحة في جمعية الشابَّات المسيحيات في پوليستون.
وهكذا.



الفصل الثالث والعشرون

ذرع راندل فلاج، الرجل المُظلم، الطريق السريع 51 جنوبًا بخطوات واسعة، مستمعًا إلى الأصوات الليلية المحتشدة على مقربة من جانبي هذا الطريق الضيِّق الذي سيوصله إن عاجلًا أم آجلًا خارج آيداهو ووصولًا إلى نيڤادا. قد يذهب إلى أي مكان من نيڤادا. من نيو أورلينز إلى نوجالس، من بورتلاند بولاية أوريجون إلى بورتلاند بولاية مين. هذه الأرض وطنه، ولم يَفُقه أحد قط في معرفته بها أو محبته لها. يعرف إلى أين تؤدِّي الطرق، ومشى فيها ليلًا. الآن، وقبل الفجر بساعة، جاء إلى مكان ما بين جراسمير وريدل، غرب توين فولز، كما تقع شمال محمية دك ڤالي (5) الممتدَّة عبر ولايتين، أليس هذا حسن؟
أسرع المسير، وطقطق حذاؤه الطويل البالي على السطح المُعَبَّد للطريق، وإن ظهرت في الأفق أضواء سيارة، يتوارى إلى الوراء ثمَّ إلى الوراء، وصولًا عند حافة الطريق الرخوة عند العشب المتطاول الذي تستوطنه الحشرات الليلية.. فتتخطَّاه السيارة، وربما يشعر السائق ببرودة طفيفة إذا قاد سيارته عبر جيب هوائي، وزوجته وأطفاله النائمين يتقلَّبون مضطربين، كأنما يراودهم كابوس في اللحظة نفسها.
تحرَّك جنوبًا، جنوب الطريق السريع 51، طقطق على الرصيف الكعبان التالفان لحذاء الكاوبوي الطويل حاد الحافتين الذي ينتعله، رجل طويل القامة، لا تُعرف له سنٌّ، يرتدي بنطال چ‍ينز باهت يصل حتَّى الخاصرة مع معطف من الدينم. جيوبه محشوَّة بخمسين نوعًا مختلفًا من المواد المطبوعة المتناقضة: مطويات لكل المواسم، فصيحة الصياغة لكل الدواعي. عندما يناولك هذا الرجل وريقة دعائية، فأنت تأخذها بغضِّ النظر عن موضوعها: أخطار المفاعلات النووية، الدور الذي يلعبه الإتحاد اليهودي العالمي في الإطاحة بالحكومات الصديقة، العلاقة بين وكالة الاستخبارات الأمريكية وحركات الكونترا في تهريب الكوكايين (6) ، نقابات المزارعين، شهود يهوه (إذا استطعت الإجابة على هذه الأسئلة العشرة بـ «نعم» فقد حظيت بالخلاص!)، مواطنون سود لأجل المساواة في النضال، قوانين الكلان (7) . معه كل هذا، أكثر. يوجد زِرٌّ على كل من جانبي معطف الدينم. على الجانب الأيمن يوجد وجه مبتسم أصفر. على الجانب الأيسر خنزير يعتمر قبعة شرطي. ثمَّة نقش أسفله بحروف حمراء متقاطرة كي تحاكي الدماء: كيف حال خنزيرك؟
واصل المسير، دون توقُّف، ودون إبطاء، بل بنشاط في قلب الليل. بدت عيناه محمومتين بإمكانات الليل. على ظهره حقيبة أولاد الكشافة، قديمة ومهترئة. ثمَّة صخب قاتم في وجهه، وربما في قلبه أيضًا، هكذا قد تظن، وربما أنت محقٌّ. هذا وجه رجل سعيد لدرجة مقيتة، وجه يشعُّ دفئًا مليحًا مريعًا، وجه يدفع أكواب المياه إلى التكسُّر في أيدي النادلات المُنهكات في موقف الشاحنات، ويتسبَّب في اصطدام الأطفال الصغار بدرَّاجاتهم ثلاثية العجلات في الأسيجة الخشبية ثمَّ يهرعون مستصرخين أمهاتهم بشظايا وتدية ناتئة من رُكبهم، وجه يضمن تحويل مشادات الحانات حول معدَّلات الضربات في مباراة بيسبول إلى معركة دموية.
اتجه جنوبًا، في مكان عبر الطريق السريع 51 بين جراسمير وريدل، واقترب الآن من نيڤادا. سيخيِّم عمَّا قريب وينام لوقت طويل من النهار، ويستيقظ مع حلول الليل. سيقرأ ريثما يُطهى عشاؤه فوق نيران تخييم طفيفة بلا دخان. لا يهمُّ ما سيقرأه: بضع كلمات من رواية إباحية ورقية مهترئة ومنزوعة الغلاف، أو ربما كتاب «كفاحي» أو كومكس للفنان ر. كرامب (8) ، أو واحدة من مقالات الرأي الرجعية التي يكتبها رافعو شعار «أمريكا أولًا» أو أبناء القوميين. عندما يُذكر الكلام المطبوع، ستجد فلاج قارئًا منفتحًا على كل شيء.
عقب تناول العشاء، سيباشر فلاج السير مجددًا، يسير جنوبًا عبر هذا الطريق السريع البديع ذي الاتجاهين الذي يشقُّ هذا القَفر المهجور، يراقب ويشمُّ ويستمع فيما تشتدُّ جدوبة الأجواء، خانقة كل شيء بما في ذلك الدغل العشبي والحشيش المتدحرج، مراقبًا حين تبدأ الجبال في البروز عن الأرض مثل الأعمدة الفقَّارية للديناصورات. بحلول الفجر غدًا أو بعد غد سيشقُّ طريقه عبر نيڤادا، سيُغير أولًا على أويهي ومن بعدها ماونتن سيتي، وفي ماونتن سيتي يوجد رجل يُدعى كريستوفر برادنتن والذي سيرى أنه يمتلك سيارة نظيفة وأوراق ثبوتية لا غبار عليها، ومن ثمَّ ستُبعث الحياة في الأقطار بكل إمكاناتها البهيَّة، كيان تسري في جلده شبكات طرق راسخة مثل الشعيرات الدموية البديعة، على أهبة الاستعداد لاصطحابه، وهو البقعة المظلمة من مادة غير معلومة، إلى أي مكان وكل مكان، القلب، الكَبد، العينين، المخ. كان عبارة عن خثرة تفتِّش عن مكان للتحقُّق، شظية عظمية تتصيَّد عضوًا جسديًّا ليِّنًا تخترقه، خلية طائشة وحيدة تبحث عن قرين لها، بحيث ينتقلان للعيش معًا، ويربِّيان ورمًا خبيثًا صغيرًا يهنأ بدفء الجو الأسري.
طرق بقدمه على الأرض في مسيره، وذراعاه تتأرجحان على جانبيه. كان معروفًا، بل ذائع الصيت، عبر الطرقات السريعة المتوارية التي يسافر منها الفقراء والمجاذيب، كما عرفه الثوَّار المحترفون الذين تعلَّموا إتقان فن الكراهية حتَّى بانت كراهيتهم على وجوههم مثل المصابين بالشفة الأرنبية، ولم يعد يرغب فيهم سوى آخرين من أمثالهم، والذين سيرحبون بهم في غرف رخيصة زُيِّنت جدرانها بالشعارات والملصقات، وفي أقبية توجد فيها أمتار مديدة من الأنابيب المقصوصة داخل ملازم مبطَّنة في أثناء حشوها بمتفجِّرات شديدة الانفجار، وفي غرف خلفية تُرسم فيها مخططات مخبولة: مثل اغتيال عضو بالمجلس الاستشاري الرئاسي، أو اختطاف ابن شخصية مرموقة في زيارة للبلاد، أو اقتحام غرفة اجتماعات شركة ستاندرد للبترول ومقاطعة الاجتماع بالقنابل اليدوية والرشاشات الآلية ثمَّ القتل باسم الشعب. كان معروفًا في تلك الأرجاء، بل يكفي الأجن بينهم مجرَّد النظر إلى وجهه القاتم المبتسم من زاوية مائلة. تقبَّلته النساء اللواتي اصطحبهن إلى الفراش -حتَّى حين يُقلِّصن الجماع إلى شيء عارض يشبه الإتيان بوجبة خفيفة من الثلاجة- بتصلُّب في الجسد وتخلٍّ عن رباطة الجأش. تعاملن معه مثلما قد يتعاملن مع كبش بعينين ذهبيتين أو كلب أسود، وحين يفرغ منهن يعتري أجسادهن البرد، البرد الشديد، حتَّى يبدو من المستحيل أن يشعرن بالدفء ثانية. حين يقتحم اجتماعًا، تنقطع الثرثرات الهستيرية، بما في ذلك من غيبة واتهامات واتهامات مضادة وطنطنة إيدولوچية. لهُنيهة يخيِّم الصمت المطبق ثمَّ يهمُّوا بالالتفات إليه فيبتعدون، كأنه جاء إليهم حاملًا كالطفل بين ذراعيه محرِّك دمار قديم ومفزع، شيء أسوأ ألف مرَّة من قنبلة بلاستيكية صنعها دارسي كيمياء مارقين في معمل تحت الأرض أو أسلحة من السوق السوداء حصلوا عليها من رقيب طماع في وحدة إمداد عسكرية. يبدو أنه أتاهم بأداة صدئت بالدماء وخُزِّنت لقرون في كوزمولاين من الصرخات والآن أصبحت جاهزة من جديد، حملها إلى اجتماعهم مثل هدية جهنَّمية، كعكة عيد ميلاد مُزيَّنة بشموع من النتروجلسرين. وحين استأنفوا الحديث، جاء عقلانيًّا ومنضبطًا –بنفس درجة عقلانية وانضباط أحاديث المجانين- وتوافقوا حول شتَّى الأمور.
تبختر في مشيته، وقدماه مرتاحتان في حذائه الطويل، اللتان انطلقتا في كل الأماكن المناسبة. قدماه وهذا الحذاء الطويل عاشقان قديمان. عرفه كريستوفر برادنتن في ماونتن سيتي باسم ريتشارد فراي. عمل برادنتن مرشدًا في إحدى خطوط مترو الأنفاق التي ينتقل عبرها الأشخاص الهاربون. رأت اثنتي عشرة منظَّمة مختلفة أن برادنتن معه أموال، بداية من جماعة وذرمن أندرجراوند (9) وصولًا إلى فرقة جيفارا. كان شاعرًا يُدرِّس فصولًا أحيانًا في الجامعة المجانية، أو سافر غربًا عبر ولايات يوتا ونيڤادا وآريزونا، مخاطبًا طلاب فصول اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية، فاتنًا عقول أولاد وبنات الطبقة المتوسطة (حسبما أمِلَ) بأخبار تفيد أن الشِّعر حي، ويعاني يقينًا من الخدار، ولكن ما زالت تستحوذ عليه حيوية مقيتة بعينها. كان في أواخر خمسيناته حاليًا، لكن برادنتن فُصِلَ من كلية كاليفورنيا منذ قرابة عشرون عامًا بسبب تقاربه الشديد مع منظمة ط. م. د. (10) . قُبِضَ عليه في خلال مؤتمر خنزير شيكاجو الكبير في العام 1968 (11) ، فتبيَّنت صلاته بجماعة راديكالية تلو الأخرى، معتنقًا في البدء جنون هذه الجماعات، ثمَّ تحوَّل إلى لقمة سائغة.
سار الرجل المُظلم وابتسم. برادنتن يشكِّل مجرَّد طرف في قناة واحدة، حيث يوجد الآلاف منها، الأنابيب التي يتحرَّك عبرها المجاذيب، حاملين كتبهم وقنابلهم. الأنابيب مترابطة، واللافتات متخفِّية لكنها مقروءة بالنسبة إلى الأعضاء الجدد. في نيويورك، عُرف باسم روبرت فرنق، ولم يشكِّك أحد في ادعائه أنه رجل أسود، رغم أن بشرته فاتحة جدًّا. نجح بمعاونة رجل أسود من أبطال نام (12) -وقد امتلك الرجل الأسود كراهية أكثر من كافية لتعوِّضه عن قدمه اليسرى المفقودة- في قتل ستة شرطيين في نيويورك ونيو چ‍يرسي. أمَّا في چ‍ورچيا، فعُرف باسم رامزي فورست، سليل لعائلة ناثان بدفورد فورست (13) من بعيد، والذي شارك وهو مرتدي ملاءته البيضاء (14) جريمتي اغتصاب، وإخصاء، وإحراق منطقة عشوائية يسكنها النيجرو. لكن هذا حدث منذ زمن بعيد، في مطلع حقبة الستينيات، في خلال الحركة الأولى للحقوق المدنية. راوده الظن أحيانًا أنه ربما وُلد مع نشوب هذا الصراع. لم يتذكَّر على وجه اليقين ما حدث له قبل ذلك، فيما عدا قدومه بالأساس من نبراسكا وحضوره فصول المدرسة الثانوية ذات مرَّة مع ولد أصهب معوج الساقين يُدعى تشارلز ستاركويذر (15) . تذكَّر بصورة أوضح مسيرات الحقوق المدنية في العامين 1960 و1961: الضرب، والجولات الليلية، والكنائس التي انفجرت وكأن معجزة بداخلها تنامت لدرجة فاقت أي مقدرة على احتوائها. تذكَّر مسيره على غير هدى إلى نيو أورلينز في العام 1962، ومقابلة شابٍّ معتوه يوزع منشورات تحث أمريكا كي تدع كوبا وشأنها. كان هذا الرجل شخصًا بعينه نعرفه بالسيد أوزوالد (16) ، وقد حصل على بعض من منشورات أوزوالد وما زال بعضها في جعبته داخل إحدى جيوبه القديمة، قديمة جدًّا ومجعَّدة. اتخذ مقعدًا في مائة لجنة مختلفة من اللجان المسؤولة. شارك في مظاهرات ضد المجموعة نفسها من الشركات في مائة حرم جامعي مختلف. كتب أكثر أسئلة مربكة وردت على مسامع أصحاب النفوذ عندما يلقون المواعظ، لكنه لم يطرح هذه الأسئلة بنفسه قط، لعل تجار النفوذ رأوا في وجهه المبتسم المحترق سببًا للإحساس بالذعر ولاذوا بالفرار من المنصَّة، وعلى المنوال نفسه، لم يتحدَّث قط في المسيرات لأن الميكروفونات كانت ستصيح بصدًى هستيري، وتحترق الدوائر الكهربية. لكنه كتب خُطب لأولئك المتحدِّثين، وفي أكثر من مناسبة، انتهى المطاف مع هذه الخطب إلى أعمال شغب، وسيارات منقلبة، وإعلانات عن إضرابات طلابية، ومظاهرات عنيفة. تعرف لفترة في مطلع السبعينيات على رجل يُدعى دونالد ديفريز، واقترح على ديفريز أن يتخذ لنفسه اسم سينكيه. ساعد في رسم الخطط التي أدَّت إلى اختطاف سيدة وريثة لثروة طائلة، وهو من اقترح أن تُدفع هذه الوريثة إلى حافة الجنون بدلًا من الاقتصار على طلب الفدية (17) . غادر منزل لوس آنچلوس الصغير الذي حُمِّرَت فيه جثث ديفريز والآخرين قبيل اقتحام الشرطة للمنزل بأقل من ثلث ساعة، وانسحب بهدوء إلى الشارع، وحذاؤه الطويل المنتفخ المُتَرَّب يطقطق على الرصيف، مع ابتسامة نارية على وجهه دفعت الأمهات كي ينتزعوا أبناءهم ويشدُّوهم ناحية المنزل، ابتسامة أشعرت النساء الحوامل بآلام المخاض قبل الأوان. وفيما بعد، عندما انجرفت قلة من أفراد فرقة تاترد رمنانتس، كل ما عرفوه أن هناك شخصًا آخر رافق المجموعة، شخصًا مهمًّا ربما، مصلحجيًّا ربما، رجلًا بلا سنٍّ معلومة، رجل يُدعى الرجل المَشَّاء، وأحيانًا البُعبُع.
تبختر في مشيته بإيقاع ثابت يتغذى على الأرض. كان منذ يومين في لارامي بولاية وايومنج، فردًا ضمن جماعة تمارس أعمالًا تخريبية للحفاظ على البيئة، والتي فجَّرت محطَّة لتوليد الطاقة. اليوم سار على الطريق السريع 51، بين جراسمير وريدل، متجهًا إلى ماونتن سيتي. غدًا سيصير في مكان آخر، وصار أسعد من ذي قبل لأن..
توقَّف عن المسير.
لأن شيئًا ما قادم. أحسَّ به، وذاق طعمه تقريبًا في نسمات الليل. استطاع تذوُّقه. طعمٌ سخاميٌّ حارٌّ آتٍ من الأرجاء كافَّة، كأن الرب يُعِدُّ وليمة في الهواء الطلق، والحضارة بأسرها ستصير الشواء. الفحم مشتعل بالفعل، أبيض ومتفتِّت من الخارج، وأحمر مثل حُمرة عيني الشيطان من الداخل. حدث كبير، حدث جلل.
اقتربت ساعة تجلِّيه. سيُولد للمرَّة الثانية وسيُدفع به خارج مِهبل وحش هائل ترابي اللون على وشك الولادة، راقدًا الآن مع الانقباضات المؤلمة، وساقاه تتحرَّكان ببطء مع تدفُّق دماء النفاس، وعيناه الحاميتان كالشمس تسطعان في الخواء.
وُلد حين تغيَّرت الأزمان، وستتغيَّر الأزمان من جديد. هذا ما كُتب على الرياح، رياح أمسية آيداهو الرقيقة هذه.
اقتربت ساعة ولادته الثانية. عرف ذلك. وإلا فلأي سبب آخر سيمارس سحره على حين غِرَّة؟
أغمض عينيه، تطلَّع وجهه الحارُّ قليلًا ناحية السماء المُظلمة التي تتحضَّر لاستقبال الفجر. ركَّز، وابتسم. بدأ الكعبان المُتَرَّبان التالفان لحذائه الطويل في الارتفاع عن الطريق. إنش واحد. إنشان، ثلاثة إنشات. اتسعت ابتسامته فصارت عريضة. ارتفع الآن بمقدار قدم، ثمَّ قدمين عن الأرض. تعلَّق بثبات فوق الطريق وتطايرت حفنة تراب من تحته.
ثمَّ شعر بأولى خطوات الفجر ملونة السماء، ثمَّ أنزل نفسه ثانية. لم يَحِن الوقت بعد.
لكنه وشيك.
استأنف المسير من جديد، مبتسمًا، مفتِّشًا الآن عن مكان يستلقي فيه نهارًا. اقترب الموعد، وكفاه الآن معرفة ذلك.


الفصل الثامن والثلاثون

مع انحسار وباء الإنفلونزا الفائقة، ظهر وباء ثانٍ واستمرَّ قرابة الأسبوعين. تفشَّى هذا الوباء أكثر في الدول المتقدِّمة تقنيًّا مثل الولايات المتحدة، وقل تفشِّيه في الدول المتخلِّفة مثل پيرو والسنغال. في الولايات المتحدة، قضى الوباء الثاني على قرابة 16% من الناجين من الإنفلونزا الفائقة. أمَّا في دول مثل پيرو والسنغال، فلم تَزِد هذه النسبة عن 3%. لم يحمل الوباء الثاني اسمًا نظرًا للتباين الشاسع في الأعراض من حالة لأخرى. ربما سيطلق عالم اجتماع مثل جِلن بيتمان على هذا الوباء الثاني «الوفاة الطبيعية» أو «موسيقى بلوز قسم الطوارئ». ربما يقول البعض بحسٍّ دارويني صارم إنها التصفيات النهائية، أكثر تصفيات عديمة الرحمة على الإطلاق.
***
كان سام تاوبر يبلغ من السنِّ خمس سنوات ونصف. ماتت أمُّه في الرابع والعشرين من شهر يونيو في المستشفى العمومي بمدينة مورفريسبورو في چورچيا. في اليوم الخامس والعشرين، مات والده، وأبريل، شقيقته الصغرى ابنة العامين. في اليوم السابع والعشرين من شهر يونيو، توفِّي شقيقه الأكبر مايك، تاركًا سام يحاول التصرُّف بمفرده.
عانى سام من صدمة منذ وفاة والدته. جال ذهابًا وإيابًا على غير هدًى في شوارع مورفريسبورو، يأكل حين يجوع، ويبكي أحيانًا. بعد مدَّة توقَّف عن البكاء، لأن البكاء لم يُفِده بشيء، لم يُعِد إليه البشر. في الليل يتقطَّع نومه إثر كوابيس شنيعة يموت فيها بابا وأبريل ومايك مرارًا وتكرارًا، وجوههم منتفخة ومسودَّة، مع أصوات خشخشة مخيفة داخل صدورهم وهُم يختنقون بمخاطهم.
في الساعة العاشرة إلا ربع صباح الثاني من يوليو، جال سام في حقل عليق برِّي أسود خلف منزل هاتاي رينولدز. مشدوهًا وبعينين غير مكترثتين، تعرَّج في المسير بين شجيرات العليق التي تفوقه طولًا ضعفين تقريبًا، وقطف العليق وأكله حتَّى تلطخَّت شفتاه وذقنه بالسواد. شقَّت الأشواك ثيابه وجرحت في بعض الأوقات جلده المكشوف، لكنه يكاد لم يلحظ ذلك. طنَّ النحل متكاسلًا من حوله. لم يلحظ قط غطاء البئر القديم المتسوِّس شبه المدفون بين العشب الطويل وتعريشات العليق الأسود. انهار الغطاء تحت وطأة ثقله فتحطَّم بصرير وانشقاق، وسقط سام عشرين قدمًا نحو القاع اليابس عبر الفتحة المسوَّرة بالصخور فانكسرت ساقاه. مات بعدها بعشرين ساعة من الخوف والبؤس بالقدر نفسه إثر الاصطدام والجوع والجفاف.
***
عاشت إرما فايتي في مدينة لودي بولاية كاليفورنيا. كانت سيدة في سنِّ السادسة والعشرين، عذراء، تعاني خوفًا مرضيًّا من الاغتصاب. استحالت حياتها كابوسًا طويلًا متصلًا منذ اليوم الثالث والعشرين من شهر يونيو، حيث انتشر السلب والنهب في أرجاء المدينة دون وجود شرطة تستوقف الناهبين. لدى إرما منزل صغير في شارع جانبي، وعاشت والدتها معها هناك حتَّى وفاتها إثر سكتة دماغية في العام 1985. عندما بدأ النهب، والأعيرة النارية، والأصوات المرعبة للرجال السكارى الجائلين ذهابًا وإيابًا عبر شوارع منطقة الأعمال الرئيسة راكبين درَّاجات نارية. أوصدت إرما على نفسها جميع الأبواب ثمَّ اختبأت في حجرة إضافية بالأسفل. منذئذٍ، داومت على التسلُّل بصفة دورية إلى الدور العلوي، بهدوء مثل فأر، كي تأتي بالطعام أو تقضي حاجتها.
لم تحب إرما البشر، لو مات جميع سكان الأرض باستثنائها، ستكون في قمَّة السعادة. لكن ليس ما جرى. بالأمس فقط، بعدما بدأ يراودها أمل حذر ألا يبقى أحد في لودي سواها. رأت رجلًا سكرانًا مثيرًا للاشمئزاز، هيپي يرتدي تي-شيرت كُتب عليه تخلَّيت عن الجنس والشراب فعشت أرعب عشرين دقيقة في حياتي، يجوب الشارع حاملًا قنينة ويسكي في يده. شعره أشقر طويل منسدل تمامًا حتَّى كتفيه من تحت قبَّعة دعائية يعتمرها. دسَّ عند خصر بنطاله الچينز الأزرق مسدَّسًا. اختلست إرما النظر عبر ستارة غرفة النوم حتَّى غاب عن أفق النظر ثمَّ سارعت بالنزول إلى الحجرة الإضافية المحصَّنة كأنها تحرَّرت من تعويذة شريرة.
ما كان جميعهم موتى. إذا بَقِيَ هيپي واحد، فهنالك هيپيون آخرون، وسيكونون جميعهم مغتصبين. سيغتصبونها. عاجلًا أم آجلًا سيعثرون عليها ويغتصبونها.
في هذا الصباح، قبل تباشير الضياء، تسلَّلت إلى العليَّة، حيث خُزِّنَت متعلِّقات والدها القليلة في صناديق من الكرتون. كان والدها بحَّارًا على متن سفينة تجارية. هجر والدة إرما في أواخر عقد الستينيات. حكت والدة إرما لابنتها إرما كل شيء. تحدَّثت معها بمنتهى الصراحة. كان والدها وحشًا يسكر ثمَّ يرغب في اغتصابها. جميعهم كذلك. حين تتزوَّجين، يمنحون الحقَّ للرجل في اغتصابك في أي وقت يريده، حتَّى في النهار. لخَّصت والدة إرما هجران زوجها لها في ثلاث كلمات، الكلمات نفسها التي تطبِّقها إرما مع وفاة كل رجل وامرأة وطفل تقريبًا على وجه الأرض: «ليست خسارة فادحة».
لم تحتوِ أغلب الصناديق على شيء سوى حليات رخيصة مشتراة من الموانئ الأجنبية: تذكار من هونج كونج، تذكار من سايجون، تذكار من كوپنهاجن. يوجد دفتر قصاصات يحتوي على صور. تُظهر أغلبها والدها على ظهر سفينة، أحيانًا يبتسم للكاميرا ويديه تُحِيطان بكتفي رفيقيه من الوحوش. في الواقع، ربما أودى ذلك المرض الذي يُطلقون عليه كابتن تِربس بحياته في المكان الذي أبحر إليه. ليست خسارة فادحة.
ولكن هنالك صندوقًا خشبيًّا بمفصِّلات ذهبية صغيرة. بداخل الصندوق سلاح، مسدَّس عيار 0.45، موضوع فوق بطانة القطيفة الحمراء، وداخل حجيرة سرية تحت القطيفة الحمراء توجد بضع رصاصات، خضراء ومطلحبة المظهر، ولكن رأت إرما أنها ستفي بالغرض. الرصاصات معدنية. لم تفسد مثل الحليب أو الجبن.
لقَّمت المسدَّس تحت ضوء المصباح الوحيد المغطَّى بشباك العنكبوت في العليَّة، ثمَّ نزلت لتناول إفطارها على طاولة مطبخها. لن تختبئ كفأر في جُحر بعد الآن. إنها مسلَّحة. فليحترس المغتصبون.
بعد ظهيرة بعد اليوم، خرجت إلى الشرفة الأمامية كي تقرأ كتابها. عنوان الكتاب «الشيطان حي ويبلي حسنًا على كوكب الأرض». كان كتابًا مروِّعًا ومسلِّيًا. نال الخطائون والعصاة جزاءهم، حسبما تنبَّأ الكتاب. ماتوا جميعهم، فيما عدا بضعة مغتصبين هيپيين، وارتأت أنها قادرة على التعامل معهم، فالسلاح بجوارها.
بحلول الساعة الثانية، عاد الرجل ذو الشعر الأشقر. اشتدَّ به السُّكر لدرجة أنه بالكاد استطاع الوقوف. رأى إرما فتهلَّل وجهه، يفكِّر دون شك في حُسن حظِّه في عثوره أخيرًا على «مُزَّة».
صاح لها: «أهلًا يا عَسُّولة، ها هنا أنا وأنتِ فقط، كم من الوقت..» ثمَّ غيَّم الرعب على وجهه حين رأى إرما تنحِّي كتابها وترفع مسدَّس 0.45.
«هاي، اسمعي، أنزِلي هذا الشيء.. أهو محشوٌّ؟ هاي..!».
ضغطت إرما على الزناد. انفجر المسدَّس، فقتلها في الحال. ليست خسارة فادحة.
***
عاش چورچ ماك دوجال في بلدة ناياك بولاية نيويورك. عَمِل مُدرِّسًا للرياضيات في المدرسة الثانوية، وتخصَّص في التدريس التشخيصي العلاجي (18) . كان هو وزوجته كاثوليكيين مواظبين على ممارسة الشعائر الدينية، وأنجبت له هارييت ماك دوجال أحد عشر طفلًا، تسعة أولاد وبنتين. لذا بين اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو الذي أسلم فيه ابنه چيف الروح عن عمر يناهز تسع سنوات بعدما شُخِّص لاحقًا بـ «التهاب رئوي من جراء الإنفلونزا»، واليوم التاسع والعشرين من يونيو حيث أسلمت ابنته پتريشا (رباه، كم كانت شديدة الجمال وفي مقتبل عمرها) الروح بسبب ما أطلق عليه الجميع -أولئك مَن عاشوا- فيما بعد الرقبة الأنبوبية، شهد چورچ على وفاة أحب اثني عشر شخصًا لديه في العالم فيما ظل يهنأ بالصحة والعافية. اعتاد المزاح في المدرسة بخصوص عدم قدرته على تذكُّر أسماء جميع أبنائه، بينما حُفِرَت في ذاكرته ترتيب رحيلهم عن الدنيا: چيف يوم 22، مارتي وهيلين يوم 23، هارييت زوجته وبِل وچورچ يوم 24، ريتشرد يوم 25، داني يوم 27، فرانك ابن السنوات الثلاث يوم 28، وأخيرًا پات، وكان يبدو على پات أنها تتحسَّن حتَّى زفرت أنفاسها الأخيرة.
حَسِب چورچ أنه سيفقد عقله.
بدأ يمارس العَدْوَ من عشر سنوات، بناء على نصيحة طبيبه. لم يلعب التنس أو كرة اليد، ودفع المال لطفل (أحد أطفاله بالطبع) من أجل جَزِّ العشب، واعتاد قيادة السيارة إلى متجر البقالة حينما تحتاج هارييت إلى رغيف خبز. قال له الدكتور ورنر: وزنك يزيد، ناهيك بالقيادة. هذا وضع غير جيد لقلبك. جرِّب العَدو.
لذا ابتاع لنفسه بذلة رياضية وداوم على العَدو كل ليلة، لمسافات قصيرة في البداية، ثمَّ لمسافات أطول فأطول. في البدء أحسَّ بثقة بالنفس، والجيران حتمًا ينقرون جباههم ويقلبون أعينهم، ثمَّ يأتي بضعة رجال عرفهم فقط حين يحيُّونه في خروجهم لسقاية مروجهم ويسألونه إن كان بمقدورهم الانضمام إليه، ربما يوجد أمان وسط الجمع. بحلول ذلك الوقت، انضمَّ كذلك ولدا چورچ الأكبر. تحوَّل الأمر إلى تقليد خاص بالحي، ورغم تغيُّر هوية الأفراد العدَّائين بين منضمِّين ومنسحبين، إلا أنه ظلَّ تقليدًا في الحي.
والآن مع موت الجميع، استمرَّ في العَدو، كل يوم، لساعات. في أثناء عدوه فقط، ودون تركيز على أي شيء أبعد من خبطات حذائه المخصَّص للتنس على الممشى وأرجحة ذراعيه وتنفُّسه المنتظم الأجش، أحسَّ بتبدُّد ذلك الإحساس بالجنون الوشيك. لم تطاوعه نفسه على الانتحار باعتباره كاثوليكي متديِّن يدرك أن الانتحار خطيئة مهلكة وأن الرب يرعاه حتمًا لأجل هدف ما، لذا عَدَا. بالأمس عَدَا لقرابة ست ساعات إلى أن انقطعت أنفاسه تمامًا وأوشك على التهوُّع مع شعور بالإنهاك. كان في سنِّ الحادية والخمسين، لم يَعُد شابًا، وافترض أن الإفراط في الركض غير جيد لصحَّته، ولكن من منظور آخر وأهم، فهو الشيء الوحيد الذي أبلى فيه حسنًا.
لذا استيقظ في الصباح مع مُستَهَلِّ ضيائه بعد ليلة لم يذُق فيها النوم تقريبًا (الخاطرة التي لعبت في عقله مرارًا وتكرارًا: چيف- مارتي- هيلين- هارييت- بِل- چورچ- چونيور- روبرت- ستانلي- ريتشرد- داني- فرانك- پات- وكنت-أظن- أنها-تتحسَّن) وارتدى بذلته الرياضية. خرج وهَمَّ بالعَدو جيئة ورواحًا في شوارع ناياك المهجورة، وقدماه تدهسان الزجاج المكسور في بعض اللحظات، بل إنه وثب مرَّة فوق تلفاز متهشِّم على الرصيف، متخطِّيًا الشوارع السكنية ذات الستائر المُسدلة، ومتخطِّيًا كذلك التصادم المريع الذي وقع بين ثلاث سيارات عند تقاطع الشارع الرئيس.
عَدَا في البدء، ثمَّ صار من الضروري أن يركض أسرع فأسرع حتَّى تتخلَّف الخواطر عن رَكبه. عَدَا فهرول فركض فأسرع لأقصى مدى في الختام. رجل يبلغ الحادية والخمسين بشعر أشيب ويرتدي بذلة رياضية رمادية وحذاءً أبيض للتنس، يهرع في الشوارع الخاوية ذهابًا وإيابًا وكأن جميع شياطين الجحيم في إثره. بحلول الحادية عشرة وربع الساعة، أصيب بجلطة قلبية حادَّة وخَرَّ صريعًا عند ناصية أوك وپاين، بالقرب من صنبور لمياه الحرائق. نمَّ وجهه عن تعبير يشبه كثيرًا الامتنان.
***
مدام إلين ديموند من مدينة كلوستن بولاية فلوريدا، ثملت بشدَّة من معاقرتها الكريم دي منث من صنع ديكويپر بعد ظهيرة الثاني من يوليو. أرادت أن تسكر لأنها حين تسكر، لن تضطرَّ إلى التفكير في أسرتها، والكريم دي منث هو الصنف الوحيد من الكحوليات الذي تقدر على تحمُّله. عثرت أمس على عبوَّة ملآنة بالماريوانا في غرفة ابنها ذي الأعوام الستة عشر ونجحت في الوصول للخَدَر، ولكن يبدو أن خَدَرها زاد الطين بلَّة. قبعت في غرفة معيشتها طيلة فترة بعد الظهيرة، مُخَدَّرة وتبكي على صور في دفتر القصاصات.
لذا في خلال بعد الظهيرة شربت قنينة كاملة من الكريم دي منث ثمَّ أصيبت بالغثيان وتقيَّأت في دورة المياه ثمَّ اتجهت إلى الفراش وأشعلت سيجارة ونامت وأحرقت المنزل عن بكرة أبيه، وهي لم تَعُد بحاجة إلى التفكير في الأمر، قط. اشتدت الرياح، وأحرقت أيضًا أغلب مدينة كلوستن. ليست خسارة فادحة.
***
عاش آرثر ستمسن في مدينة رينو بولاية نيڤادا. في خلال بعد ظهيرة اليوم التاسع والعشرين، وبعد السباحة في بحيرة تاهوي، داس مسمارًا صدئًا. تقرَّح الجرح من الغرغرينا. شخص الحالة بفعل الرائحة وحاول أن يبتر قدمه. في خضمِّ العملية فقد الوعي ومات من أثر الصدمة وفقدان الدماء في رواق كازينو قمار توبي هواره، المكان الذي حاول فيه إجراء العملية.
***
في مدينة سوانڤل بولاية مين، سقطت فتاة في سنِّ العاشرة تُدعى كاندس موران عن درَّاجتها وماتت إثر كسر في الجمجمة.
***
ملتون كراسلو، مُرَبِّي ماشية في مقاطعة هاردينج بولاية نيو مكسيكو، لدغته أفعى مجلجلة، ومات بعدها بنصف ساعة.
***
في بلدة مِلتاون بولاية كنتاكي، أحسَّت چودي هورتن بالامتنان للأحداث الأخيرة. كانت چودي فتاة جميلة في سنِّ السابعة عشر. قبلها بعامين، اقترفت خطأين فادحين: سمحت لنفسها بالحمل، وسمحت لوالديها بالحديث إليها بخصوص الزواج من الفتى المسؤول عن حَبَلها، وهو طالب هندسة بأربع أعين (19) يدرس بجامعة الولاية. في سنِّ الخامسة عشرة، أحسَّت بالإطراء فقط لأن طالبًا جامعيًّا طلب مواعدتها (حتَّى وإن كان مجرَّد طالبًا في السنة الأولى) ورغم إجهادها لذهنها بالتفكير، لم تستطع أن تتذكَّر سبب سماحها لوالدو -والدو هورتن، يا له من اسم مقزِّز- بـ «فرض إرادته» عليها، وما دامت ستحمل، فلماذا ينبغي أن يكون هو الأب؟ چودي سمحت أيضًا لستيڤ ڤيلبس ومارك كولنز بـ «فرض إرادتيهما» عليهما، وكلاهما لاعبان في فريق كرة القدم بمدرسة مِلتاون الثانوية (أو بالأحرى فريق مِلتاون كوچرز، اضرب-اضرب-اضرب-اضرب-لأجل-الأبيض-الأزرق-الذي-نحب) وكانت هَتَّافة للطريق. لولا ذلك الولد المقزِّز والدو هورتن، لأصبحت قائدة الهَتَّافات في عامها الدراسي الثالث، بسهولة. وعودة إلى المسألة المطروحة، كان إمَّا ستيڤ وإمَّا مارك سيصير زوجًا أليَق لها. حَظِيَ كلاهما بكتفين عريضتين، كما تمتَّع مارك بشعر أشقر شديد الجمال واصل حتَّى كتفيه. لكن والدو هو نصيبها، لا يمكن أن يصير أحدًا سوى والدو. كل ما عليها فعله هو مطالعة دفتر يومياتها وإجراء حساباتها، وبعد مولد الطفل لم تعد تحتاج إلى ذلك، فهو يشبهه تمامًا. يع.
لذا على مدار عامين طويلين ثابرت طوالهما عبر سلسلة من الوظائف المزرية في مطاعم الوجبات السريعة والموتلَّات، فيما واصل والدو دراسته بالجامعة. تنامى بداخلها كراهية عميقة لكُلِّيَّة والدو، بل فاقت كراهيتها للطفل ولوالدو ذاته. إن رغب لهذه الدرجة في تكوين أسرة، فلماذا لا يترك الدراسة ويعمل؟ لقد تركت دراستها، بينما لن يسمح والداه ووالداها بتركه دراسته. وحدها چودي مَن تستطيع إقناعه بكلام معسول (ستَحَمله على الإيفاء بوعده قبل أن تدعه يلمسها في الفراش)، لكن آباءهما الأربعة يدسُّون أنوفهم في شؤونهم في جميع الأوقات. يا چودي، ستتحسَّن ظروفكما أكثر بكثير حين يتوظَّف والدو في وظيفة جيدة. يا چودي، ستزهو الأحوال بشدَّة حين تزيدي مداومتك على الحضور في الكنيسة. يا چودي، كُلي خراءً واستمرِّي بالابتسام حتَّى يصيبكِ الإحباط، حتَّى تفقدي الأمل تمامًا.
ثمَّ أتت الإنفلونزا الفائقة وحلَّت لها جميع مشكلاتها. مات والداها، ومات ولدها الصغير پيتي (كان حدثًا حزينًا إلى حدٍّ ما، لكنها تخطَّته بعد بضعة أيام)، ثمَّ مات والدا والدو، وأخيرًا مات والدو ذات نفسه فانعتقت. لم يخطر على بالها فكرة احتمالية موتها قط، وبالطبع لم تفكِّر في ذلك.
عاشوا في بناية سكنية فسيحة تعرَّشت فوقها النباتات في وسط بلدة مِلتاون. من خصائص المكان الذي اشتراه والدو وجود غرفة تجميد فسيحة للحوم في سافلة البناية. حصلا على الشقَّة في سبتمبر من العام 1988، وتقع في الدور الثالث، ومَن الذي يتورَّط دائمًا حسبما يبدو في مهمَّة إخراج لحم الشواء والهمبرجر من غرفة التجميد؟ إليك ثلاثة تخمينات، وأول تخمينين لا يحتسبان. والدو وپيتي ماتا داخل المنزل. بحلول ذلك الوقت لا يمكنك الحصول على خدمات استشفائية إلا إذا كنت شخصًا رفيع الشأن، ومستودعات الجثث غامرة بها (إنها أماكن عتيقة مريبة على كل حال، وچودي لن تخاطر وتقترب من إحداها) لكن الكهرباء وقتئذٍ كانت ما تزال تعمل، لذا أخذتهما إلى الأسفل وأدخلتهما غرفة التجميد.
انقطعت الكهرباء عن مِلتاون منذ ثلاثة أيام مضت، ولكن ما زالت الغرفة بالأسفل باردة بقدر معقول. أدركت چودي ذلك لأنها داومت على النزول لمعاينة جثَّتيهما ثلاث أو أربع مرَّات يوميًّا. أخبرت نفسها أنها تعاينهما فحسب، وإلا فلأي سبب خلاف ذلك؟ بالتأكيد ليست شماتة منها.
نزلت في خلال بعد ظهيرة الثاني من يوليو، ونسيت وضع المصدِّ المطَّاطي تحت باب غرفة التجميد. تأرجح الباب من خلفها فانغلق وأوصد. أدركت حينئذٍ، وبعد عامين من المجيء والنزول إلى هنا، أنه لا يوجد مقبض داخلي على باب حجرة التجميد. وقتئذٍ أمست الحجرة دافئة جدًّا على التجميد، لكنها ليست شديدة البرودة حتَّى تشعر بالجوع، لذا ماتت چودي هورتن برفقة ولدها وزوجها في نهاية المطاف.
***
وصل چيم لي من مدينة هاتَّايسبرج بولاية ميسيسبي جميع مخارج التيار الكهربائي في منزله بمولد يعمل بالجازولين، فصعقته الكهرباء حين حاول تشغيله.
***
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 11, 2025 12:47