ثلاثة فصول من ترجمتي غير المنشورة لرواية «الـصُّمُــود» لستــيــــڤن كِيــنـج 2-2


***
ريتشرد هوجنز شابٌّ أسود عاش طيلة حياته في مدينة دترويت بولاية متشيجن. أدمن ذلك المسحوق الأبيض الناعم الذي أسماه «هيراون» في آخر خمس سنوات. في خلال التفشِّي الفعلي لوباء الإنفلونزا الفائقة، مرَّ بأعراض انسحاب شديدة بما أن جميع التجَّار والمتعاطين الذين يعرفهم إمَّا ماتوا وإمَّا لاذوا بالفرار.
في خلال بعد الظهيرة الصيفية الوضاءة، كان قاعدًا على دَرَج مغطَّى بالقمامة في مدخل بناية، يشرب عبوة سڤن-أب دافئة، ويتمنَّى لو يحظى بجرعة صغيرة، مجرَّد جرعة صغيرة ضئيلة يحقنها تحت جلده.
بدأ يفكِّر في آلي ماكفارلن، وفي أمر سمعه عن آلي في الشوارع قبيل وقوع كل هذه المشكلات. كان الناس يقولون إن آلي -والذي يُعَدُّ ثالث أكبر تجَّار دترويت- قد تلقَّى شحنة فاخرة. كان الجميع سيسعد. ليس من ذلك الخراء البُنِّي، بل البودرة البيضاء الصينية (20) ، من الأصناف كافَّة.
لم يعرف ريتشي بشكل مؤكَّد أين قد يُبقي ماكفارلن شحنة كبيرة كهذه -لم يصح معرفة هكذا أشياء- لكنه سمع في خلال مروره في أوقات مختلفة أنه إذا استصدر الشرطيين إذنًا لتفتيش منزل جروس پوينت الذي اشتراه آلي لشقيق جدِّه، فسوف يبعد آلي إلى أن يستحيل البدر في السماء ذهبًا.
قرَّر ريتشي أن يتمشَّى إلى جروس پوينت، ففي النهاية، لا يوجد شيء أفضل يفعله.
حصل على العنوان الكائن في منطقة ليك شور درايڤ للوحيد المدعو باسم إرين د. ماكفارلن من دليل هاتف دترويت وتمشَّى إلى هناك. أوشكت السماء على الإظلام مع وصوله وآلمته قدميه. لم يَعُد يحاول إخبار نفسه أنها مجرَّد تمشية اعتيادية، فقد أراد ضربة حقنة، وأرادها بشدَّة.
ثمَّة جدار رمادي مشيد من حجارة الحقول حول العقار، وتسلَّق ريتشي فوقه كظل أسود، وجُرِحت يداه من شظايا الزجاج المكسور المغروسة على قمة الجدار. عندما حطَّم نافذة ليدخل، انطلق جرس إنذار، ممَّا دفعه إلى الفرار وصولًا إلى المرج قبل أن يتذكَّر عدم وجود شركة تستجيب للإنذار. عاد مهتاجًا ومبللًا بالعرق.
الكهرباء المركزية مقطوعة، ويوجد دون ريب عشرون غرفة في هذا المنزل الملعون. اضطرَّ إلى الانتظار حتَّى الغد حتَّى يعاين المكان كما يجب، وسيسلتزمه ثلاثة أسابيع في قلب المكان رأسًا على عقب بالطريقة الملائمة، ويحتمل ألا توجد البضاعة هنا أصلًا. يا للمسيح، اعترته دفقة من اليأس المقيت، لكنه سيفتِّش على الأقل في المواضع الظاهرة.
وفي دورة المياه بالأعلى، عثر على دستة أكياس بلاستيكية كبيرة ملآنة بالمسحوق الأبيض. كانت مخبَّأة في خزَّان المرحاض، حيلة قديمة مُجرَّبة. حدَّق ريتشي إليها، سقيمًا بالرغبة، وفي باله خاطرة مغمغمة أن آلي حتمًا دفع رُشًا لكل الأفراد المناسبين ما دام تمكَّن من ترك خبيئة كهذه في خزَّان مرحاض لعين. توجد ها هنا مخدِّرات تكفي رجلًا واحدًا لستة عشر قرنًا.
حمل كيسًا واحدًا إلى غرفة النوم الرئيسة وشقَّه فوق شرشف السرير. ارتعشت يداه وهو يُفرغ «الشُّغل (21) » ويحضر الملعقة لتسخين الجرعة. لم يخطر على باله قط أن يتساءل عن درجة تركيز هذا الصنف، ففي الشارع، بلغت درجة نقاء أثقل جرعة تعاطاها ريتشي على الإطلاق 12% وأدخلته في نوم عميق جدًّا شارف على الغيبوبة. لم يحنِ رأسه من النعاس، بل ضرب الحقنة وغفل في الحال، بغتة ثمَّ غاب عن الوعي.
حقن نفسه فوق المرفق ودفع المكبس لتستقر الجرعة. بلغ نقاء هذا الصنف قرابة الـ 96%. هاجمت مجرى دمائه مثل قطار بضائع قادم بأقصى سرعة فسقط ريتشي فوق أكياس الهيروين، فغطَّى وجه القميص كالدقيق. مات بعدها بست دقائق.
***
ليست خسارة فادحة.
***
***
***
هوامش المترجم:

1- عبارة دارجة تُستخدم في الوقت الحاضر لوصف جدال عقيم مُضيع للوقت ولا يُرجى منه فائدة عملية على الإطلاق، وتذكر مصادر عديدة أن أصل هذه العبارة ربما يعود إلى نقاشات لاهوتية جرت خلال القرن السابع عشر استهدف من خلالها البروتستانت دحض أفكار الفلسفة السكولائية وطريقتها في مساءلة الأفكار، والتي بعد من أبرز روادها توما الإكويني

2- تسمية دارجة وشائعة لدى الأمريكيين لمدينة نيويورك من بين أسماء عديدة لها، مثل: «المدينة التي لا تنام أبدًا، عاصمة العالم، مركز الكون، مدينة إمپاير (نسبة للبناية الشهيرة)، جوثام، متروپولس»، لا يوجد إجماع دقيق حول سبب أو أصل تسميتها بالتفَّاحة الكبيرة، ولكن توجد رواية تقول أن أول ذكر لها جاء على يد الصحافي الرياضي چون چ. فتز چيرالد، قائلًا بأنه سمعه من عاملي إسطبلات في مضامير سباقات نيو أورلينز بسبب الجوائز الكبرى التي تُمنح للمتسابقين في سباقات الخيل النيويوركية، كما راج اللقب أكثر خلال سبعينيات القرن العشرين بفضل إحدى الحملات الدعائية.

3- چيسي چيمس (1847-1882): من أشهر الخارجين عن القانون في التاريخ الأمريكي، عُرف بسرقة البنوك والقطارات، وكان من مُناصري المليشيات الكونفيدرالية الانفصالية خلال الحرب الأهلية الأمريكية، قُتِلَ على يد روبرت فورد.

4- لم يوضِّح كِينج على الإطلاق سبب تسمية الوباء بهذا الاسم، لا في هذه الرواية، ولا في القصَّة القصيرة (مَوجُ لَيليّ) ضمن المجموعة القصصية (وَرديَّة اللَّيل) [ت: محمد عبد النبي ومحمود راضي]، والتي تدور أحداثها في نفس عالم هذه الرواية، ويُرجَّح أنه فَضَلَ ترك حرية التفسير للقراء كما يشاؤون، ولكن توجد أربع نظريات شائعة ومنتشرة بين محبي وقراء أدب كِينج حولها. تقول النظرية الأولى أنه ربما يكون مردَّ الاسم إلى الأعراض التي يسبِّبها المرض ذاته، وهي الهذيان، وصداع شبيه بصداع الثُّمالة، بالإضافة إلى الهلوسات الشبيهة كالتي تنتاب متعاطي المُهلوسات مثل ثُنائِي إيثيلاميد حَمض الليسرجيك المعروف اختصارًا بالـ LSD، وعند تعاطيها، يشرع المرء في «رحلة»، والرحلة Tripهي المفردة الشائعة بين متعاطي المُهلوسات على متلازمة الأعراض التي تنتاب متعاطيها، وجمعها رحلات أو Trips.
أمَّا النظرية الثانية، فتقول إن الاسم إشارة إلى چيري جارسيا،عازف الجيتار في فرقة (ذا جريتفُل ديد)، والذي لُقِّبَ في زمانه بـ «كابتن تِربس»، والذي عُرِف عنه عادته في دسِّ المُهلوسات في كؤوس المشروبات الكحولية لمَن حوله.
أمَّا النظرية الثالثة، فيُقال إن الاسم نسبة إلى ألفرد ماثيو هابارد (1901-1982) الذي عُدَّ من مناصري استخدام مُهلوس الإل إس دي، لأنه من وجهة نظره يُطلق الطاقات الإبداعية والمتسامية، كما أنه عُرِف في زمانه بلقب «الكابتن».
ونصل إلى النظرية الرابعة والأخيرة، وهي تتناول منشأ الڤيروس، حيث طُوِّر داخل مختبر عسكري أمريكي، ثمَّ جاء الكابتن «وهنا في هذه النظرية معناه النقيب» حين أمسك الجرة التي تحتوي على الڤيروس، فسقطت من يده «والسقوط في هذا السياق معناه بالإنجليزية Trip، المفردة الإنجليزية نفسها المُستخدمة بمعنى رحلة في النظرية الأولى» وانكسرت الجرَّة على الأرض، فتحرر الڤيروس من مكمنه مثلما حدث مع جرّة پاندورا وفق الحكاية الشهيرة في الميثولوجيا اليونانية.
إذَنْ، مع استعراض جميع النظريات السابقة، يصير أمام المترجم حلَّان: إمَّا الترجمة، وأمَّا النقحرة، لكن ترجمة الاسم ستخلق إشكالية، وهي الاضطرار إلى الانحياز إلى نظرية على حساب أخرى، أو تغليب إحداها، وهذا عكس ما أراده كِينج من تجهيل سبب التسمية، وهو ترك الحرية للقارئ في اختيار أو حتَّى وضع النظرية التي يراها وفق قراءته، وهو ما يُحِيلُنَا إلى لحل الثاني الذي رأيناه الأنسب في هذه الحالة، وهو نقحرة الاسم حفاظًا على الهدف من وراء تجهيله.

5- محمية تأسَّست في القرن التاسع عشر ليسكنها السكان الأصليين من قبيلة شوشوني.

6- يقصد ما انكشف عن تورُّط وكالة الاستخبارات الأمريكية في عمليات الإتجار في الكوكايين الخاص بحركات الكونترا، وهُم ثوار نيكاراجوا من التيَّار اليميني المدعوم أمريكيًّا في مواجهة الحكومة الشيوعية النيكاراجوية، وهو ما أدَّى إلى سلسلة من جلسات الاستماع والتحقيقات الحكومية.

7- يقصد جماعة الكو كلوكس كلان العنصرية اليمينية المتطرِّفة، وهي أول جماعة إرهابية منظَّمة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استهدفت بجرائمها فئات عديدة، من بينهم: الأمريكيين الأفارقة واليهود والمسلمين والأمريكيين اللاتينيين والأمريكيين الآسيويين والكاثوليك والمهاجرين.

8- يقصد رسام الكومكس الأمريكي روبرت كرامب، الذي يُعَدُّ من رموز الثقافة المضادة بأمريكا، ومن أجرأ رسَّامي الكومكس المستقلِّين، من أشهر أعماله Fritz The Cat وWeirdo وZap Comix بالإضافة إلى اقتباسه لسفر التكوين من الكتاب المقدَّس كاملًا إلى الكومكس.

9- مليشيا يسارية ماركسية متطرفة، نشطت بين عامي 1969 و1977، ونشأت في حرم آن آربر بجامعة متشيجان، واستهدفت بعملياتها الإرهابية منشآت حكومية بالإضافة إلى عدد من البنوك.

10- اختصارًا لـ (طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي)، وهي جماعة طلابية يسارية نشطت خلال حقبة الستينيات.

11- إشارة إلى واقعة شهيرة بطلها نشطاء من حزب الشباب الدولي، حيث أقام عدد منهم في الثالث والعشرين من أغسطس 1968 مؤتمرًا ساخرًا يقدِّمون من خلاله مرشحهم للرئاسة: بيجاسوس، والذي لم يكن سوى خنزير حقيقي.

12- اختصارًا لڤيتنام، كما في الأصل.

13- ناثان بدفورد فورست (1821-1877): رجل أعمال أمريكي، خدم في صفوف الجيش الكونفيدرالي الأمريكي خلال الحرب الأهلية الأمريكية وترقى إلى أن صار چنرالًا، وتولى قيادة جماعة الكو كلوكس كلان العنصرية بين عامي 1867 و1869.

14- يقصد رداء أفراد جماعة الكو كلوكس كلان.

15- تشارلز ستاركويذر (1938-1959): قاتل أمريكي، قتل أحد عشر شخصًا بين عامي 1957 و1958 في نبراسكا ووايومنج.

16- يقصد لي هارڤي أوزوالد الذي اغتال الرئيس الأمريكي چون كينيدي في العام 1963.

17- كان دونالد ديفريز (الشهير بسينكيه) هو المتحدِّث الرسمي باسم قوات جيش التحرير التكافلي، وهي منظَّمة أمريكية يسارية متطرفة تشكلت في أوكلاند بولاية كاليفورنيا في العام 1973، أمَّا عن الوريثة المقصودة، فهي پاتي هرست حفيدة رجل الأعمال الشهير وليم هرست، والتي اختطفها جيش التحرير التكافلي في العام 1974، ثمَّ عُثِرَ عليها بعد تسعة عشر شهرًا من اختطافها، ولكن المفاجأة أنه قد قُبِض عليها بسبب اشتراكها خلال هذه الفترة في ارتكاب جرائم مع أفراد الجيش، وحُكِمَ عليها بالسجن 35 عامًا، ثمَّ خُفِّفت العقوبة إلى سبعة أعوام فقط، ومع تولي بل كلنتون رئاسة أمريكا، أصدر عفوًا رئاسيًّا عنها في العام 2001 بعد سنوات من السجن والخضوع للمراقبة.

18- تخصُّصٌ معنيٌّ بالتعامل مع الطلاب الذين يعانون من صعوبات في التعلُّم، وتوضع لهم برامج تعليمية خاصَّة يستطيعون بها تحسين مستواهم والاقتراب من مستوى أقرانهم.

19- أي يرتدي نظارة طبية، حيث يستخدم كِينج التعبير المتنمِّر نفسه الدارج لدينا في بعض الدول العربية.

20- الاسم الحركي في الولايات المتحدة لمخدِّر معروف مُعادل للفنتانيل.

21- في الأصل Work، وهي في هذا السياق لفظة دارجة من عشرات الألفاظ المتداولة والشائعة بين متعاطي ومروِّجي المخدِّرات، والمستخدمة للدلالة على المخدرات البيضاء، وخاصَّة مُخدِّر الكوكايين، وتتيح وكالة مكافحة المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية للمواطنين عبر موقعها الرسمي على الإنترنت حصرًا شاملًا بغالبية الشفرات والكلمات السرية والدارجة عن المخدرات بأنواعها كافَّة بغرض الاطلاع والتوعية، وقد اعتمدنا على هذه القائمة في الترجمة حين ورود كلمات مشابهة في أكثر من موضع ضمن أحداث الرواية، وأوردناها ضمن قائمة المراجع في نهاية المجلد الثاني.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 11, 2025 13:39
No comments have been added yet.