تلك الأرض ـ قصة
تلك الأرض
قصة : علياء الداية *
وأخيراً، ها هو ذا قد تخرّج. أنهى سنواته الخمس في دراسة الهندسة. وقف في وسط الشارع، على بلاط المنصّف، وهو يتأمّل ما حوله. في هذه البلدة الصغيرة ليس ثمة زحام، سيارات قليلة، وبضع حافلات للموظفين والطلاّب. ينظر تارة إلى أسفل، حيث الأزهار تطلّ من بين الأعشاب الخضراء، وتارةً إلى الأمام وإلى اليمين واليسار، حيث طرفا الطريق الذي يصل شرق البلدة بغربها، وتارةً إلى فوق، إلى السماء.
لم يكن يتوقع يوماً أنه سيهبط من السماء، وينضمّ إلى هذا المجتمع الجديد. في الواقع ما حصل هو أنهم ضمّوه إليهم، مع مجموعة من سكان وطنه، وهو لا يستطيع أن يعترف لنفسه بباقي التفاصيل. هناك فجوة مغيَّبة في ذاكرته، لا يرغب في تخطّيها، لا عن طريق القصد، ولا عن طريق التجاهل.
إنه الآن يحلم بالعودة إلى الوطن، ذلك المكان البعيد الذي جيء به منه. ها قد أنهى دراسته وبات مؤهلاً ليعتمد على نفسه، وليبني وطنه وفقاً لأحدث الطرق الحضارية، وما توصل إليه العلم الحديث، و... إلى آخر هذه العبارات التي تمتلئ بها الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت.
يذكر جيداً كيف أنه يحاول مراراً أن يتواصل مع وطنه عبر الإنترنت، ولكن يبدو أنه ليس على تلك الخارطة الرقمية. وهو يحبّ هذا الشارع كثيراً، لأنه يذكّره بالشارع الرئيسي في مدينته، كانت تلك مدينة حيوية، فيها شوارع كثيرة، وزحام، وأناس كثيرون، بضائع، وشجار مقترن بالعنف أحياناً، ولكنها طبيعة الحياة. يحبّ أيضاً في هذه البلدة ذلك البناء الدائري؛ إنه النادي حيث يلتقي بأصدقاء الكلية في الطابق الأول، أما الطابق الأرضي ففيه صالة تزلج رائعة صيفاً وشتاء، والطابق الأخير فيه مناظير فلكية لمن يحبّ مشاهدة النجوم على الرغم من الغيوم المشاكسة في هذه الرقعة الجغرافية التي تغيب عنها الشمس طويلاً.
المهم لديه هو أن هذا المبنى يشبه المقهى الذي كان جده يصطحبه إليه في طفولته، مع ثلاثة من أبناء أعمامه. كان ذلك قبل انتشار الإنترنت، وقبل أن تنتشر الألعاب الإلكترونية أيضاً. كانت الـ"أتاري" حينها محدثة، وحكراً على من يشترونها مهرَّبة، أو مهووسي جديد التكنولوجيا. لقد توفي جده منذ زمن طويل قبل... قبل ماذا؟ لم يعد يذكر، إنها تلك الفجوة في الذاكرة.
يعبر الشارع ويمشي فوق العشب. ليس ممنوعاً هنا السير فوق العشب، كما كان الأمر هناك في طفولته. ولكنه يكاد يطير، يكاد يطير حقاً كما في الأحلام، حيث يمشي بسرعة، ثم أسرع فأسرع، فيغدو خفيفاً وكأنه ينتعل حذاء سحرياً، يسير فلا تمسّ قدماه الأرض، ويحسّ بالعالم كله خفيفاً، وشفافاً، كأن قانون الجاذبية معطّل، ونيوتن يضحك وهو يمسك بتفاحة صائحاً: وجدتُها!
ولكنه لم يجدها. تلك الأرض التي يحلم بالعودة إليها. بحث عنها طويلاً، وفي كل مرة يقال له إنها اختفت، موجودة على شكل كرة مائية، ولكنها خالية من السكان، خالية من البشر. تختلط الحقائق والأوهام في رأسه. الحياة، الأصدقاء، السعادة، الأشجار والنجوم والغيوم. إنه مستعد لنسيان هذا كله في سبيل استحضار ساعةٍ من ذلك الوطن... الغائب. ولذلك فهو اليوم سيجمع أغراضه من نزل الطلاب الذي يقيم فيه:
ـ منذ خمس سنوات وأنا هنا، التزمتُ بكل ما يجب عليّ الالتزام به، نلت أوسمة عديدة، احترمتُ السلام في هذا المكان، وأحببت الجميع، لم أؤذ أحداً، درستُ، وتعلمتُ، وتخرجتُ أخيراً.
أعضاء لجنة إدارة النزل يقفون صامتين.
ـ ما بالكم؟ ها قد حان وقت الرحيل، لا بد أن أذهب!
ـ إلى أين؟
ـ إلى أين؟ إلى الوطن بالطبع. تعلمون جيداً أن وطني ليس هذا المكان، وأنا أرغب صادقاً بالعودة، ولا يهمني أنكم تريدون بقائي هنا.
ـ من حقك أن تغادر، ولكن دعنا نجد لك وظيفة هنا في البلدة، أو في أية مدينة أو ريف تختاره.
ـ سأعود إلى و. ط. ن. ي!
ـ ولكنك تعلم جيداً أن وطنك ليس موجوداً.
ويضيف أحد أعضاء اللجنة:
ـ نقصد لم يعد موجوداً.
ـ لعلك تأتي معنا إلى السينما لـ...
ـ لا، لن أشاهد مجدداً ذلك الفيلم التافه. خيال علمي مقيت... لن أصدّق... لن...
وينهار الطالب الخرّيج باكياً، قبل أن يغمى عليه، وتهبّ اللجنة لإسعافه في حالة تتكرر باستمرار كل بضعة أشهر، بينما قاعة السينما المجاورة تعرض فيلماً بعنوان: "كوكب الأرض، الوطن الذي دمّرته الحروب".
* نشرت القصة في مجلة الرابطة الثقافية ـ تصدر في الإمارات ـ العدد الثاني ـ تشرين الثاني/نوفمبر 2016 ـ ص178، 179
قصة : علياء الداية *
وأخيراً، ها هو ذا قد تخرّج. أنهى سنواته الخمس في دراسة الهندسة. وقف في وسط الشارع، على بلاط المنصّف، وهو يتأمّل ما حوله. في هذه البلدة الصغيرة ليس ثمة زحام، سيارات قليلة، وبضع حافلات للموظفين والطلاّب. ينظر تارة إلى أسفل، حيث الأزهار تطلّ من بين الأعشاب الخضراء، وتارةً إلى الأمام وإلى اليمين واليسار، حيث طرفا الطريق الذي يصل شرق البلدة بغربها، وتارةً إلى فوق، إلى السماء.
لم يكن يتوقع يوماً أنه سيهبط من السماء، وينضمّ إلى هذا المجتمع الجديد. في الواقع ما حصل هو أنهم ضمّوه إليهم، مع مجموعة من سكان وطنه، وهو لا يستطيع أن يعترف لنفسه بباقي التفاصيل. هناك فجوة مغيَّبة في ذاكرته، لا يرغب في تخطّيها، لا عن طريق القصد، ولا عن طريق التجاهل.
إنه الآن يحلم بالعودة إلى الوطن، ذلك المكان البعيد الذي جيء به منه. ها قد أنهى دراسته وبات مؤهلاً ليعتمد على نفسه، وليبني وطنه وفقاً لأحدث الطرق الحضارية، وما توصل إليه العلم الحديث، و... إلى آخر هذه العبارات التي تمتلئ بها الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت.
يذكر جيداً كيف أنه يحاول مراراً أن يتواصل مع وطنه عبر الإنترنت، ولكن يبدو أنه ليس على تلك الخارطة الرقمية. وهو يحبّ هذا الشارع كثيراً، لأنه يذكّره بالشارع الرئيسي في مدينته، كانت تلك مدينة حيوية، فيها شوارع كثيرة، وزحام، وأناس كثيرون، بضائع، وشجار مقترن بالعنف أحياناً، ولكنها طبيعة الحياة. يحبّ أيضاً في هذه البلدة ذلك البناء الدائري؛ إنه النادي حيث يلتقي بأصدقاء الكلية في الطابق الأول، أما الطابق الأرضي ففيه صالة تزلج رائعة صيفاً وشتاء، والطابق الأخير فيه مناظير فلكية لمن يحبّ مشاهدة النجوم على الرغم من الغيوم المشاكسة في هذه الرقعة الجغرافية التي تغيب عنها الشمس طويلاً.
المهم لديه هو أن هذا المبنى يشبه المقهى الذي كان جده يصطحبه إليه في طفولته، مع ثلاثة من أبناء أعمامه. كان ذلك قبل انتشار الإنترنت، وقبل أن تنتشر الألعاب الإلكترونية أيضاً. كانت الـ"أتاري" حينها محدثة، وحكراً على من يشترونها مهرَّبة، أو مهووسي جديد التكنولوجيا. لقد توفي جده منذ زمن طويل قبل... قبل ماذا؟ لم يعد يذكر، إنها تلك الفجوة في الذاكرة.
يعبر الشارع ويمشي فوق العشب. ليس ممنوعاً هنا السير فوق العشب، كما كان الأمر هناك في طفولته. ولكنه يكاد يطير، يكاد يطير حقاً كما في الأحلام، حيث يمشي بسرعة، ثم أسرع فأسرع، فيغدو خفيفاً وكأنه ينتعل حذاء سحرياً، يسير فلا تمسّ قدماه الأرض، ويحسّ بالعالم كله خفيفاً، وشفافاً، كأن قانون الجاذبية معطّل، ونيوتن يضحك وهو يمسك بتفاحة صائحاً: وجدتُها!
ولكنه لم يجدها. تلك الأرض التي يحلم بالعودة إليها. بحث عنها طويلاً، وفي كل مرة يقال له إنها اختفت، موجودة على شكل كرة مائية، ولكنها خالية من السكان، خالية من البشر. تختلط الحقائق والأوهام في رأسه. الحياة، الأصدقاء، السعادة، الأشجار والنجوم والغيوم. إنه مستعد لنسيان هذا كله في سبيل استحضار ساعةٍ من ذلك الوطن... الغائب. ولذلك فهو اليوم سيجمع أغراضه من نزل الطلاب الذي يقيم فيه:
ـ منذ خمس سنوات وأنا هنا، التزمتُ بكل ما يجب عليّ الالتزام به، نلت أوسمة عديدة، احترمتُ السلام في هذا المكان، وأحببت الجميع، لم أؤذ أحداً، درستُ، وتعلمتُ، وتخرجتُ أخيراً.
أعضاء لجنة إدارة النزل يقفون صامتين.
ـ ما بالكم؟ ها قد حان وقت الرحيل، لا بد أن أذهب!
ـ إلى أين؟
ـ إلى أين؟ إلى الوطن بالطبع. تعلمون جيداً أن وطني ليس هذا المكان، وأنا أرغب صادقاً بالعودة، ولا يهمني أنكم تريدون بقائي هنا.
ـ من حقك أن تغادر، ولكن دعنا نجد لك وظيفة هنا في البلدة، أو في أية مدينة أو ريف تختاره.
ـ سأعود إلى و. ط. ن. ي!
ـ ولكنك تعلم جيداً أن وطنك ليس موجوداً.
ويضيف أحد أعضاء اللجنة:
ـ نقصد لم يعد موجوداً.
ـ لعلك تأتي معنا إلى السينما لـ...
ـ لا، لن أشاهد مجدداً ذلك الفيلم التافه. خيال علمي مقيت... لن أصدّق... لن...
وينهار الطالب الخرّيج باكياً، قبل أن يغمى عليه، وتهبّ اللجنة لإسعافه في حالة تتكرر باستمرار كل بضعة أشهر، بينما قاعة السينما المجاورة تعرض فيلماً بعنوان: "كوكب الأرض، الوطن الذي دمّرته الحروب".
* نشرت القصة في مجلة الرابطة الثقافية ـ تصدر في الإمارات ـ العدد الثاني ـ تشرين الثاني/نوفمبر 2016 ـ ص178، 179
Published on February 16, 2017 12:43
•
Tags:
خيال-علمي-سينما-الأرض-كوكب-وطن
No comments have been added yet.
علياء الداية's Blog
- علياء الداية's profile
- 778 followers
علياء الداية isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.
