آفاق التلقي في كتاب : تراثنا والجمال

تراثنا والجمال مختارات من الفكر الجمالي القديم by سعد الدين كليب آفاق التلقي في كتاب "تراثنا والجمال"
للدكتور سعد الدين كليب

د.علياء الداية

"تراثنا والجمال ـ مختارات من الفكر الجمالي القديم" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للدكتور سعد الدين كليب، عن دائرة الثقافة في الشارقة 2018 .

ويحتوي الكتاب مختارات من نصوص تراثية عربية قديمة، محورها هو الجمال وقضاياه ومفاهيمه وصوره، انتظمت هذه المختارات خمسة أبواب، كما يفتتح الكتاب بمقدمة، ومن ثم تمهيد موسّع يتناول فيه الدكتور سعد الدين كليب الأسس النظرية ورؤيته الجمالية للموروث العربي الجمالي، ويدرس أنساقاً متنوعة فيه. وعناوين الفصول هي: المقدمة، تمهيد: في تاريخ الوعي الجمالي، الباب الأول: تحديدات وأوصاف، الباب الثاني: في نظرية الجمال، الباب الثالث: في نظرية الفنون، الباب الرابع: في المتعة الجمالية، الباب الخامس: في تاريخ الذوق.

موعد مع الجمال:

لعلّ مفهوم "التلقّي" هو من أبرز المفاهيم كما تتجلى في الكتاب بقوله: "كي يكتمل وجود الموضوع جمالياً، لا بد من التلقي الذاتي المرتبط بالأذواق الفردية والاجتماعية والقومية"(ص115). ومن خلال تصفح لعناوين فصول الكتاب، ومن ثم الإبحار في المختارات التي تحتويها هذه الفصول، يبدو "المتلقّي" محوراً أساسياً وهو الشغل الشاغل لمنظـّري الجمال ومتداوليه في الزمن القديم.

ويقدّم الدكتور سعد الدين كليب لكتابه بصفحات يشير فيها إلى كتابه "البنية الجمالية في الفكر العربي ـ الإسلامي" الصادر عام 1997، ومن ثم يتبين للقارئ بأن كتاب "تراثنا والجمال" يعطي المدى المكمّل لما ورد في الكتاب السابق من أفكار وتحليلات ذات إطار نظري. فنحن في "تراثنا والجمال" على موعد مع تصفّح يمتد في أكثر من خمسمئة صفحة، على مدار عدة فصول، كل منها مقسم بحسب عناوين منفصلة ينسب محتوى كل منها إلى شخصية تراثية عربية، وهكذا يمكن للمتلقّي أن يختار ما يقرأ بحسب العنوان والمحتوى والشخصية، والأقسام يكمل بعضها بعضاً، كما يشكل كل منها مادة غنية تعطي صورة أو مقطعاً فنياً وذوقياً من الفترة الزمنية التي شغلت حيزاً فيها.

وتشمل الاختيارات مقتطفات من كتب لمؤلفين كثر منهم: أبو هلال العسكري، ابن قيّم الجوزية، الجاحظ، أبو حامد الغزالي، الكندي، إخوان الصفاء، ابن سينا، ابن خلدون، داود الأنطاكي.
ومن العناوين الفرعية: الحسن بن أحمد الكاتب.. باب الطرب، ابن سينا.. ماهية الجلال والجمال، إخوان الصفاء.. روحانية الموسيقى، أبو حيان التوحيدي.. جمالية الخط، ابن قيّم الجوزية.. في جمالات النساء، لسان الدين ابن الخطيب.. في الجمال القدسي، محيي الدين بن عربي.. متعة الهيبة، الخالديان.. هدية الهدايا، حازم القرطاجني.. الملاءمة والمنافرة، ابن خلدون.. في صناعة الغناء، أبو هلال العسكري.. فروق لغوية جمالية، أبو البقاء الكَفَوي.. في معاني الحُسن.

قضايا معاصرة:

متعددة هي القضايا والمسائل التي تشغل المتلقي المعاصر اليوم، وإن كانت السرعة وتبدل الموضة والانبهار بالجديد الطارئ سمات تقصي الكثيرين عن فرصة التفكير والتروّي أمام خياراتهم الذوقية في حياتهم اليومية، فإن هناك ظواهر في عصرنا هذا لا بد من أنها استوقفت معظم الناس لتأملها ولو لثوانٍ قليلة، هذه الظواهر نفسها نعثر عليها بين سطور الكتاب، ونستنتج بأنها قد استوقفت في ذلك الزمن مفكرين قدماء في نصوص تراثية، وربما نتعجب من أنها مطابقة لما نراه في زمننا الراهن شكلاً أو فكراً.

ومنها مثلاً ما انتشر بين الفتيان من أشكال الرؤوس غير الاعتيادية بالأشكال الناجمة عن تفاوت حلاقة الشعر: "وكذلك عادة تجديل الشعر أو قصه وحلاقته بطريقة معينة، من مثل حلاقة القزَع للفتيان، وهي أن يُحلق بعض رأس الصبي ويُترك بعضٌ منه، أو يُحلق الرأس في مواضع متفرقة منه."(ص76)

وليس ببعيد عن ذلك وصف ملابس الرجال والنساء، مما نجده ينطبق على ملامح الأزياء في أيامنا المعاصرة: "وقد كانت ملابس الرجال تتصف غالباً بالبساطة والخشونة والضآلة أو القلّة على العموم، أما ملابس النساء فتتميز بكثرة النقوش والألوان وجودة الصنع وغلبة الأقمشة المصنوعة من الحرير".(ص76)

جماليات الغناء:

ومن هذه القضايا المقاربة لنا في التلقّي المعاصر الصراع الذوقي بين القديم والجديد في الموسيقا، فالنغمات القديمة قلّما يحبّ عامة الناس الاستماع إليها في وسائل المواصلات وحفلات الأفراح مثلاً، وبعضهم قد يتقبل سماعها ضمن احتفال طقسي أو لفترة محدودة لا تنافس الساعات الطوال من التشغيل العشوائي والمتكرر للأغنيات الدارجة التي سرعان ما تُنسى بعد زمن أكثره عام أو عامان. "فالحسن بن أحمد الكاتب ينعى على أبناء زمنه، القرن السابع الهجري، أن كثيراً منهم "إذا سمع أشعار العرب التي قيلت في الديار والرسوم والآثار...، يستغثّها ولا يطرب لها ويضحك منها"، وكذا هي حالهم في الغناء أيضاً؛ حيث "إنّ بعض الناس يسترذلون الغناء القديم الجيّد، فإذا سمعه لوى شدقه وقال: هذا عمل مشْط الحديد، ورحم اللـه آدم، ورحم اللـه أبا قابوس، وهذه أساطير الأولين".(ص118)

وثمة انتقاد يصرح به متذوقو الفن الأصيل في الأزمان السالفة، حيال معاصريهم من عامة مبدعي الأغنيات المؤقتة السريعة، فهم "اقتصروا على ما يصوغون بزعمهم، ويحركون في حسابهم، ويُحدثون بمنزلة الحديث من الفاكهة، ولا تلبث أغانيهم إلاّ يسيراً حتى تغنى كغناء الفاكهة، ثم يُحدثون سواها فلا يزالون في كل سنة يتركون ما كانوا أحدثوه في العام الذي قبله، ولسنا نجد أخذ أغانيهم، ولا نسبتها إلى أحد منهم".(ص357) أمـّا "الغناء القديم فهو ذا تراه يتكرر على مسامعنا طول الزمان، وفي كل وقت وأوان، ويتناقله المغنون من أوله إلى هذه الغاية فلا تمله النفوس، ولا تمجه الآذان ولا تخلقه الأيام، وكل يوم يزداد حسناً وطراوة، فما خرج من المحدث عن طريق القديم فإنه قلّ ما يُستحلى ويُحب. وسأل الرشيد إبراهيم بن ميمون الموصلي عن الغناء القديم فقال: الغناء القديم كالوشي العتيق الذي يُعرف فضله، ويتبين حسنه بتكرار النظر فيه والتأمل له، فكلما ازددته تأملاً ظهرت لك محاسنه، والغناء المحدث كالوشي الحديث الذي يروقك منظره، فكلما تأملته بدت لك معايبه، ونقصت بهجته".(ص357 ، 358)

نظرات في الموسيقا والطرب:

وتستغرق الموسيقا اهتمام قدماء المفكرين والكتّاب، فهي مظهر للاحتفاء بالجمال، له متلقوه الكثر من عامّة الناس وخاصتهم، كما يبين الدكتور سعد الدين كليب: "إن المقابلة بين الخاصة والعامة، وهي مقابلة اجتماعية وثقافية ومعرفية، تعني أنّ ثمة نوعين عريضين اثنين من الذوق العام، الأول شعبي مبذول، لعامة الناس، وهو متفاوت بحسب طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية؛ والآخر رسمي ومعتمد على أنه "الطبع السليم" أو معيار الذوق العام المثالي في المجتمع أو الأمّة كلها، تمثله الخاصة أو النخبة بوصفها كتلة لا بوصفها أفراداً بالضرورة".(ص119)
وكذلك نلمس في الجانب النظري ما يقوله ابن خلدون، ففي أوقات الحروب سواء طالت أياماً أو سنوات تتلاشى الأفراح حين يسطو الخوف على مشاعر الناس وخطواتهم اليومية فلا يستطيعون استحضار الفرح ومعايشته لأن الأمان متطلبه الأساسي: "وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع، لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف، إلاّ وظيفة الفراغ والفرح، وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه".(ص392)

ويختلف تقدير الغناء والاستمتاع بالألحان المرافقة له بحسب الشعوب والأقوام والثقافة الشخصية للمستمع، كما يقول إخوان الصفا: "وهكذا أيضاً أنك تجد في الأمة الواحدة من هذه أقواماً يستلذّون ألحاناً ونغمات، وتفرح نفوسهم بها، ولا يُسرّ بها مَن سواهم. وهكذا أيضاً ربما تجد إنساناً واحداً يستلذّ وقتاً ما لحناً ويُسرّه، ووقتاً آخر لا يسلتذّه بل ربما يكرهه ويتألّم منه. وهكذا تجد حُكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم وفي مشموماتهم وملبوساتهم وسائر الملاذّ والزينة والمحاسن، كلّ ذلك بحسب تغيرات أمزجة الأخلاط، واختلاف الطبائع، وتركيب الأبدان، والأماكن والأزمان".(ص312)

إنّ "أقل الناس علماً بالغناء أسرعم طرباً على كل مسموع، وأكثر الناس علماً به وأشدّهم تقدماً في معرفته، أبعدُهم طرباً له، وأقلُّهم رضى بما يسمع منه"، كما يقول الحسن بن أحمد الكاتب(ص350) وهذا كله غير ممكن إلاّ بوجود المطرب أو العازف الذي يوصل الموضوع الفني إلى متلقيه، مما نجده في كلام أبي حيان التوحيدي: "أخذ الصبيّ في فنه، وبلغ أقصى ما عنده، فترنح أصحابها وتهادوا وطربوا. فقلت لصاحب لي ذكي: أما ترى ما يعمل بنا شجن هذا الصوت، وندى هذا الحلق، وطيبة هذا اللحن، وتفنن هذه النغمة؟!"(ص334) و"شبيه بما رواه المرزباني نجده في كتاب الأغاني، حول صناعة الألحان لدى معبد المغنّي، كقوله: "واللـه لقد صنعتُ ألحاناً لا يقدر شبعان ممتلئ ولا سقّاء يحمل قربة على الترنم بها، ولقد صنعت ألحاناً لا يقدر المتكئ أن يترنم بها حتى يقعد مستوفزاً، ولا القاعد حتى يقوم". أما ابن سُريج المغني فقد قيل فيه: "كأنه خُلق من كل قلب، فهو يغني لكل إنسان ما يشتهي".(ص74)

تراثنا الجمالي نظرياً:

إن الدكتور سعد الدين كليب يجيب في الأقسام النظرية من الكتاب عن الأسئلة التي قد يسألها القارئ في الأقسام الفنية والذوقية، فيبين الأسس الفكرية التي تشكّلت مع امتداد الزمن ومع ترسّخ الجانب الحضاري العربي الإسلامي، وما انضوى في هذه الأسس من نظرات جمالية في مفاهيم عدة منها الجمال والجلال والكمال. وسيبدو لنا أن هذه المفاهيم ارتبطت بالتصورات الفلسفية التي تقوم على المشاهدة التأملية للكون، قريباً من وعي العالم الداخلي للإنسان، وإحاطته بواقع مريح في وعيه الوجودي والنفسي. وهكذا فإن الجانب النظري يقدّم ذوقه الفلسفي الخاص، وتصنيفه المتفرد بحسب ما يود التعبير عنه من الظواهر التي يعيها الإنسان.
كما أنّ تمهيد الكتاب الذي يغطي حوالي مئة صفحة منه، مهم لفهم بنية فصول الكتاب وآلية حركة أفكاره ونماذجه المختارة، فمن خلال "تاريخ الوعي الجمالي" انتقال في الشرح والبيان من الأكثر عمومية كـ"الكائن الجمالي" و"الوعي والفن" و"الوعي والأسطورة"، إلى الأكثر تخصيصاً كـ"الوعي والأدب" و"الوعي والفلسفة"، وصولاً إلى "الفكر الجمالي في الحضارة العربية ـ الإسلامية" و"الأنساق الجمالية ـ المعرفية" و"في المنظومة الجمالية العربية" وهي العناوين التي يبين فيها الدكتور سعد الدين كليب منهج الكتاب واتجاهه والنقاط الفارقة فيه وأهم محطاته الفكرية.

فـ"مع مطلع القرن الثالث للهجرة سوف يتشكّل الفكر الجمالي - النظري، وسوف نشهد النظرات الكلامية والفلسفية لما هو جميل وقبيح وجليل خاصة، مثلما سوف نشهد التنظيرات النقدية الأدبية والفنية الموسيقية، وقد صيغت بلغة اصطلاحية تجريدية، أو صيغت بنظرة منطقية منهجية، تأخذ بالاعتبار علاقة الجزء بالكل، أو علاقة البسيط بالمركب، أو الحسي بالروحي، كما تقوم على نوع من الإحصاء والمقارنة والتأويل، مما نجده لدى الجاحظ والكندي رائدي هذا الفكر."(ص83) و"في حين كان للفلاسفة والمتكلمين الإسهام الأول، كالجاحظ والفارابي والتوحيدي وإخوان الصفا وابن سينا، كان للمتصوفة والفقهاء، كالغزالي وابن عربي وابن الدباغ والجيلاني الإسهام الثاني لاعتبارات تاريخية ومعرفية معاً. أي أن التفكير النظري في الظاهرة الجمالية يعود إلى الفلاسفة وعلماء الكلام أولاً، ثم امتدّ إلى المتصوفة والفقهاء، ممن انشغلوا بها نظرياً."(ص95)

الجاحظ والكندي وحازم القرطاجني:

ويوضّح الدكتور سعد الدين كليب نظرته إلى البيئة التي تنشأ فيها النظرات والأفكار الجمالية في التراث، في تحليل يتأمل الحركة الفكرية بمراحلها ومؤثراتها واتجاه نموها، فـ"لقد كان للفلاسفة إسهام بالغ الخطورة في بلورة كل من نظرية الجمال ونظرية الفن، في تراثنا القديم. وقد لا نجد من غير الفلاسفة من اعتنى بهذين الحقلين معاً، إلا إذا كان متأثراً بهم من مثل حازم القرطاجني خاصة. فبالرغم من أن اشتغال القرطاجني ينضوي تحت النسق البلاغي أساساً، فإن نظراته الجمالية والفنية العامة لا تخفى على الناظر، فغالباً ما يعمم أحكامه وتوصيفاته البلاغية الخاصة بالشعر على الفنون، بما فيها الرسم والنحت. بل على الجمال في الطبيعة أيضاً، كحديثه عن حسن موقع المحاكاة في النفس. حيث يذهب إلى أن النفوس جبلت على التنبه لأنحاء المحاكاة والالتذاذ بها، ولذلك فهي مولعة بالتخييل والانفعال به، ولا أدل على ذلك من التذاذ النفوس حتى بالصور القبيحة المستبشعة حين تكون منقوشة أو مخطوطة ـ أي مرسومة ـ أو منحوتة. وكلما بلغت تلك الصور الغاية القصوى من الشبه بالمحاكى كان موقعها من النفوس مستلذاً، لا لأنها حسنة في ذاتها. بل لأنها حسنة المحاكاة".(ص96) "علماً أن للجاحظ حضوراً في معظم الأنساق الجمالية. فهو يقدم لنا مادة معرفية موضوعية وذاتية معاً، في الآداب العامة والبلاغة والفنون والأزياء والأذواق وجمالات النساء والرجال"(ص109)، فقد "كان الأصمعي وابن سلاّم الجمحي وسواهما يختطـّون بعض الملامح النظرية الأولية في النقد الأدبي؛ وهو ما سوف يتطور ويتردد صداه في القرن الثالث، لدى الجاحظ والكندي اللذين يمكن اعتبارهما رائدي التفكير الجمالي، ولاسيما في مبحث الجمال ومبحث الفن معاً... فمع الجاحظ والكندي أصبح بالإمكان الحديث عن نظرية في الجمال والفن ذات أسس عامة، تستند إلى الخبرة والمعرفة النظرية والمعالجة العقلية، أكثر مما تتكئ على الانطباعات الذوقية والتعبيرات الإنشائية والأحكام غير المعللة، كما كان سائداً قبلهما في الأعمّ الأغلب". (ص72 ، 73).

وقبل ذلك كله يمضي تمهيد الكتاب إلى ما قبل زمن المختارات الجمالية، إلى العصور القديمة التي أثرت في حياة العرب وبيئتهم الثقافية، فالشعر عند العرب قبل الإسلام: "فيه من الغنى الثقافي الدال على جملة عريضة، من الجماليات بأنواعها وأشكالها ومستوياتها، ما يجعلنا على معرفة جيدة نسبياً بالوعي الجمالي لدى العرب قبل الإسلام، وما بعده مباشرة أيضاً. غير أن الشعر ليس هو المصدر الوحيد أو شكل الوعي الأوحد. فهناك الأمثال الشعبية والمرويات السردية والأساطير والخرافات على قلة ما بين أيدينا منها؛ وهنالك ما وصلنا من أقوال حول أدوات الزينة وطرائقها، وأشكال الأزياء واللحى والعمائم، والألعاب الجماعية كسباق الخيل والنوق والمنافرة والمسامرة، مما استمرّ بعضه إلى ما بعد الإسلام، وتخلّف بعضه لاعتبارات دينية أو مجتمعية."(ص74)

لفظ الجمال ومتعلقاته:

أما لفظ الجمال نفسه وما يرتبط به، فقد اختصـّت به فصول وعبارات تنصّ عليه وتشير إلى حدوده، فأبو هلال العسكري يميز بين الحُسن وكل من الوضاءة والقسامة والوسامة والبهجة والصباحة والجمال، ويميـّز بين الجمال وكل من النبل والبهاء والسرور والتمام، وبين السرور وكل من الفرح والحبور، وبين القبح وكل من الوَحِش والسماجة، وبين الهم والغم، وبين الحزن وكل من الكرب والكآبة.(ص147)

ويحدّد ابن قيّم الجوزية: "اعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر وباطن. فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة".(ص499) ويقول كذلك: "وهذا فصلٌ في ذكر حقيقة الحُسن والجمال ما هي. وهذا أمر لا يدرك إلاّ بالوصف، وقد قيل: إنه تناسب الخلقة واعتدالُها واستواؤها، ورُبّ صورة متناسبة الخلقة وليست في الحسن هناك. وقد قيل: الحسْن في الوجه، والملاحة في العينين. وقيل الحسْن أمرٌ مركب من أشياء: وضاءة وصباحة وحُسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشرة. وقيل: الحسن معنى لا تناله العبارة ولا يحيط به الوصف، وإنما للناس منه أوصافٌ أمكن التعبير عنها".(ص505) ويمضي داود الأنطاكي إلى مفهوم الحُسن، إذ "الأصل في المحاسن والمطلوب عند العقلاء، في كل المواطن، إنما هو إصلاح السرائر وتهذيب البواطن لا الظواهر، وإنما ضُمّ إصلاح الظاهر إلى ما ذُكر طلباً لتحصيل الكمال ودلالة في الأغلب على الاعتدال... وقال بعضهم: الحسن الصريح ما استنتَطق بالتسبيح، أو هو تناسب الخلقة واعتدال البشرة وصفاء المادة، أو مركّبٌ من الوضاءة والتناسب والصباحة".(ص521، 522)

وبحسب ابن الدباغ "فالجمال الظاهر يُفهم بواسطة الحواس والقوى البدنية، والجمال الباطن تفهمه النفسُ من ذاتها بذاتها، لكن بإفادة العالم الأعلى".(ص439) ويذهب حازم القرطاجني إلى تصنيف القول، فـ"الأقاويل منقسمة بهذا الاعتبار بحسب البساطة والتركيب إلى سبعة أقسام: أقوال مفرحة، وأقوال شاجية، وأقوال مفجعة، وأقوال مؤتلفة من سارّة وشاجية، ومن سارّة ومفجعة، ومن شاجية ومفجعة، ومؤتلفة من الثلاث. وكانت النفوس تختلف فيما تميل إليه من هذه الأقسام بحسب ما عليه حالها، فإنها ليست تميل إلا إلى الأشبه بما هي فيه".(ص383)
*
ففي هذا الكتاب "تراثنا والجمال" الذي يجمع بين دفتيه عناصر تتجانس فيما بينها، وتمنح القارئ فرصة نادرة للجمع بين النصوص الفنية الذوقية والفكرية الفلسفية، في إطار من الجمال وتفرعاته من الحُسن والملاءمة والموافقة، إضافة ثمينة إلى المكتبة العربية وإلى الأجيال الجديدة من القراء الذين سيجدون ما يشدهم إلى قراءة التراث بروح الجمال.
*

رابط المقال في موقع ميدل إيست أونلاين: الأربعاء 27-6-2018
https://www.middle-east-online.com/%D...تراثنا والجمال مختارات من الفكر الجمالي القديم
4 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on July 14, 2018 11:48 Tags: تراثنا-والجمال-جمال-المتلقي-عصر
Comments Showing 1-1 of 1 (1 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Abu Hasan (new)

Abu Hasan محمد عبيد شكرًا د. علياء للتعريف بالكتاب


back to top

علياء الداية's Blog

علياء الداية
علياء الداية isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow علياء الداية's blog with rss.