وتحرَّرت مِنكَ فَراشةُ رُوحي

(1)
كانت البدايات جميلة والنهايات كارثة، كان احتلال روحي منك سعادة مؤقتة لم تكتمل ككل الاحتلالات التي يليها الخراب، كان الاقتراب منك هو الخطأ الأول والاستماع لحديثك المعسول باقي الأخطاء كلها، كان السفر لك والالتجاء إليك في المحن هو بدايات الخطيئة.
طالت رحلتي بعيداً عنك وقصرت رحلتي في القرب منك، وددت لو أتمكن من الهرب من التحليق بعيدًا جدا عنك كي لا تطاردني جنياتك ولا لعناتك ولا سحر ابتسامتك، وددت دوما أن أتوقف عن أرى شبح خيال ابتسامتك في فمي وفي شفتي وفشلت.
اليوم خرجت أخيرا من الباب الذي نسيت نفسي فيه، خرجت من أضيق أبواب النسيان وأنا أتذكر من أنا وأنسى من أنت خرجت بعد معاناة طويلة في أيام طوال لا تنتهي وليالي سوداء قاتمة كمثل لون بؤبؤ عينك الذي غرقت فيه من زمن.
ارتحل مهزوماً طريدًا شريدًا راغبًا في أن أكون في أقصى أقصى مسافة في البعد عنك، رحلت مهزوما بإرادتي لأن الخطأ في البدايات خطأي أنا والخطأ في النهايات خطأي أنا.

(2)
تحررت منك فراشة روحي فطارت بهية الطلعة حزينة الأجنحة وكسيرة الألوان لم نستطيع إنقاذ إلا الأخضر من الألوان من براثن حرب خضناها معك، لم نستطيع أن ننقذ كل الحروف والكلمات ولكن أنقذتنا الهزيمة منك بشرف، وأنقذتنا الوكسات المتتالية لنصبح نحن دونك مكتملين دون نقصان.
باتت الفراشة الوليدة حائرة لكن سنجد في الطريق ما يجعلنا نكمل من دونك وأن كنا مهزومين وأن كنا حيارى وأن كنا لا نجد الطريق ولا نقتفي الأثر فالأثر لك فاسد والأثر عنك مهلكة.
ندخل في باب واسع من الهزيمة اليتيمة التي يحملها قلب الفراشة وتطير بها وتحلق بعيدا عنك في السماوات وفي علين حيث لا نجد مكان يذكرنا بهزيمتنا وأن كنا نرغب دوما في أن نتذكرها ولا ننساها ما حيينا حتى نعش كشرخ في قلب الفراشة يذكرنا دوما بما مضي وما حدث.
كانت أخطاء الماضي تدفعني للزود عن هزيمتي وللبحث عن أسبابها ولكن نظرة الفراشة الحزينة جعلتني أتوقف عن فعل هذا وعن البحث عن الأسباب وعن معرفة فراشات أخريات يبدون بكل هذا الحزن ويبدون بكل تلك البشاعة في قلوبهم الصغيرة الدافئة.

(3)
ككل الأبواب التي دخلتها وعلينا أن ندخلها علينا أن نقدم فروض الولاء للدخول والاستكانة للهزيمة ليست مدعاة للفخر ولا جلبا لنصر لا نرومه ولا نطلبه ولكن علينا أن ندخل ذلك الباب علينا ان نهزم كي نتوقف عن تقفي الأثر علينا أن نعلن هزيمتنا واضحة وجلية للأعين وللناظرين علها تسرهم أو هي فعلا تسرهم؟
لن نعرف لأننا لن نلقيهم مرة ثانية فقد حققنا لهم أخر وعودهم ألا تكن تلك المرة الأخيرة في اللقاء وقد كانت فأحرص على كلماتك التي تتفوه بها لأنها ستتحول لحقيقة طال العمر أو قصر.
تدخل فراشتي التي تحررت من سجن كلماتك وسجن روحك مهشمة نعم، خاسرة نعم، لا تقوى على الطيران ولا تقوى حتى على الوقوف وحدها، ولكنها مني فهي قوية مثل ما كنت وشجاعة مثل ما كنت أنا وغير خائفة لا تخاف وأن تمت هزيمتها بشدة لا تخاف وأن تكسرت أجنحتها فغداً سينبت لها أجنحة وسيكبر قلبها ويزورها الدفء وتنزل عليها السكينة والمودة بعيدًا عنك لن تصبح خائفة وستصبح مطمئنة بي بعد تحررها منك.
(4)
تعبر من باب الهزيمة مصابا ذا قلب معطوب وروحا شائخة وجراح دافئة لا زال الدم يقطر منها، تعبر وأنت تبتسم فلازت دوما تفعل ذلك ولا زلت قلبك يبتسم حتى وهو منكسر، أي روح أتت فراشتك وأي قوة منحتها فراشتك، فراشتك التي مهكت أجنحتها بأصابع كلماتها وحبستها وراء الباب فلا تركتها ترحل ولا تركتها تبتسم كأن الابتسامة عكس الهزيمة، فبابتسامة وحيدة حولت نصرهم لهزيمة وحولت هزيمتك لنصر فريد من نوعه فتلاشت هزيمتك وتلاشى انتصارهم في الوقت ذاته.
لم تعد تخونك الكلمات فالهزائم كلها أصبحت واحدة نهزم فقط عندما نعترف بذلك وأنت قبل أن تدخل من هذا الباب اعترفت بهزيمتك وحنينك لأن تقضي وقت أطول مع فراشتك الحبيسة التي تحررت من سجنها اشتقت أن تقضي وقت أطول معها وأن تحادثها عما مررتما به وعما حدث في باب النسيان قبل أن تطرقا باب الهزيمة تتساندا معا كي تمرا وتعبرا لأبواب أخرى لأن الرحلة ممتدة والأثار كلها تالفة.
تنجذب الفراشات للنار وتنجذب أنت للساحرات، بُطلت النيران وبطل مفعول الساحرات من زمن الانعتاق، الفراشة التي تحررت ستحميك من كل شيء، ستحاوطك وتتساندا معاً كتفا إلى كتف إلى أن تنتهي أثار الهزائم والحرائق وتعود الأجنحة للتحليق وتكف الأعين عن ذرف الدموع ويكف القلب عن تقبل الهزائم كما هي.
(5)
نحتاج لأن نجعلها تمر، نحتاج لأن نداوي جراح الفراشة فالفراشات بعد الأسر تصبح ضعيفة لا تقوى على أي شيء، تحتاج الفراشات لمزيد من الابتسامات لأن نجعلها تحب نفسها مرة ثانية لأن تحلق عالية لتصبح الهزيمة ذكرى مرت ولن تمر ثانية بها.
الهزيمة ليست يتيمة إبدا بل لها من الاباء الكثير ومن الأمهات الأكثر كل منهم ينادى بأنها هزيمته الخاصة وهزيمته الذاتية، الكل في ذلك الدرب يبحث عن ان يزود عن الأخرين في هزيمتهم، لا يمنحهم الانتصار أي شرف أو فخر، الهزيمة هي من تفعل، من هزم أكثر من من؟ لا أحد يبالي، كلنا سواسية فيما وراء هذا الباب، كلنا نصطحب فراشاتنا الوحيدة الجريحة لنجعلها تحلق بعيدا عن أثار تلك الهزيمة ولنجعل قلبها من جديد يخفق ويتدفق فيه الابتسامة التي سلبوها منها ومنك.
في عين الفراشة عين الساحرة تسكنها وفي عيني عين النار التي تخافها الفراشة، كلنا مرتبطون إلى نهاية هذا الباب، نعبر معا ونغادر معا، أن اقتربت أكثر أنا من فراشتي تحرقها النار التي في عيني وأن اقتربت فراشتي مني قليلا تحرقني الساحرة التي تسكن عينها، فنبدو أننا تقبلنا هزيمتنا ولكنها عبرت معنا وأقسى الهزائم هي التي تعبر معنا ولا ننساها في عالم النسيان المريب الذي مررنا به، سنخوض معركة أطول وأشرس في ما يلي من وقت، حتى تغمض الفراشة عينها وأغمض أنا عيني ونسير معاً دون أن نرى فنكف عن رؤية الأثر ونكف عن تقفيه ونكف عن إلا نصل، فنصل.
_______________________________
أول ما جاء في باب الهزيمة
الكتاب الثاني
ثلاثية الهم
عطية
27 يناير
2020
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 27, 2020 00:07 Tags: و_سأظل_أقتفي_أثرك_و_لا_أصل
No comments have been added yet.