زينة الحلبي تكتب: كيف تصير كاتباً وقارئاً معاصراً

بدأت قصة حرز مكمكم (2020) مع الكتابة والقراءة عندما أقدم أبٌ مصريّ ذات يوم على شراء عدد من مجلّة أخبار الأدب «ليُنير عقول بناته بالقراءة»، فوقعت عينه على فصل من رواية استخدام الحياة (2014) للمدوّن والصحفي والروائي أحمد ناجي. زعم الأب الحريص على ثقافة بناته وعفّتهن بأنّ الفصل المنشور يتضمّن موبقات لفظية تجرح مشاعر بناته وتشجّعهن على الرذيلة، فتقدّم ببلاغٍ ضد أحمد ناجي ومدير تحرير المجلة، فاستكملت النيابة العامة التحقيق.

أقرّ الادعاء آنذاك بأنّ حرية التعبير الفنية والأدبية التي «من شأنها النهوض بالوطن وإرساء الآداب والأخلاق والحث على التمسّك بهما» (حرز مكمكم، 154) مكفولة في مصر، لكنّ ذلك لا ينطبق على ناجي لأنه، وهنا لبّ الحجّة، ليس بأديب. فكيف يمكن تصنيف النص أدبياً حين يحوي معاني ولغة خارجة عن الأدب؟ وكيف يُعتبر ناجي أديباً عندما يجعل من نصّه المنشور مساحة لنشر الرذيلة؟ ليست رواية ناجي أدباً إذاً، ولا يستحقّ صاحبها حصانة الأدباء، فوجبت محاكمته كأي مواطن آخر أخلّ بقانون الآداب العامة1. طرحت محاكمة أحمد ناجي أسئلةً لم تبدأ مع محاكمته بالطبع، لكنّ المحاكمة جعلتها أكثر راهنية: ما هو الأدب؟ من هو الأديب؟ وما معنى أن يناقِش معنى الأدب قاضٍ في محكمة يحرسها العسكر.
1. راجعوا مقالة العنف المضمر في النقد الأدبي المعاصر التي تنظر بحجّة الادعاء المصري عن علاقة ناجي بالأدب وبطيف طه حسين الذي استدُعي إلى المحاكمة.

آنذاك، لم يكن ناجي يعتبر نفسه أديباً أو كاتباً، بل رأى نفسه «صحفياً أحياناً، عاملاً باليومية في سوق الإعلام، عاطلاً عن العمل، مستمنياً فكرياً، حلم يقظة، كرسياً بثلاث أرجل، مراهق فكرياً، كاتباً ربماً» (91). لكن، بعد ثلاثمائة يوم في السجن، خرج أحمد ناجي كاتباً وفي جعبته حرز مكمكم. لم يكتب ناجي رواية سجن، بل كتاباً يتحدّث فيه عن تجربته مع «القراءة والكتابة داخل السجن» (الغلاف الداخلي)، كممارستَيْن لهما تاريخ وأيديولوجيات وحرّاس. يطرح ناجي في حرز مكمكم مقاربات بديلة للقراءة والكتابة لا يتمايز فيها عن الأدب والأدباء الذين تجيزهم مكتبة السجن فحسب، بل يتخطّى حدود الأدب الحديث ويقدّم أداءً معاصراً في ممارسة القراءة والكتابة.

القراءة في مكتبة السجن
وُجدت مكتبة السجن لتؤدّي دوراً تأهيلياً وتأديبياً. وكان ناجي يتردّد إليها بإخلاص من ضاقت خياراته، ليعثر فيها على كتب ليس في ظاهرها ما يدلّ على الترابط في ما بينها: سيرة جيهان السادات، كتب متفرّقة لطه حسين، روايات من الأدب المصري الواقعي يرى فيها ناجي تعبيراً عن «سأم ستيني بامتياز» (75)، روايات وقصص لنجيب محفوظ، أعمال لكتّاب معارضين وآخرين ارتبط اسمهم بشكل وثيق بالأنظمة المتتالية، منهم يوسف إدريس وأنيس منصور الذي قرأه ناجي مرتين: الأولى في المدرسة الرسمية، والثانية في السجن الرسمي. تضمّ مكتبة السجن أيضاً كتباً دينية، قليلها مسيحي وأكثرها إسلامي، كتباً تراثية، وأخرى استشراقية، وكتباً عديدة من البيست سيليرز.

ما يجمع بين كل تلك العناوين والأنواع المختلفة التي تمتدّ على عدّة مراحل تاريخية وأدبية، هو القيّم الذي يملك سلطة النشر وسلطة الانتقاء وسلطة التأديب، أي حلف الأمن والأخلاق الذي يهدف إلى إصلاح السجين المصري وتأهيله. يقرأ ناجي تلك الكتب فتتجلّى أمامه أنماط من الكتابة ترسّخت في مقتنيات مكتبة السجن وعنابره، يجمعها ناجي في تعبير واحد:

العظمة. الخلود. الرسالة. التنوير. ترتقي بالناس. تعلّم الشعب وتنير دربه. فضل الشطافة في الدول الإسلامية على سائر إنجازات الحضارة الغربية. الأصالة والمعاصرة. لماذا تخلّف العرب وتقدّم الآخرون؟ الأنا والآخر. الشرق والغرب. مصر التي بناها الحلواني.

- حرز مكمكم. 130

يضع ناجي في هذا الوصف المتقطّع السريع سردية مكتبة السجن لتاريخ الأدب منذ عصر النهضة: بدءاً بالأدب التنويري الذي تعكس جمالياته قيم طبقة المتعلّمين وتحمل رسالة تنير عقول القراء، ثمّ الآداب الإسلامية النظيفة التي تحتار في لعبة التمايز الحضاري عن أوروبا، والآداب التي تسيّرها الأسئلة التي شغلت النهضويين كما المثقفين الملتزمين وكتّاب ما بعد الاستعمار حول علاقة الشرق بالغرب وضرورة الالتفات إلى الذات العربية في نكساتها المتتالية، بالإضافة إلى كليشيهات أخرى ينضح بها الأدب القومي التوجيهي. هذه هي إذاً مكونات مكتبة السجن: أدب يتخيّله السجّان أداة لإصلاح من تاه عن السرد الرسمي.

تجمع مكتبة السجن الشخصيات الفكرية التي تمثّل التيارات الأدبية المتتالية. ولعلّ الشخصية الأدبية الأكثر حضوراً في نص ناجي هي الأديب طه حسين الذي يمثّل خطاباً تنويرياً مؤمناً بسمو الأدب وارتقائه. تعرض كلٌّ من طه حسين وناجي للتحقيق بسبب كتاب نشراه، لكنّ دعوى الأول حول كتابه في الشعر الجاهلي (1926) أُسقطت لعدم إثبات نيّة الجرم2، بينما سُجن الثاني لعدم إثبات نيّة الأدب.
2. راجعوا تحقيق خيري شلبي عن محاكمة طه حسين في محاكمة طه حسين. بيروت: المكتبة العصرية، 1972.

يستقبل ناجي طيف طه حسين فيبدو وكأنه يتخبط بتركة الأديب التنويري. يحاكيها بما يحتاج إليها اليوم كي يواجه التسلّط القانوني المحافظ من دون أن يغفل عن تقادم الخطاب التنويري وخوائه بعدما استحوذت الأنظمة المتتالية عليه وسلّطته بوجه القول السياسي المعاصر، فأفرغته من معناه. يظهر هذا التخبّط في وصف ناجي للتنوير بشكله النظامي كما يتجلّى في «مدرسة طه حسين الرسمية» التي انتقل إليها ناجي من مدرسته الخاصة الابتدائية التي كانت تجمع بين التعليم الديني وتعليم اللغات. يشبه ناجي «مدرسة طه حسين» بالدولة من حيث مبانيها المهملة والمنهارة تماماً، وبسجن لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي عرفه ناجي، خارج حرم المدرسة مقابر ومصرف زراعي آسن «تطفو على سطحه طبقة رقيقة من الطحالب والعفن» (29). لكن، بالرغم من استحواذ السلطة على مدرسة طه حسين - بمعنييها المادي والفكري - وضمّها إلى مؤسساتها المتداعية، فإن لتلك المدرسة فضل على ناجي. فيها تعرف ناجي إلى كلاسيكيات الأدب العربي والعالمي المترجم وعلى أساسيات علم النفس والفلسفة. لا يتخبّط الكاتب- السجين مع شخص الأديب التنويري إذاً، بل مع إرثه الذي أمّمته السلطة وضمّته إلى مؤسساتها التأديبية.


---
المقال كاملا متاح على موقع الجمهورية
https://www.aljumhuriya.net/ar/conten...
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 29, 2021 19:22 Tags: حرز-مكمكم
No comments have been added yet.