الحطابون في غابة الشوك
يَغول الروائي السوداني حامد الناظر في رواية الحطّابون الصادرة عن دار الرواق في عالم الصحافة المرئية، ويطرُق بابًا قليل الطرق في عالم الرواية حيث يُسلِط أضواء على مشاهد مختلفة من حياة العاملين في الإعلام. كيف تُعَد النشرات، وكيف تُصدَر الأخبار، وبأي لُغة تُكتب، وكيف تعوم القنوات الإخبارية لسنوات مع تيارٍ ثم تسبح فجأة ضده تمامًا، ومتى تَموع الأخبار فيتحول الشهيد إلى قتيل، والمُعتدي إلى ضحية، وتغوص فجأة قضية هامة خلف أخبار عن المهرجانات والمباريات وآخر وصفات الصحة العلاجية.
هذه الطبقة الأولى من الرواية أطَّرتها كلمة الغلاف الخلفي: “رواية تُقرِّبنا من عالم الصحافة والمحطات الإخبارية والبرامج الاستقصائية وما وراء هذه الصناعة الحساسة، وما إذا كان هذا العالم فنًا أم سياسة أم بحثًا عن الأمجاد أم أشياء أخرى، …” ولعل هذه الطبقة تُمثِّل للعمل سلاحًا له حدِّين؛ أولهما السباحة في أفكار روائية قليلة الطرح، وآخرهما أن القارئ قد لا يتحمس أن يقرأ عملًا مُقتصرًا على كشف أسرار الصحافة.

فور تخطي الفصل الافتتاحي الذي يُروى فيه باختصار تعريف عن “باقر”، تذوب خيوط الصحافة والإعلام في بحور التاريخ والسياسة والحُب. يتناوب خالد ودينا الروي العليم، وتُقسم الفصول بينهما بالتساوي تقريبًا. يُعرِّف خالد نفسه بالحكي والأفعال أنه مندفع جامح يبحث عن فرصة من اللا فرص، وعلى النقيض تظهر دينا كلبؤة جريحة تتألم في صمت ولكن مستعدة دومًا للانقضاض على فريستها.
لا تظهر بسهولة حقيقة “البروفيسور” ومجموعة “كلية الفنون الجميلة”، يُفهم أنهم يد خفية زرعت دينا في طريق خالد لتحصل المجموعة على ما جمعه من فيديوهات تخص شخصية تمس المجموعة. هذا الكرّ والفر يخلق بدوره حالة من الترقب عند القارئ، ويُسهم السرد المُعتمد على التقطيع والتنقل بين الراويين في تعميق الشعور بالتوتر المتزايد مع قُرب النهاية. لتظهر من الرواية طبقة أخرى لا تكشف فكرة جديدة فحسب بل وتكشف عن أسلوب سينمائي قُطِّعت به المشاهد لتخلق حالة من الرهبة والنفور من “البروفيسور”.
يلعب المكان في الرواية دورًا مُلغزًا. لا يظهر صراحة من أين جاء خالد الشغوف بالسفن الراسية على ميناء مدينته الأم، ولا يمكن الجزم في أي بقعة وُلدت دينا وفيها خُطف أخوها ليُوضع سكين حاد على رقبتها رغبة في تحريره. كذلك القناة الأولى التي يعملا لحسابها مجهولة المقر. مع ذلك، لا يغفل أن نتلمس بعض الإشارات إلى المكان؛ ولا ينقص وصف بيئة القناة شيئًا. فنرى محيطها المكاني جافًا صناعيًا تُزينه أشجار وليدة، وبحيرات صناعية، ومكانها بلا شك قريب من إيران. هذا ما كشفته الأحداث بعد اندلاع حرب مستقبلية. هذا التلغيز خلق علاقة مفتوحة بين النص وتأويلات القارئ. كُلٌ سيُفسر المكان على هواه، وكُل عين ستراه ليس فحسب بما توفّر من وصف ولكن كذلك برغبتها في خلق فضائها الخاص لتتحرك فيه الأحداث.
يرسم الناظر فضاء الزمان خيطًا من واقع وآخر من مُستقبلٍ. كأن الزمان هو النبوءة السياسية لسيناريو قد يقع في لحظة ما. لا تُحدد في أي سنة تدور الأحداث، ولا يغفل أن يذكر السرد أحداثًا من ماضٍ وقع في عالمنا الملموس. لكن زمن السرد هو زمن ستتحالف فيه الولايات المتحدة مع دول شرق أوسطية لتشن حربًا مدمرة على إيران وتقضي على حكم الإسلام السياسي فيها. يخلق الزمان علاقة تأويلية أخرى مع القارئ. ويؤطر كذلك خطورة انقلاب موازيين القوى لصالح جهة واحدة، فحتى القبطان وقناته الأولى تحولت بوصلتهما مع تحول بوصلة العالم إلى “أقصى اليمين”، وماعت أخبارهما معرِضة تمامًا عن “كُل ما يتعلق بالقضايا التقليدية … ولم يعد لتلك القضايا ذلك الحضور الاستثنائي” في أجندة أخبارهم.
يتجلى تأثير الصراعات العالمية السرية منها والمُعلنة في حياة خالد ودينا ربما منذ اللحظة الأولى لدخولهما عالم الإعلام. تبرز دينا نموذجًا أنثويًا مقهورًا لكن مقاومًا يأبى أن يرحل بلا شرف. تحاول الحياة تحت وطأة ذكورية حاكمة لكل مجريات اللعبة سواء في حياتها تحت الأضواء أو في ظلال المؤامرة التي أُجبرت على تنفيذها لتنقذ أخاها المخطوف. لكنها مع ذلك تفوز بقلب خالد دون إغواء، ما يُعرقِل مهمتها، ويُمهد للنهاية الصاعقة لقصتها.
تُمثِّل النهاية صدمة وتفسيرًا. لا يكسر خالد قيود حياته ويتحرك بحرية نحو ما أراد أن يكون إلّا بصدمة فقد مَن أحب وانكشاف من اقتدى به. لا يظهر ذكر باقر هذه المرة مُلهمًا ومُرشدًا، بل قميئًا وباعثًا على الدهشة. باقر الذي مثَّل أنموذجًا للمهنية وحارسًا يدافع عن حقوق مهنته وأخلاقياتها، أخفى سره حتى مماته.