أبعاد الأسطورة في جنازة البيض الحارة

غلاف الرواية الصادرة عن دار المرايا

بَرع محمد عبد الجواد في كتابته عن طبقات الغوغاء من البشر، أماكن شعبية يصفها وصفًا دقيقًا وشاعريًا، يجعلك لا تنفر منها ولكن تعفّها. يرسم شخوصه بخيوط سحرية تشد قارئه بخيط من إعجاب مُجبِر على حبِّ ما هو غير مألوف ولن يُقبَل على أرض الواقع.

لا تختلف «نوفيلته: جنازة البيض الحارة» عن سابقتيها «الصداقة كما رواها علي علي» و«عودة ثانية لابن ضال» في إحياء بطل خارق لا يملك أي مقومات الأبطال الخارقة. يعيش مالكًا زمام أموره، يصعد السُلم درجة درجة، لا يولد وفي فمه ملعقة ذهب بل يفترسها افتراسًا من فم الأسد. قولبة الشخصية المركزية في صورة البطل الأسطوري لا يُملُّ من تكرارها في ثلاثية عبد الجواد المنفصلة في كُل شيء والمتصلة في نقاط تماس بارزة: أُحادية الحدث، مركزية السرد، البطل الأسطوري، العدو الشرير، النهاية الملحمية.

يظهر الحاج «شريف البيض» في صورة تليق «بشخص ملك السلطة المطلقة على أيامه». اكتسب لقبه بين جلسات النميمة الحاقدة الكارهة لحبه لكلّ أنواع البيض وافتتاحه صباحه بارتشاف عشر بيضات نيئة. هو نموذج مثالي لأغنياء الحرب، وفي حالته اغتنى من حرب الصُدف. يَملك الحاج شريف البنداري خمسين محلًا، لكن ماضيه يليق بماضٍ بطل شعبي صعد الدرجات من العدم. كانت عائلته فلاحين بالأجرة عند عائلة كبيرة، خشى سليلها نصف المخبول أن تُؤمم أملاكه فكتب الأراضي دون ضمانة إلى عائلة البنداري. لم يكن شريف المستفيدَ الأول من الأرض، لكن الصدف استمرت لتلعب أدوارًا أخرى، فتحوَّل من محصل كهرباء في حي المعادي إلى صاحب الأرض. ولأن حلم الحاج شريف الأثير كان التربع على عرش الكسل والتمرغ في ملذة الفراغ، قرَّر تحويل الأراضي إلى محال تجارية متلاصقة بلغت الخمسين مع الزمن ليعيش على عائد إيجارها ويُسيِّر حياته على خط لا ميل فيه. ربما كثرة الصدف قد توقع الكاتب في فخ اللا منطقية وتُفسد البنيان الروائي، لكن «عبد الجواد» اعتمد سردًا مكثفًا وضع قارئه في حالة توحد كامل لا يملك حتى معه أن يُفكر في منطقية الأحداث، ثم التفت بدقة لجعل الصدف لا قصور فيها ولا فتور منها. كما أسهم الفضاء المكاني الواحد: القرية، والفضاء الزماني الواحد: يوم عادي من أيام شريف البيض المجيدة، في تعميق حالة التوحد والتكثيف تلك.

الحدث المحوري، جنازة الحاج شريف، جاء بدوره وليدًا لصدفة وإشاعة. وباء الكورونا الذي تفشى في البلاد لم يطل أيًّا من أهل القرية، لكن الإشاعة التي سَرَت أن الحاج شريف أُصيب بالكورونا، جاءت مُقنعة حتى للحاج شريف نفسه. تَخلِق الشائعة الوحش الأسطوري، أو الشرير، الذي يحاربه البطل المغوار. السخرية هنا أن الحاج شريف يحارب أوهامه. يهرب قاطعًا القرية كُلها ركضًا من الحمى التي تتملك لا مفر من جسده وتُسقطه غائبًا عن الوعي. تُفضي المعركة المُتخيلة إلى مشهد الجنازة الختامي الملحمي الذي يُكرِّس الحاج شريف البيض وليًا صالحًا، حتى كارهوه تحولوا إلى مريدين لميتٍ متوهم. بيد أن كُل حياة الحاج شريف البيض وحتى جنازته حدثت بمحض الصدفة والحظ المُفرِط وأسست له -كما أراد- مكانة أسطورية.

نقطة أخيرة هي اللغة في أعمال «عبد الجواد» التي تفرض سطوتها المُحْكَمة على خيالات القارئ، فتُثبِّت قواعد الأسطورة الشعبية. يُكتَب السرد والحوار بالفصحى البليغة لكن مُزخرفة بكلمات عامية مفهومة لكل ناطقي اللسان العربي، فلا تنفصل الأحداث والفضاءات المكانية عن اللغة والحوار.

تجتمع بذلك عناصر صناعة الأسطورة الشعبية ببطلها وشريرها، ولا يفلت القارئ من السخرية العميقة من هشاشة البطل وضآلة حجمه الحقيقي في مقابل ما صنعه الناس من ولّي مُحقَق، وقديس لا يُمكن الطعن في مُعجزاته.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 11, 2024 08:02
No comments have been added yet.