المُفتتح والفصل الأول من ترجمتي غير المنشورة لرواية «الـصُّمُــود» لستــيــــڤن كِيــنـج




بالخارج، اشتعلت الشوارع
في رقصة موت حقيقية
بين الواقع والخيال
وها هُم الشعراء
لا يكتبون كلمة واحدة
بل تقهقروا تاركين الأمور على حالها
وفي جوف الليل
بلغوا لحظتهم المنشودة
وحاولوا أن يقفوا وقفة صادقة
فاستحالوا جرحى
وليسوا حتَّى موتى
الليلة في أرض اﻷدغال.

- بروس سبرنجستين

واتضح أنها لا تستطيع المُضي!
انفتح الباب وهبَّت الرياح
وانطفأت الشموع ثمَّ اختفت
وتطايرت الستائر ثمَّ ظهر
فقال لها: «لا تخافي..
وأقدِمي يا ماري«.
فزال الخوف من قلبها
وسارعت إليه
وشرعا معًا في الطيران..
أمسكت يده..
«أقدِمي يا ماري..
ولا تخشي حاصد اﻷرواح!».

-بلو آويستر كَلت

ما هذه الكلمة؟
ما هذه الكلمة؟
ما هذه الكلمة(1)؟

- كانتري چ‍و آند ذا فيش


الدائرة تنفتح


ارتأى الشاعر قائلًا: نحتاج إلى العون
-إدوارد دورن



»سالي«.
غمغمة.
»أفيقي حالًا يا سالي«.
تعالت الغمغمة. خلِّنِي أنام.
هزَّها بوتيرة أشد.
»استيقظي، عليكِ أن تستيقظي«.
تشارلي.
صوت تشارلي، يناديها، منذ متى؟
أفاقت سالي من نومها.
في البدء حدَّقت إلى الساعة على الكومود، ورأت أن الوقت تخطَّى الثانية والربع صباحًا، لا ينبغي لتشارلي أصلًا أن يوجد هنا، بل في مناوبته، ثمَّ أمعنت النظر إليه جيدًا، وانتفض شيء ما في أعماقها، حدس مميت.
امتقع وجه زوجها بشحوب الموت، برزت عيناه وجحظتا في محجريهما، أمسك مفاتيح السيارة في يد، واستمرَّ في إيقاظها بيده الأخرى، رغم أن عينيها مفتوحتان. بدا وكأنه غير قادر على استيعاب حقيقة استيقاظها.
»تشارلي، ما الأمر؟ ما الخطب؟«.
بان عليه أنه لا يدري ماذا يقول. تذبذبت تفَّاحة آدم في رقبته دون فائدة، ولم يتردَّد أي صوت داخل البيت الصغير سوى دقَّات الساعة.
»هل نشب حريق؟» هكذا سألته بحماقة، فهذا هو الاحتمال الوحيد الذي أفلحت بالتفكير فيه عمَّا قد يُدخله في حالة كهذه، فهي تعرف أن والديه لقيا حتفيهما في حريق منزلهما.
أجابها: »تقريبًا، بل أسوأ، عليكِ ارتداء ملابسك يا حبيبتي، وأحضري بيبي لاڤ‍ون، علينا الخروج من هنا«.
سألت وهي تنهض من الفراش: «لماذا؟»، استولى عليها خوف قاتم، لم يبدُ شيئًا على ما يرام، كأن ما يحدث محض حُلم، «إلى أين؟ أتقصد الباحة الخلفية؟»، لكنها أدركت أنه لم يقصد الباحة الخلفية. لم تَرَ تشارلي قط بهذا الخوف على محيَّاه، التقطت نَفَسًا عميقًا، ولم تشم رائحة دخان أو رائحة احتراق.
«سالي حبيبتي، لا تطرحي أي أسئلة، علينا أن نلوذ بالفرار، إلى أبعد ما يمكننا، فقط أحضِري بيبي لاڤ‍ون وألبسيها ملابسها«.
«ولكن يجب أن.. ألا يوجد وقت لحزم الأمتعة؟«.
بدا أن هذا استوقفه، وأخرجه عن مسار أفكاره بعض الشيء. ظنَّت أنها خائفة بأشدِّ ما يكون الخوف، ولكن من الواضح أنها ليست خائفة. أدركت أن ما اعتبرته خوفًا يعتريها هو أقرب إلى ذعر مطلق. مرَّر يدًا متحيِّرة عبر شعر رأسه، وردَّ عليها قائلًا: «لا أعرف، عليَّ أن أختبر شدَّة الرياح»، ثمَّ تركها مع هذا الردِّ الغريب الذي لا يعني لها شيئًا، تركها واقفة وبردانة وخائفة ومشتَّتة الذهن، بقدمين حافيتين وقميص نوم ليلي على جسدها. يبدو وكأنه فَقَدَ عقله. ما علاقة قياس شدَّة الرياح بوجود وقت متاح لحزم الأمتعة من عدمه؟ وما هو المدى البعيد المنشود؟ رينو؟ لاس ڤيجس؟ سولت ليك سيتي؟ و..
وضعت يدها على رقبتها حينما راودتها خاطرة جديدة.
غ. د. ت. م. خ. الرحيل في قلب الليل معناه أن خطَّة تشارلي هي غ. د. ت. م. خ. (2).
اتجهت إلى الغرفة الصغيرة التي تعتبر حجرة نوم بيبي لاڤ‍ون، ووقفت للحظة، متردِّدة، تتطلَّع إلى الطفلة النائمة في ردائها الزهري. تعلَّقت بذلك الأمل الضعيف أن هذا لا يعدو مجرَّد حلمٍ واعٍ غير اعتيادي. سيمرُّ هذا الحلم، وستستيقظ في الساعة السابعة صباحًا كعادتها، وتأكل وتُطعم بيبي لاڤ‍ون في أثناء مشاهدتها للساعة الأولى من برنامج «توداي» الإخباري، وتُعِدُّ البيض لتشارلي عندما يعود من مناوبته في الساعة الثامنة صباحًا، من تجواله الليلي في البرج الشمالي للمنشأة على مدار ليلة أخرى. وفي خلال أسبوعين سيعاود العمل في الفترة الصباحية، من دون هذا القلق المفرط، وإذا كان نائمًا بجوارها في الليل، لن تراودها أحلام مجنونة كمثل هذا الحلم، و..
«أسرِعي!» هكذا همس لها، مبدِّدًا أملها الواهي «أمامنا وقت يتسع فقط لجمع بعض الأغراض.. ولكن لأجل المسيح يا امرأة، إذا كنتِ تحبينها..» ثمَّ أشار إلى مهد الطفلة «ألبِسيها ملابسها!»، بعدها سعل بعصبية في كفَّيه، وبدأ يخرج الأغراض من الأدراج، ويكوِّمها في عُجالة داخل بضع حقائب سفر قديمة.
أيقظت بيبي لاڤ‍ون، وهدَّأتها قدر استطاعتها، حيث قلقت الطفلة ابنة السنوات الثلاث وانزعجت من إيقاظها من نومها في قلب الليل، وهمَّت بالبكاء حينما ألبستها سالي لباسًا داخليًّا وبلوزة ورداءً خارجيًّا. زوَّد صوت بكاء الطفلة من خوفها عن ذي قبل، حيث ربطته في ذهنها بتلك المرَّات الأخرى التي بكت فيها بيبي لاڤ‍ون ليلًا، وهي في العادة أكثر الأطفال ملائكية: طفح جلدي بسبب الحفَّاضات، تسنين، خناق، مغص. تحوَّل الخوف ببطء إلى غضب حينما رأت تشارلي مارًّا على الباب شبه راكض ويديه محمَّلتان بملابسها الداخلية، وأشرطة حمَّالات صدرها مجرورة خلفه مثل الأشرطة الملفوفة للصافرات الصادحة في ليلة رأس السنة. قذفها داخل إحدى الحقائب وصفقها كي يغلقها. تدلَّى من الحقيبة طرف أفضل قميص داخلي لديها، وخمَّنت للتَّوِّ أنه تمزَّق.
صاحت: «ما الخطب؟» وتسبَّبت نبرة صوتها المضطربة في انفجار بيبي لاڤ‍ون بالبكاء بفيض من الدموع بعدما انتهى بها المطاف بالتنشَّق. «هل جُننت؟ سيرسلون جنودًا في إثرنا يا تشارلي، جنود!».
ردَّ عليها، وفي صوته تيقُّن شديد لدرجة تثير الرعب: «لن يرسلوهم الليلة، المسألة وما فيها يا حبيبتي يا سُكَّرَة أننا إذا لم نستعد للتحرُّك، فلن نفلح أبدًا في الخروج من القاعدة. أنا حتَّى لا أعلم كيف خرجت من البرج بحقِّ الجحيم. أظن أنه وقع عطل في مكان ما. لِمَ لا؟ فكل شيء آخر تعطَّل بحقِّ الرب» ثمَّ صدرت منه ضحكة صاخبة متوحِّشة أخافتها أكثر من أي شيء آخر اقترفه «أألبستِ الفتاة ملابسها؟ جميل، ضعي بعض ملابسها في هذه الحقيبة الأخرى. استخدمي حقيبة التسوُّق الزرقاء الموجودة في الدولاب لوضع الباقي، ثمَّ سنخرج من هنا حالًا. أظنُّ أننا على ما يرام. الرياح تهبُّ من الشرق. شكرًا للرب على ذلك».
سعل في يديه ثانية.
«بابا! عاوزة بابا! ها! اعمل حصان عشان أركب يا بابا! اعمل حصان عشان أركب! ها!» هكذا ألحَّت عليه بيبي لاڤ‍ون رافعة ذراعيها.
ردَّ عليها تشارلي: «ليس الآن»، ثمَّ توارى داخل المطبخ. بعدها بلحظة، سمعت سالي قرقعة الأواني الفخارية. كان يُخرج أموالها المُدخرة للطوارئ من زبدية الحساء الزرقاء على الرفِّ العلوي. بلغوا قرابة ثلاثين أو أربعين دولارًا نحَّتهم جانبًا، في كل مرَّة كانت توفِّر دولارًا أو خمسين سنتًا. إنه مالها المنزلي. إذن فالأمر حقيقي، أيًّا كانت ماهيته، فالأمر حقيقي، حقًّا وصدقًا.
وبعد رفض والدها أن تعتلي ظهره كالحصان، بعدما كان نادرًا أن يرفض لها طلبًا في أي وقت، همَّت بيبي لاڤ‍ون بالبكاء ثانية، وعانت سالي حتَّى تُلبسها معطفها الخفيف ثمَّ ألقت معظم ملابسها في حقيبة التسوُّق، وحشرتها بتعجُّل شديد، لأنه من السخافة بمكان إضافة أي غرض جديد داخل حقيبة السفر الأخرى، فقد تنفجر منها محتوياتها. اضطرَّت إلى أن تجثو كي تُحكم إغلاق مُفصلاتها. وجدت نفسها تشكر الرب أن بيبي لاڤ‍ون متدرِّبة على التحكُّم في جهازي إخراجها، وإنها لن تحتاج إلى القلق بخصوص الحفَّاضات.
عاد تشارلي إلى غرفة النوم، وصار الآن يركض. كان ما يزال يحشر الأوراق النقدية المُكرمشة من فئتي الدولار الواحد وخمس دولارات من زبدية الحساء في جيب بذلته الأمامي. حَمَلت سالي بيبي لاڤ‍ون. استيقظت تمامًا الآن وبمقدورها المشي دون مساعدة، لكن سالي أرادتها بين ذراعيها. انحنت وعلَّقت حقيبة التسوُّق على كتفها.
سألت بيبي لاڤ‍ون: «رايحين على فين يا بابا، أنا كنت ناااينة».
أجاب تشارلي وهو ينتزع الحقيبتين: «تستطيع طفلتي الحَبوبة أن تناااان في السيارة».
رفرف طرف قميص سالي الداخلي مع الريح. ما زالت عيناه تحملان تلك النظرة الشاحبة المحملقة.
ثمَّة فكرة -أو قناعة متنامية- قد بدأت في النشوء داخل عقل سالي.
همست: «هل وقعت حادثة؟ آه بحقِّ يسوع ومريم ويوسف، هذا ما حدث، أليس كذلك؟ حادثة، هناك».
أجابها: «كنت ألعب سوليتير، فنظرت إلى أعلى، ووجدت ساعة الحائط قد تغيَّر لونها من الأخضر إلى الأحمر. شغَّلت شاشة المراقبة. سالي، كانوا جميعهم..».
توقَّف عن الكلام، وتطلَّع إلى عيني بيبي لاڤ‍ون، الواسعتين والفضولتيين رغم أنهما ما زالتا مغرورقتين بالدموع.
ثمَّ قال: «كانوا كلهم م-ي-ت-ي-ن هناك، كلهم ما عدا شخص أو اثنين، ويحتمل أنهما ماتا أيضًا الآن(3)».
سَألت بيبي لاڤ‍ون: «يعني إيه م-ت-ي-ن يا بابا؟».
ردَّت عليها سالي: «لا يهمُّ يا حبيبتي»، وبدا لها صوتها كأنه قادم من وادٍ مُوغل في البعد.
بلع تشارلي ريقه. ثمَّة شيء طقطق في حلقه، «عندما تَحمرُّ الساعة، فمن المفترض أن تُوصَد جميع البوَّابات، فلديهم حاسوب شوب الذي يدير المكان برُمَّته، ويُفترض أنه حاسوب محصَّن ضد الأعطال. رأيت ما ظهر لي عبر الشاشة، وهرعت إلى الباب. حسبت أن ذلك الباب اللعين سيكسرني نصفين. كان ينبغي أن يُقفل بمجرَّد احمرار الساعة، ولم أعرف كم مرَّ من الوقت على احمرارها قبل أن أنظر إلى أعلى وأنتبه إليها. لكني بالكاد بلغت مرآب السيارات عندما سمعت الباب يرتطم وينغلق من خلفي. رغم ذلك، لو أني تأخَّرت في النظر إلى الساعة لنصف دقيقة، لحُبسِتُ الآن في غرفة التحكُّم تلك داخل البرج، مثل حشرة محبوسة داخل زجاجة».
«ماذا كان؟ ما..؟».
«لا أعرف، لا أريد أن أعرف. كل ما أعرفه أن هذا الشيء قتـ.. ق-ت-ل-هـ-م بسرعة. إن أرادوني، فعليهم أن يقبضوا عليَّ. تقايضت أموالا بُدَّل مخاطر، لكنهم لا يدفعون لي مالًا كافيًا كي أظل في الجوار. الريح تهبُّ غربًا، ونحن نقود السيارة شرقًا، هيَّا بنا، الآن».
تبِعته إلى الخارج –شاعرة ما تزال أنها شبه نائمة، وعالقة في حلم طاحن مرير- إلى الممشى حيث تقف سيارتهما الشيڤي(4) ذات الأعوام الخمسة عشر التي يأكلها الصدأ رويدًا رويدًا في عبق الظُلمة الصحراوية لليل كاليفورنيا.
قذف تشارلي حقائب السفر داخل شنطة السيارة، وألقى حقيبة التسوُّق على المقعد الخلفي. وقفت سالي هُنيهة بجوار مقعد الراكب، والطفلة بين ذراعيها، متطلِّعة إلى البيت الصغير الذي أمضوا فيه سنواتهم الأربع الأخيرة.
أطرقت مُفكِّرة: عندما انتقلوا إلى هذا المنزل، كان جسد بيبي لاڤ‍ون ما يزال ينمو، أمامها كل العمر المديد للركوب فوق الظهر.
«هيَّا!، اركبي السيارة يا امرأة!» هكذا قال لها.
ركبت السيارة، فتراجع. تدفقت الأضواء الأمامية لسيارة الشيڤروليه لحظيًّا عبر المنزل، وبدا انعكاسها على النوافذ مثل عينَيْ وحش مُطارد.
انكب متشنِّجًا على عجلة القيادة، وانعكس وجهه على الوهج الخافت للوحة العدادات، «إن انغلقت بوَّابات القاعدة العسكرية، سأحاول اقتحامها» وكان يعني ما قاله، جزمت بذلك. أحسَّت فجأة أن ركبتيها صارتا هزيلتين.
لكن لم يستدعِ الأمر تصرُّفًا استثنائيًّا كهذا، فبوَّابات القاعدة العسكرية مفتوحة على مصراعيها. يوجد حارس واحد برأس منتكس على مجلة. ولم تستطع رؤية الحارس الآخر، ربما كان واقفًا في المقدِّمة. هذا هو القسم الخارجي من القاعدة العسكرية، مجرَّد مستودع تقليدي للمركبات العسكرية. ليس من شأن أولئك الرفاق ما جرى داخل مركز القاعدة.
نظرت إلى الأعلى ووجدت الساعة احمرَّت.
ارتعشت ووضعت يدها على ساقه، وبيبي لاڤ‍ون تخلد إلى النوم ثانية.
ربت تشارلي على يدها لهُنيهة وقال: «كل شيء سيكون على ما يرام يا حبيبتي».
بحلول الفجر، كانوا يسارعون بالسيارة شرقًا عبر نيڤ‍ادا، وتشارلي يسعل دون انقطاع.


الكتاب الأوَّل
كابتن تِربس
من 16 يونيو: 4 يوليو 1990



هاتفت الطبيب
وسألته: أيًّا طبيب، أرجوك يا طبيب
أعاني من ذلك الإحساس، أرتعش وأترنَّح
أخبرني، ماذا عساه يكون؟
أهو داء جديد؟

-ذا سيلڤرز

حبيبتي، ألا تفتحي قلبكِ لرَجُلك؟
فهو رجل صالح،
حبيبتي، ألا تفتحي قلبكِ لرَجُلك؟

-لاري آندرود



الفصل الأوَّل

قبعت محطَّة وقود تكساكو لصاحبها هبسكوم على الطريق 93 شمال آرنت، مجرَّد بلدة ضئيلة المساحة فيها أربعة شوارع، تبعد عن مدينة هيوستن نحو 110 ميلًا. حَضَرَ الليلة في المحطَّة مرتادوها المعتادون، قاعدين قبالة مُسَجلة المدفوعات، يحتسون البيرة، ويتبادلون الأحاديث كيفما اتفق، ويراقبون الذباب المتطاير نحو اللافتة المضاءة الكبيرة.
يملك المحطَّة بل هبسكوم، ممَّا دفع الآخرين إلى الإذعان له رغم كونه رجلًا أحمق تمامًا، وتوقَّعوا نفس حالة الإذعان في حال تجمُّعهم في مقرِّ أحدهم، إلا أنهم لا يملكون أي مقرَّات تخصُّهم. كانت آرنت تعيش زمنًا عصيبًا، ففي العام 1980، امتلكت البلدة مصنعين، أحدهما يُصنِّع المنتجات الورقية (المخصَّص أغلبها للنزهات وحفلات الشواء)، والمصنع الآخر لصُنع الآلات الحاسبة. مصنع الورق الآن مغلق، ومصنع الآلات الحاسبة في حالة مزرية، حيث اتضح أنه يمكن تصنيعها بتكاليف أرخص بكثير في تايوان، مثل أجهزة التلفاز المتنقِّلة والراديو الترانزستور.
نورمان برويت وتومي واناميكر، العاملان السابقان في مصنع الورق، يتلقَّيان الآن إعانة مالية حكومية بعدما نفدت أموال تعويضهما عن البطالة منذ فترة. أمَّا هنري كارمايكل وستو ردمان، فيعملان في مصنع الآلات الحاسبة، لكنهما نادرًا ما يتخطَّيان حاجز ثلاثين ساعة عمل أسبوعيًّا، وڤكتور پ‍‍الفري أحيل إلى التقاعد، ويُدخِّن سجائر ملفوفة يدويًّا كريهة الرائحة، وهي كل ما يستطيع شراءه بالمال.
قال لهم هَب، واضعًا يديه على ركبتيه ومائلًا بجذعه إلى الأمام: «والآن ما أراه هو التالي: سيقولون لكم سحقًا لهراءات التضخُّم، وسحقًا لهراءات الدين المحلِّي. لدينا مكابس ولدينا ورق، سنطبع 50 مليار دولار ونضخها مباشرة في عجلة الاقتصاد بحقِّ المسيح».
أمَّا پ‍‍الفري الذي عمل ميكانيكيًّا حتَّى العام 1984، فهو الوحيد بين الحاضرين الذي تحلَّى بما يكفي من احترام للذات كي ينوِّه إلى أوضح تجلِّيات الحماقة في تصريحات هَب، حيث علق الآن وهو يلفُّ سيجارة أخرى من سجائره العفنة: «لا فائدة تُرجى من هذا. إن فعلوا ذلك، فسيحدث ما حدث بمدينة ريتشموند في العامين الأخيرين من الحرب الأهلية(5)، ففي ذلك الزمان، وحينما كانت تراودك الرغبة في قطعة من كعك الزنجبيل، وتعطي الخبَّاز دولارًا كونفيدراليًّا(6)، يضعه الخبَّاز فوق كعك الزنجبيل، ويقتطع لك قطعةً منه بالحجم نفسه، فكما تعلم، المال مجرَّد ورق».
ردَّ هَب بصفوٍ متعكِّر: «أعرف أناسًا لن يوافقوك الرأي»، ثمَّ أمسك بحاملة أوراق بلاستيكية حمراء مُشحَّمة من فوق مكتبه، «إنني مدين لأولئك الناس، وها قد بدؤوا يشعرون بالقلق حيال الأمر».
كان ستوارت ردمان -الذي ربما يُعتبر أهدأ رجل في بلدة آرنت- قاعدًا على إحدى كراسي وولكو البلاستيكية المكسورة، حاملًا في يده علبة بيرة بابست، متطلِّعًا إلى الطريق 93 عبر النافذة الكبيرة لمحطَّة الوقود. عرف ستو الفقر، فقد ترعرع في كنفه في هذه البلدة، وهو ابن طبيب أسنان وافته المنية وقتما كان ستو في سنِّ السابعة، مخلِّفًا وراءه زوجته وطفلين آخرين بخلاف ستو.
حصلت والدته على وظيفة في موقف شاحنات ريد بول الواقع خارج آرنت بالضبط. ولولا احتراق موقف الشاحنات في العام 1979، لتمكَّن ستو من رؤيته الآن من مقعده. كان الراتب كافيًا ليأكل أربعتهم لكن لا أكثر من ذلك. في سنِّ التاسعة، التحق ستو بالعمل، وبدأ لدى روچ تاكر صاحب موقف ريد بول، مُساعدًا في تفريغ الشاحنات بعد الدوام الدراسي مقابل خمسة وثلاثين سنتًا في الساعة، ثمَّ عمل بعدها في حظائر المواشي في بلدة برينتري المجاورة، وكذب بخصوص سنِّه حتَّى يتسنَّى له العمل لعشرين ساعة قاصمة للظهر في الأسبوع مقابل الحدِّ الأدنى من الأجر.
والآن، وفي أثناء استماعه إلى جدال هَب وڤك پ‍‍الفري حول المال وطريقته الغامضة في النفاد، فكَّر في نزيف يديه بسبب جرِّه لعربات لا نهائية مُحمَّلة بجلود المواشي وأحشائها مع بدئه العمل. حاول إخفاء ذلك عن أمه، لكنها رأتهما بعد أقل من أسبوع على بدء عمله هناك. بكت لأجلهما قليلًا، وهي ليست بامرأة يسهل عليها ذرف الدموع، لكنها لم تطلب منه ترك العمل. كانت تدرك حقيقة الموقف. امرأة واقعية.
ينبع بعض الصمت الكامن بداخله من حقيقة أنه لم يحظَ بأصدقاء قط، ولم يملك حتَّى وقتًا لهم. كان يدرس، ومن ثمَّ يعمل. مات شقيقه الأصغر ديڤ بالتهاب رئوي في نفس سنة بدئه العمل بالحظائر، ولم يستطع ستو تجاوز ما حدث قط. اعتبره إحساسًا بالذنب. كان ديڤ أكثر شخص يحبه في الحياة، لكن موته معناه أيضًا أن عدد الأفواه التي تحتاج إلى الإطعام قد نقصت واحدًا.
في المدرسة الثانوية، وجد ضالَّته المنشودة في كرة القدم، وهو ما شجَّعته عليه والدته حتَّى حين يتقاطع مع ساعات عمله. قالت له: «العَب، وإذا سنحت لك الفرصة للخروج من هنا، ففرصتك في كرة القدم يا ستوارت. العَب. تذكر إيدي وورفيلد». كان إيدي وورفيلد بطلًا محلِّيًّا في اللعبة، وانحدر من أسرة أفقر من أسرة ستو، وحقَّق نجاحًا ساحقًا حين لعب في موقع الظهير الربعي مع فريق المدرسة الثانوية الإقليمية، والتحق بجامعة تكساس أي أند إم بمنحة رياضية، ولعب على مدار عشر سنوات مع فريق جرين باي باكرز ظهيرًا ربعيًّا في احتياطي الفريق أغلب الوقت، لكنه لعب في الموقع الأمامي في عدَّة مناسبات جديرة بالذكر. يمتلك إيدي الآن سلسلة مطاعم للوجبات السريعة عبر الجنوب والجنوب الغربي، وتحوَّل إلى أسطورة خالدة. ففي آرنت، حين يُذكر النجاح، فمرادفه إيدي وورفيلد.
لم يكن ستو ظهيرًا ربعيًّا، ولم يكن إيدي وورفيلد، ولكن بدا له حينما استهلَّ سنته الأولى في المدرسة الثانوية أن أمامه على الأقل فرصة تستحق المثابرة لأجلها في سبيل الفوز بمنحة رياضية صغيرة.. ومن ثمَّ هنالك برامج الدراسة/العمل، وأرشده المستشار المدرسي بخصوص برنامج الإقراض الذي يمنحه ق. د. و. ت(7).
ثمَّ مرضت والدته، وصارت غير قادرة على العمل. أصيبت بالسرطان. قبل شهرين من تخرُّجه من المدرسة الثانوية، ماتت، تاركة ستو وحيدًا مع شقيقه برايس كي يكفله. تخلَّى ستو عن فكرة المنحة الجامعية الرياضية، واتجه إلى العمل في مصنع الآلات الحاسبة. وفي النهاية، كان برايس الأصغر من ستو بثلاث سنوات هو مَن نجح في الخروج من البلدة، حيث يعيش الآن في ولاية مينيسوتا، ويعمل محلل أنظمة حاسوبية في شركة آي بي إم. لم يكتب إليه الرسائل بانتظام، وآخر مناسبة رأى فيها برايس كانت يوم الجنازة، عقب وفاة زوجة ستو، ماتت بنفس نوع السرطان الذي قتل والدته. راوده الظن أن برايس يحمل صليبه الخاص.. ويحتمل أن برايس يشعر بالعار بعض الشيء من حقيقة تحوُّل شقيقه إلى مجرَّد ولد صالح آخر يعيش في بلدة محتضِّرة في تكساس، يمضي أنهره سجينًا في مصنع الآلات الحاسبة، ويقضي أمسياته إمَّا في محطَّة بنزين هَب أو في حانة إنديان هيد يحتسي بيرة لون ستار.
عُدَّت فترة الزواج أسعد أوقاته، ودامت ثمانية عشر شهرًا فقط. حبلت زوجته الشابَّة بجنين شرير خبيث. وقع هذا منذ أربع سنوات مضت، ومنذ ذلك الحين، فكَّر في مغادرة آرنت، بحثًا عن شيء أفضل، ولكن غلبه خمول البلدة الصغيرة، أغنية هادئة تنشدها السيرانات عن الأماكن المعتادة والوجوه المألوفة. كان شخصًا محبوبًا في آرنت، وذات مرَّة، منحه ڤك پ‍‍الفري أسمى إطراء، مُطلقًا عليه «الصنديد العتيق».
وفي أثناء جدال ڤك مع هَب، ما زال في السماء قبس من نور الغسق، والأرض مغطَّاة بالظلال. لا تمُرُّ كثير من السيارات على الطريق 93 الآن، ويرجع هذا إلى سبب واحد، وهو أن هَب لديه الكثير والكثير من الفواتير غير المدفوعة، ولكن ستو رأى سيارة قادمة نحو المحطَّة الآن.
ما زالت السيارة بعيدة بنحو ربع ميل، وآخر ضياء النهار يرسم بريقًا مُغبَّرًا على القليل المتبقِّي من طبقة كروم السيارة. تمتَّع ستو بعينين ثاقبتين، واستخلص أنها سيارة شيڤروليه قديمة جدًّا، ربما من طراز 1975. سيارة شيڤي، وأضواؤها مُطفأة، لا تقطع أكثر من 15 ميلًا في الساعة، وتتمايل على طول الطريق. لم يرها أحد سواه حتَّى الآن.
كان ڤك يقول: «الآن لنقُل إن لديك رهنًا عقاريًّا على محطَّة البنزين هذه، مثلًا خمسين دولارًا في الشهر».
«بحقِّ الجحيم، المبلغ أكبر من ذلك بكثير».
«طيِّب، من أجل دواعي هذه المناقشة، لنقُل خمسين، ولنفترض أن الفيدراليين تحرَّكوا قُدمًا وطبعوا لأجلك شاحنة كاملة مُحمَّلة بالأموال، إذا سيأتيك موظَّفو البنوك من الناحية الأخرى، طالبين مائة وخمسين دولارًا، ستُفلس بهذه البساطة».
أضاف هنري كارمايكل قائلًا: «هذا صحيح»، فنظر إليه هَب مغتاظًا، حيث تصادف أنه يعرف بأن هانك(8) اعتاد سحب عبوات الكولا من ماكينة البيع دون إيداع المال فيها، والأنكى أن هانك عرف بأنه يعرف، وإن أراد هانك الوقوف في صفِّ أيٍّ من الطرفين، فعليه الوقوف في صفِّه.
ردَّ هب بثقل نابع من مستوى تعليمه المتوقِّف عند الصفِّ التاسع: «الأمور لا تسير هكذا بالضرورة»، وواصل التعليل.
أمَّا ستو، الوحيد الذي أدرك أنهم في مصيبة، فقد أخفض صوت هَب حتَّى تحوَّل إلى غمغمة بلا معنى، وراقب سيارة الشيڤي وهي تتمايل وتهتزُّ في مسارها على طول الطريق. لم يظن ستو أنها ستقطع مسافة أطول وفقًا لطريقة سيرها، حيث تخطَّت الخط الأبيض، ونثرت عجلاتها اليسرى التراب عن الحافَّة اليسرى للطريق. والآن ترنَّحت، ثمَّ لزمت مسارها في الطريق لهُنيهة، ثمَّ شارفت على الانحدار نحو الخندق الجانبي، وبعدها انطلقت نحو الطريق الإسفلتي مثل قذيفة استهلكت تقريبًا كل ما لديها من سرعة، وكأنما قد وقع اختيار السائق على لافتة محطَّة تكساكو المضاءة الكبرى لتكون منارة له. أمكن لستو الآن سماع الصوت العالي لمحرِّك السيارة المُنهك، وأزيز وقرقرة المُكربن المحتضر والصمامات المتفكِّكة. تجاوزت المدخل السفلي وارتقت حافة الرصيف. انعكست المصابيح الفلورية الموضوعة فوق مضخَّات البنزين على الزجاج الأمامي الملطَّخ بالوحل لسيارة الشيڤي، ممَّا صَعَّب رؤية ما بالداخل، لكن ستو رأى جسد السائق غير واضح المعالم وهو يلتفُّ دون قيد مع المطبِّ. لم تُبدِ السيارة أي نية لإبطاء سرعتها الجنونية عن 15 ميلًا.
«لذا أقول إنه مع وجود مزيد من المال في دورة الاقتصاد، ستكونون..».
«يُفضَّل أن تفصل مضخَّات الوقود يا هَب» هكذا أخبره ستو بتلطُّف.
«المضخَّات؟ ماذا..؟».
حانت التفاتة من نورم برويت إلى خارج النافذة، وقال: «يا مصيبتي!».
نهض ستو من مقعده، واستند إلى تومي واناميكر وهانك كارمايكل، وخبط بيده كل المحوِّلات فأنزلها دفعة واحدة، أربعة بكل يد، لذا فهو الوحيد الذي لم يَرَ سيارة الشيڤي وهي تصطدم بمضخَّات الوقود في البقعة العالية وتجتثَّها من الأرض.
انجرفت فيهم ببطء عنيد رهيب حسبما بدا، حتَّى إن تومي واناميكر أقسم في اليوم التالي في أثناء وجوده في حانة إنديان هيد إن الأضواء الخلفية للسيارة لم تومض ولو لمرَّة واحدة. استمرَّت الشيڤي في تحرُّكها الثابت على سرعة 15 ميلًا أو نحو ذلك، مثل سيارة تأمين(9) في موكب الزهور (10).
أصدر الهيكل السفلي صريرًا فوق البقعة الإسمنتية، وحين خبطتها العجلات، رأى الكل فيما عدا ستو رأس السائق وهي تتأرجح مرتخية وتصطدم بالزجاج الأمامي، فانشرخ.
وثبت الشيڤي مثل كلب عجوز تعرَّض للركل، وأطاحت بمضخَّة الاختبار، فانخلعت وتدحرجت، ساكبة بضع نقاط من البنزين. انحلت الفوهة وبقيت تتلألأ تحت الأضواء الفلورية.
رأوا جميعهم الشرارات التي صنعها أنبوب عادم سيارة الشيڤي وهي تحتكُّ بالإسمنت، أمَّا هَب الذي شَهِدَ على انفجار محطَّة بنزين في المكسيك، فقد غطَّى عينيه عفويًّا لحمايتهما من كرة النار التي توقَّع اندلاعها. وبدلًا من ذلك، انقذفت مؤخِّرة الشيڤي وانحدرت عن منطقة المضخَّات على جانب المحطَّة. تهشَّمت مقدِّمة السيارة في مضخَّة بنزين 100 أوكتان، وأطاحت بها مع طاااخ جوفاء.
وعن شبه قصد، أكملت سيارة الشيڤروليه استدارتها بمقدار 360 درجة، واصطدمت ببقعة الأرض ثانية، وهذه المرَّة بالعرض. برزت مؤخِّرة السيارة على رصيف المحطَّة واصطدمت بمضخَّة بنزين 87 أوكتان وبطحتها أرضًا، وفي هذه اللحظة استكانت الشيڤي، مخلِّفة في أثرها أنبوب العادم الصدئ. دمَّرت السيارة كل مضخَّات الوقود الثلاث على هذا الرصيف الأقرب إلى الطريق السريع. استمرَّ المحرِّك في الدوران بوتيرة متقطِّعة ثمَّ توقَّف عن العمل. تعالى صوت الصمت بشدَّة حتَّى أقلقهم.
«يا للهول! هل ستنفجر يا هَب؟» هكذا قال تومي واناميكر بنَفَس مُنقطع.
أجابه هَب وهو ينهض: «لو كانت ستنفجر، لانفجرت في حينها»، وخبط بكتفه الخريطة المُغلَّفة، فبعثر تكساس ونيو مكسيكو وآيرزونا في دروب شتَّى. انتاب هَب إحساسًا مكبوتًا بالابتهاج، فمضخَّات وقوده مُؤمَّن عليها، ومبلغ التأمين مدفوع، حيث ألحَّت ماري على دفع التأمين قبل كل شيء.
قال نورم: «هذا الرجل حتمًا شرب حتَّى الثمالة».
ردَّ تومي، وعلا صوته انفعالًا: «رأيت مصابيح سيارته الخلفية، لم تومض ولا مرَّة. ويحي! لو كان يقود على سرعة 60، لصرنا في خبر كان أجمعين».
هرعوا خارج المكتب، تقدَّمهم هَب، وستو آخرهم. وصل هَب وتومي ونورم معًا عند السيارة، شمُّوا رائحة البنزين وسمعوا التكتكة المتباطئة مثل عقارب الساعة لمحرِّك الشيڤي المتبارد. فتح هَب باب السائق، واندلق الرجل القاعد خلف عجلة القيادة إلى الخارج مثل حقيبة غسيل قديمة.
«اللعنة» هكذا صاح نورم بوريت، وكاد بِل أن يصرخ. أشاح بنظره بعيدًا، وأمسك كرشه العامر، وانتابه الغثيان. ليس بسبب الرجل الذي سقط خارج السيارة (الذي أمسكه هَب قبل أن يرتطم جسده بالرصيف)، وإنما بسبب الرائحة المنبعثة من السيارة، رائحة إنتان مُغثية تتألَّف من الدماء والمواد البرازية والقيء وتحلُّل الأعضاء البشرية، كانت رائحة صارخة ومُمرِضة إلى حدِّ الموت في شناعتها.
بعدها بهُنيهة، ابتعد هَب، وهو يجُرُّ السائق من إبطيه، وسارع تومي وتلقَّف الساقين المُجرجرتين، وحمله مع هَب إلى داخل المكتب، وتحت وهج المصابيح الفلورية فوق رأسيهما، اعتلى وجهيهما الحيرة والاشمئزاز، ونَسِيَ هَب ما يخُصُّ أموال التأمين.
نظر الآخرون إلى داخل السيارة، ثمَّ ابتعد عنها هانك، واضعًا يدًا على فمه، وبرز خنصره كمثل رجل رفع كأسه من النبيذ للتَّوِّ كي يقترح نخبًا. هرول إلى الطرف الشمالي من أرض المحطَّة، وترك عشاءه يتصاعد من معدته.
فتَّش ڤك وستو داخل السيارة لبعض الوقت، وتبادلا النظرات، ثمَّ نظرا مجددًا إلى داخل السيارة. على مقعد الراكب، توجد سيدة شابَّة، انحسر رداؤها الداخلي على فخذيها، ويميل عليها ولدٌ أو بنتٌ، في سنِّ ثلاث سنوات تقريبًا. كلاهما ميتان. عنقاهما منتفخان مثل أنابيب الدراجات الداخلية، واصطبغ لون العنقين بلون قرمزي- أسود، مثل الكدمات. انتفخ الجلد تحت أعينهما أيضًا. قال ڤك فيما بعد إنهما بديا مثل لاعبي البيسبول الذين يضعون السخام تحت أعينهم كي يحدُّوا من وهج الضوء. أعينهما جاحظة قليلًا. كانت المرأة ممسكة بيد الطفل، وثمَّة مخاط كثيف منسال من أنفيهما والآن صار متخثِّرًا. حام الذباب من حولهما، وأضاء في المخاط، وزحف إلى داخل وخارج فميهما المفتوحين. شارك ستو في الحرب، لكنه لم يَرَ قط شيئًا بائسًا لدرجة مروِّعة مثل هذا المشهد. عاودت عيناه الالتفات بدأب نحو اليدين المتعانقتين.
تراجع ستو بصحبة ڤك وتطلَّع أحدهما إلى الآخر بنظرات خاوية، ثمَّ اتجها نحو المحطَّة. رَأَيا هَب وهو يتحدَّث بوتيرة محمومة في الهاتف العمومي، وكان نورم يتحرَّك في اتجاه المحطَّة من خلفهما، ملقيًا نظرات من فوق كتفيه على آثار الخراب. ظل باب السائق في سيارة الشيڤي مفتوحًا في أسى، وتدلَّى زوجي حذاء الطفلة على مرآة الرؤية الخلفية.
وقف هانك قبالة الباب، يمسح فمه بمنديل متسخ، وقال بنبرة حزينة: «يا للمسيح يا ستو!»، وأومأ إليه ستو.
أغلق هَب الهاتف. كان سائق سيارة الشيڤي راقدًا على الأرض. «ستأتي سيارة الإسعاف إلى هنا في خلال عشر دقائق، أتظن أنهما..؟»، وهزَّ إبهامه نحو الشيڤي.
«إنهما ميتتان. انتهى الأمر». أومأ ڤك، كان وجهه الشائخ ممتقعًا ومُصفرًّا، والتبغ يتناثر من بين يديه على الأرض وهو يحاول لفَّ سيجارة من سجائره كريهة الرائحة «إنهما أَمْوَت ميِّتين رأيتهما في حياتي»، ثمَّ نظر إلى ستو، وأومأ إليه ستو، واضعًا يديه في جيبيه، شاعرًا باضطرام في داخله.
صدر من حلق الرجل المستلقي على الأرض أنين غليظ، ونظروا جميعهم إليه في الأسفل. وبعد لحظة، وحينما اتضح أن الرجل يتحدَّث أو يحاول التحدُّث بمشقَّة بالغة، انحنى هَب بجواره، فهذه المحطَّة محطَّته على أي حال.
أيًّا كان ما حدث للسيدة والطفلة في السيارة، فهو يحدث الآن أيضًا مع الرجل. سال المخاط من أنفه بلا هوادة، ولأنفاسه صوت غريب مثل أعماق البحر، تماوجٌ آتٍ من موضع ما داخل صدره. انتفخ الجلد تحت عينيه، لم يَسْوَدَّ لونه بعد، وإنما قرمزي مكدوم. بدت رقبته شديدة السماكة، وانضغط الجلد في رتل ممَّا منحه ذقنين إضافيتين. عانى حُمَّى شديدة، حتَّى صار الدنوُّ منه أشبه بالتقرفص على حافة شواية مفتوحة حيث يُوضع الفحم الجيد.
«الكلب، هل أخرجتموه؟» هكذا تمتم.
أجابه هَب وهو يهُزُّه برفق: «يا سيدي، لقد اتصلت بالإسعاف، ستصبح بخير».
نخر الرجل القابع على الأرض قائلًا: «احمرَّت الساعة»، ثمَّ بدأ يسعل في تفجُّرات متسلسلة مُعذِّبة، مرسلًا المخاط الكثيف ليتطاير من فمه في رذاذ ممتدٍّ ولزج. ارتدَّ هَب إلى الخلف، والتوت قسمات وجهه في يأس.
قال ڤك: «يُفضَّل أن تدير جسده، وإلا سيختنق بهذا المخاط».
ولكن قبل أن يتسنَّى لهم ذلك، خفت صوت السعال وعاد من جديد التنفُّس الخائر المتهدِّج. رمشت عيناه على مهل، وتطلَّع إلى الرجال المتحلِّقين من حوله.
«أين.. هذا؟».
أجابه هَب: «آرنت، محطَّة تكساكو لصاحبها بل هبسكوم، لقد حطَّمت عددًا من مضخَّاتي» ثمَّ أردف بعدها في عجالة: «لا بأس، فهي مُؤمَّن عليها».
حاول الرجل المنطرح على الأرض أن يجلس لكنه لم يقدر، واضطرَّ إلى وضع يده على ذراع هَب كي يستوي في جُلسته.
«زوجتي.. ابنتي الصغيرة..»
أجابه هَب: «إنهما بخير»، وابتسم له ابتسامة كلب حمقاء.
قال الرجل: «يبدو أن مرضي اشتدَّ»، والأنفاس تخرج من صدره وتدخل في خوار غليظ وضعيف، «كانا أيضًا مريضين، منذ تحرَّكنا من يومين فاتا.. سولت ليك سيتي» وارتعشت عيناه وأغمضهما رويدًا رويدًا «مرضى.. أظننا لم نتحرَّك بالسرعة الكافية رغم كل شيء..».
سمعوا صافرة سيارة إسعاف بلدة آرنت التطوعية، آتية من بعيد وتقترب.
قال تومي واناميكر: «ويحي! آه يا ويحي!».
رفَّ جفني الرجل المريض ففتح عينيه ثانية، وامتلأتا الآن بقلقٍ حادٍّ وشديد. جاهد نفسه ثانية كي يجلس، وسال العرق على وجهه، وشدَّ هَب من ملابسه.
ألحَّ في سؤاله: «هل سالي وبيبي لاڤ‍ون بخير؟»، وتطاير البصاق من فمه، وشعر هَب بحرارة جسد الرجل المُحرقة وهي تشعُّ خارجه، كان الرجل مريضًا، وشبه مجنون، ونتن الرائحة. تذكَّر هَب تلك الرائحة التي تعبق بها أحيانًا بطانية قديمة لكلب.
أجابه بإصرار محموم بعض الشيء: «إنهما على ما يرام، عليك أن.. تستلقي فحسب، وهوِّن عليك، اتقفنا؟».
رقد الرجل ثانية، واشتدَّ اضطراب تنفسه الآن. ساعده هَب وهانك وأداروا جسده وأرقدوه على جانبه، وبدا أن تنفُّسه هدأ بقدر بسيط.
قال: «كنت أشعر أني بخير حتَّى الليلة الماضية، مجرَّد سعال، لكني كنت بخير، واستيقظت في الليل بهذه الصورة، لم أفِرَّ بالسرعة المطلوبة، هل بيبي لاڤ‍ون بخير؟».
خفتت كلماته الأخيرة حتَّى استحالت غمغمة لم يتبيَّنها أي منهم، صدحت صافرة الإسعاف أقرب فأقرب. اتجه ستو إلى النافذة حتَّى يراقب المشهد منها، وبقي الآخرون متحلِّقين حول الرجل الراقد على الأرض.
سأل هَب: «بماذا أصيب يا ڤك؟ ألديك فكرة؟».
هزَّ ڤك رأسه: «لا أعرف».
قال نورم برويت: «ربما مَرِضَ بسبب طعام أكَله، لوحة السيارة مُسجَّلة في ولاية كاليفورنيا، أو تعلم، ربما أكلوا في كثير من الاستراحات على الطريق. ربما تناولوا شطائر همبرجر مُسمَّمة. هذا يحدث».
توقَّفت سيارة الإسعاف مع دورانها حول سيارة الشيڤي المُدمَّرة بحيث تقف بينها وبين باب محطَّة الوقود. صنعت الإضاءة الحمراء فوق السيارة دوائر ممتدَّة جنونية، غرقت الأجواء الآن في ظلام دامس.
صاح الرجل الراقد على الأرض فجأة: «أعطِني يدك وسأخرجك من هنا!»، وبعدها سكت.
قال ڤك: «تسمَّم من الطعام، آه، ممكن، آمل ذلك، لأن..».
سأله هانك: «لأن ماذا؟».
«لأنه بخلاف ذلك، فربما يكون مرضًا مُعديًا»، ونظر إليهم ڤك بعينين مضطربتين «شهدت بنفسي على تفشِّي الكوليرا في 1958، على مقربة من مدينة نوجالس، وبدا شبيهًا بهذا».
دخل ثلاثة رجال وهُم يُسَيِّرون سريرًا نقَّالًا، ونادى أحدهم: «يا هَب، أنت محظوظ لأن مؤخِّرتك الضامرة لم تَفْنَ من على وجه الأرض. أهذا هو الرجل؟».
تفرَّقوا حتَّى يدعوهم يمرُّون: بيلي فريكر، ومونتي سوليڤان، وكارلوس أورتيجا. رجال يعرفونهم جميعًا.
قال هب وهو ينتحي جانبًا مع مونتي: «هناك شخصان في هذه السيارة، امرأة وطفلة صغيرة، وكلتاهما ميتتان».
«اللعنة، أنت متأكِّد؟».
«نعم، وهذا الرجل لا يعلم بأمر موتهما، هل ستحمله إلى برينتري؟».
«هكذا أظن»، نظر إليه مونتي في حيرة، «ماذا أفعل مع هذين الاثنين في السيارة؟ لا أعلم كيف أتعامل مع هذا الموقف يا هَب».
«يمكن لستو أن يتصل بشرطة الولاية. أتمانع إذا ركبت معك؟».
«طبعًا لا».
وضعوا الرجل فوق السرير النقَّال، وفي أثناء تحرُّكهم به، توجَّه هَب إلى ستو. «سأتوجَّه بالسيارة إلى برينتري مع هذا الرجل، أممكن أن تتصل بشرطة الولاية؟».
«بالتأكيد».
«واتصِل بماري أيضًا، اتصِل بها وأخبرها بما حدث».
«حسنًا».
سارع هَب نحو سيارة الإسعاف وركبها، وأغلق بيلي فريكر الأبواب من خلفه ثمَّ نادى زميليه الآخرين، كانا يحدِّقان إلى سيارة الشيڤي المُهشَّمة بإنشداه قلق.
بعدها ببضع لحظات تحرَّكت سيارة الإسعاف، وانطلقت الصافرة، وألقى المصباح العلوي الأحمر بظلال دموية عبر مدرج محطَّة الوقود. اتجه ستو إلى الهاتف العمومي وأودع فيه ربع دولار.
***
مات رجل سيارة الشيڤي على بعد عشرين ميلًا من المستشفى، ندَّت عنه شهقة مبقبقة أخيرة، ثمَّ زفرها، وتلتها شهقة أدنى انحشرت في حلقه، ثمَّ وافته المنية.
أخرج هَب محفظة الرجل من جيب بنطاله ونظر بداخلها. احتوت على سبعة عشر دولارًا نقدًا، ورخصة قيادة صادرة من ولاية كاليفورنيا تُعرِّفه باسم تشارلز د. كامپ‍يون، كما احتوت على هوية شخصية عسكرية، مع صور مُغلَّفة بالبلاستيك لزوجته وابنته. لم يشأ هَب النظر إلى الصور.
حشر المحفظة ثانية في جيب الرجل الميت، وأمر كارلوس بأن يطفئ الصافرة. كانت الساعة التاسعة وعشر دقائق.
***
:هوامش المترجم

1- استهل كانتري چ‍و مكدونالد أغنية I-Feel-Like-I'm-Fixin'-to-Die Rag بهذا المقطع خلال تأديتها في مهرجان وودستوك الموسيقي في أغسطس 1969، طالبًا من الجمهور أن يرددوا معه كلمة Fuck بتعديد أحرفها ثمَّ ترديدها ككلمة واحدة، وكلمة Spell التي استخدمها كانتري چ‍و لها أكثر من معنى في الإنجليزية، فهي في هذا السياق معناها تهجئة الكلمة، ومعناها كذلك اللعنة أو التعويذة السحرية الشريرة، وأغلب الظن أن هذه اللعبة اللفظية مقصودة من قبل كينج، فالتهجئة تفصيلة درامية مهمَّة ومتكرِّرة على مدار أحداث الرواية، كما يحتمل أيضًا أن كينج يشير إلى الشرارة التي تنطلق منها الأحداث بالمعنى الثاني: اللعنة.

2- في الأصل AWOL، وهي اختصار لعبارة Absent Without Leave، ومعناها: (غياب دون تصريح من الخدمة

3- من عادة كثير من الآباء والأمهات في أمريكا اجتناب نطق كلمات صادمة أو مُحرجة على مسامع الأطفال كما هي، وبدلًا من ذلك يقسمونها إلى حروف حتَّى لا يفهمها الأطفال.

4- اختصارًا لشيڤروليه.

5- يشير پ‍‍الفري إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشتها مدينة ريتشموند في فترة الحرب الأهلية الأمريكية، حين عانى سكانها من التضخُّم المرتفع ممَّا أجبر المسؤولين وقتئذٍ على وضع سقف للأسعار في سبيل السيطرة على التضخُّم، إلا أن التجار تجاهلوا المراسيم الحكومية الخاصَّة بالالتزام بسقف الأسعار، وفشل المسؤولون في إحكام السيطرة على فوضى التسعير. على سبيل المثال، يروي طبيب عاش في ريتشموند في فترة الحرب الأهلية يُدعى ليڤن سميث چوينز أنه دفع دولارًا واحدًا في يناير 1865 مقابل رغيف خبز يبلغ وزنه ثلاث أونصات ونصف فقط.

6- أُصدر الدولار الكونفيدرالي الخاص بالولايات الجنوبية الانفصالية قبيل اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية في العام 1861، ولم يكن مُقوَّمًا بأي أصول تُذكر، وإنما بمجرَّد تعهُّد بالدفع لحامله بعد نهاية الحرب، خاصَّة مع رُجحان كفَّة احتمالية انتصار الولايات الجنوبية واستقلالها في بدايات الحرب، ولكن مع استمرار الحرب وتضاءل فرص انتصار الجنوب في الحرب، تضاءلت قيمته أكثر فأكثر، وبعد هزيمة الولايات الكونفيدرالية في الحرب، لم يعد للدولار الكونفيدرالي أي قيمة تُذكر، وصار مجرَّد ورق على حدِّ تعبير پ‍‍الفري أعلاه، ممَّا كَبَّدَ الأفراد والبنوك خسائر هائلة.

7- اختصارًا لـ (قانون الدفاع الوطني للتعليم) الذي أُقِرَّ في العام 1958 خلال عهد الرئيس دوايت آيزنهاور بهدف تقديم التمويل اللازم للمؤسسات التعليمية الأمريكية كافَّة في سبيل تعزيز الدفاع الوطني، خاصَّة في إطار الحرب الباردة مع الإتحاد السوڤيتي.

8- (هانك) اسم تدليل شائع في الولايات المتحدة لأي شخص اسمه (هنري) أو (هاري).

9- سيارة تُستخدم في سباقات السيارات بغرض ضمان خلوِّ مضمار السباق من أي عوائق أو مشكلات متعلِّقة بالجوِّ قد تؤثِّر على جودة المضمار، أو العمل على إبطاء سرعة السيارات أو الدراجات البخارية المتنافسة في حال وجود مشكلة في المضمار.

10- موكب سنوي يُنظَّم عبر شارع كولورادو في مدينة پاسادينا بولاية كاليفورنيا في الأول من يناير أو في الإثنين الأول من العام أو الثاني من يناير إن تصادفت بداية السنة مع يوم الأحد.
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 13, 2025 13:04
No comments have been added yet.