قرآن الثورة والجهاد

 


ما من شهر يتعرض فيه المسلم للقرآنالكريم مثل شهر رمضان، تلاوة وسماعا ووعظا ومدارسة، وما من مسلم إلا وهو في أحسنأحواله مع القرآن عند نهاية هذا الشهر.

وهنا يأتي السؤال الكبير في الأمةالمهزومة المغلوبة؛ ما بال هذا القرآن الذي أيقظ الأمة وبعثها من رقاد وسبات أولنزوله، لا يفعل الآن فيها مثل ما فعل في أول الأمر؟!!

والأصح أن يُقال: إن القرآن هو القرآن،فما بال الأمة التي انبعث به حتى غلبت وسادت وهيمنت تبقى الآن في هذا الحال الرهيبمن الضعف والمذلة والمسكنة؟!

هذه السطور تحكي لك طرفا من أسبابالفارق الكبير.. وفيه ينطوي الحل الكبير أيضا!

 

(1)

ما كان العربي يسمع آيات من القرآنالكريم حتى يعرف من فوره أنه كتاب سياسة وقتال وحُكْمٍ ونظام، وأنه جاء لتغيير هذاالعالم، وأنه سيصطدم مع الأوضاع القائمة فيه!

ذهب عتبة بن ربيعة إلى النبي ﷺ يساومه علىهذا الدين، فيعرض عليه الرئاسة والمال والنساء، فما هو إلا أن سمع آيات من القرآنحتى عاد يقول لقومه: يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجلوبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإنتُصِبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه مُلْككم وعزّهعزكم، وكنتم أسعد الناس به.

فهذا رجلٌ سمع بعض آيات من القرآن فعرفأن نهاية الأمر مُلْك ونظام وحُكم ودولة، ونصح قومه أن يتركوا هذه المعركة، فلئنانتهى صدام محمد مع العرب إلى انتصارهم عليه فقد كسبوا أن لم يتورطوا في المعركةولم يقطعوا أرحامهم، ولئن انتهى إلى انتصار محمد فإنه في النهاية رجل من قريش،وانتصاره في ميزان قريش وتدعيمها لمكانتها وسلطانها!

وبعدها بنحو سبع سنين جلس النبي ﷺ يعرض نفسهعلى القبائل، فكان منهم بنو شيبان، وما إن سمعوا منه بعض آيات من القرآن الكريمحتى قال المثنى بن حارثة الشيباني في جملة كلامه: وإن ما جئت به يا أخا العرب مماتكرهه الملوك!

فانظر أيهاالقارئ وتأمل وتفكر، ثم أطل النظر والتأمل والتفكير، كم مسلما الآن يقرأ القرآنويفهم منه أن هذا القرآن تكرهه الملوك؟! فإن القرآن لم يتغير، والملوك لميتغيروا!

وانتبه إلى أن القائل هنا إنما كانيقصد ملوك الفرس، وهم ليسوا من العرب عبدة الأوثان والأصنام، بل كانوا على دينالمجوس عُبَّاد النار.. فاستوى في كراهة ما جاء به القرآن: عباد الأوثان وعبادالنار!

هذا الذي فهمه العربي من بضع آياتسمعها لأول مرة من القرآن الكريم هو الأمر الذي لا يشعر به الآن إلا أقل أقلالقليل من المسلمين. ولو أننا أجرينا استفتاءا بين المسلمين بعد انقضاء شهر رمضان:ماذا استفدت من القرآن في رمضان، فاسرح بخيالك وتوقَّع كم واحدًا من هؤلاء سيقول:إن هذا القرآن هو انتفاضة وحربٌ على الأوضاع الباطلة، وهو حركة ثورة وجهاد في عالمالسياسة؟!

تلك الفجوة الهائلة في فهم القرآن بينالعربي الجاهلي وبين المسلم المعاصر هي أصل أصول الفجوة الهائلة بين حال الأمةيومذاك وحالها الآن.. إذ كيف يمكن أن ينهض بالقرآن من لا يفهمه، ولا يعرف أشهرأصوله ومعالمه وأركانه؟!

(2)

لقد حاول المشركون أن يتخلصوا من هذاالحق القرآني الصادع الواضح الذي يصادم أحوال الجاهلية ويناقضها، ولقد ساومواالنبي على أن يفعل ذلك: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَالَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}[يونس: 15].

ولكن الله تكفل بحفظ كتابه الكريم؛ {إِنَّانَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وبهذا امتنععلى الملوك –ومن والاهم من علماء السوء- أن يغيِّروه أو يبدلِّوه أو يُحرِّفوه، كماقد وقع في الأمم الماضية، إذ كان الأحبار والرهبان { يَكْتُبُونَ الْكِتَابَبِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، وكانوا {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِلِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْعِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِالْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].

فلم يبقَ للملوك وعلماء السوء، بعد أنعجزوا عن تبديل الكلام وتحريفه، إلا أن يغيروا معانيه ويعبثوا في تأويله.

وذلك هو الذي نعانيه الآن، ترى الواحدمن أولئك الملوك ومن علماء بلاطهم يقبل المصحف الشريف ويكتبه بالذهب والفضة وينقشهعلى الجدران والقصور، ويبثه في الإذاعات والقنوات، ثم هو يُسَلِّط جهده كله لتزييفمعانيه وصرف الناس عنها، ويصب جام سطوته وسلطته على القائمين به الذين يجاهدونلتعليمه وبيان هداياته وإرشاداته!

فالآن، ها هي أمة تقرأ القرآن ولا تعرفكيف يمكن أن تحيله عملا حيا في واقع الحياة، أكثرها لا يعرف أن القرآن ثورة وحربوانتفاضة على الباطل، وأقلها يعرف ويعجز أو يعرف ويكسل أو يعرف وتغلبه شهواتالدنيا على نفسه!!

فهما إذن معضلتان عظيمتان: معضلة الفهموالوعي لهذا القرآن، ومعضلة تحويله إلى عمل وحركة، وبهاتين المعضلتيْن ترى كيف أنالقرآن الذي بعث الأمة ونقلها من رعي الغنم إلى سيادة الأمم، لم يعد يفعل فعله فيالأمة التي تسلط عليها سائر الأعداء، من صهاينة وصليبيين ووثنيين ومن لا دين لهم!

(3)

ما من سورة في القرآن الكريم إلا وهيتخاطب المسلم أن هذا الدين إنما أنزله الله ليكون نظاما وحُكْمًا وسلطانا، وأنهدين جهاد لا يقبل ببقاء الباطل والظلم، ولا يرضى بأن يكون المسلمون في ذلة وضعف!

هذه سورة البقرة قد حفلت بحديث الأمةالتي نكثت عهدها مع الله، أمة بني إسرائيل، وكيف أن الله انتزع منها هذا الشرفووضعه في أمة المسلمين، وأنزل عليهم التعاليم والتكاليف في الصيام والحج والزواجوالطلاق والقصاص والقتال والأموال!

وهذه سورة آل عمران تتلو حديث جهادالمسلمين الأوائل في بدر وأحد وكونهم خير أمة أخرجت للناس، وكونهم أولى الناسبسائر الأنبياء، فهم ورثة إبراهيم وإسرائيل وموسى وعيسى، وأن المؤمنين من أهلالكتاب هم الآن مسلمون!

وهذه سورة النساء قد حفلت بتعاليم تختصبالضعفاء من النساء والأيتام والمستضعفين، وما لهم من الحقوق في الأموال وفيالرعاية، بل وبأحكام القتال في سبيل تحرير المستضعفين، وفي إدانة من رضي بالضعفوأن يبقى في دار هوان!

وهذه سورة المائدة قد حفلت بتعاليمالعقود والأطعمة والصيد، والعلاقة مع أمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكيفيضرب الله مَثَلَهم على الانحراف عن الدين، وما صنعوه من التبديل والتحريف، وماأفضى بهم هذا إلى عصيان الله والاستكبار على أنبيائهم!

وهذه سورة الأنعام، تفتح بعد حديث طويلمتين عن الله وخلقه وقدرته واستحقاقه العبادة والحكم، تفتح مسائل الأطعمة والزروعوالثمار!

وهذه سورة الأعراف تتلو قصص الأعداء،بداية من الشيطان مع أبينا آدم، وتعرج منها على أحكام اللباس والثياب والزينة، ثمتمضي مع مواكب الأنبياء مع أقوامهم، وكيف كانت الأمم تتعامل مع أنبيائهم، ثم تتوقفالسورة وقفة ضخمة طويلة مع أمة بني إسرائيل التي حملت الرسالة فلم تقم بها ونكثتعهد الله معها، وكيف أنهم جحدوا نعمة الله حين أنقذهم من فرعون ومكنهم في الأرض ثمالتمسوا معصيته وعدم القيام به.. وهو تحذير شديد لأمة المسلمين التي أنقذها اللهمن الفرقة والخلاف والضعف، فأرسل فيهم رسولا وأنزل فيهم كتابا!

ثم تأتي سورة الأنفال ليكون حديثها كلهفي القيام بأعباء الرسالة والقتال في سبيل هذا الدين، وفي بيان أحكام الغنائم،وجملة من أحكام القتال مع الأعداء ومع الأسرى، وواجب الأمة في الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر والاتحاد في القتال!

وبعدها سورة التوبة التي نزلت بالأحكامالنهائية للقتال والحج والعلاقات الإسلامية الدولية، كما أنها فضحت المنافقينالكامنين في المجتمع المسلم، وكيف تكون أساليبهم، من بث الشائعات والاستهزاء بآياتالله والسخرية من المؤمنين والتثبيط عن القتال، بل حتى بناء المساجد يمكن أن يكونللصد عن سبيل الله!! وبينت السورة كيف يكون التعامل معهم، وكيف أن بعض الأعمالالتي يرتكبها المؤمنون قد تفضي بهم إلى النفاق كالبخل والتكاسل عن الجهاد ونحوها!

وهكذا.. ونحن لم ننظر بعد إلا في ثلثالقرآن الأول وحده.. وبقية السور على هذا النحو، أحكام في العلاقات الدوليةوالقتال، وأحكام في الطهارة والاستئذان داخل البيوت!!

(4)

لئن كان هذا شأن القرآن في توعيةالمسلمين بأن هذا الدين هو حكم ونظام وسلطان ودولة.. وهو ما يعالج المعضلة الأولى:معضلة الفهم! فإن هذا كله كان محفوفا بأمر آخر يعالج المعضلة الثانية..

لقد كانت هذه الأحكام والتعاليم محاطةومغشية من قبله وبعدها بآيات هائلة عظيمة تذكر المسلم بقدرة الله وقوته وحكمته،وبديع ما خلقه في النفس وفي السموات وفي الأرض، وبأن هذه الحياة كلها اختباروامتحان وأن المصير والأجر والنهاية ستكون في يوم القيامة!

أي أن أحكام القرآن ليست مجرد بنودقانونية تخاطب العقل والفكر.. لا، إنما هي ثمرة العبادة والخشية والمحبة لله..وأنها مهمة عظيمة لا يقوم لها إلا أفذاذ الناس الذين آمنوا بالله وتعلقوا بهوطلبوا بجهادهم الدار الآخرة!

إنه ما من قارئ يقرأ القرآن الكريمويقف متأملا بعض التأمل فيه، إلا ويخرج منه متشبعا بشأن الدار الآخرة، فهي الأمرالحاضر القريب الدائم، كما يخرج منه زاهدا بشأن الدنيا التي ستفنى والتي لطالمامرَّ عليها مواكب السابقين فلم يبق منهم سوى الأخبار والأحاديث.

إن التوقف مع سيرة الموت الذي ستذوقهكل نفس، ومع سير المُكَذّبين، ومع سير الأنبياء، ومع آيات اختلاف الليل والنهار،وانقضاء الشهور والسنين.. كل هذا يبث في النفس خاطرا دائما بأن الحياة ذاهبةوالأيام ماضية وما انقضى لن يعود وما قد جاء لن يبقى!

فمن قرأ القرآن الكريم وامتلأ من هذاالشعور انبعث بعده عاملا متحركا ساعيا باذلا قائما في الحياة بما يحب الله، راجياوجه الله والدار الآخرة، متسلحا بهذا الإيمان وهذه الخشية في وجه ما يراه منالصعوبات والتحديات والمشكلات!

لهذا ما تكاد سورة من سور القرآن، إذااستمع إليها المرء وفهمها، إلا ويراها طاقة هادرة جبارة تنزعه من الخمول والضعف،وتهيئه للمهمة العظيمة التي هو مكلف بها في واقع الحياة!

(5)

فلو كانت الأمة تتلو القرآن حق تلاوته،وكان علماؤها وواعظوها –الذين هم ورثة الأنبياء فيها- يبينونه للناس ولا يكتمونه،لكان العيد الذي يأتي على المسلمين عيدًا آخر!

كان سيكون عيد أمة منتفضة وثابة،منبعثة وهاجة، مجاهدة مقاتلة، نازعة عنها ثوب الضعف والخور والذلة والمسكنة، قائمةفي وجه أعدائها، ثائرة في وجه منافقيها!

لقد كان القرآن يُتلى على المسلمينالأوائل فكانت أعيادهم عزا ونصرا ومجدا، وكم قاتل المجاهدون في رمضان نفسه، وماذلك إلا أنهم كانوا عاملين بما يعلمون وما يقرؤون، فقد عرفوا أن حقيقة العبادة هيإقامة الدين وبناء دولته وحكمه وسلطانه وكسر أعدائه!

كذلك نرى كم قاتل المسلمون في شوال، وفيذي القعدة، وفي ذي الحجة.. ومن نظر في الغزوات والفتوحات رأى عجبا..

وإذن، فلقد كان المسلمون الأولونينتفعون من القرآن ومن رمضان ما لا ننتفع نحن الآن بمثله أو بشيء منه.. فنحن الآننصحو على أخبار غزة التي قد انفرد بها الأعداء يقطعونها تقطيعا ويمزقونها تمزيقا،بدعم ومساندة من المنافقين العملاء الحاكمين! ونصحو معها على أخبار لا تقل ألما بلتزيد في بورما وتركستان والهند والسودان وغيرها من ديار المسلمين!

إن أمامنا كفاحٌ شديد طويل لنحلّ هاتينالمعضلتيْن: معضلة فهم القرآن، ومعضلة تطبيقه وتنفيذه.. ما يليق بأمة المسلمين أنتكون أجهل بكتابها من رجل جاهلي سمع منه بعض آيات! وما يليق بأمة المسلمين أن تظنأن هذا القرآن مما يحبه الملوك! وما يليق بأمة المسلمين أن ترى القرآن يقبلالتعايش مع الباطل والظلم! وما يليق بأمة المسلمين أن تقبل بأن يكون القرآن محصورافي المساجد وأن يكون مجرد أصوات وهمهات وتنغيمات تتلى ولا أثر لها في واقع الحياة!

ليس القرآن الكريم أغنية.. وليس الذييتلوه مطربا.. وليس المسجد مسرحا.. وليست الأمة في حاجة إلى مزيد من الغناء!

هذا القرآن نظام وحكم وسلطان، وهوداعية ثورة وحرب وجهاد.. وهذه المساجد هي مصانع المجاهدين المقاتلين المناضلينالذين زهدوا في الدنيا وأقبلوا على الآخرة!

فإذا عاد هذا الحال كما كان، عادتأعيادنا أعيادا كما كانت!

نشر في مجلة أنصار النبي - إبريل 2025م

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 04, 2025 11:22
No comments have been added yet.