إبراهيم والفأس الحديدي

أب مستبد، مضطرب نفسيًا، لا يكتفي بإيذاء أبنائه وتفريقهم وحرمانهم من الميراث، بل يغرس جرائمه وعُقده في نفوسهم، حتى يستمر النزاع بين نسل الولدين، أيهما كان الأب مستعدًا لذبحه.
كيف تكون هذه صفات نبي، بل وأب للأنبياء؟ وكيف نجحت ذريته في إعادة تدوير حكاية دموية، مجردة من أي انحياز لمبدأ إنساني أو انتصار للعدل، وتحويلها إلى أسطورة مقدسة؟ كيف يصبح رجل غاضب، ناقم على الحياة وعلى كل من حوله، رمزًا للحكمة والسلام؟ هذا بلا شك درس روائي يستحق التأمل، عرض مدهش لقدرة الحكايات والأساطير على تحويل الأمنيات الواهية إلى جنات وارفة، والجريمة إلى بطولة، والدم إلى تضحية مقدسة.
المشهد الافتتاحي يشى بكل مركبات الاضطراب النفسي، في مدينة "أور" المدينة الأولى أو الأقدم التي حفظتها لنا السجلات ولا تزال شواهدها قائمة. أورو من أوائل التجمعات الحضارية التي عرفتها الإنسانية كمدينة. تشتهر كذلك بالزقورة أو أبراج المعبد التي بناها الملك أور نمو، مؤسس سلالة أور الثالثة، حوالي 2100 قبل الميلاد. هي واحدة من المعابد المخصصة لأله القمر ضمن مجموعة من المعابد لآلهة أخري، حيث كانت المدينة مركز تجاري على خطوط التجارة الدولية التي تربط بين أقصي الشرق حيث الصين أفغانستان، حيث يأتي القصدير ليتم خلطه مع النحاس المستخرج من الغرب حيث مصر وتركيا لصناعة البرونز. المعدن الذي قامت عليه الحضارة الإنسانية في العصر البرونزي (3300 ق.م – 1200 ق.م).
نعرف أن الحياة الاجتماعية في المدينة تشكلت من فلاحين وخدم وعبيد يقومون بالفلاحة والعمل الزراعي في الحقول التي تحيط للمدينة، وهناك طبقة من كبار التجار والاقطاعيين، تجاورهم طبقة من رجال الدين، ثم طبقة من أصحاب الحرف وجامعي الضرائب والقائمين على إدارة الدولة والمدينة. ولد إبراهيم لأحد هؤلاء الحرفيين.
لا ذكر للأم. أنه اليتيم المثالي، له أخ واحد على الأقل وفي أغلب الروايات أخين. أب فنان يعمل على نحت التماثيل وخدمة المعبد. هل بسبب وضعه الاجتماعي تضاعف شعور المراهق بالاغتراب عن واقعه؟ هل شعر اليتيم بالغبن من انشغال أبيه عنه؟ هل عانى من التمييز الذي فرضه الأغنياء وتجار المدينة وأبناؤهم؟ هل نبذه مجتمع الفلاحين والرعاة لأنه ينتمي إلى عائلة حرفية؟ وما الذي قد يدفع مراهقاً إلى الغرق في تأملات وجودية طويلة، رافضاً آلهة آبائه ومجتمعه
لو أن إبراهيم المراهق خرج إلى أهل أور وقال لهم: "لقد وجدت إلهاً جديداً"، لربما تبسموا في وجهه، بل ولربما ساعده والده في نحت تماثيل أو أيقونات لهذا الإله الجديد. لكن إبراهيم، الذي سيصبح لاحقاً مؤسس الديانات التوحيدية، لم يأتِ بقولٍ بسيط كهذا. لم تكن مشكلته، كما تصورها السرديات الإسلامية واليهودية، مجرد إعلان عن إله جديد. بل جاءهم بفكرة ثورية: "إلهي هو الإله الوحيد". إلهه هذا لم يكن مجرد بديل، بل كان أفعى تلتهم كل عصيانهم، وتهدم معابدهم، وتمحو حكمتهم القديمة من جذورها، وتطمح إلي إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمكان.
في ذلك العصر، كان من الطبيعي أن يعبد الإنسان أكثر من إله، وأن يعتنق أكثر من دين، بل وحتى أن يغير دينه كلما انتقل من مكان إلى آخر. كانت الأديان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحيز الجغرافي لأهلها، ولم تكن الآلهة تطمح إلى الانتشار خارج حدودها. فلم نسمع أبداً عن حروب في العصر البرونزي لفرض عبادة "رع"، ولم يخرج الحيثيون من تركيا لنشر عبادة الإله "تارهونت". بل على العكس، كان من الطبيعي أن يدخل الملك الغازي معبد المدينة المغلوبة، ويرتدي ملابس ملوكها، ويؤدي طقوسها الدينية ليحصل على الشرعية السياسية. حدث هذا مع الاسكندر المقدونى الذي حين دخل مصر لبس رداء ملوكها وسجد لالهاتها.
قبل ظهور الأديان الرعوية التي صارت تعرف بالتوحيدية، كانت التعددية هي شرط قيام الحضارة، وضمانة التعايش داخل أسوار المدينة الواحدة، واستمرار التواصل التجاري والتعاون المعرفي بين أبناء الأديان والمعتقدات المختلفة. لكن إبراهيم الصغير لم يجد لنفسه مكاناً في هذا العالم، مدفوعاً بهلاوس وأصوات تهمس وتخربش داخل عقله، يحمل فأساً ويدخل المعبد ويتقدم لهدم كل الإلهة، تاركاً إلها واحد.
المفسرون من الأديان التوحيدية، يرون الأمر لعبة وتسلية أن تهدم معابد الأخرين، وتترك الفأس معلقاً في صدر كبيرهم، حتى تواجه المؤمنين (الوثنيين كما يصفونهم) بتناقض ايمانهم. كيف لم تحمِ الإلهة أصنامها؟ القصة تتكرر في الأديان الثلاثة بصيغ متفاوتة التفاصيل لتعكس منطق معطوب، لا يميز بين الفكرة وصورتها/ايقونتها.
ما فعله المراهق لا يصلح لبداية حوار، بل إعلان لرفضه التعددية والاختلاف، وتبشير بزمن الاستبداد والوحدة. أن تفسير فعل إبراهيم بأنه ترك تمثال واحد لكى يعجز قومه، ويضعهم في مواجهة السؤال إذا كانوا إلهه فكيف لم يدافعوا عن انفسهم هو تفسير صبيانى، بل أن الغلمان قد يضحكون من هذا تفسير. فالكعبة التي بناها إبراهيم لإله الواحد مثلا سيتم هدمها أكثر من مرة والتعدي عليها وقصفها بالمنجنيق والرصاص والقنابل آخرها سنة 1979 حينما اجتحت فرقة عملية خاصة فرنسية الكعبة وأطلقت الغاز المسيل للدموع والرصاص داخل بيت الله الذي بناه إبراهيم.



----------------- --
مقدمة كتاب قصير ينشر قريبا
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 05, 2025 17:04
No comments have been added yet.