فلسطين: المحتل عدو واضح.

في الرواية الصحفية المصورة “فلسطين” يكتب ويرسم “جو ساكو” يومياته، مسجلاً مشاهداته في الأيام التي عاشها في فلسطين بعد الانتفاضة الأولى عام 1988.



فلسطين ل جو ساكو


كانت الانتفاضة الأولى أول حدث إسرائيلي/ فلسطيني يتم التعامل معه على مستوى إعلامي واسع، مشاهد تكسير العظام في بداية الانتفاضة لا تزال حاضرة -حتى الآن- في أذهان الكثيرين. ارتسمت تلك المشاهد من خلال وسيط جديد على القضية الفلسطينية: التلفزيون. كانت القنوات التلفزيونية تنقل المشاهد أولاً بأول، كل يوم. الأمر الذي لم يكن ليحدث أثناء النكبة، أو في أي وقت سابق.



في المخيم



قرر “جو ساكو” أن يستخدم وسيطاً آخراً غير التلفزيون، كان الوسيط هو التقرير الصحفي المصور.



“فلسطين” ليست “رواية مصورة” كما يوحي العنوان، بل هي مجموعة من التقارير الصحفية المصورة. يزور “ساكو” فلسطين ويصور -فوتوغرافياً- ما يشاهده، ويسجل في دفتره ما يراه، وما يسمعه من الناس. كل هذا وهو يخطط لمجموعة تقاريره، سنرى “ساكو” -في بعض الأحيان- ساخراً من نفسه، يقول إنه لما عايش هذا الحدث أو ذاك، فكر أنه قد يصلح كمشهد درامي في الكتاب. كان يسخر من تسجيله لمعاناة الآخرين. وبالتبعية، من المكسب المادي اللاحق لتسجيل هذه المعاناة. تلك الأزمة التي يقع فيها الصحفي كثيراً، حينما يغطي أحداثاً أكبر من قدرته على الاحتمال.




ساكو متجولاً في المخيم


لكن “ساكو” يتجاوز تلك الأزمة، ويكتب ويرسم لتتحقق الفائدة في النهاية.



يبدأ الكتاب من القاهرة، في أوائل التسعينيات، يصفها “ساكو” بالمدينة المجنونة المزدحمة، ولا نعلم أي صفة أدت للأخرى. يترك “ساكو” القاهرة سريعاً، لنراه بعد أسبوعين في مدينة نابلس. ومع أول رجل فلسطيني يقابله، يحكي الرجل له بإنجليزية بسيطة ما يحدث، يمسك بذراعه ليريه أفعال جنود جيش الدفاع، أو آثار أفعالهم. بعد ذلك، وخلال رسمه وحكيه، سنجد أن فعل الحكي للأغراب معتاد تماماً، بالنسبة للفلسطيني. وسأتساءل طوال الوقت: هل هذا ناتج من ثقافة الانفتاح على الآخر، في هذه الحالة: الأجنبي. أم أن الفلسطيني يرى أن تلك هي الوسيلة الوحيدة لإعلام الغرب بعدالة قضيته، بمدى الظلم الواقع عليه.



تبدأ المناوشات بين جنود جيش الدفاع الإسرائيلي وبين الفلسطينيين برمي الحجارة: يرمي فتى فلسطيني حجراً على دورية اسرائيلية، أو مجموعة من المستوطنين، ليرد الجنود -فوراً أو بعدها بفترة قصيرة- بقنابل الغاز والرصاص المطاطي، وأحياناً بالرصاص الحي. تختلف البدايات أو النهايات، لكن المناوشات لا تخرج عن هذا السيناريو. الفارق هنا، أن رجل الشارع الفلسطيني لم يلق باللائمة أبداً على رامي الحجر، بل سيلوم مطلق النار، ربما لأنه أجنبي، ربما لأنه محتل.



يتحرك المستوطنون بثقة زائدة، يحملون أسلحة آلية، ويقتحمون الأحياء العربية ليطلقوا النار في الهواء، وعلى البيوت، يكسرون زجاج نافذة، أو يصنعون ثقوباً برصاصاتهم في الجدران.



يصنع الرصاص المتطاير بإرادة المستوطن سياجاً حامياً له، يدرك أن في استطاعته استخدام الطلقات في أي وقت لحماية حياته وحياة من حوله، الرصاص هنا يعني القوة والسيطرة، وإطلاق النار هنا يتم بشكل منهجي، رصاص متناثر في الهواء أغلب الوقت، وموجه نحو الجوامد في أحيان قليلة، وموجه نحو الأحياء في حالات شديدة الندرة، والغرض من كل هذا ليس إصابة أحدهم، لم يكن الغرض الإبادة أو القتل، بل الغرض هو الإرهاب؛ إطلاق النار على البعض يهدف في النهاية إلى أرهاب الكل.



يقوم المواطنون الاسرائيليون الشرفاء بإطلاق النار بشكل عشوائي في حي عربي، ليعودوا إلى منازلهم آمنين، في اليوم التالي، يكتشفون أنهم قتلوا مواطناً فلسطينياً. ليحاكم أحد المستوطنين بعد شهور، وتتم تبرئته في الجلسة الأولى. بينما يعاقب فتى فلسطيني -في حادثة أخرى- بالسجن لخمس سنوات، لرميه زجاجة مولوتوف.




زاوية ساكو المفضلة


خلال التقارير، يؤكد “ساكو” أن الفلسطيني لم يستخدم إلا الحجارة أو المولوتوف لمواجهة جنود جيش الدفاع، هذه هي أسلحة الهجوم بالنسبة للفلسطينيين، أشياء صماء، لا تحوى أجزاءً مركبة أو متحركة، يستخدمها الفلسطيني يومياً من أجل أغراض أخرى، ولا يجد غيرها سلاحاً حين المواجهة، الحجارة والملوتوف أسلحة الضعفاء.



مع الوقت، يدرك رامي الحجر أن فرصة إصابة جندي إسرائيلي بحجره ضئيلة للغاية، ربما يظل عمراً كاملاً يرمي أحجاراً في الهواء، ولا يصيب أحدها انساناً واحداً. لكن رمي الحجارة تطور ليصبح عادة ورمزاً فلسطينياً، هجوم يائس على عدو مكروه.



بدأت الانتفاضة الأولى في معسكر جباليا للاجئين، في الثامن من ديسمير عام 1987، اعتراضاً على الأوضاع المعيشية الصعبة هناك، في اليوم التالي سقط أول قتيل فلسطيني: “حاتم سيسي“. يسجل “ساكو” اسم “حاتم سيسي” بكثير من التقدير، مدركاً أن الملايين قد قرأت الاسم، وأن الملايين ستعيد قراءته، مدركاً أن وفاته كانت سبباً في اشتعال الانتفاضة، تلك التي نسميها اليوم بالانتفاضة الأولى.



يقابل “ساكو” مصوراً يابانياً، يحاول “سابورو” التقاط صوراً للاشتباكات، لحياة الفلسطينيين اليومية، سابورو ابن وفي للثقافة اليابانية المؤمنة بالأرواح. في أحد المشاهد يناول “ساكو” صورة أحد الشهداء، ويقول له متألماً: ثقيلة، لا أستطيع حملها. يغيب سابورو عن الأحداث بعد فترة، يوحي غيابه بأنه لم يتحمل ما يحدث للناس هناك. بينما تظل روح الشهيد هائمة غاضبة.



سيعاني “ساكو” مما يحدث حوله أيضاً، لكنه سيستمر في الترحال ومقابلة الناس بإصرار بالغ، بل وسيحافظ على نظرة ناقدة لكل ما يحدث حوله، سيسقط -وهو واع لذلك- في فخ التنميط الغربي الشهير، وسيدرك أن هناك عيوباً حقيقية لدى الفلسطينيين في ذلك الوقت، سينقلها لنا بكثير من الأمانة. لكنه في النهاية سيخرج يائساً تماماً، أو هكذا أظنه، فالوضع المعقد هناك -في ذلك الوقت- لم يكن يوحي بأي حلول فعالة.



يؤمن الكثير من الفلسطينيين بأن اسرائيل لا تود أن تعيش في سلام، هذا إيمان يكررونه أمام “ساكو” في أوقات عديدة. على الجانب الآخر، يؤمن البعض أن الكفاح المسلح هو الحل الوحيد. يحكي “ساكو” قصة صبي مراهق، تم تجنيده في الجبهة الشعبية، يحاول “ساكو” أن يكون محايداً، لكن نبرة الاتهام تتضح في كلمات الفتى، تلك التي ينطقها ببراءة، بينما يحمّلها “ساكو” اتهاماً للجبهة باستغلال الفتى لصغر سنه، بتجنيده ككادر فعال في الجبهة. تعرّض الفتى لإطلاق النار وللتعذيب والإرهاب، الأمر الذي أدى لخلق حالة من الثأر بينه وبين الطرف الآخر. كانت النتيجة الإجمالية إهمال الفتى لدراسته، بدا أنه غير مهتم أصلاً بما يحدث في المدرسة، الآن يبدو لوم “ساكو” لما يحدث منطقياً، لكن اللوم لا يقع على الجبهة الشعبية فقط، بل يقع على الجميع.



يسجل “ساكو” إصابة عين واحدة: فقدت فتاة عينها اليسرى خلال أحد الصدامات العديدة -مافيش خرطوش- لتظل صامتة تحت تأثير الصدمة لعشرة أيام. لا يخبرنا “ساكو” عن مصيرها بعد ذلك، لكنه ينقل عن أحد مديري مراكز التأهيل ملاحظاته عن المصابين: يشعر المصاب بالبطولة فور إصابته، هو إنسان شجاع، واجه العدو وأصيب في المعركة، ولذلك يحرص المحيطون به على تأييده ودعمه، يحرص الجميع على حسن المعاملة. لكن كل هذا يفتر رويداً رويداً. ويصل المصاب بعد فترة من الوقت إلى استنتاج: هو الآن واحد أصيب إصابة بالغة، ستعيقه عن العمل وكسب الرزق، وربما تقف حائلاً بينه وبين الزواج أو تكوين أسرة. ستنتهي فترة شهر العسل، ويبدأ المصاب في التعايش مع الإصابة. مدركاً في النهاية -وبسبب عدم تحقيق أي مكاسب- أن التضحية التي قدمها راحت سدى. كل ما سيبقى، أن أحدهم فقد ذراعاً أو عيناً.




اعتقال تعسفي


في التقارير المعنونة: “الضغط المتوسط“، يصف “ساكو” معاناة سجين فلسطيني، تم اعتقاله لأسباب غير مفهومة، ليمر بجحيمين: البيروقراطية والحبس. يمكن للسجين أن يظل قيد الاعتقال لفترة غير محددة، فطبقاً للقانون، يستمر حبس السجين -احتياطياً- لفترة ستة أشهر، ويمكن للقاضي تمديد تلك الفترة حسبما يرى. يثير مشهد القاضي وهو يجدد فترة الحبس، بدون محاكمة، وبطلب من الجهة الأمنية المعتقلة، بحجة جمع معلومات أو أدلة تفيد الإدانة، يثير مشهده الشك في مفهوم العدالة؛ هل هي قاصرة على أصحاب السلطة والقوة، على موظفي الدولة، على المحتل؟ أم أنها يمكن أن تتسع لتشمل كل الناس؟



بينما يمر حبس السجين ككابوس أبدي، هلوسات العزلة والتقييد إلى ماسورة حديدية، والجلوس لساعات طويلة بلا حركة، كلها تتجمع في النهاية، ليرى السجين ابنته ملقاة ميتة أمامه، في تتابع طويل، يمتد لعدة صفحات، هو أفضل ما رسمه “ساكو” في الكتاب. تقل مساحات الكادرات كلما مر الوقت داخل الزنزانة، تتعدد الكادرات أيضاً، ربما لتوحى بالضيق الذي انتاب السجين، وببطء تقدم الدقائق كلما طال وقت الحبس.




هلاوس الاعتقال


تظهر موهبة “ساكو” في بالونات الحوار المتصلة، تلك التي تقسم الصفحة إلى قسمين، وفي نفس الوقت، تقسم الحوار الطويل المترهل إلى جمل قصيرة، يمكن للقارئ أن يسمعها أثناء قراءتها. تظهر أيضاً جرأة “ساكو” على الجانب الآخر تماماً، فنجده يكتب ملاحظة طويلة، تشغل ربع الصفحة بالكامل، كلام كثير غير معتاد في القصص المصورة، ربما ﻷننا نظن أن القارئ سيمل النصوص الطويلة، أو أنه لن يكمل قراءتها لانشغاله بالرسم. لكن جرأة “ساكو” منطقية هنا، فنحن لا نقرأ خيالاً أدبياً، بل نقرأ تقريراً صحفياً. سيستمتع القارئ كثيراً باللوحات الكاملة، تلك التي تصور مشهداً من الحياة اليومية لمعسكر لاجئين تحت قصف الأمطار، أو تصور ساحته الرئيسية بعد المطر، حيث يحاول اللاجئون التقافز عبر البرك الطينية، ذاهبين إلى المدارس أو العمل أو عائدين إلى بيوتهم. يصور “ساكو” الجميع في حالة حركة، خطوة في منتصف الصفحة، وقفزة في طرفها. ليؤكد على استمرار حالة التعايش التي يحترفها اللاجئون.


نشر هذا المقال في مجلة المجلة، العدد الثالث، بتاريخ يونيو 2012




2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 28, 2012 02:43
No comments have been added yet.