الموتُ لا يضحكْ
وأنا في مهمة تلخيص قصته، كطلبٍ منه، ولا أدري لماذا قال أنَّه الطلب الأخير! كان يجب أن أكتب هذا: شخص في بدايات حياته كان مثاراً لسخرية الآخرين، إذ كان يشكِّل بصمتّهِ وبتمتمتهِ في الكلام، أقوى دافع لهم لأذيّته، فما الذي يمكن أن يحمي مشاعره من التلف؟ وإذ ذاك كان كل ما قدر عليه للدفاع عن نفسه هو الاختباء. "تعلم ما يقولون عن أن الوقاية خير من العلاج فلماذا تصر على الخروج، هه؟" إذاً، ما كان الغبي -طلب مني أن أصفه بهذا- يخرج إلا نادراً، لجلب القليل من الغذاء الذي يكفي لأسبوع أو أسبوعين، بقدر ما تجود به سعة اليد الضيقة، ثُمَّ والقليل من الكتب، ليعود بعدها كحيوان الخلد، هارباً من الشوارع بأقصى ما استطاع من قوة، للولوج إلى جحره الجميل الكئيب الرطب، متفنّناً في وضع الأقفال على أبواب روحه. وهنا بالذات، في جحرهِ هذا، كان قادراً على البعد من الناس، لكنَّه أبداً لم يستطع هشَّ الذكريات، ولم يجد بُدّاً من مقارعتها، كتفاً بكتف، خارجاً كعادته خاسراً حسيراً أسِيفاً. لم يجد فكاكاً من استرجاع تلك الأيام، ودائماً ينتفض بجسده كله كأنه ممسوس، بل كأنَّ قوى خفية تستلذ باللعب به.
الذكريات الَّتي هرسته تتناوب عليه أكثر حين يستذكر أيام الجامعة السوداء. أيَّهما الأسود، أيام الجامعة أم روحي؟ كليهما يقول. حين يتذكرها وأيامها فإنِّه لا يتذكر نفسه إلا موليّاً هرباً منها، يقضي دروسه غائباً بصورة أو بأخرى، عن الوعي. وحين ينتهي هذا ويبدأ البقية بالتوزّع ما بين الأنشطة السياسية والاجتماعية، أين كنت تجده؟ هارباً في الطريق إلى البيت، أو ميمّماً شطر المكتبة خائفاً يترقّب. حتَّى ولو جلس بإلحاح من إنسّي لعين فلا بدَّ أنَّك كنت ستشاهدهُ بعيداً منزوياً صامتاً، يرقب الآخرين بوجل، بعينين لامعتين كنصل بارد.
ليكون حقّانيَّاً، أخبرني أنَّ العلَّة في شخصهِ وفي طريقة اندماجه فلو كان في أي جامعة عدا هذه لأُصيبَ بنفس الأعراض. ذكر أنَّ روحهُ أكثر ظلاماً. "على كل حال فلأذهب وليذهب الجميع إلى الجحيم"، قال.
كان عليَّ أن أكتب هذا، قال لي أن الذي بيده القلم لا يكتب نفسه شقياً: أنَّه وفي غمرة تشنجاته التي خبّأها عن الجميع، في لحظات معينة، كانت فجأة ما تدبُّ في رأسه تلك القوة الخارقة، بحيث حين يخرج للشارع فإنه يحوِّل ضحك الآخرين عليه، والذي استمر في تخزينه طوال روحه في جروحه، يحوّل كل هذا الألم الذي برع في تسجيله، يحوّل ضحكهم واستهزائهم الآني والسابق، يحوّلهُ في توّهِ ولحظتهِ إلى طاقة مهولة، تتوارى خلف سجون القلب ويتم شحنها بكئيب الذكريات، ثم ينادي عليهم -في رأسه- بأسمائهم، ويجمعهم، فيأتي بهم واحداً واحداً، لكأنَّ رأسه يوم القيامة! فيفلح الجسد المغمول في جراحه بتعذيبهم البدني على سبيل الخيال، بقدر تعذيبهم النفسي له. ويا لهُ من خيال، ويا له من إحساس عظيم كان يحسه! يقول أن الخيالات لا تحدث إلا حين تنتهي الأقراص أو يزول مفعولها.
كان عليَّ أن أكتب ما ذكره عن جلسات العلاج التي لم تفلح. كان علي أن لا أبكي حين ردّد هذا الكلام.
كان عليّ أن أكتب هذا، لكنّه ما تركني أكمل القصة حتَّى وجدت هذه الرسالة الطويلة التي تفيد أنَّه -بالصورة الَّتي طالما راودته في أحلامه السعيدة- قدّر أنّه سيجزر نفسه اليوم، بإخراجه لقلبه عديم الجدوى، ومخاطبتهِ إن تبقّت له أنفاس: "لماذا؟". ثم يرميه في الحمام إنْ هو قدر، مُشغّلاً أغنية يسمعها تنبعث من مكان بعيد، عن الفراق السعيد، يصرخ فيها أحدٌ ما: "أنقذني"، فيجيبهُ هازئاً مبتسماً، أنَّ الموتَ لا يضحكْ. كنت سأكتبُ كلَّ هذا لولا أنَّ مفتاح غرفتهِ يقبع بصورة لا أعلم كيفيتها، في جيبي. كنتُ سأكتب هذا لو أنَّي عرفت كيف دخلت غرفتهُ... كيف ومتي؟ كنتُ سأكتبُ كلَّ هذا لولا أنَّني قرّرت أن اليوم هو اليوم المناسب لأخرج قلبي من مكمنه.
الذكريات الَّتي هرسته تتناوب عليه أكثر حين يستذكر أيام الجامعة السوداء. أيَّهما الأسود، أيام الجامعة أم روحي؟ كليهما يقول. حين يتذكرها وأيامها فإنِّه لا يتذكر نفسه إلا موليّاً هرباً منها، يقضي دروسه غائباً بصورة أو بأخرى، عن الوعي. وحين ينتهي هذا ويبدأ البقية بالتوزّع ما بين الأنشطة السياسية والاجتماعية، أين كنت تجده؟ هارباً في الطريق إلى البيت، أو ميمّماً شطر المكتبة خائفاً يترقّب. حتَّى ولو جلس بإلحاح من إنسّي لعين فلا بدَّ أنَّك كنت ستشاهدهُ بعيداً منزوياً صامتاً، يرقب الآخرين بوجل، بعينين لامعتين كنصل بارد.
ليكون حقّانيَّاً، أخبرني أنَّ العلَّة في شخصهِ وفي طريقة اندماجه فلو كان في أي جامعة عدا هذه لأُصيبَ بنفس الأعراض. ذكر أنَّ روحهُ أكثر ظلاماً. "على كل حال فلأذهب وليذهب الجميع إلى الجحيم"، قال.
كان عليَّ أن أكتب هذا، قال لي أن الذي بيده القلم لا يكتب نفسه شقياً: أنَّه وفي غمرة تشنجاته التي خبّأها عن الجميع، في لحظات معينة، كانت فجأة ما تدبُّ في رأسه تلك القوة الخارقة، بحيث حين يخرج للشارع فإنه يحوِّل ضحك الآخرين عليه، والذي استمر في تخزينه طوال روحه في جروحه، يحوّل كل هذا الألم الذي برع في تسجيله، يحوّل ضحكهم واستهزائهم الآني والسابق، يحوّلهُ في توّهِ ولحظتهِ إلى طاقة مهولة، تتوارى خلف سجون القلب ويتم شحنها بكئيب الذكريات، ثم ينادي عليهم -في رأسه- بأسمائهم، ويجمعهم، فيأتي بهم واحداً واحداً، لكأنَّ رأسه يوم القيامة! فيفلح الجسد المغمول في جراحه بتعذيبهم البدني على سبيل الخيال، بقدر تعذيبهم النفسي له. ويا لهُ من خيال، ويا له من إحساس عظيم كان يحسه! يقول أن الخيالات لا تحدث إلا حين تنتهي الأقراص أو يزول مفعولها.
كان عليَّ أن أكتب ما ذكره عن جلسات العلاج التي لم تفلح. كان علي أن لا أبكي حين ردّد هذا الكلام.
كان عليّ أن أكتب هذا، لكنّه ما تركني أكمل القصة حتَّى وجدت هذه الرسالة الطويلة التي تفيد أنَّه -بالصورة الَّتي طالما راودته في أحلامه السعيدة- قدّر أنّه سيجزر نفسه اليوم، بإخراجه لقلبه عديم الجدوى، ومخاطبتهِ إن تبقّت له أنفاس: "لماذا؟". ثم يرميه في الحمام إنْ هو قدر، مُشغّلاً أغنية يسمعها تنبعث من مكان بعيد، عن الفراق السعيد، يصرخ فيها أحدٌ ما: "أنقذني"، فيجيبهُ هازئاً مبتسماً، أنَّ الموتَ لا يضحكْ. كنت سأكتبُ كلَّ هذا لولا أنَّ مفتاح غرفتهِ يقبع بصورة لا أعلم كيفيتها، في جيبي. كنتُ سأكتب هذا لو أنَّي عرفت كيف دخلت غرفتهُ... كيف ومتي؟ كنتُ سأكتبُ كلَّ هذا لولا أنَّني قرّرت أن اليوم هو اليوم المناسب لأخرج قلبي من مكمنه.
Published on November 18, 2015 10:47
•
Tags:
موت
No comments have been added yet.