“العظماء المائة 19″.. لماذا العرب؟
بسم الله والصلاة والسلام علي رسول الله
مرحبا بكم، هذا جهاد الترباني يحييكم في الحلقة التاسعة عشرمن برنامج:”العظماء المائة”.
هذه الحلقة اعتبِرهامن أهم حلقات البرنامج، لأنها ستكون مقدمة لعدة حلقات متتابعةان شاء الله عن ابطال من قومية عظيمه، قومية، من اعظم القوميات المُكوّنة لأمه الاسلام. انها القومية التي ينتمي اليها نبي الاسلام وجُّلُّ صحابته الكرام، وكثير من الفاتحين الاوائل الذين ينتمون لهذه الامه. انها قوميه العرب. وفي هذه الحلقه، سنحاول الإحابةعن سؤال مهم:
لمادا العرب؟
سنحاول فهم الحكمه في اختيار الله العلي الحكيم لرجل عربي من قريش لكي يحمل رسالته الخاتمة الى العالمين. والحكمه وراء اختيار العرب بالتحديد ليشكلوا جل اصحاب رسول، الله صلى الله عليه وسلم، ولكن وقبل كل شيء يجب التنويه الى امر مهم جدا وهو ان الحديث في هذه الحلقه سيكون عن قوميةِ العرب كقوميةٍ حاضنةٍ للرساله المحمديه، كانو ولا زالو ماده الاسلام كما وصفهم امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه، ونحن بحديثنا عن العرب لا نقصد من قريب او بعيد التحدث عن الفكر العربي الفاشي والقوميين العرب المشبعين بمرض العنصريه المُنتنة والذين يعتقدون انهم افضل من باقي الخلق.
وكنت في حلقات سابقة قد فصلت عن قومية الترك وابطالٍ من الترك المسلمين لدرجه اعتقد فيها البعض ان مقدِّم البرنامج ينتمي الى اصول تركية. وسندكر في حلقات قادمه ابطالا من قوميات اسلاميه عظيمه كالأمازيغ والأكراد والهنود والشركس وابطال مسلمين من الفرس، واخرين افارقة وعظماء اسياويين، وعظماء مسلمين من اصول اروبية، وابطال من الأمريكيتين. ومن قرأ كتاب “مائه من عظماء أمةالاسلام غيرو مجرى التاريخ” يدرك جيدا كيف تم اختيار عظماء من كافة القوميات ليكونوا ضمن سلسله المائة.
الاسلام لم يحارب القبلية والقومية بشكل مطلق كما يعتقد البعض، بل قام الاسلام بتوجيه انتماء الانسان وجَعلِهِ ضمن حدود اوسع لأمة عملاقة اسمها امة الاسلام، مع مراعاة الفوارق الإنسانية الموجودة بين الناس. فكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، على سبيل المثال يقسم الجيش المسلم وِفقا لقبائل الجنود، فكانت القبائل العربية تتنافس فيما بينها ايها يدافع عن الاسلام اكثر من باقي القبايل. وقام كثير من قاده الصحابه بتقسيم جيوشهم وِفقاللتعدد القبلي ايضا. فليس عيباً على المسلم ان يفتخر بعشيرته او قوميته في الجوانب الإيجابيه التي يراها طبعا، ولكن الخطورة تكمن في تحويل القبيلة او القومية الى آلِهةٍ تعبد من دون الله. هذا الأمرمن اهم اسباب تمزق الأمّة في هذا الزمان، ولن يعود للأمّة مجدها الا اذا تخلصت من امراضها العنصريةالتي مزقت اوصالها وزرعت الكراهية بين افراد المجتمع الواحد.
وفي هذه الحلقه المهمة، سنحاول ان ندرس الواقع الإجتماعي والثقافي للعرب في فترة ما قبل الاسلام لفهم البيئة التي اخرجت جيل الفاتحين الاوائل لأمة الاسلام , البيئةالتي نشأ فيها رسول العالمين محمد، صلى الله عليه وسلم، لنرى في نهاية هذه الحلقه إن كان العرب قبل الاسلام حقاً مجرد قبائل همجية، لا همّ لها غيرالقتل وشرب الخمر ووَأدِ البنات وارتكاب انواع الرذائل كما تصورهم لنا بعض كتب التاريخ و وسإل الاعلام، ام ان العرب كانت لديهم ام ان العرب قبل الاسلام كانت لديهم مميزات اخلاقيه واجتماعية جعلتهم اقرب شعوب الارض لتقبل رسالة التوحيد الخاتمة.
ولكن، كيف كانت اخلاق العرب قبل الاسلام؟
كثير منا يتصور ان العرب قبل الاسلام كاناو مجرد قبائل همجية ولم يكن لديهم اي مظهر من مظاهر الحضارة الانسانيه، وان الاسلام ظهر بينما كان العرب غارقين في مستنقعات التخلف الاجتماعي والثقافي والواقع ان هذا الكلام يحتوي على مغالطاتٍ خطيره تاريخيا وربما شرعيا ايضا. فمع تسليمنا ان الاسلام رفع العرب، وجعلهم قادة في امة عظيمة، إلا ان هذه المبالغات في النقلة الثقافية والاجتماعية التي نقل فيها الاسلام العرب لا تخدم الدعوة الاسلاميه بقدر ما تسيء اليها. ناهيك انها مبالغات غير حقيقية من الناحية التاريخيةالعلمية.
ومن المؤسف في الامر ان كثيرا من الدعاة المتحمسين ينشرون مثل هدا الاعتقاد الخاطيء عن عرب ماقبل الاسلام ظناً منهم انهم بذلك يبرزون قيمة الاسلام وقدرته على التغيير, والحقيقة التي غاب عنها هؤلاءِ، ان مايقومون به ليس مدحا في الاسلام بقدر ماهو ذمٌّ في اصل نبيهم, نبي هذا الدين محمد ابن عبد الله الهاشمي القرشي العربي، صلى الله عليه وسلم، فالبيئة العربية في حِقبةِ ماقبل الاسلام التي اصطُلِحَ على تسميتها بحقبة الجاهليه لم تكن كما يصورها الاعلام فترة همجية مخيفة يقتل فيها الناس بعضهم بعضا في الشوارع ولا يمشي فيها العربي الا وهومترنّحٌ تحت تأثير الخمور والمفاسد الاخلاقيه.
هذا الامر غير صحيح على الاطلاق، فالجاهلية مصطلح ظهر مع ظهور الاسلام يشارفيه الى الحقبةالتي سبقت الاسلام ويُرتبط هذا المصطلح بالناحية الدينية وجهل الناس بالدين الصحيح ولا يُقصد فيه الناحيه الحضارية والفكرية للعرب قبل الاسلام فالحقائق التاريخية تشير بشكل واضح الى ان الواقع العربي في تلك الحقبه شهد تنوعا فِكريا وحضاريا تثبته الاثار والدلائل الادبية التي كانت سائدة في منطقه شبه الجزيرة العربية، منها امثلة عديدة نذكرمثلا سدّ مأرب كدليل على التقدم العلمي والعمراني والنُّظم التجارية والاجتماعية المتقدمة حضاريا والمؤلفات الادبية والثقافية ومن اشهرها المعلقات. كل هذه الامور تشير بشكل واضح الى ان العرب كانوا متقدمين كثيرا في مجالات فكرية وثقافية وحضارية متنوعة، فصحيح ان المجتمع العربي قبل الاسلام لم يكن مجتمعا ملائكيا، ولكن العرب لم يكونوا ايضا شياطين كما يراد لنا ان نتصورهم. فمع ان كثيرا من السلبيات كانت موجودة بين العرب قبل الاسلام، إلا ان العرب في زمن الجاهلية كانت لديهم من مكارم الاخلاق مالم يكن موجودا عند كثير من امم الارض وقتها،بل كان لدى العرب في زمن الجاهلية من مكارم الاخلاق والادب الرفيع ما لا يوجد عند كثير من المسلمين الآن للاسف من غيرة على الاعراض ونصرة للمظلوم وحتى احترام المرأة. لذلك قال رسول الله:
“إَّنمَا بُعِثتُ لأُتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاق”
ولم يقل لأعلّمكم مكارم الأخلاق او اصنع لكم مكارم الاخلاق، فمكارم الاخلاق كانت منتشرة بين العرب منذ مئات السنين، بل كانوا يُعظمونها ويحترمون صاحبها.لذلك عرب الجاهلية هم من اطلق على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقب الصادق الامين، وكانوا يحبونه لصدقه وامانته, قارن هؤلاء بقوم لوط، عليه السلام، مثلا الذين كانوا يكرهونه لأنه كان طاهرا وقالوا :
*أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُوْنَ*
بل لو تأملنا معا ايات القران الكريم والسيرة النبوية لوجدنا ان التركيز في دعوة العرب بالتحديد كان ينصبّ بالاساس على إقناع العرب بتوحيد الله اكثر بكثير من إقناعهم بمكارم الاخلاق الاسلاميه التي كانوا بالاساس يؤمنون بكثير منها،بل ويمارسونها في حياتهم اليومية.
مشكلة العرب الحقيقية لم تكن كما يراد لنا ان نفهم انها كانت في الاخلاق الفاسدة، بل كانت مشكلتهم الحقيقية هي في العقيدة الفاسدةالتي كانت تشرع بوجود شركاء لله وربما محاولة البعض تصوير العرب قبل الاسلام بأنهم امة همجية يصب في النهاية في مصلحة خُطة خبيثة بدأ غزاة التاريخ وعملاؤهم في نشرها بشكل ملحوظ في الآونة الاخيرة، فهؤلاء الخبثاء بعد ان فشلوا في تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم ككذاب، يريدون الآن اتباع الخطة البديلة التي تريد تحويل صورة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، من نبي دعا الى عبادة الله وَحدِه الى مُصَلِّحٍ اجتماعي خرج في بيئةٍ فاسدة اخلاقيا بهدف نشر الاخلاق والادب فقط.
ومع مرور الوقت يتم التركيز في هذه الخطة الخبيثة على الجوانب الاخلاقية للدعوة المحمدية مع إهمال الجوانب الفكرية مستغلين انتشار بعض المظاهر الاخلاقيه السِلبية في كثيرمن البلدان الاسلاميةلننسى انا وانت في نهاية الامر ان محمدا صلى الله عليه وسلم جاء ليخرج العباد من عباده العباد الى عبادة رب العباد. ولا استبعد ان مبالغة كتب التاريخ المدرسية في بعض الدول الاسلاميه بالحطِّ باخلاق العرب قبل الاسلام يهدف بالاساس الى صرف اطفال وشباب الامة عن جوهر الاسلام الحقيقي-ـالتوحيدـ،واظهاره كدين اخلاق فقط لذلك لا تستغرب عند سماعك بأصوات َنشَاز ترتفع من حين الى آخر تنادي بالغاء تحفيظ القران او إلغاء مادة الدين وابدالها بمادة الاخلاق في المدارس. ولا تستغرب عند انتشار عشرات البرامج التلفزيونية في الآونة الاخيرة التي تتحدث بشكل مكرر و وسطحي عن الجانب الاخلاقي في الاسلام فقط وتصور المجتمعات الغير اسلامية كمجتمعات غاية في الروعة والادب والحضارة وتغفل ان تلك المجتمعات لا تؤمن بوجود رب من الاساس او تصنع ربها من الحجر او الخشب، بل و تعبد الحيوانات في بعض الاحيان او حتى المخلوقات الفضائية،هذا الامر ينطوي على خطورة كبيرة قد تؤدي الى افتتان كثير من الشباب في دينهم.
فالحقيقه التي ينبغي ان نتعلمها انا وانت ان هذا الدين الذي انزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دينا شاملا عقيدة واخلاقا.
ومن خلال الدقائق القادمة وعلى مدار حلقتين متتاليتين، سنحاول رسم صورة كاملة للمجتمع العربي قبل الاسلام من خلال عرضنا لبعض الاخلاق الحميدة التي كانت منتشرة بين العرب في الجاهلية، وذلك باستشهادنا ببعض الدلائل التاريخيه التي وردتنا من كتب التاريخ وبعض الابيات الشعرية التي توثّق لتلك المرحلة، فالشعر -ـ كما قيل ـ ديوان العرب.
وسيكون هدفنا الاول والاخير من هذا العرض هو الدفاع عن اصل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل صحابته الكرام.الدفاع عن جوهر هذا الدين في زمن، تطاولت فيه الألسنة على هؤلاء العظماء وصار يُفتخر بحضارات مجرمة مقابل الطعن بالعرب والاسلام.
ولكن وقبل كل شيء علينا اولا ان نعرف من هم العرب.
العرب شعوب ساميةمن ذريه سام ابن نوح عليه السلام. موطنهم الاساس شبه الجزيرة العربية الواقعة في الركن الغربي الجنوبي للقارة الاسيوية.
أُختُلِف في سبب تسميتهم بالعرب، فهناك من يرجع تسميتهم نسبة الى جدهم يَعرب ابن قَحطان، وهناك من يرى ان لفظة عربي جائت من الفعل العربي يُعْرِب، اي ُيفْصِحُ عن الأمر.وذالك لأن العرب اشتهروا بالفصاحة. ويرى بعض الباحثين ان كلمة”عرب” مشتقة من اصل سامي قديم بمعنى”الغرب”. فقد اطلق سكان بلاد مابين النهرين اسم عربي على الأقوام الذين كانوا يقيمون في البادية الواقعة الى الغرب من بلادهم. ويرى اخرون ان كلمه عرب مشتقة من كلمات عِبرِيّة ذات الصلة بالبداوة و البادية”ارافا” وتعني الارض الداكنة، اي المغطاة بالكلأ،” إرَفْ” ومعناها الحرية وعدم الخضوع لنظام ما، او “عَرَفا” بمعنى الجفاف والصحراء ومنها تسمية وادي عربة بين فلسطين والاردن لجفافه.
اما من الناحية الاجتماعية، فقد انتشرت كثيرا من الاخلاق الحميدةبين العرب قبل الاسلام, وكانت كثير من اخلاق العرب ومميزاتهم قبل الاسلام عاملا مساعدا ـ ليس فقط لاعتناقهم الاسلام ـ بل لنشره في جميع ارجاء الارض كما سنرى لاحقا.
من اهم تلك الاخلاق. الصدق:
فالعربي مثلا قبل الاسلام كان يمجد الصدق ويذم الكذب، لذلك قال خطيب العرب اَكثَم ابنُ الصَّيفيّ التّميمي في خطبته الشهيره عند كسرى:
“الصدق منجاه، والكذب مهواه”.
بينما قال الشاعر الحكيم زُهير بن ابي سُلَمى الموزني في معلقته الرائعه التي تفيض بمكارم الاخلاق عند عرب الجاهليه، قال زهير:
فَلا تَكّتُمَنَّ اللهَ مافي نُفُوسِكُم * لِيَخْفَى ومَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
لذلك فان العربي كان يعظم الصدق ويرى في الكذب منقصة في المروءة وضُعفا لا يقبله على نفسه. وفي قصه هرقل التي ورَدت في صحيح البخاري، عندما اراد عظيم الروم ان يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال طرح بعض الأسئلة على الصحابي الجليل ابي سفيان ابن حرب رضي الله عنه وارضاه قبل ان يسلم، عندها استحى ابو سفيان ان يكذب على رسول الله صلى الله عليه امام اصحابه من العرب المشركين، على الرغم من عداوته للرسول في ذالك الوقت،جاء في الحديث الصحيح ان ابو سفيان قال:
“فوالله لولا الحَياء، مِن ان يُؤثر اصحابي عني الكذب، لكذَبتُهُ حين سألني عنه، ولكنّي استحيَيّتُ ان يؤثروا الكذب عني فصدقته”.
وفي روايه ابن اسحاق: قال ابو سفيان: ” فوالله لو كذبت، ما ردوا علي، لكنّي كنت إِمرِءاً سيّدا،أتكرّم على الكذب.”
بل حتى الى يوم الناس هذا، العربي الحقيقي حتى ولو لم يكن ملتزما، تراه صادقا، إن لم يكن تدينا فشهامه ومروءه.
قارن هده الاخلاق بأخلاق بعض الشعوب الأخرى التي ترى في الكذب ذكاء.
صفة الصدق عند العرب في الجاهليه ستكون صفة ضرورية ومهمة لنجاح الدعوة التي سيبعثها الله الى البشرية بأسرها، فهؤلاء القوم الذين اشتهروا بالصدق حتى في كفرهم، هم المُؤهّلون لتدوين كتاب الله وسنة رسوله دون تحريف او تزييف، قارن هؤلاء العرب الصادقين بغيرهم من الأمم الذين حرفوا رسالاتِ وكُتُبِ انبيائهم.
الوفاء:
الوفاء كانت صفة من أهم الصفات التي كان يتميز بها العربي، ولازالت، فالعربي الذي ينتمي الى اصول كريمة مستعد ان يموت من اجل الوفاء: الوفاء للقبيله, الوفاء للزوج او الزوجة,الوفاء بالوعود, الوفاء بالكلمه, فكان الوفاء من أهم الصفات الحميدة التي يتحلى بها العرب في زمن الجاهلية، بل إن الشخص الوفي كان محترما لدى الناس. يقول زُّهيرُ بن ابي سُلْمى:
وَمَن يَوفَى لَا يُذْمَمْ * وَمَن يُهْدَى قَلْبُهُ الى مُطْمَئِنِّ اَلْبِرِّ لَا يَتَجَمْجَمَ
لذلك عندما جاء الإسلام وحظّ الناس على الوفاء، لم يكن هذا محل نقاش لدى العرب، فلم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم صعوبة في ترسيخ هذا الخلق الكريم في نفوس العرب الأوائل.
صفه الوفاء ستكون من اهم الصفات الضرورية لنجاح الدعوة الإسلامية حول العالم, فكان وفاء المسلمين بعهودهم حتى مع غير المسلمين محلّ تقدير وإجلال حتى من اعدائهم. كما كان وفاء الصحابة الذين تربوا في بيئة عربية اصيلة، تُقدس الوفاء وتعظمه، من أهم عوامل نجاح دعوة الرسول صلى الله عليه و سلم. ولعل الصحابي الجليل، المقداد بن الأسْوَدِ الكِنْدِي، يلخص لنا معنى الوفاء الذي ترسّخ في وِجدان الصحابة بكلمات قليلة، قالها للرسول صلى الله عليه وسلم قبل معركة بدر الكبرى، عندما وقف هذا الفارس العربي وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
“يارسولَ الله، إمضِي لِما أرَاك الله. فنَحّنُ مَعَكْ. والله لا نقول لَكَ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: “إذْهَبْ اَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، إنَّ هَاهُنَا قَاْعِدُوْنَ”، ولكن: إذهب انت وربّكَ فَقَاتِلا، إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُون”.
الشجاعة:
الشجاعة من أبرَز صِفَاتِ العرب، وستكون هذه الصفة من أهمِّ الصفات الضرورية لإنجاح الدعوة المحمدية, فدعوة الاسلام كغيرها من الدعوات، تحتاج لفرسان شجعان،يقدمون أرواحهم فداء لها , لذلك كان أسهل شيء على العربي قبل الاسلام هو الموت في سبيل العشيرة مثلا، او الموت في سبيل اي شيء يؤمنون به, بل كان العرب يفضلون الموت قتلا في ميادين القتال على الموت حتف أُنوفهم.لذلك يقول الفارس العربي والشاعر الكبير عمرو بن كلثوم التّغْلُبي، صاحب المعلّقة الشهيرة، وبالمناسبة عمرو بن كلثوم هو حفيد عُدي بن ربيعة التَّغّلُبِي، الملقب بالمُهَلْهِلْ او الزير سالم، يقول عمرو بن كلثوم يصف فرسان قبيلته:
بِشُبَّانٍ يَرَوّنَ القَتْلَ مجدا * وَشِيبٍ فِي الحُرُوبِ مُجَرَّبيناَ
بينما قال الشاعر العربي طَرَفَة بن العَبْد، وهو من بني بكر بنُ وائِل، يصف نفسه عندما تحتاجه القبيله :
إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أَنَّنِي * عَنِيتُفَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ
وقال زهير مستهينا بالذين يخشون القتل موتا:
ومن هابَ إسبَاَب المَنَايَايَنَلّنَهُ * وإن يَرْقَ أسْبَابَ السماءِ بسُلَّمِ
لذلك فإن الموت في سبيل شيء تؤمن به العرب او يؤمن به العرب(يجوز على الحالتين التأنيث والتذكير) كان ولا زال من أسهل القرارت التي يمكن للعربي ان يتخدها. عنترة بن شدّاد العَبسي، احد كبار شعراء الجاهلية و أبطال العرب يلخص لنا معنى الشجاعة العربية في أبيات قليلة:
فَلا َتخْشى الَمنِيّةَ واقْتَحِمّهَا* ودافِع مااستطعتَ لها دِفَاعًا
ولا تَخْتَرْ فِراشًا مِن حريرٍ * ولا تَبْكِي المَنَازِلَ والبِقَاعَ
اقَمْنَا بالذَوَابِلِ سُوقَ حَرْبٍ * وسَيَّرُنَا الُّنفُوسَ لَهَا مَتَاعًا
حِصَانِي كَانَ دَلَّالَ المَنَايَا * فخاضَ غبَارَها وشَرا وبَاعَ
وَسْيفِي كَانَ فِي الْهَيجَا طَبِيبًا* يُدَاوِي رأّسَ مَن يَشْكُواالصُّداعَ
انا العَبدُ الّذي خُبّرْتَ عَنْهُ * وَقَدْ عَايَنْتَنٍي فدعِ السَّمَاعَ
ولَوْ أَرْسَلْتُ رُمْحِي مَعَ جَبَانٍ * لكَانَ بِهَيْبَتِي يَلْقَى السِّبَاعَ
هذه المعاني في الشجاعة التي كانت مزروعة في وِجدان العرب جعلت من مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اسهل في توضيح معنى الشّهادة, فكل ماكان على الرسول صلى الله عليه وسلم، هو ابدال معنى الموت في سبيل العشيرة الذي كانت العرب تؤمن به، الى هدف اسمى و أنبل,الى هدف أرقى، وهو الموت في سبيل الله.
لذلك، لا تستغرب عندما ترى بطولات الصحابة والفاتحين العرب الاوائل , فهؤلاء هم احفاد هؤلاء، تخيل، لو ان الرسول صلى الله عليه وسلم، بعث في قوم جبناء، او في امة تُجَرُّ الى القتال بالسلاسل، كالفرس المجوس مثلا, من المؤكد ان مهمته كانت ستكون اصعب بكثير.
الكرم:
الكرم كان صفة تميز بها العرب منذ القدم ويبدو ان البيئة البدوية التي عاش فيها العرب جعلت من اكرام المسافرين المتنقلين في ارجاء الجزيرة العربية امرا من اهم الامور التي يفتخر بها العربِي. إكرام الضيف كان ولا زال من اهم الاخلاق التي لدى العرب. فيكفيك ان تقرأ قصص حاتم الطائي في كرمه العظيم الذي يلخصه لنا في هذه الابيات. قال حاتَم:
إذا كان بعضُ المَالِ رَبَّاً لِأهْلِهٍ * فإنِّي بِحَمْدِ اللِه مَالِي مُعَبّدُ
يُفَكُّ بِهِ العَانِي ويُؤكَلُ طَيِّبًا * وُيعْطَى إذا مَنَّ البَخِيلُ المُطَرَّدُ
إذا ما البخيلُ الخَبَّ أخْمَدَ نَارَهُ * أقُولُ لِمَن يُصلى بِنَارِي، أَوْقِدُوا
وكان البخلاء مذمومين عند العرب، لذلك قال زُّهَير بن ابي سلمى المزني:
وَمْن يَكُذَا فضّلٍ فيٌبخَلْ بِفَضْلِهِ * على قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنّه ويُذْمَمِ
الكرم سيكون من اهم مقومات نجاح الدعوه الإسلامية لانها ستحتاج الى اشخاص يضحون بأموالهم في سبيلها. لذلك كان خروج الدعوة في شعب كريم بالفطرة، امرا مهما للغاية لنجاح الدعوة المحمدية التي احتاجت في بدايتها الى اناس اسخياء ضحوا باموالهم في سبيل الله. فخرج من رحِمِ تلك البيئةِ العربيةِ الأصِيلة، التي تعظم الكرم، صحابة اسخياء من امثال عثمان بن عفان وطلحة بن عُبيد الله وابو بكر عمر وعلي عبد الرحمن وغيرِهم من عمالقةِ الصحابة الذين نصروا الدعوة الاسلامية باموالهم قبل ارواحهم.
العفة:
العفة في اللغة تعني الإمتناع والكفُّ عن ما لا يحِلُّ ولا يليق ولا يجْمُلُ مِن قولٍ او فِعل. والعرب ايام الجاهلية على عكس ما تصوره لنا وسائل الاعلام وكثير من كتب التاريخ , كانوا يضعون العفة على اولاويات الاخلاق التي يفخرون بها ويتحلون بها. فكانت عفة اللسان والادب في الحديث في مجالس الرجال من اهم مظاهر العفة العربية. يقول زُّهير بن ابي سلمى:
لِسَانُ الفتى ِنصْفٌ،ونصفٌ فُؤادُهُ * فلم يَبْقَى إلّا صُورةُ الّلحم والدّمِ
وعلى عكس الصوره السائدة عن العربي في الجاهلية، انه كان سكيرا لا يستطيع ان يتحرك دون ان يترنح من كثرة شربه للخمر, هذه الصورة ليست صورة حقيقية عن العرب. فقد كانت الأعراف القبلية العربية تحُطُّ مِن قدَرِ الشخص الذي يُفرط في شرب الخمر. صحيح ان الخمر كانت مباحة عند العرب مِثلهم مثل بقية شعوب الارض وقتها، إلا ان شرب العرب للخمر لم يكن ليُقارن بشرب الخمر من قِبل كثير من شعوب الارض في ذلك الزمان. بل وفي هذا الزمان ايضا. عليك فقط ان تعلم ان هناك شعوب شُرب الخمر لديها كشرب الماء,بينما على سبيل المثال عندما اسرف الشاعر طَرَفَة بن العبْدْ في شُرب الخمر، اصدرت قبيلته قرار حاسما بطرده من القبيلة لانه خرج عن العرف وحدود العفة والحياء وقد عبّر طَرَفة عن ذلك بمرارة في معلقته التي تُعتبر من اقوى المعلقات. يقول طَرَفَة بن العبد:
ومَازَال تَشْرَابِي الخُمُورَولَذَّتِي * وبَيعِي وإِنْفَاقِي طَرِيفِي ومُتْلَدِي
الى اَنْ تَحَاَمَلَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا * وأُفْرِدْتُ إِفّرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ
بل كان هناك كثير من العرب في زمن الجاهلية حرموا الخمرة على انفسهم, رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشربها ابد،ا وكثير من الصحابة على راسهم ابو بكر الصديق رضي الله عنه وارضاه، لم يشربوا الخمر لا في اسلامٍ ولا في جاهلية لأن الخمرة تُحوّل اعقل انسان الى شخص احمق امام الناس فلا يعود له احترام او وقار. لذلك حرمها على نفسه سيد قريش جد الرسول عبد المطلب بن هاشم وشيبة بن ربيعة من سادات عبد شمس، وعثمان بن عفان الاموي، وورقة بن نوفل الاسدي القرشي، وعبد الله بن جُدعَان التيمي وهو من نفس قبيله ابي بكر وحرمها ايضا العباس بن مِرداس السُّلامي وقال:
” لا أشرب شرابا أُصبِح سيد قومي وآُمسي سَفِيهَهُمْ”.
وحرمها ايضا الوليد بن الُمغيره سيد بني مخزوم وابو البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه وارضاه، وايضا قيس بن عاصم التميمي رضي الله عنه و ارضاه الذي حرمها على نفسه في الجاهلية وانشد يقول:
رَأيتُ الخَمْرَ صَالِحَةً وفيها * خِصَالٌ تفسُدالرّجُلَ الحَلِيمَا
فإنّ الخَمْرَ تَفْضَحُ شارِبِيها * وتُجنِيهِم بِهَا الأمّرَ العظيماَ
خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، على قوم لم يكونوا مدمني خمور فاقدي عقولهم على مدار الساعه جعل من مهمة التفاهم والنّقاش اسهل, تخيل لو ان الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في قوم لا يكادون يفيقون من سكرهم، كيف سيكون هناك مجال للدعوة مع هؤلاء اصلا، ناهيك عن صعوبة اقناعهم بحرمة الخمر بعد ذلك بسنوات.
اما بالنسبة لشيوع الفاحشة والزنا بشكل كبير في المجتمع الجاهلي فهذا امر غير صحيح على الإطلاق، فقد كانت الحراِئر من نساء العرب عفيفات شريفات، حتى قبل الاسلام. وقد رُوِيَ انه يوم إسلام الصحابية الجليلة هِند بنت عُتبة رضي الله عنها و ارضاها،اراد رسول الله صلى الله عليه وسلم اخذ البيعةَ منها في بيعةِ النساء واراد شرح مبادئ الاسلام، فلما وصل في كلامه الى قول:
“وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ”، قالت هند بن عتبه مستغربة: “وهل تزني الحرة؟” اي انها لا تتصور ان تكون هناك امراة عربية حرة تقوم بذلك الفعل الفاحش.
عفة العرب حتى ولو كانت نِسبية ستُسَهّل من عملية تقبلهم لتحريم المحرمات في العقيدة الاسلامية، كما انها ضرورية لبناء مجتمع سليم. ومهمة لحفظ الانساب لدى العرب هو امر مهم جدا سيترتب عليه احترام الشعوب الاخرى لدعوة الرسول العربي ذي النسب الشريف ولجيل الفاتحين الاوائل الذين كانوا في المُجمَلِ عربا.
لذلك كان من اهم الأسئِله التي سألها القيصرهِرَقل عندما قابل ابا سفيان سأل هرقل ابا سفيان عن الرسول وقال: “كيف نسبهُ فيكم؟”.
العزّة:
عزة العربي كانت ولا زالت من أهم مقَوِّمَات الشخصية العربية الاصيلة. فالعربي مستعد ان يموت ولا ان تداس كرامته. يقول عنترة:
لاَ تَسْقِنِي مَاءَ اْلحَيَاةِبِذُلَّةٍ *بل فاسْقِينِي بالعِزِّ كأسَ الحَنْظَلِ
ماءُ الحَيَاةِبذِلَّةٍ كجهنمٍ* وجَهَنّمٌ بالعزِّ اطيبُ مَنْزِلِ
لذلك لم يكن للعرب دولة موحدة قبل الاسلام، لأن العربي بطبعه يرفض ان يكون تابعا لاحد, الاسلام هو الامر الوحيد الذي يمكن للعربِ ان يجتمعوا عليه، حتى ان بعض الباحثين يُرجِع اصل تسمية العرب الى كلمه “ِإرَبْ”، ومعناها الحرية وعدم الحضوع لنظام ما.
لذلك،فلم يظهر ملوكٌ حقيقيون قبل الاسلام. حتى عندما كان يظهر عندهم ملك رمزي لفترة قصيرة كانو يقتلونه إذا ما فكر مجرد التفكير بإهانتهم.لِذاتِ السبب قتل عمرو بن كلثوم التُغلُبي الملك عَمروَ بن المنذِربن امرِءِ القيس بن النُّعّمَان اللَخْمِي المشهور بعمرو بن هند.
قتل عمرو عمرا في عُقرِ داره وذلك لان ام الملك عمر بن هند فكرت باهانه ام عمر بن كلثوم وامهُ هي ليلي بنت الزير سالم، احد عمالقة العرب، عندها تناول ابنها عمرو بن كلثوم سيفا كان في مجلس الملك وقطع به رأس الملك عمرو بن هند. وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم في معلقته :
بايِّ مَشِيَئةٍ عمروبْنَ هِنْدٍ * نَكُونُ لِقَيْلٍكُمْ فيها قَطِينَا
بايِّ مَشِيَئةٍ عمروبْنَ هِنْدٍ * تُطِيعُ بِنَا الوِشَاةَ وتَزْدَرِينَا
تَهَدَّدُنَا وتُوَعِدُنَا، رُوَيْدًا * مَتَى كُنَّا لِأٌمُّكَ مَقْتَوِينَا
فإنّ قَنَاتَنًا ياعمرُو أَعْيَتْ * على الأَعْدَاءِ قَبْلَكَ أنْ تَلِينَا
العزة ستكون من اهم واخطر متطلبات جيل الفاتحين الاوائل. تخيل لو ان هذا الدين انزل في بدايه الامر على امه ذليلة، جُبِلَتْ على العبودية، لقال الناس حينها، قوم إعتادوا على طاعة ملوكهم، ولكن ان يخرج هذا الدين في قوم اعزاء فيتبعوه عندها سيقول الناس ان تسليم العرب المتمردين بطبعهم تسليما كاملا بهذا الدين ماهو الا دليل على صحته.
وايضا صفه العزة التي كانت لدى العرب ستكون صفة ضرورية ومهمة في التعامل والتفاوض مع ملوك الفرس والروم واعداء الاسلام بشكل عام.
ومن تعامل مع كارهي الإسلام، يعلم أكثر من غيره أن هؤلاء الأوغاد يحاولون في بداية الأمر كسر هيبة المسلم في أول لقاء معه عن طريق كلمة سخرية أو أي تصرف بسيط يقصدون به إهانة المسلم. فإذا ما رأوا في المسلم إنكسارا -ـولو في نبرة صوته ـ سيزيد هؤلاء الأوغاد في سفالتهم، أما إذا وجدوا من يلجِمُهُم منذ الّحظة الأولى، سيتحولون بعدها إلى خِرافٍ وديعة، بل سيحترمون المسلم حتى ولو كانوا يكرهونه. والعربي بفطرته عزيز النفس، فجاء الإسلام فزاده عزةً وأنَفَهْ. لذلك عندما حاول إمبرطور الروم نقفور في بدايةِ حكمه إهانة الخليفة العباسي هارون الرشيد، رحمه الله، في أول رسالةٍ بعث بها إلى أمير المؤمنين، أمسك الرشيد الرسالة و كتب على ظهرها: “من هارونِ الرشيد أمير المؤمنين إلي نُقفور، كلب الروم.
قرأت كتابك يا ابن الكافرة، و الجواب ما ترى، لا ما تسمع.”. و لعل في قصة غزوةِ الخندق، ما يفسر لنا عِزة العربي الّتي زادهَ الإسلام عزةً فوق عِزّة. فعندما حاول الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يفُكّ الحصار على المسلمين في المدينة بعقد إتّفاقٍ مع بعض القوى المحاصرة للمدينة بأن ينسحبوا مقابل أن يأخذوا ثُلثَ ثمار المدينة لعامٍ كامل، أراد الرسول القيام بهذا الإتفاق شفقةً على المسلمين، و أراد بذلك تفكيك التحالف بين الأحزاب. ولكن قبل إعتماد الإتّفاق شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدَي الأوس و الخزرج، الصحابيَّين الجليلَين سعد بن معاذ و سعد بن عبادة، رضي الله عنهما و أرضاهما، عندها وقف سيد الأنصار، الفارس العربيُّ الأزدي العِملاق، سعد بن معاذ، رضي الله عنه و أرضاه، ليوضح للرسول أنهم كانوا وهم في الجاهلية أعزّاء، فكيف بهم و قد أعزّهم الله. قال سعد بن معاذ رضي الله عنه و أرضاه: “يا رسول الله، قد كنّا و هؤلاء مع الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله و لا نعرفه، و هم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةً واحدة، إلّا قِرا أو بيعاً. أفحينما أكرمنا الله بالإسلام و هدانا لهُ، وأعزّنا بك و به، نعطيهِم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة. واللهِ لا نعطيهِم إلّا السّيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.” هذه العِزّة الَّتي تكلم بها سعد بن معاذ، رضي الله عنه و أرضاه، نابعه من ثقافةٍ راسخةٍ لدى المسلمين الأوائِل الذين كانوا في المُجمَل من العرب، ورِثوها أباً عن جد من تراكمات ثقافيَّةٍ من البيئة العربية العزيزة أصلا -ـ حتى قبل الإسلام. يقول عَمرُو بن كُلثوم:
” ورثناهنَّ عن أباءِ صِدقٍ,
و نورِثها إذا مُتنا بَنينا”.
الموتُ وُقُوفاً بعزّة كان أشرف وأنبلَ عند العرب من الحياةِ ركوعاً بذلّة، فجاء الإسلام فرسَّخ هذا المفهوم العربي الأصيل على أن يكون في سبيل الله.
إحترام المرأة. يعتقد الكثيرون بِأن العرب في الجاهلِيَّة لم يعطوا للنساء قيمةً تذكر. ربما أهم أسبابِ هذا الإعتقاد، كان وجودَ ظاهِرة وأدِ البنات في زمن الجاهِليَّة لدَى العرب. و وَأدُ البنات يعني دفنُهنَّ صغارا و هنَّ أحياء. و قصَّة هذه الظاهرة الوحشيَّة، أن رجلا أسرت له بنت في الحرب من قبلِ قبيلة أخرى، فذهب إلى تِلك القبيلة ليفتديها بالمال، فرفضت تلك البنت الرجوع إلى أبيها و اختارت أن تبقى مع آسريها. فأحسَّ أبوها بالعار وحلف أن يقتل كلَّ بنتٍ يرزق بها، فصار بعض العرب يئدون البنات بعد وِلادتهن مباشرة. و في هذا نزل قول الله سبحانه و تعالى: وَإِذَا اَلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ** بِأَيِّ ذنبٍ قُتِلَتْ**
ومع تسليمنا بأنَّ الوأد كان من أبشع الظواهر الَّتي كانت موجودةً عند العرب في زمن الجاهِليَّة، بل وأكثرها وحشيَّةً، إلا أن المبالغة في تضخيم هذه الظاهرة جعلت البعض يتخيل أن العرب لم يكن لهم شاغلٌ الَّا وأدُ البنات. و هذا مخالفٌ للحقائِق التاريخية، بل مخالف للعقل و المنطق، فلوكان العرب يقتلون كلَّ بناتهم لفنيَ العرب على بكرة أبيهم و لما بقيت هناك إمرأة عربية تلد ذكرا او انثى. و الحقيقة ان الوأد قبل الإسلام كان محدودا جدا.و على فكرة هناك قصة مشهورة عن وأدِ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه و أرضاه، لبنتٍ له قبل الإسلام. هذه القصة مختلقة. ليست حقيقية و لا أساس لها و لا سند. في واقع الأمر أننا لو تأملنا قليلا في قصص النساء العربيات في زمن الجاهليَّة لعلمنا أن المرأة العربية حظِيَت بمكانة كبيرة في المجتمع العربي الجاهلي . بل كانت المرأة العربية في زمن الجاهلية تحضى بإحترام كبير لم تعرفه نساء الأرض كلِّها في ذلك الزمان، بل لا تعرفه كثيرٌ من النساء في هذا الزمان. فقد كانت المرأة العربية سيدةُ أعمال يعمل لديها الرجال، مثل السيدة خديجة رضي الله عنها و أرضاها، الَّتي كان زوجها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يعمل في تجارة أموالها قبل زواجهما. وكانت المرأة العربية في زمن الجاهلية شاعرةً كبيرة، تقرأُ الشعر و تنافس الرجال في سوق عُكاظ مثل الشاعرة العربية الخنساء، رضي الله عنها و أرضاها، التي كانت تقرأُ الشعر في سوق عكاظ. و كانت المرأة العربية في الجاهلية ترافق الفرسان في الحروب وتحمِّسهم للقتال، مثل هند بنت عتبة، رضي الله عنها و أرضاها، عندما رافقت جيش قريشٍ أيَّامَ كُفرها.لذلك فإنّ هذه الصحابية الجليلة هي نفسها من سترافق جيش المسلمين في معركة اليرموك الخالدة عندما كانت بطلةً في ذلك الجيش تحمِّس الجيش الإسلامي على قتال الروم.
ورأينا أيضا كيف أن العرب أقامت أكبر حروبها على الإطلاق، حرب البسوس، ليس من أجل ملك أو رجل. بل من أجل إمرأةٍ واحدة. ورأينا كيف أن عمرو بن كلثوم قتل الملك عمرو بن هند من أجل صيحةٍ أطلقتها إمرأةٌ واحدة.
الحقيقة التي غابت عن كثير منا، أن الرجل العربي في زمن الجاهلية كان يقدس المرأة و يقيم الحروب من أجلها. بل كان العرب مستعدِّين للتضحية بأرواحهم من إجل الذود عن نسائِهم. يقول عمرو بن كلثوم:
“على آثارِنا بِيْضٌ حِسَانٌ * نُحَاذِرُ أنْ تُقَسَّمَ أوْ تَهُونا
أَخَذْنَ عَلى بُعُوْلَتِهَنَّ عَهْدًا * إِذا لَاقُوْا كَتَاءِبَ مُعَّلَمِينَا
لَيَسْتَلِبُنَّ أَفْرَاساً وَ بِيْضَاً * وَ أَسْرَى فِي الْحَدِيدِ مُقَرَّنِيناً
يَقُدْنَ جِياّدَنَا وَيَقُلْنَ * لَسْتُمْ بُعُوْلَتَنا، إِنْ لَمْ تَمْنَعُوْنَا”
قارن تصرف العربي الكافر في ذلك الزمان بتصرف بعض المسلمين في هذا الزمان، الذين يرون المرأة تُسحل في الشوارع أمام أعينهم ولا يحرِّكون ساكناً. هذه الأخلاق العربية النبيلة في التعامل مع المرأة هي التي ورِثها جيل الصحابة. لذلك ما أن رأى أحد الصحابة العرب، رضوان الله عليهم، إمرأةً مسلمة تصرخ بعد محاولة يهودي من بني قينُقاع كشف عورتها حتى تحرَّك ذلك العربي المسلم و قتل ذلك اليهودي المعتدي على حرمة المرأة العربية المسلمة، ليجتمع عليه اليهود و يقتلوه، لتعلن دولة محمدٍ صلى الله عليه و سلم الحرب على يهودِ بني قينُقاع من أجل إمرأةٍ واحدة. لذلك، فإنّ حقوق النساء التي يتغنى بها البعض في هذا الزمان، حقوق النساء، نحن الذين إخترعناها، قبل أن يعلموا هم حقوق النساء بمِئات السنين. الرسول و الصحابة كانوا أحفاد تلك الثّقافة العربية النبيلة، الّتي تُمَجِّد المرأة قبل أن يُسلِموا، فيزيد إحترامهم لها تعبُّدا لله. نفس الشيء مع الخليفة العباسي القرشي المعتصم بالله الّذي سيَّر جيشاً إسلامياً ضخما إلى أرض الروم من أجل إمرأةٍ مسلمة واحدة إستغاثت به و قالت: “وا مُعتَصِماه”.
الأمرُ تَكَرَّرَ مع الحجّاج الثِّقفي الذي بالرغم من كل سلبياته كانت لديه غيرة عربيةٌ إسلاميةٌ أصيلة، جَعَلَتهُ يُحَرِّكُ الجيوش الجرّارة نحو بلاد الهند من أجل إمرأةٍ واحدةٍ إستغاثت به. وهناكَ بطًلٌ عُمانيٌّ للأسف لا يعرفه الكثيرون منا، إسمه الصلت بن مالك الخَروصي اليَحْمُدي، و هو من قبيلة الأزدِ القحطانية، هذا البطل العُماني تحرّك بسفنه نحو جزيرة سوقطره بالمحيط الهندي بعد أن استغاثت بهم أمرأةٌ مسلمة واحدة.هؤلاء الأبطال هم من نفس طينة عمرو بن كُلثوم و عنترَةُ بن شدّاد و حاتِمِ الطّائي، رُبُّوا على أنّ المرأةَ بالنسبة إليهم أغلى من أرواحهم. لذلك كانت البيئةُ العربية التي خرج فيها الرسول صلى الله عليه و سلم بيئةَ قابلةً بشكلٍ كبير لتقبُّل مبادِئ الإسلام في إحترام المرأة. فلا تعجب إذا عند سماعك ببُطولات جيل الصحابة الأوائل الذين كانوا في جُلِّهِم مِن ابناء أمَّهاتٍ عربيات عِشن في مجتمعٍ لديه غيرةٌ على الأعراض. فتلك الأمهات الكريمات هن الّواتي ربَّين أبنائهنّ على العزّةِ و البطولة، ليَخرج ذلك الجيل العملاق، جيل أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، الجيل الذي أذلّ فارس و الرُّوم. لذلك فليتَّقِ الله من يتعامل مع النساء و ليعلم الزوج أن زوجته هي من ستزرع في وجدان طفله معنى البطولة و العظمة إذا ما عوملت هي بإحترام أولا،و ليعلم كل أخ أن أخته أمانة في عنقه سيسألُ عنها يوم القيامة إن كان يعاملها في حياته كأخت وليس كجارية. و ملخّص القول أنّ المجتمع العربي الجاهلي لم يكن مجتمعا ملائِكياً، فقد كانت هناك سلبيات كثيرة، لعلّ مِن أبرزها الشِّرك بالله و العُنصرية و القَبلية و وأدُ البنات و التَّشَرّدُم السياسي، و لكنَّ ذلك المجتمع لم يكن أيضا مجتمعاً من الشياطين كما يراد لنا أن نتصوَّر، فقد كان المجتمع العربي مهيّءً بشكلٍ كبير لتقبُّل الإسلام، و ذلك للأسبابٍ الثقافية و الإجتماعيَّة التي كانت سائدة عند العرب، و الّتي ذكرنا بعضها في هذه الحلقة و لا نستطيع ذكر بقيَّتها لقصر الوقت. ولكنّ الأمر الأهم لإختيارُ العربِ بِالذّات، ليخرج منهم أفضل الأنبياء على الإطلاق و معظم جيل الصحابة العظام، أفضلُ جيلٍ خرج في البشرية، هذا الأمر هو أنّ ذلك الإختيار كان فضلًا من الله، والله يؤت فضله من يشاء، والحمد لله على فضله ونِعمته، ولكن في نفس الوقت، لا يغترَّنّ أحد من العرب بذلك، فليس بين اللهِ و بين أحدٍ من عباده نسب. فبلالٌ الأفريقي أعظم وأكرمُ عند الله من أبي لهبٍ الهاشمي القرشي العدناني، عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. و هذه الأمّة لم يدافع عنها العرب فقط كما يعتقد البعض.
نحن في هذه الحلقة، إنَّما أردنا أن ندافع عن العرب، لنُدافع من خلالهم عن أصل رسولنا صلّى الله عليه وسلّم، و صحابته الكرام الّذين نشؤوا في تلك البيئةِ العربية الأصيلة. و بالمناسبة، لن تجدوا أحداً يحبُّ الإسلامَ إلا و يحب العرب واللُّغة العربية، و لن تجدوا أحداً يكره الإسلام إلا ويكره العرب و العربية.
الدِّفاع عن اصل العرب في هذه الحلقة جاء في زمن الطعنِ في قوميَّةِ العرب.بعد أن قد صار الآن الطعنُ في قوميّة العرب مقدِّمةً يستخدمها شذاذُ الآفاق للطعنِ بالنبيِّ العربي. فإذا كنت عربيا، أو حتى غير عربي و صادفت أحد المرضى العنصُريّين ممن يكرهون العرب، أو صادفت أحداً من المهزومين داخِلِياًّ من العرب أنفسهم، يسبوا قوميّته الّتي كان منها نبيُّه، عندها أُطلب منهم أوّلا أن يخرَسوا، و بعدها قل لهم أنّ العرب كانوا أعِزّاء قبل الإسلام، فجاء الإسلام فزادهم عزّة وشرفا وسبلا.
و لكن لماذا كانت الجزيرة العربية بالتحديد، دون غيرها من بقاع الأرض، مركزا للرسالةِ الخاتمة الى البشرية بأسرها؟
و ماهي العوامل الجغرافية و الجيولوجيّة والجيوسياسية الّتي جعلت من جزيرة العرب المكان الأنسب، بل المكان الوحيد لخروجِ تلك الدعوة العالمية الى بقية أنحاء الأرض؟
وكيف كان شكل العالم قبل ظهور الإسلام مباشرةً؟
وما هي الأديان الّتي كانت سائدةً في الأرض قبل بِعثة الرسول، صلى الله عليه وسلم؟ ومن هم المجوس؟ وما علاقة الصفويّين بهم؟ ومن هم الهُندوس؟ وما هي علاقة الزعيم النازي هتلر بمُعتقداتهم؟
وماذا كانت العرب تعبد قبل البِعثةِ النّبويّة؟ وما هي قصة الرجل الذي كان اول من ادخل عبادة الأصنام الى جزيرة العرب؟ وما الحِكمة، التي قد تكون سببا وراء إختيار الّلُغة العربية لتكون الُّلغة الوحيدة الّتي يكتب بها كتاب الله الخالد، القرأنُ الكريم؟ وما هي البِشارات الواضحة الّتي ذكرت في التوراة و الإنجيل عن العرب ونبيِّهم، والمكان المحدد الذي ستخرج منه البعثة النّبويّة؟
تابعوا معنا الحلقة القادمة التي سنكشف فيها إن شاء الله عن أسرار حاول غزاة التاريخ أن يخفوها عنّا لمئات السنين. عندما نجيب عن سؤال من اهمّ الأسئِلة:
لماذا جزيرة العرب؟
كونوا في الموعد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن حلقات “مائة من عظماء أمّةِ الإسلام”، للأستاذ جهادَ التُّرباني، تتضمّنُ معلومات قيِّمة عن تاريخالإسلام بأُسلوبٍ شيّقٍ و صادق ترصد بها الأبطال من عظماء الأمّة، غيّر وشوه أعداء الإسلامِ سيرهم بمحوِ القُدوةِ من نفوس المسلمين ليصابوا بالإحباط، فلا يُعلوا لأُمَّتهم شأناً. ولكنّي أرى أنّ ذالك سيتهي بظهور هذه الحلقات التي تُعيد للمسلمين وعيهم برِفعةِ تاريخ أسلافهم ليكتلوا بكفاحهم لإعادةِ مجد أُمّتهم.
ناصر بن طلحة الشيبي
من سدرة الكعبة المشرّفة
سأتشرف بمتابعتكم لقناتنا على اليوتيوب لكي تصلكم حلقات البرنامج أولا بأول.
القناة وصلت بفضل الله ثم بفضلكم الى أكثر من إثنتي عشرة مليون من مشاهدة. شكرا لكل من نشر البرنامج. على القناة في اليوتيوب ستجدون أيضا حلقات البرنامج مترجمة الى الإنقليزية والفرنسية، الألمانية، الإسبانية، التركية و الإندُونُسية، الكردية والرُّوسية، وجار الآن العمل على بعض الحلقات الأخرى. شكرا للجنود المجهولين في فِرق الترجمة الرائعة.
يمكنكم أيضا متابعة الموقع الرسمي للبرنامجwww.100great.net
في الموقع ستجدون جميعحلقات البرنامج مكتوبةَ و أيضا بصيغة mp3 لمن أراد حفض الحلقات مسموعة.
و سأتشرف أكثر بقرائة تعليقاتكم وإستقبال صوركم لنختار منها ما نعرضة في الحلقة القادمة و ذالك على صفحة البرنامج الرسمية و الوحيدة في الفيس بوك.
إسم الصفحة “مائة من عظماء امه الإسلام غيروا مجرى التاريخ ” .
يمكنكم التواصل معي أيضا على حسابي الشخصي على تويتر “جهاد الترباني” و على الإنسترقرام أيضا على حسابي الشخصي. أمّا الآن، فتابعوا معي التعليقات والصور التالية، مع عدّة نماذج تاريخيّة تظهر عزة العرب في الجاهلية و الإسلام، و ذالك برفقة كلمات و صوت الرائع، دكتور محمد الحسيان، مع نشيد “عائدون”. لا تنسونا من صالح الدعاء.
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
التدوينة “العظماء المائة 19″.. لماذا العرب؟ ظهرت أولاً على العظماء المائة.

جهاد الترباني's Blog
- جهاد الترباني's profile
- 1692 followers

المائة من العظماء و بربروسا و جزاك الله كل خير