متسع من الحزن

(1)
لو كنت أعلم أنه علي أن أقرأ العلامات، ما كان حدث أي شيء، لو كنت أعلم أنه بالقرب وحده يخسر الأنسان نفسه وصفاته الطيبة، لو كنت أعلم أنه علي أن أعرف أن كل أبواب المودة تغلقها أقفال من بؤس بمفاتيح صنعتها السعادة والضحكات التي أتت مرة وحيدة، ولن تتكرر، لما كل العلامات لم تضيء لي معاً كي أعلم أن اقتفاء هذا الأثر مؤلم وهذا الطريق واعر على السير فيه، وأن كل النهنهات المكتومة يوما ما ستجد السبيل وتخرج أسوأ ما في في وجه كل ما صادفتهم في الطريق ورحلت.
لما لم تخبرني العلامات عن الطريق، لما لم تخبرني أن علي إلا أكمل الطريق نحوكما، وأن نهاية الطريق هذا سأكون وحيدًا مفردًا أبحث عن نفسي قبل أن أبحث عنكما، أدور حولي نفسي في دائرة أولها عندي ونهايتها عندكم، تدور الدائرة فتتبدل الأدوار، وتنعكس المعاني، أصبح أنا الشرير في رواية أحدهم، ثم أصبح الشرير الضحية في الرواية التالية، ثم أصبح من عاند القدر في الرواية التالية وهكذا، لا تتوقف العلامات ولا تتوقف الروايات وأنا والله متعب دونكما، متعب وأبحث عن لحظات من راحة في حضور ودود من صديق حضوره دافيء وجميل، من حضور لا استعر أي وجه عندما يأتي ولا اجمل الألفاظ ولا أخاف ولا أحزن ولا أشعر بالفقد ولا بالخسارة ولا بالندم.
(2)
أبحث عن سفر بعيدًا عنكما أبحث عن مطار لا يمر في حدود شوقي إليكم، عن جواز سفر لا يحمل تأشيرة يجب أن تختم في قلبي من بين أصابعكم، عن صورة لا تظهرون فيها، عن خلفية بيضاء أستطيع أن أضع صورتي عليها، أبحث عن خلفية بيضاء وقد ذهبت كل الألوان معكم عندما ذهبتم، أبحث عن خلفية فقط تداري خيباتي الكثير ومرارتي التي تطفح في ابتسامتي، عن خلفية أوزع عليها بعض متاعبي التي لا تتوقف عن الظهور في زوايا ابتسامتي، أبحث حتى عن وجهي الذي يجب أن يظهر في الصورة وعن نفسي التي تتداري خلفكم، فكلما ابتسمت ظهرتم أنتم، وكلما حزنت ظهرت أنا.
لما كل الأحوال متعبة، ولما كل السفرات متعبة، ولما كل الهجر مؤلم بهذا الشكل، ولما كل الخسارات مهلكة ، لما لا تبدو لنا العلامات قبل البدء لنعرف مصيرنا، ولنعرف هل يمكن أن نتحمل كل ذلك الحزن؟ كل ذلك الأحساس المضني بالمرارة والخسارة المدوية، كل شيء قابل للنسيان نعم وكل شيء يقل يوما بعد يوم إلا هذا ، الأحلام تزكي نار الحسرة والخسارة ، الأحلام تعيد لنا الابتسامات ليلا وتستعيدها نهارا تعيد لنا الحيوات ليلا وتهدي لنا الميتات نهارا، تأخذ كل شيء ليلا وتعيدكما لي نهاراً إما هناك حد لهذا المر؟
(3)
كيف يضيق المكان بصاحبه؟ وكيف تحاوط الدوائر والعلامات أصحابها لتبشرهم بعذاب أليم لا يبدو في البدايات ولكنه يترك الكثير من الدماء خلفه والكثير من المشاعر المستهلكة والكثير من القلوب التي تحتاج لقطب وكثير من الخيوط المبللة بالماء حتى يسهل رتق تلك القلوب، القلوب المرتقة لا تلبث أن تعود لنفس الحالة فما رتق مرة لن يتوقف عن أن يتم رتقه ألف مرة، فلعنة الله على العلامات ولعنة الله على الضحكات التي يحتفظ بها وجوهنا ولعنة الله على دمائنا التي لازالت تحمل الود لكما ، والحرارة والدفء عندما نتذكركما.
خذا قلبي المرتجف دوما والعلامات ولحظات الهلع، خذا ثيابي الدافئة التي لم تحتفظ سوى برائحتكم، خذا كتبي وأوراقي القليلة التي كتبتها ولم أذكر فيها غيركم، خذا العلامات كلها والأحلام، والأمنيات المؤجلة لأنكم لم تكونا هنا، والذكريات التي نسيتها لأنكما لم تمرا بها، خذا حيواتي العالقة وأيامي الباردة ولحظاتي الخاوية ولكن خلصوني من العلامات التي أدمنتها، خلصوني من شباك القدر التي وقعت فيها ولم أنج، خلصوني من كل صفحاتي التي كتبتها ورتبتها لتصبح حكاية تقفي الأثر مؤلمة مثل فقد الأثر ذاته، خلصوني من القلوب التالفة والمشاعر التالفة والذكريات المثقوبة، خلصوني من روحي التي تحن لكم وتئن لكم وتشتاق لكم.
(4)
تتكرر الأيام وتصبح مائعة، تتكرر الذكريات وتصبح أسيرها، تعيد الذكرى نفسها في اليوم ذاته من كل عام، كأن للهجران موعد مقدس لا ينبغي تفويته، وكأن للخسارات مواعيد مع الأقدار تتشابه في كل عام منذ سنة أو ثلاثة أو عشرة سنوات، العلامات هي نفسها، والهجرات هي نفسها، والسخفات هي نفسها، كل شيء يصبح نفسه مجردا منك ومليء بهم.
هناك سأكون للمرة الأخيرة وحيدًا في ضيق، سأنتظركما في متسع من الحزن، ستبدوان من بعيد لامعان مضيئان، سيئان من الداخل وقلوبكما مرتقة، ومشاعركم ستحملونها لشخص جديد يقع في شرك العلامات مرة تلو مرة، ستبدوان جميلان طازجان كأنكما لم تعرفا الحزن ولم تجرباه ولكن في متسعي سأنتظركم، لن أهضم العلامات ولن أنساها سأدونها لتصبح دليلى في كيف أقترب من متسعي أكثر، سأدون كل ما حدث وكل الروايات التالفة التي كنت بطلها، وكل الروايات التي لم تحدث وكنت الشرير فيها وكل الروايات التي أثنت على شري وعلى شخصيتي، سأمر بيدي على الذكريات لأحفظها عن ظهر قلب سأمرر يدي في قلبي لأخرج أخر ما بقى لكما فيه ومنه، وأضع كل ما لديكما في داخلي على شاطيء متسع الحزن لتصبح حدوده خسارتكم.
العابرون ببطء جميلون وملعونين نحن بهم، العابرون ببطء الذين ينتزعون سكينتهم بسرعة أو ببطء فلم يعد يجدي الأمر نفعًا سأترك كل شيء هناك في المتسع، سأترككما هناك مع صوركم وذكراكم ودوائركم التي لا تنتهي ، سأترككما مع علاماتكم التي لا تتوقف عن التكرار واصطياد ضحايا جدد، ساتوقف عن كوني ذلك الشخص الذي يصدق في العلامات وسأتوقف عن كوني الشخص الشرير أو حتى الضحية، سأكمل رحلتى في سلام أو هكذا أتمني.
هناك متسع من الحزن لكل شخص ولكنه بدا ضيق جدا على محبتكما.
-------------------------------------------
نهاية باب ما جاء في الحزن
5 أيام بعد 17 من الشهر الأول من العام الثالث لاختفاء العلامات!
عطية
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 22, 2020 02:29 Tags: و_سأظل_أقتفي_أثرك_و_لا_أصل
No comments have been added yet.