محمد إلهامي's Blog

August 27, 2025

رسالة إلى ضباط الجيش المصري!

 

منذفترة أريد أن أكتب مقالا عنوانه: رسالة إلى ضباط الجيش المصري.. أريده أن يكونرسالة أخيرة، {ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة}.

 

علىأني منذ عقدت تلك النية لم أجد في نفسي الفرصة لصفاء نفسي أو ظروف مواتية، بلالأمور تتسارع من حولي، وأخشى أن يُحال بيني وبين ذلك.. ومن يدري؟.. لعل كلمة هناأو هناك تقع موقعها في صدر أحد الذين يقرؤونها، فيكون فيها الخير له، ولنا، وللأمةكلها.

 

ولكيلا يطول الانتظار، فقد عزمتُ أن أكتب هنا أهم ما أريد قوله، وإن لم يكن مرتبا ولامتقنا على النحو الذي رغبت فيه.

 

ياضباط الجيش المصري.. في كل مواقعهم.. اسمعوا مني فوالله إنها لنصيحة صادق مخلص..وعلم ذلك عند الله!

 

(1)

 

لئنكان الناس يجاملونكم أو يغازلونكم، رغبا أو رهبا، فوالله لا أجاملكم ولا أغازلكم..بل أنصحكم نصيحة مشفق عليكم، محذر لكم.. فوالله العظيم إنكم لعلى خطر عظيم وفي خطرعظيم..

 

ولاتغركم الرتب ولا المزايا ولا السلطة.. فوالله ما هو إلا نَفَسٌ واحدُ يخرج ولايعود، فيجد الإنسان نفسه في الآخرة، في القبر، أمام ملائكة الحساب، وينقطع عنهالعمل والأمل حتى يقف أمام الله.. فلا رتب ولا نياشين ولا أموال ولا سلطة.. ولاعلاقات نافذة.. يقف المرء وحده أمام مصيره النهائي الأبدي الكبير.. فإما الجنةوإما النار.

 

(2)

 

ولاأخاطبكم هنا إلا بكلام الله وكلام رسوله.. كما قال تعالى {قُلْ: إنما أنذركمبالوحي}

 

والإنذاربالوحي، بكلام الله وكلام رسوله، لا ينصرف عنه إلا الذين وصفهم الله بالصَّمَمَ..وهؤلاء لا يستفيقون إلا حين يقع العذاب والعقاب، في الدنيا أو في يوم القيامة..وهناك: يرى كل واحد منهم أن كل أعماله مهما كانت صغيرة وتافهة قد وُضِعت فيالميزان.

 

اسمعالآية: {قل إنما أنذركم بالوحي، ولا يسمع الصُمُّ الدعاء إذا ما يُنْذَرون * ولئنمسَّتهم نفحة من عذاب ربك ليقولن: يا ويلنا إنا كنا ظالمين * ونضع الموازين القسطليوم القيامة، فلا تُظلم نفسٌ شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفىبنا حاسبين}

 

(3)

 

إنكنت تشك -أو ستَشُكّ- في كلامي هذا وفي أغراضي منه، فسأخبرك بطريقة قرآنية.. نصحبها القرآن الناس إذا تحيروا والتبست عليهم الأمور، لكي يتوصلوا بأنفسهم إلى ما إنكان الكلام الذي يسمعونه حقا أو باطلا.

 

نصحهمالقرآن بالانفراد بالنفس، أو الانفراد بأقرب المقربين الصادقين، ثم التفكر والتأملفي الكلام.. يعني: اخرج من كل البيئة المحيطة بك، من كل ما يُشَوِّش عليك الفهم،من كل العوامل التي تضغط وتؤثر في تفكيرك.. ابق وحدك تماما، وتفكر في أمرك بنفسك..أو اصطحب معك أقرب الناس إليك وأخلصهم عندك.. وتفكرا معا.

 

واحدأو اثنين.. لا تكونوا ثلاثة ولا أربعة.. ثم تأمل في الكلام!

 

قالتعالى {قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا}

 

هذاعلاج قرآنيٌ لم يتدخل فيه أحد.. أنت ونفسك والله.. أو: أنت وصديقك المخلص واللهثالثكما.. وهو الذي يعلم غيب النفوس، ويعلم حقيقة الضمائر، ويطلع على حقيقةالتفكر، وحقيقة الاستجابة له!

 

(4)

 

إنأقرب الناس من الخطر العظيم هم جُنود الظالمين.. بل وأخبرك بالحقيقة المرة -وقدقلت لك: لن أجامل- أن أغلبهم هالكون!

 

هناكأمل وحيد وضعيف، سأخبرك به بعد قليل.. ولكن دعني أوضح لك الخطر العظيم أولا:

 

إنحياة الجندية والعسكرية، وما فيها من طبيعة السطوة والسلطة والعقوبة النافذةوالخطر المحقق، تطبع الإنسان فيها على السمع والطاعة.. في الأغلب: دون تفكير!

 

ثمإن اهتمام الحاكم -بالذات: لو كان طاغية وسفاحا- بالجيش على وجه التحديد، لأنه أهمأدوات الحكم والسيطرة، يجعله مهتما غاية الاهتمام بتشكيل عقولهم ونفوسهم بحيثيتشربون رأيه ورؤيته، وبحيث يتعاظم هو في نفوسهم فلا يفكرون في التفكير بعد رأيه،وحتى إن فكروا: لا يجرؤون على التمرد عليه.. وهذا ما يعطل في نفوس الجنود والضباطأهم خصائص الإنسان الطبيعي: التفكير الحر والاستقلال بالقرار.

 

لهذا،ولأسباب أخرى: كان العسكريون أبعد الناس عن الهداية، وأقربهم إلى اتباع الحاكم حتىلو أمرهم بقتل الأبرياء، بل حتى لو قادهم إلى النار.. وحتى لو وقعت أمامهمالمعجزات!!

 

إذاكنتَ تقرأ القرآن، فأنت تعلم كيف أن جنود فرعون

 

1.كانوا ينفذون أوامر قتل الأطفال

 

2.وهم الذين نفذوا أوامر تعذيب السحرة الذين آمنوا بموسى.. وهنا تخيل: المعجزةالواحدة وقعت أمام السحرة وأمام العسكريين: فآمن السحرة.. ولكن العسكريين تولواتعذيبهم.. هؤلاء آمنوا واتبعوا ما ظهر لهم من الحق والمعجزة. وهؤلاء اتبعوا أوامرفرعون فعذبوا الذين آمنوا

 

3.ثم المشهد الأخطر على الإطلاق: مشهد البحر الذي انشق لموسى.. معجزة كونية هائلةضخمة مروعة.. يجب أن يؤمن لها أي عاقل.. فإذا لم يؤمن فليتخوف وليتردد وليفكر فيهذا الذي تغير له الكون وانشق له البحر.. لكن جنود فرعون فعلوا ما لا يمكن تصوره..لقد أمرهم فرعون بالعبور خلف موسى فعبروا معه.. فغرقوا جميعا!

 

ولهذايذكر القرآن الكريم أن الله قد عذب فرعون وجنوده.. وأنهم معه في النار حتى الآن..

 

سأذكرلك أربعة آيات فقط، تأملها.. ثم القرآن حافل بما يجب أن تتفكر فيه جيدا..

 

{واستكبرهو وجنوده في الأرض بغير الحق، وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون}

 

{فأتبعهمفرعون بجنوده، فغشيهم من اليمِّ ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى}

 

{فاتبعواأمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وبئسالورد المورود * وأُتْبِعوا في هذه لعنةَ ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود}

 

{الناريُعرضون عليها غُدُوًّا وعشيا، ويوم تقوم الساعة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}

 

هذاهو الخطر العظيم الذي أنت فيه.. خطر الوجود في بيئة ومنظومة تتشكل فيها النفوسبالسطوة والرهبة، كما تتشكل بالمزايا والرغبة، وتتركز عليها اهتمامات الحاكم كيتنسجم له وتتناغم معه.. هذه المنظومة أغلب الذين يتخرجون فيها يتبعون الأوامروينصاعون لها، مهما كانت مخالفة لأوامر الله، ومهما كانت تؤدي إلى النار..

 

ثمتعمل النفوس الخائفة والراغبة على التبرير لنفسها، وإلقاء الأعذار.. والله يقول{بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره}.. والمعنى: مهما اختلق الإنسانلنفسه من الأعذار والمبررات، فهو يعرف في حقيقة نفسه، والله يعرف كذلك، ما قيمةهذه الأعذار والمبررات..

 

ربمايخطر في بالك أن #السيسي ليس فرعون.. بل هو مسلم ومتدين، وشخص وطني.. هذا الخاطرلن أجيبك عليه.. تفكر فيه مع نفسك.. والله مطلع عليك ويعلم ما في نفسك

 

(5)

 

مهماكانت النتيجة التي توصلت إليها في شأن السيسي.. فأريد أن أخبرك بأن هذا الخطرالعظيم.. خطر الوجود في منظومة تجعل أوامر القائد والحاكم فوق أوامر الله.. وتتشكلفيها النفوس لكي يكون القائد والحاكم هو الإله على الحقيقة..

 

هذاالخطر العظيم ليس متعلقا بفرعون وحده.. بل يتعلق بكل الذين يخونون الله ورسولهويخونون الأمانة..

 

هذاهو الخطر الذي حذَّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تحدث عن أمراء، ليسوافراعين ولا كفارا، بل مسلمين.. وهم لا يتركون الصلاة بل يؤخرون الصلاة عنمواقيتها.. لكنهم يقربون شرار الناس..

 

قالرسول الله: "ليأتين عليكم أمراء يُقَرِّبون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عنمواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم، فلا يكونن عريفًا، ولا شرطيًّا، ولا جابيًا، ولاخازنًا". (حديث حسن)

 

إذاكان قد خطر ببالك أن السيسي ليس مثل فرعون.. فتأمَّل: كيف أن تقريب الأشرار،وتأخير الصلاة عن مواقيتها جعل النبي يحذر من البقاء في منظومة هذا الحاكم:العسكرية والأمنية والمالية!!

 

ثمتأمل..

 

(6)

 

إذاكنتَ ما تزال على الاتفاق، بأنك تفكر صادقا مع نفسك، منفردا عن المؤثرات التيحولك.. فلن تكون بحاجة إلى أن أخبرك ماذا فعل هذا السيسي في البلد..

 

انظرفي أي مكان.. أي مكان.. أي مكان..

 

الفقروالقهر والظلم منتشر في كل حارة!

المظلومونفي كل مكان.. حتى إنهم ليملؤون السجون!

الفسادونهب الأموال والتضييق على الناس، يلوح في كل وجه!

التبذيروإنفاق أنهار الأموال على بناء القصور الكثيرة والطائرات الفاخرة والعاصمةالجديدة!

نشرالانحلال الأخلاقي في الإعلام والأفلام والمسلسلات!

إقصاءالدعاة والصالحين والمصلحين.. وتقريب المنافقين والكذابين!

هدمالمساجد والمقابر التاريخية الإسلامية.. ثم تقنين الكنائس.. ثم تجديد المقابراليهودية والآثار الفرعونية!

 

وفوقهذا كله أمور ستهلك معها أجيالا كثيرة قادمة:

 

القروضالثقيلة التي تتراكم وتتزايد ولا تطيق البلد سدادها..

نهرالنيل الذي يضيع.. أو: ضاع بالفعل!!

الجزرالاستراتيجية التي كنا نملك أن نخنق منها إسرائيل.. بيعت!

حقولالغاز التي كان يمكن أن تكفي البلد، فسدت، ثم صرنا نستورد الغاز من العدو الذيقتلنا قديما، ويقتلنا الآن، ويعلن أنه ينوي أن يقتلنا ويطردنا غدا (من النيل إلىالفرات!!)

تهيئةالأوضاع لانتشار ميليشيات تابعة لإسرائيل على كل حدودنا: العرجاني في سيناء،حميدتي في السودان، حفتر في ليبيا.. إسرائيل تحاصرنا!!

 

ثم:غزة.. وما أدراك ما غزة.. ثم ما أدراك ما غزة.. كل مشهد من غزة يحكي قصة ويستحقمقالا طويلا وحده!!

 

هلتعرف بلدا في العالم ذبح الناس على حدودها ثم تركتهم يذبحون؟!!.. أو: أخذت من كللاجئ فيهم 5000 دولار لكي تسمح له بالخروج والنجاة من المحرقة؟.. واللاجئ يدفعهاويخرج بعد الإذن الإسرائيلي...

 

فكِّرفيما حولك، وأخبرني عن بلد تشددت في إغلاق حدودها وفي إنشاء جدار فولاذي يخترقالأرض، لكي تمنع المذبوحين المحروقين من النجاة!!

 

وهيفي الوقت نفسه.. تسمح لمن ذبوحهم بالدخول إليها بغير تأشيرة، وقضاء الصيف والعطلاتوالأعياد!!

 

هلمن عارٍ أشدُّ من هذا العار؟!!

 

هلرأيت دولة يوجد في خطها الأمامي تجاه عدوها مقاتلون باسلون أشداء استشهاديون، ثمتعمل هذه الدولة لإفنائهم وإنهائهم بدلا من دعمهم وتقويتهم وكسب النفوذ بهم؟!!

 

إنمحاولة سرد عناوين الجرائم التي حدثت وتحدث في البلد تستغرق وقتا طويلا، وستبدومملة للغاية.. مع أنها مجرد عناوين!!

 

(7)

 

بقيأن أخبرك عن الأمل الضعيف الذي وعدتك به..

 

هوأمل ضعيف، ولكنه موجود.. غير أنه لا يقوى عليه إلا ذو العزيمة القوية الشديدة..هذا الذي يتخذ قرارا يشتري به الآخرة ويبيع من أجلها الدنيا.. ولذلك لا يفعلهاالأكثرون.. بل يفعلها القلة!

 

لقدأخبرنا الله ورسوله عن قوم ينتقلون فجأة وفي لحظة واحدة من موقع الباطل إلى موقعالحق..

 

وكلماكان هذا الإنسان قويا وعريقا في معسكر الباطل، كان انتقاله إلى الحق أصعب وأشد..ولكنه كان انتقالا قويا.. من الحضيض إلى الذروة، في لحظة واحدة..

 

مثلسحرة فرعون.. كانوا قبل ساعة جزءا من نظام فرعون، يطلبون المال ويتآمرون علىموسى.. ثم وقعت المعجزة فآمنوا.. فتعرضوا للعذاب الفرعوني بعد ساعة.. فأصبحوا فياليوم التالي في الجنة!!.. ولا تزال قصتهم خالدة على لسان الناس بعد ثلاثة آلاف سنة،وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!

 

مثلحبر اليهود، عبد الله بن سلام، الذي لما رأى النبي عرف أنه النبي الموعود، فأسلموترك كل ما كان فيه من رئاسة وجاه وعظمة، وكان مع النبي، وتحمل أذى اليهود وماأشاعوه عنه!

 

مثلالقائد الرومي جورج (جَرَجة) الذي جاء يقاتل المسلمين، فلما تكلم مع خالد بنالوليد، آمن، وانتقل إلى صف المسلمين، فقاتل معهم فقُتِل شهيدا!

 

مثلالحر بن يزيد، قائد القوة العسكرية التي جاءت تمنع الحسين من دخول الكوفة، فلمارأى أن والي الكوفة وجيشه يتآمرون على قتل الحسين ويرفضون أي حلول.. انتقل فقاتلمعه حتى قُتِل شهيدا!

 

والتاريخحافل بالتائبين.. غير أن أولئك المنتقلين من موقع السلطة والمكانة في الباطل كانواأعظم أجرا وأخلد ذِكْرًا.. وقد بلغ الرجل مرتبة سيد الشهداء إن هو قال كلمة حق عندسلطان جائر، فقُتِل لأجلها!

 

(8)

 

السؤالالذي يدور في الذهن دائما: وماذا أفعل؟ ماذا بيدي أن أصنع؟

 

والإجابةعن هذا السؤال أنت تعرفها أكثر من غيرك.. بل أنت الوحيد الذي يعرفها..

 

إذاكنتَ على العهد، ما زلت تفكر وحدك -أو مع الصديق المقرب منك- وتعرف أن الله يطلععليك ويراقبك ويعلم حقيقة نفسك.. فأنت أقدر الناس على إجابة هذا السؤال.

 

أستطيعأن أخبرك عن الحد الأدنى الذي يملكه كل أحد: لا تنفذ أمرا فيه اعتداء على الناس،لا تظلم أحدا، لا تطلق النار على أحد مهما كنت مضطرا لذلك (فلا عذر في القتل)..

 

هذاهو الحد الأدنى.. أما ما فوق ذلك من مراتب العمل، فأنت أعرف الناس به.

 

واللهيوفقك ويرعاك!!

 

وهذاهو الأمل الوحيد الضعيف.. وأما ما سوى ذلك، فوالله إنك لعلى خطر عظيم.. وما هي إلاساعات أو أيام.. وتنقضي هذه الحياة كلها، لترى نفسك في المصير الكبير الذي اخترتهبنفسك!

 

لادار للمرء بعد الموت يسكنها .. إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإنبناها بخير طاب مسكنه .. وإن بناها بظلم خاب بانيها

أموالنالذوي الميراث نجمعها .. ودُورنا لخراب الدهر نبنيها

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 27, 2025 07:34

August 3, 2025

سيد قطب.. وُضِع له القبول في الأرض!

 

سيد قطب.. رجل عاش القرآن بروح عالية وفكر محلق، ثم سكب معانيه بقلمأديب مشرق..

ثم قدم روحه ثمنا لكلماته، فكساها ألقالشهادة ورفعها لمرتبة السيادة.. فسيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه،فقتله..

 

(1)

لست أعرف رجلا وُضِع له القبول فيالأرض بين المسلمين على اختلاف بلادهم واتجاهاتهم كما هو الحال في الشهيد القرآني سيدقطب رحمه الله، فإن المسلمين وأهل العلم يُعَظِّمونه في بلادٍ ما أشد التباينبينها في فهم أهلها للإسلام وفي أخذهم به!

وأسوق على ذلك أقرب الأمثلة؛ فإن سيدًاكان مُعَظَّمًا في مصر والجزيرة العربية وفارس وأفغانستان وتركيا، وما أعجب هذاوما أغربه، فكيف يجتمع في تعظيمه أهل البيئة السلفية مع أهل البيئة الشيعية معالأحناف الصوفية الأشاعرة والماتريدية؟!

لقد ترجم كتبه إلى الفارسية رأسالشيعة: علي خامنئي، وأرسل يتشفع فيه رأس السلفية: عبد العزيز بن باز، وكانت تطبعكتبه في البلديْن العدوّين المختلفين في كل شيء: السعودية وإيران!!

وفي تركيا، حدثني الشيخ نور الدينيلدز، وهو ممن ترجم كتب سيد قطب إلى التركية أن الناس في تركيا، وفي الزمنالعلماني الذي كاد الدين يذبل فيها، قد انثالوا على بيته وحرصوا على مصافحته ولمسيده لما عاد من عمرة عرفوا أنه فيها التقى الشيخ محمد قطب، شقيق الشهيد سيد قطب!!

وإذا تركنا المتعصبين والمهاويس في كلاتجاه حركي، فلقد التقى على توقير سيد وتعظيمه الاتجاهات الحركية في بلدانهاالمتباعدة: الإخوان المسلمون والسلفيون والجماعة الإسلامية في الهند وباكستانوجماعة الدعوة والتبليغ، وكثير من المتصوفين!

ولدي انطباعٌ من طول القراءة للرجلوعنه، أتحوط الآن في تسجيله مستعملا ألفاظ الاستدراك، فأقول: كاد يكون الموقف منسيد قطب علامة ودليلا على موقع الرجل: هل هو في معركة الإسلام والأمة أم هوخارجها؟!

وأن يكون خارجها فليس يعني ضرورة أنهعدوٌ أو مفسد، فقد يكون كذلك، وقد يكون جاهلا أو مغفلا أو ساهيا لاهيا عن معركةالإسلام في هذا العصر. وذلك أني أفتش في رأسي فلا أكاد أعثر على رجل مهموم حقابمعركة الدين والأمة في هذا العصر إلا وكان له موقف يُعظِّم فيه سيد قطب ويحبه،مهما كانت عنده من ملاحظات جزئية وتفصيلية!

وأما رؤوس العداء لسيد قطب، أولئكالذين اتخذوه غرضا وهدفا، فما من شك في أنهم من أعداء هذه الأمة الصرحاء، سواءٌأكانوا عالمين بهذا قاصدين له، أو كانوا من الغباء والغفلة والجهل بحيث استعملهمأعداء الأمة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!

إن من يقرأ في تراث الشهيد القرآني لايداخله شكٌّ في أن هذا العقل الكبير وهذا القلب الغيور وهذا القلم الأصيل قد استفرغوسعه في بيان محاسن الإسلام ونقض أباطيل الكفر والجاهلية، وأنه سعى ما وسعه السعيوانتهت به طاقة ذي القلم في أن يثير قلوب الناس ويستحث عقولهم ويوجِّه أبصارهم إلىهذا الحل الإسلامي الرباني، الحل الوحيد الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعالجما في حياتهم من المشكلات والمعضلات والعثرات.

فما يقرأ ذلك الكلامَ قارئ مخلصللإسلام إلا ويتسرب إليه حب الشهيد، ثم ما يطلع أحد على سيرته وحياته إلاويُعَظِّمه، فلك أن تعرف أنه كان رأس الوقوف في وجه الطاغية الجبار الذي خدعالملايين حتى محضوه حبا خالصا وشغفا جنونيا بفعل سحر الإعلام وطغيانه! أقصد: جمالعبد الناصر، الذي تهيأت له من الظروف ما لم يتهيأ مثلها لغيره حتى صار زعيم العربقاطبة في عصره، وكان لهم من الطغيان وضروب التوحش والتعذيب ما لم يكن للعرب عهد بهفي سائر تاريخهم. فالذي كان يعيش في زمانه إن كان عبقريا ذكيا قوي النظر فأفلت منطغيان سحره، فما كان أندر أن يكون روحا صلبة أبية صخرية فولاذية تتجرأ فتقتحممخاوف بطشه وتنكيله. ولذلك اختبأ أكثر الناس، ولم يُعرف في مفكري مصر ومثقفيها –علىكثرتهم- من تجرأ على الوقوف في وجه عبد الناصر إبان سطوته وجبروته، اللهم إلا سيدقطب!

ولقد قيَّض الله للشهيد من يحفظ إرثهحتى انتشر وطغا وذاع في العالمين، ولقد رأيت من كان يحفظ "في ظلالالقرآن" وهو أربعة آلاف صفحة من الصفحات الكبيرة التي ضُيِّق فيها الكلاموحُشِر، (وقد طُبع بأخرة في ستة آلاف صفحة)، وما ذلك إلا لأن الحملة كانت عاتيةعلى كتب الشهيد وتراثه، حتى قدَّر بعض الحريصين أنه لا بد من حفظه في الصدور!

 

(2)

مما يثير الألم في النفس أن يكون العدوالغريب أحسن فهما وتقييما لرجال الإسلام من أولئك المحسوبين المنسوبين للإسلاموالدين..

يذكر الشيخ فايز الكندري، الأسيرالمحرر من سجن جوانتانامو الأمريكي، أنه قد "صرح لي أحد المحققين بكل وضوح أنأخطر شخصية على الغرب خلال القرن الماضي هو سيد قطب".

وتلك شهادة خطيرة وعظيمة أيضا في حقالرجل، بل وهي مرتبة يتمناها المسلم، فأن تكون أخطر شخصية على الغرب إنما يعني -بالتعبيرالقرآني- أن تكون أكثر الذين يطئون موطئا يغيظ الكفار!

وليس هذا خافيا، ولا هو بالأمر الذييُقال في الدهاليز والأروقة فحسب، بل قد ذكر نفس هذا المعنى ثعلب السياسةالأمريكية الأشهر، هنري كيسنجر، ذلك المؤرخ والمفكر والسياسي الداهية الذي تولىمقعد مستشار الأمن القومي وظل مُعَظَّمًا فيهم إلى أن مات بعد أن جاوز المائة عام!

كيسنجر في كتابه "النظامالعالمي"، يرى أن الشهيد سيد قطب قدَّم الإجابة المفصلة عن الأسئلة التي لميُجب عنها حسن البنا، وأن إجابة سيد قطب هذه هي "الطبعة الأعمق والأكثرنفوذًا لهذه النظرة" الإسلامية الثورية. وقرر كيسنجر أن كتاب معالم في الطريقإنما "هو بيان حرب على النظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصًا تأسيسيًاللحركة الإسلاموية الحديثة".

ومضى كيسنجر يشرح التناقض الجذري بينالرؤية الإسلامية التي يقررها سيد قطب، وبين النظام العالمي القائم على مجموعة منالدول المعلمنة والمُقَسَّمة قوميا وعرقيا، فيقول:

"الإسلام، بنظر قطب، نظام كونيشامل يوفر الصيغة الصحيحة الوحيدة للحرية؛ التحرر من حاكمية بشر آخرين، عقائد منصنع الإنسان، أو "روابط دنيا قائمة على العنصر واللون، على اللغة والبلد، علىالمصالح الإقليمية والوطنية - القومية" (أي سائر الصيغ الحديثة الأخرىللحاكمية والولاء مع بعض ركائز بناء نظام وستفاليا). تمثلت رسالة الإسلام الحديثة،برأي قطب، في إطاحة ذلك كله والاستعاضة عنه بما عده تطبيقًا حرفيًا، عالميًا آخرالمطاف، للقرآن. وكان من شأن تتويج هذه السيرورة أن تتمثل بـ "بلوغ حريةالإنسان على الأرض - جميع البشر عبر كوكب الأرض". كان من شأن هذا أن يكملالعملية التي أطلقتها الموجة الأولى للتوسع الإسلامي في القرنين السابعوالثامن"، "العملية التي يجب أن تصل عندئذ إلى الجنس البشري كله في طولالأرض وعرضها، نظرًا لأن هدف هذا الدين هو الإنسانية كلها وفضاء حركته هو الأرضكلها"... كان قطب، ذو الاطلاع الواسع والشغف الشديد، قد أعلن الحرب على الوضعالعام - حداثة علمانية بفظاظة وتمزق إسلامي، كما جرى تصديقهما من قبل تسوية ما بعدالحرب العالمية الأولى الإقليمية في الشرق الأوسط... كتلة الأفكار هذه تمثل عكسًاشبه كلي وقلبًا لنظلم وستفاليا العالمي. لا تستطيع الدول، بنظر أنقى طبعات الحركةالإسلاموية، أن تكون المنطلق المناسب لأي نظام دولي لأن الدول علمانية".

ويحظى سيد قطب بأهمية خاصة لدىالغربيين، لا سيما الباحثين في الشؤون الأمنية والحركات الجهادية، وفي حدود مااطلعت وعرفت فقد ندر أن جرى تناول سيد قطب وفكره بإنصاف في الكتابات الغربية،والنادر هنا بمعنى أني بعد البحث والسؤال والتعقب لم أعثر إلا على خمسة بحوث غربيةقيل إنها تنصف سيد قطب، لكن لم يتيسر لي الاطلاع عليها.

 

(3)

بقي أن يُقال: هل كانت أفكار سيد قطبمتطرفة تخصه؟ أم هي الفكرة الإسلامية ذاتها قد عبَّر هو عنها، بلغته وأسلوبهوقلمه؟!

ليس أسهل من إجابة هذا السؤال منالإشارة إلى ما وُضع للشهيد وكتبه من الانتشار والقبول في الأرض، كما ذكرنا فيمطلع هذا المقال. إذ ليس يمكن أن يروج في عالم المسلمين ما هو شاذ عن دينهموإيمانهم وأفكارهم! لا سيما في هذه الأمة التي قدر الله أنها لا تجتمع على ضلالةوأن ما يكون حسنا فيها فهو عند الله حسن!

كذلك فقد ذكرنا أن كافة أهل العلمالمعتبرين الذين تكلموا في سيد قطب، فهم بين قسميْن: إما أنهم عظموه ووقروه بلاتحفظ، أو أن تحفظاتهم واختلافاتهم معه كانت في أمور جزئية يسع فيها الخلاف أوتُغمر في بحر فضائل الرجل! فيكون الرأي النهائي لهؤلاء الناس أن الرجل من أهلالإسلام بل من ساداتهم والمبرزين فيهم.

وأي شيء أبلغ في الشهادة للرجل أن نجدبعض أعدائه يسرق منه كلماته، كما فعل علي جمعة –المفتي الأسبق في مصر- وشوقي علام –المفتيالسابق- فقد رُصِد لكل منهم مقالات نقلوا فيها عن الشهيد دون أن يذكروا اسمه، ومافتئوا يطعنون فيه وفي أفكاره.

ومما ينبغي أن يذكر هنا، للدلالة علىالأمر، أن وزير شؤون الأزهر في الحقبة الناصرية، وهو نفسه أستاذ الفلسفةالإسلامية، الدكتور محمد البهي، سجل في مذكراته لقاءً له بعبد الحكيم عامر (أقوىرجل في مصر وقتها)، وفيها سأله عن رأيه في كتاب معالم في الطريق، فقال الرجل:"أجبته عن تقييمي لكتاب "معالم على الطريق" بأني كنت أتمنى أناالذي كتبته. هاج ووقف من جلوس. وقال: كيف تقول ذلك والصحافة كلها نددت به؟ قلت له:إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى. وما تقوله الصحافة عنه: شيء سياسي لادخل له إطلاقا في تقييمه".

وحتى الشيخ العلامة الكبير، فقيهالعصر، يوسف القرضاوي، مع ما كان له من الخلاف مع الشهيد، لم يسعه في الإجمال إلاأن يقول: "سيد قطب أحد عظماء الرجال في أمتنا,في تاريخنا الحديث والمعاصر, هو مسلم عظيم، إذا قِسْنا العَظَمة بمقياس الإنسانية,وهو أديب عظيم، إذا قِسْنا العظمة بمقياس الإبداع في الأدب والنقد الأدبي، وهوداعية عظيم، إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه، وهو عالم ومفكِّرعظيم، له أثره في العلم والفكر، إذا قسْنا العظمة بمقدار الاستقلال في الفكروأصالة العلم، وهو أيضًا مسلم عظيم، إذا قسنا العظمة بالبذل والتضحية في سبيلالله. وحسْبُنا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها".

بل حتى البيئةالسلفية التي يمكن القول بأنها أكثر البيئات العلمية تدقيقا في الألفاظ وعنايةبهذا الباب، إلى الحد الذي تقع فيه المغالاة، نجد عالما سلفيا كبيرا مثل الشيخ بكرأبو زيد، وفي مقام النقد والاستدراك –كما في كتاب: معجم المناهي اللفظية- لا يسعهإلا أن يجمل القول في الشهيد فيقول: "في كلام سيد قطب -رحمه الله- وفي بعضتصانيفه مما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيلتوضيحه للناس. ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية؛ ففي بعض المسائل الفقهيةكحديثه عن حق العمال في كتابه: "العدالة الاجتماعية" أخذ يكتب بالتوحيد،وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذهالخلفية في الواقع قد جدّد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنَّا نلمس أحياناًأن له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائلالتي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها".ولقد نقلتُ من هذا الموطن الذي هو في مقام الاستدراك والنقد، ولم أنقل من رسالتهالذهبية في الرد على ربيع المدخلي، فإن كلامه فيها كان في سياق إنصاف الشهيدوالتحدث بمآثره!

رحمالله الشهيد سيد قطب.. وبلغه منازل الصديقين والشهداء والصالحين.. وألحقنا به علىخير أجمعين!

كان من تدبيرالله العجيب أن اخترنا موضوع هذا العدد من المجلة عن الشهيد سيد قطب لموافقة صدورالعدد ذكرى استشهاده، ثم بعدها بيومين فحسب جاء الخبر بموت ربيع بن هادي المدخلي،رأس الضلالة الذي اتخذ الشهيد سيدًا هدفا وغرضا، والذي كان رأس فرقة فتنة وضلالةالتي عرفت بالجامية وبالمداخلة. والزمان بيننا، وستكشف الأيام من الخبيث الذيسيذهب كلامه جفاء ويجتث من فوق الأرض، ومن الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض، ويؤتيأكله كل حين بإذن ربه!

فايز الكندري،البلاء الشديد والميلاد الجديد، ص211.

هنري كيسنجر،النظام العالمي، ص124 وما بعدها.

د. محمدالبهي، حياتي في رحاب الأزهر، ص133.

د. يوسفالقرضاوي، في وداع الأعلام، ص84

د. بكر أبو زيد،معجم المناهي اللفظية، ص211

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 03, 2025 21:01

June 6, 2025

أمة تحج وتجاهد.. وكاتبون وكتائب.. ومداد ودماء!


تلك خمسة أمورقد اجتمعت، فتمثل فيها اجتماع الحاضر بالتاريخ، والنازلات بالذكريات، والخاصبالعام.. فتأمل!

 

(1)

أتم الله الكريم نعمته على عباده، وهذاالعدد من مجلة "أنصار النبي ﷺ" هو بداية عامها الرابع، فنسأل الله تباركوتعالى أن تكون عملا طيبا وأن يكون ما بثته من العلم علما نافعا خالصا لوجههالكريم.

وتلك المجلة، هي جندي في كتيبة"الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ"، وقد جرى تأسيسها وإطلاقها قبل ثلاثسنوات من الآن، ضمن السياسة العامة للهيئة، والتي تبتغي أن تكون نصرة النبي ﷺ عملادائما لا موسميا ولا ردة فعل.

وقد ابتدأت المجلة بثلاثة أقسام، وهيالآن مع انطلاقتها الرابعة تصل إلى سبعة أقسام..

بدأنا بثلاثة أقسام، هي: قسم يكتبهعلماء الهيئة ومن سواهم من العلماء وأهل الفضل. والقسم الثاني "أئمةالهدى" تخيرناه من كتابات العلماء والدعاة الراحلين في القرنيْن الأخيريْن،أولئك الذين هم جمٌّ غفير وجليل ولكنه مهضوم الحق في عالمنا المعاصر الذي لا تحتفيفيه الدول بأهل العلم ولا بتراثهم وذكراهم. والقسم الثالث "الصادعونبالحق" تخيرناه من كتابات العلماء والدعاة الأسرى الذين كلفتهم كلمة الحقمعاناة الأسر، فأخذنا على عاتقنا أن نذكر بهم ونبث صوتهم وننشر إنتاجهم.. وما أكثرأهل الفضل الأسرى في بلادنا.

واليوم مع انطلاقة العام الرابع قدأضيفت إلى مجلتنا المباركة أقسام جديدة، وهي:

قسم "سفراء النبي ﷺ"، وفيهننشر مقالات السادة الأفاضل الذين أخذوا على عاتقهم أن يكونوا ممثلين للهيئةالعالمية لأنصار النبي ﷺ في بلدانهم، وأن تكون مهمتهم في ديارهم هي بث فكرة النصرةومعانيها وواجباتها، وللهيئة العالمية الآن شبكة من السفراء الذين يحملون هذهالمهمة، بلغوا ثمانين سفيرا في خمسين دولة، وما زال العدد يزداد، وما تزال مهمةنصرة النبي ﷺ والتعريف به تحتاج إلى المزيد.

وقسم "بصيرة"، وفي هذا القسمنقتطف بعض ثمرات من إحدى مشاريع الهيئة العالمية، وهو مشروع "بصيرة"الذي يعني بهداية غير المسلمين، من خلال تعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه وإدخالهمفيه، ثم إدراجهم في مستويات تعليمية لتعلم الإسلام. وهذا المشروع يقوم الآن علىثلاث لغات، ويجتذب إليه شهريا نحو مائة مسلم جديد. فطلبنا إلى بعض هؤلاء المهتدينكتابة قصص اهتدائهم، وما الذي جذبهم في الإسلام وكيف دخلوا فيه، وعزمنا أن ننشربعض هذه القصص فإنها مما يحيى النفوس، ويحفز الدعاة، وينشر بركة الدين للقارئينوالسامعين.

وقسم "المنصفون"، وفيه عزمناعلى أن ننشر مقالات لبعض من أنصفوا النبي ﷺ من غير المسلمين، سواءٌ أكانوا منالمستشرقين أم من العرب والمشارقة غير المسلمين، فإن "الفضل ما شهدت بهالأعداء"، وإن الشهادة أبلغ ما تكون حين يشهد "شاهد من أهلها"، وكثيرٌمن أبناء المسلمين لا يعرفون ما هم فيه من النعمة لكونهم نشؤوا ودرجوا في رحابالإسلام وظله، فالنعمة عنها معهودة معتادة، ولكن غير المسلمين الذين نشؤوا فيالجاهلية وخبروها يستطيعون من موقعهم هذا أن ينتبهوا في محاسن الإسلام إلى ما لاننتبه له نحن المسلمين.

ثم نختم بقسم بريد القراء، وهو القسمالمفتوح لمن شاء من قرائنا الكرام أن يشاركنا بما تجود به قريحته، وما يسيل بهقلمه!

وما زلنا في إطار التفكير والتخطيطلأقسام أخرى، مثل: قسم للأطفال والناشئين، وقسم للغات الأخرى غير العربية.. ومانزال نحتاج من عموم القارئين دعمهم وإسنادهم: بالدعاء أولا وآخرا، وبالنشروالترويج للمجلة، وبترجمتها إلى غير اللغة العربية ليتسع انتشار ما فيها من الخيرفيكون ذلك في ميزان حسنات من ترجمها، وبما سوى ذلك من أنواع الدعم والمساندة..وأجر ذلك كله عند الله!

فالآن يرى القارئ هذا العدد الجديد، فيثوب مختلف قشيب، سائلين الله عز وجل أن يبلغ عنا وأن يجعل ذلك كله خالصا لوجههالكريم.

 

(2)

قبل أيام من صدور هذه المجلة، نفذالصهاينة اقتحاما جديدا للمسجد الأقصى المبارك، ومَكَّنوا قطعانا من المستوطنين منإقامة شعائر تلمودية في ساحته، وتبع ذلك كله احتفال وهيجان، وفيه قام أولئكالصهاينة –لعنهم الله- بسبٍّ جماعي لنبينا المعظم الأكرم ﷺ.

وبعدها قام أحدهم في الكنيست ليسخرهازئا من أجهزة الأمن الإسرائيلية التي كانت طوال سنوات سابقة تمنع المستوطنين منتنفيذ مثل هذه الشعائر، وتبرر ذلك بأنه لو صلى يهودي واحد في المسجد الأقصى لانفجرالشرق الأوسط كله. يقول هذا بين الشماتة والسخرية: ها قد صلى آلاف اليهود وليسيهوديا واحدا ولم يحدث شيء!

لم يعد مشهد اليهود وهم يقيمون صلواتهمفي الأقصى، ولا مشهدهم الجماعي وهم يسبون نبينا ﷺ مشهدا جديدا، لقد صار مشهدامتكررا..

وهو مشهدٌ يخبرك بحقيقة الحال الذيوصلنا إليه، وعلى الأخص والأدق: وصلت إليه هذه الأنظمة العربية والإسلاميةوحُكَّامها. ذلك أنه يُمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزة ضعيفة لا تقوى على مجابهةالصهاينة ومواجهتهم وإيلامهم. وليس هذا التفهم بعذر أبدا، فإن أغلب هؤلاء الحكاممستقرون في بلادهم وممالكهم منذ سنين: عشر سنين وعشرين سنة وربع قرن ويزيد، فلوكان فيهم مخلص صادق يعمل بجد على نهضة بلده وشأنه ليجعل منها قوة حقيقية غيرمستذلة ولا مرهونة للصهاينة، لكان الآن في حال آخر يتمكن معه من الأخذ والردوالمساومة والقول والتهديد! غير أنهم لما كانوا خالين من الوطنية والانتماء فإنبلادهم زادت بهم ذلا وخزيا وعارا!

أقول: يمكن تفهم أن هذه الأنظمة عاجزةعن تهديد الصهاينة ومنعهم من تدنيس الأقصى ومن سبّ النبي الأكرم ﷺ، فهل يمكن إذنتفهم أن تستمر العلاقات السياسية والاقتصادية بينهم وبين الصهاينة بعد هذا كله.إنه لو كان عندهم دينٌ يحركهم، أو كانت في قلوبهم محبة حقيقية للنبي ﷺ، لظهر ذلكعلى تصرفاتهم وسلوكهم.

لكن العجيب الغريب، وما هو بعجيب ولاغريب على من يعرف حقيقتهم، أن تلك الأنظمة وهؤلاء الحكام –ومنهم اثنان ينتسبانبالنسب إلى النبي ﷺ، وما هما من أهله- يزيدون في التعاون مع الصهاينة رغبا ورهبا،إيمانا واحتسابا.. فأحدهما يواصل إمداد الصهاينة بما يحتاجونه من غذاء وسلع وأجهزةعبر معابره المفتوحة للبضائع المغلقة على المُقاومين، والثاني يستقبل لهم السفنالتي تحمل الأسلحة والذخائز القاتلة للمسلمين فينزلها في موانئه للتزود بالوقودوالصيانة ولوازم استكمال الرحلة! ثم هو الآن ينفذ معهم تدريبات عسكرية مشتركةيُطوِّرون فيها قدراتهم على قتل المسلمين في غزة!

إنها حوادث كاشفة فاضحة، والحديث عن أنهؤلاء الحكام مثلهم مثل الظلمة الجائرين من حكام المسلمين قديما هو حديث خرافة،فلا نعرف في أخبار السابقين –من الجائرين الظالمين- من كان يُجهَر بسبِّ النبيأمامه ثم هو لا يزال يوالي عدو الله وعدو رسول الله، ويحرص على إمداده بما يحتاجمن مال وسلاح ومؤامرات!

وذلك الحال يضع على عاتق العلماء وعاتقالشعوب مهمة ثقيلة ثقيلة في ضرورة إزاحة هؤلاء وإقصائهم وعزلهم وخلعهم عن مناصبهم،إن لم يكن بالواجب الشرعي الذي يستشعره المسلم دينا ويُحاسب عليه في الآخرة،فلضرورة الحياة الكريمة الطبيعية في الدنيا، وهي الأمر الذي يحرص عليه حتىالعلماني الذي لا يطلب إلا الدنيا.. فإن استمرار هؤلاء الحكام، وإن انكسارالمقاومة في فلسطين، سيجعل هؤلاء الصهاينة يتمددون ليسبوا رسول الله ﷺ في الأزهرالشريف وفي الجامع الأموي وفي المسجد النبوي.. كيف لا، وهم يعلنون أن أرضهم تمتدمن النيل إلى الفرات؟!!

إن الحفاظ على الحياة الدنيا، حتى لمنلم يرد إلا الحياة الدنيا، له ولأبنائه من بعده، لتدفعه دفعا نحو مكافحة هذهالصهيونية السرطانية الخبيثة أن تتمدد إلى ما سواها من البلدان! وهي مكافحةٌ منضروراتها وحتمياتها ولوازمها: إغاثة المقاومة في فلسطين بكل سبيل، وإزاحة هذهالأنظمة بكل سبيل أيضا.

(3)

وحيث وصلنا إلى ذكر الصمود وضرورته..فإنه تظللنا في هذه الأيام ذكرى فتح القسطنطينية، التي فُتحت في 29 مايو 1453م، قبلحوالي خمسة قرون وسبعين عاما. وفي هذه الذكرى صمودان يستحقان التوقف عندهما توقفامليا..

أما الصمود الأول فهو صمود القسطنطينيةذاتها، لقد صمدت أمام المسلمين ثمانية قرون، ولم يستطع المسلمون فتحها لا في عهدالأمويين ولا العباسيين، ولو أنها فُتِحَتْ في الموجة الأولى للفتوح لكان التاريخقد انقلب وكان الإسلام قد عمّ أوروبا كلها خلال قرن أو اثنين على الأكثر!

لكن صمود هذه المدينة، التي كانت قلعةالمسيحية الأرثوذكسية العتيقة، لثمانية قرون وفَّر الفرصة لأوروبا، وللمسيحيةالغربية أن تقوى ويشتد عودها وتنبت لها قرون أخرى من القوة وعواصم أخرى فتيةتستكمل مهمة مواجهة الإسلام. فعندما انهارت القسطنطينية لم تنهَر العقبة النصرانية،بل بعد سقوطها بأربعين سنة فقط كانت قوة النصرانية في إسبانيا تستكمل طرد المسلمينمن الأندلس، وتكتشف الأمريكتين وتحوزها، وتلتف لتحتل بلاد المسلمين في غربيإفريقيا وشماليها وجنوبيها وجنوبي آسيا! وكان لذلك كله نتائج كارثية على المسلمينلا تزال حتى الآن.

وأما الصمود الثاني فهو صمود محمدالفاتح نفسه وإصراره على فتح المدينة العنيدة، كان إصرار الفاتح على فتحالقسطنطينية لا يهتز، ومع أنه لقي في حرب فتحها من العنت والشدة والإخفاقات مايجعل أي متابع يفكر في تأجيل المعركة وإعادة الكرة بعد فترة، وهو الأمر الذياقترحه عليه فعلا بعض وزرائه وقادة حربه، ولكنه أبى وبشدة.. وبسبب هذا الإصرارالملح على فتح هذه المدينة، فتح الله عليه بالفكرة العبقرية غير المسبوقة ولاالملحوقة، وهي تسيير السفن فوق الجبل للنزول بها في خليج القرن الذهبي وتجاوز عائقالسلسلة الحديدية التي تغلق مجرى المضيق، وبهذا تم له الفتح!

إن الصمود في موقف واحد قد يغير خريطةالتاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد.. وكذلك الصمود في موقف مقابل قد يحفظ خريطةالتاريخ لسنين أو لقرون أو للأبد..

ويمكن ضرب الكثير من الأمثلة على هذا..إن التاريخ ينقلب وتتغير مساراته بالمعارك، والمعركة الضخمة هي سلسلة من المواقف،وقد يكون الرجل الواحد في الوقت المناسب والمكان المناسب فارقا في حركة التاريخ..

هذا ما تصنعه الآن غزة.. وهذا ما تفرطفيه الآن سائر الدول العربية والإسلامية! فلغزة كل ما ينبني على المعركة من الأجروالفوز والظفر، ولهؤلاء المتخاذلين كل ما سينبني عليها من الفوت والخسارة والفرصةالثمينة الضائعة!

 

(4)

وما دمنا في حديث الذكريات التي تفرضحضورها في الواقع، وفي الواقع المرّ الذي يجذب أشباهه من الماضي، فقبل نحو ألف سنةإلا خمسين عاما، وفي مثل هذا الصيف كان الشام يعيش آخر صيفٍ إسلامي قبل أن تجبههالحملات الصليبية..

ويكفي للقارئ أن يعلم من ذلك التاريخشيئا واحدا واضحا: إن الحملات الصليبية التي غيرت التاريخ ولا تزال حاضرة وحية حتىالآن، إنما هي ثمرة لنجاح حملة صليبية واحدة هي الحملة الأولى.. وأما بقية الحملاتالصليبية السبعة فكلها قد فشل وعاد مهزوما!

لكن انتصارهم الأول وهزيمتنا الأولىشجعهم وحرضهم على المحاولة المستمرة لثماني مرات أخرى عبر قرنين من الزمان.. لقدكشفت الهزيمة الأولى أمام الحملة الصليبية الأولى أننا أمة ضعيفة ممزقة يمكن أنتُهزم ويمكن أن ينتزع منها بيت المقدس!!

ولو استطاع المسلمون يومها صدّ هذهالحملة الأولى ودحرها فأقل الأحوال أن أوروبا كانت سترجع عن فكرة الحملات الصليبيةلقرن واحد على الأقل، قبل أن ينسيها هذا القرن الذكرى ودرس الهزيمة لتحاول مرةأخرى.

والقارئ لتاريخ الحملات الصليبية يعرفجيدا أن هزيمة هذه الحملة الصليبية الأولى كان ممكنا غاية الإمكان، ولولا ما كانفيه المسلمون من التفرق والتمزق لاستطاعوا إبادتها بسهولة، ولقد سنحت فرصٌ كثيرةلإبادة هؤلاء ولكن فشلت جميعها لا لفارق القوة ولا العدد، بل لشيوع التنازع والتحارببين المسلمين، وتلك تفاصيل مريرة لا يتسع لها المقام، وكلها تفاصيل مؤلمة ومحرقة!

الحرب بين قلج أرسلان والحكيمالدانشمند مَكَّنت الصليبيين من احتلال عاصمة السلاجقة المسلمين في آسيا الصغرى ثماخترقوها إلى أنقرة، ثمانية أشهر صمدها أمير أنطاكية يطلب نجدة المسلمين فلمينجدوه مع أن الصليبيين الذين يحاصرونه قد هلكوا من الجوع، وهو نفسه هذا الأمير لوصمد ثلاثة أيام أخرى فحسب لكان قد رأى جيش الموصل قد وصل، وجيش الموصل نفسه لو لميكن تلكأ لكان قد وصل قبل سقوط أنطاكية، ولو أن قائده لم يكن عنيدا متعجرفا لكانقد انتصر على الصليبيين واستعاد منهم أنطاكية بعد أيام من اقتحامها، ولو أنالعلاقة بين قائده ورجاله، أو بين قائده وبقية الأمراء في الشام كانت أحسن حالالاستطاع سحق الصليبيين، وإنقاذ الشام كله.. ومائة "لو" تخبر بها كتبالتاريخ، كانت الواحدة منها لتحفظ بلاد المسلمين من هذا الشر المستطير الذي سُفكتفيه ملايين الدماء وما لا يعد ولا يحصى من الخسائر الأخرى، ولا تزال أمتنا حتى يومالناس هذا تدفع أثمانا كانت بدايتها تلك الأيام من الحملات الصليبية.

إن في قصة هذه الحملات وفي قصتناالمعاصرة شبه كبير.. سواء في البطولة أو في الخيانة، في العدو وفي الصديق، فيالشعوب وفي الحكام، في الغرب وفي الشرق..

وهذه المعركة القائمة في غزة تخبرنا أنالطرف الذي سينتصر فيها سيفتح لنفسه صفحة قوية في التاريخ.

(5)

يجتمع هذا الماضي وهذا الحاضر بالعبادةالسنوية المتجددة والمستمرة.. الحج إلى بيت الله الحرام.. وبهذه الأيام العشرالأوائل من ذي الحجة، والتي هي أفضل الأيام عند الله، والتي ما من أيام العملالصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه العشر!

وإن من الفقه العميق الذي يخبرك عنذكاء الصحابة هو سؤالهم هذا الذي سألوه لما سمعوا هذه المعلومة، قالوا: ولا الجهادفي سبيل الله؟!

لقد كان القوم يفقهون ويعرفون أنالجهاد هو ذروة الأعمال كلها، وهو قمتها السامقة، ولقد أخبرهم النبي أن ذروةالجهاد وصورته النهائية هي التي تعدل العمل الصالح في هذه العشر، وهي صورة الرجلالذي ضحى بنفسه وماله وكل ما عنده في سبيل الله!

وبه نعرف أن الجهاد في هذه العشر هوذروة ذرى الأعمال كلها، وأن من أتيح له الجهاد فيها فقد حاز الشرف الذي لا يُطالولا يُرام.

إن في هذه الأمة أصولا وجذورا وبذوراتعيد بها وفيها إحياء نفسها، وهذا الموسم العام الذي يعم الأمة (العشر الأوائل)،وتلك العبادة التي يجتمع إليها المسلمون في مكان واحد من كل فج عميق، هذا الموسموتلك العبادة هي الأصول والقواعد التي تجدد الأمة فيها نفسها.

فالذي يصلي في المسجد الحرام أو المسجدالنبوي لا بد أنه سيتذكر المسجد الأقصى!

وأولئك الذين اختلفوا في كل شيء ثم لميجتمعوا هنا إلا للإسلام ستنبت فيهم –شعروا أو لم يشعروا- أنهم أمة واحدة عصية علىالتقسيم والتمزق، حتى لو ارتفعت الأسوار وتكاثرت الحدود!

والذي يخلع الثياب ليبقى في ثوبين،ويرجو الله والدار الآخرة، تُنْزَع من نفسه شدة التعلق بالدنيا، ليعرف أنه فيهاعابر زائل، وأنه لن يبقى له في مثل يوم الحشر هذا إلا عمله الصالح!

والذي يرى حوله الألوان والأشكالواللغات العديد وقد صاروا إخوانه من حوله، يعبدون الله كما يعبد، ويطوفون كما يطوفويسعون كما يسعى.. الذي يرى هذا لن يستطيع أن ينسى إخوانه الذين يعانون في البلادالقريبة والبعيدة!

الحج هو طاقة الشحن الإيمانية السنويةالتي تحيي في عروق هذه الأمة كافة ما أريد لها أن تنساه وأن تهجره.. وبه يظلالإسلام عميقا متجذرا، ناضرا متجددا، مزهرا متوردا.

وقريبا تجتمع الكتائب كما اجتمعالحجيج.. وقريبا يتحرر الأقصى ويُصلى فيه كما صُلِّي في البيت الحرام.

نشر في مجلة أنصار النبي - يونيو 2026

3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 06, 2025 12:24

May 4, 2025

الخديعة العظمى.. الدعاة على أبواب جهنم!


ما إن أصدرالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فتواه الأخيرة حتى انبعثت أبواقٌ آثمة مجرمة تنهشفي الاتحاد وعلمائه وترميهم بأنواع الزور والبهتان، وبعض هذه الأبواق لبث الثوبالشرعي واستعمل في مضادة فتوى الاتحاد لسان أهل العلم وألفاظهم، فويلٌ لهم مماكتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون!

وما كانت فتوىالاتحاد العالمي شيئا جديدا، بل لقد يُقال إن الفتوى تأخرت كثيرا، فلا تزال الحربمشتعلة في غزة منذ عام ونصف العام، بل هي جارية لا على أصول الشرع ومعهود قولالعلماء فحسب، بل هي امتداد طبيعي لفتاوى المؤسسات العلمية الرسمية ذاتها قبلسنوات. وللتدليل على هذا فقد خصصنا قسم الراحلين من عدد المجلة هذا لفتاوى الأزهرالشريف في ذات الشأن، وفيه ترى أن فتوى الاتحاد العالمي لا تخالف ألبتة فتاوىعلماء مشيخة الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، بل إن فتوى الاتحاد في بعضوجوهها أقل لهجة وصرامة من فتاوى هؤلاء السابقين.

من رأىانتفاضة أبواق السوء هذه، أو من يسميهم شيخنا القرضاوي رحمه الله "علماءالسلطة وعملاء الشرطة"، يحسب أن الاتحاد قد جاء بشيء جديد مستنكر، وما كانتفتوى الاتحاد إلا أنها تعلن وجوب الجهاد على الدول الإسلامية في فلسطين، ووجوبإمداد المجاهدين بالمال والسلاح اللازميْن لهم في معركتهم الإسلامية الخالصة، وفيالامتناع عن التعاون مع الصهاينة وإمدادهم بالمال أو السلاح أو الطعام والشراب..وذلك كما ترى أقل الواجب الذي على المسلمين لإخوانهم المذبوحين.

ولستُ في هذاالمقام بوارد التعليق على هذه الفتوى ونصرتها، وإنما أريد أن أبذل للقارئ شيئا منباب التاريخ يزيد في وضوح الحالة التي نحن فيها، والتي توضح لماذا انتفضت أبواق السلاطينفزعا لهذه الفتوى الطبيعية.. فأعرني سمعك وبصرك وعقلك وقلبك!

 

(1)

رسم لنا النبيمراحل تاريخ الأمة في خمسة مراحل كبرى، كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه، قال:قال رسول الله ﷺ:

«تكون النبوةفيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة علىمنهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها،ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أنيرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاءأن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة»().

والمُلكالعضوض، أي: يصيب الرعية فيه عسْفٌ وظُلْم، كأنَّهم يُعَضُّون فيه عَضًّا().وأما الملك الجبري، فهو القهر والعتو والجبر، من الجبروتية والعظموتية والعلُوّ،إذ يغلب الظلمُ والفساد().

وهذا الحديث،كغيره من أحاديث الفتن، قد وقع الخلاف بين العلماء في تفسيره وإيقاعه على المراحلالتاريخية للأمة، ولكن يكاد أن يتفق العلماء المعاصرون على أن:

-     المُلك العضوضهو الذي يمتد من بداية الدولة الأموية مع عهد معاوية رضي الله عنه، وحتى نهايةالدولة العثمانية وسقوط الخلافة

-     الحُكم –أوالمُلك- الجبري هو الذي تعانيه الأمة بعد سقوط الخلافة، وحتى الآن.

ولهذا يستبشرالمعاصرون بأن المرحلة القادمة هي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة.

ويُساعد علىصحة هذا الفهم، ما جاء في كثير من الروايات الأخرى، من أوصاف إضافية لفترة الملكالعضوض والحُكْم الجبري، والروايات وإن كانت لا تخلو من ضعف على جهة الرواية، إلاأن انطباق وصفها على أوضاع هذه الأحقاب يحمل على تصديقها، فمن ذلك مثلا:

1. حديث أبيعبيدة بن الجراح أنه ﷺ قال: «إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائناخلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلونالفروج والخمور والحرير»().

ففي هذاالحديث المراحل الأربعة متطابقة مع حديث حذيفة، وزاد في التفصيل على ذلك أن مرحلةالمُلك العضوض خيرٌ من مرحلة الحكم الجبري الذي وصفه النبي بـ «العنوة والجبريةوالفساد في الأرض»، كما يزداد فيه الابتعاد عن الشريعة أو تركها، حتى يصير الزناوالخمر والحرير حلالا، إما بالاستحلال: أي أن تكون مباحة ومُقَنَّنة (وهذا هو نبذالشريعة والانخلاع منها)، أو أن يكون الاستحلال كناية عن كثرة الممارسة (وهذا هوالاستخفاف بالشريعة والاستهانة بأحكامها)، وهذا الوصف يدل في نفسه على أن مرحلةالملك العضوض لم تكن على هذه الصفة، كما يدل على أن أسوأ المراحل التي يمر بهاتاريخ الأمة هو مرحلة الجبرية.

وهذا الأمرسيزيد تفصيلا في الحديث التالي، وهو:

2.حديث ابن عباس أنه ﷺ قال: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكونملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون()عليه تكادم الحُمُر، فعليكم بالجهاد». وفي رواية: «ثم جبروتا صلعاء()يتكادمون عليها تكادم الحمير». وفي رواية: «ثم جبروت صلعاء، ليس لأحد فيهامتعلق، تضرب فيها الرقاب، وتقطع فيها الأيدى والأرجل، وتؤخذ فيها الأموال»().

ويُروى هذاالحديث موقوفًا على عُمَر كما عند أبي نعيم والحاكم، ولكن وقفه أو رفعه لا يؤثرهنا، فإن الحديث من علم الغيب الذي لا يرويه الصحابي إلا على جهة سماعه من النبيﷺ، فليس هو من باب الرأي.

وفي هذاالحديث نرى أن مرحلة الملك العضوض وُصِفت بالرحمة، بينما وُصِفت مرحلة الملكالجبري –أو: الحكم الجبري- بتشبيه فظيع، وهو الجبروت الواضح الظاهر الذي تُضرب فيهالرقاب وتُقَطَّع فيه الأيدي والأرجل، وتؤخذ فيه الأموال؛ أي أنه عصر قتل وترويعوإذلال.

3. حديث جابرالصدفي عن أبيه عن جده أنه ﷺ قال: «سيكون بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومنبعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي، يملأ الأرضعدلاً كما ملئت جورًا»().

وهذا الحديثيسرد ذات الترتيب، مع تفصيل زائد في مرحلة الأمراء والملوك، فكأنه ﷺ يشير بها إلىعصر الفتنة، حيث استقل بعض الأمراء بما تحت أيديهم، كما فعل معاوية بالشام ثمبمصر، وكما فعل مروان بن الحكم بالشام أيام عبد الله بن الزبير، ثم اجتمع الأمرمرة أخرى للملوك. ومن بعد الملوك الجبابرة، الذين هم أصحاب المُلك الجبري، ثم يأتيبعدهم المهدي الذي يملأ الأرض عدلا، فتكون خلافته هي الخلافة الأخرى التي هي علىمنهاج النبوة.

وهذه الأحاديثالأربعة هي وصفٌ عجيب ودقيق لأحوال عصرنا، عصر الجبرية، والفارق بينه وبين عصرالملك العضوض، الذي كان عصر رحمة وإن شابه فساد وانحراف عن الخلافة الراشدة!

وتتشابه هذهالأحاديث مع أحاديث أخرى صحيحة، لكن لم يرد فيها وصف المُلْك العضوض أو الحكمالجبري، من أهمها: حديث حذيفة بن اليمان، يقول:

«كان الناسيسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسولالله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال:قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم،دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا.قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزمجماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلكالفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»().

فهنا يظهرالتناظر واضحا بين هذا الحديث، وبين حديث الخلافة والملك العضوض والجبرية:

- فالخيرالأول هو النبوة والخلافة الراشدة

- والشر الأولهو عصر الفتنة بين الصحابة

- ثم يأتيالملك العضوض وهو الخير الذي فيه دَخَن، حيث لم يلزم الملوك سنة النبي ﷺبحذافيرها، لكنهم ظلوا قائمين بالحق في أبواب أخرى، ولذا وُصِفوا بهذا الوصف «يهدونبغير هديي، تعرف منهم وتنكر»

- ثم يأتيبعدهم الشر الكبير، وهو المُلك الجبري أو الحُكم الجبري حيث وُصِفوا في هذا الحديثبأنهم «دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، وهم أيضا: «من جلدتناويتكلمون بألسنتنا». وهذا الوصف الأخير لا يُعرف أنه تحقق في تاريخ المسلمين إلافي هذا العصر منذ ضعف الخلافة العثمانية وسقوطها.

ومما يستفادمن هذه الأحاديث:

1.   أن الملكالعضوض وقع فيه نقص وترك لبعض الدين، وشابته مظالم وانحرافات، ولكنه لا يزال فيالجملة مُلْكًا فيه دين ورحمة.

2.   أن مرحلةالمُلك الجبري أو الحكم الجبري هي التي يحصل فيها الخروج عن الدين والانخلاع منه،فيكون عصر ترويع وإذلال واستحلال للمحرمات وفرقة شديدة، حتى إن زعماءَه هم دعاةعلى أبواب جهنم.

وبالتأمل فينصوص الشريعة ووقائع التاريخ نستنتج الفارق بين هذه المراحل على هذا النحو:

§       الخلافةالراشدة تحقق فيها الرُكْنان الكبيران: تحكيم الشريعة، واختيار الأمة للأمير.

§       والملك العضوضتحقق فيه ركنٌ وتخلف ركنٌ؛ فقد بقي حكم الشريعة، ولم تعد الأمر تختار أميرها.

§       وأما المُلكالجبري فهو الذي انهدّ فيه الركنان؛ فلا بقي حكم الشريعة، ولا اختارت الأمةأميرها.

وقد كان معظمالتاريخ الإسلامي واقعا في زمن الملك العضوض، وشهدت الأمة في تلك الحقبة مراحل منقوتها وتفوقها السياسي والحضاري وازدهارها العلمي والأدبي. بينما جاءت مرحلة الحكمالجبري بالذل والاستضعاف والتأخر في سائر وجوه الحياة().

 

(2)

ومن وقائع التاريخ يسعنا أن نحدد بدايةالتحول الكبير من مرحلة الملك العضوض إلى مرحلة الملك الجبري في اللحظة التي سيطرفيها محمد علي باشا على الحُكْم في مصر، فتلك هي البذرة التي تمددت وتوسعت في ظلالاحتلال الأجنبي ونفوذه حتى سادت على الأمة كلها عند لحظة سقوط الخلافةالعثمانية، ولا نزال فيها حتى الآن.

فنحن إذن نعيش مرحلة، قد وصف النبي ﷺ حكامها بهذاالوصف الجامع، كما في حديث حذيفة في الصحيحيْن، "دعاة على أبواب جهنم"،هذا مع أنهم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".

وأريدك أيهاالقارئ الكريم أن تتوقف معي طويلا عند هذا الوصف الذي هو أصل أصول المخادعةوالخطورة في واقعنا المعاصر.. أن القوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!!

هنا مركزالخداع الضخم الكبير، الخداع الذي يشل العقول ويُخَدِّر التفكير ويشوش الصورةويطمس الحقيقة.. القوم في ظاهرهم مسلمين، عرب، وطنيين.. يتكلمون بلسان المسلمينالعرب الوطنيين.. من رآهم وسمعهم لم يشك في أنهم من أبناء هذه الأمة وأنهم ينطقونعن غاياتها وآمالها ويعبرون عن مصالحها ويرعون شؤونها وأحوالها!!!

هذا هو الخداعالضخم الذي يجعل النقاش حول هؤلاء طويلا ومريرا ومتفرعا وكثيرا.. فليست أحوالهمالظاهرة دليلا على حقيقتهم.. فتأمل في داعية يدعوك إلى جهنم، ولكنه يكلمك عن جهنمفيجعلها جنة موعودة وفردوسا منشودا، ولئن كنتَ تراها نارًا وجهنما فإنما هي فترةمحدودة، وإن ما فيها من العذاب والعنت والمشقة إنما هو في سبيل المصلحة وطنية،وإنما هي تضحية محمودة، وإنما هو أمرٌ تفعله لأجل الأجيال القادمة، وضريبة تدفعهافي طريق التقدم والنهضة، وعمل سيخلده لك التاريخ!

نعم، أخيالقارئ الكريم.. قف واستعمل خيالك كله، في تصور رجل داعية يقف على باب جهنم يدعوإليها، وتصوَّر: ماذا كان سيقول في ترويج بضاعته وجذب الناس إليها؟!

ولا بأس أنتتوقف عن القراءة ثم اسرح بخيالك.. ولكم وددتُ أن تكون لي موهبة السيناريستالروائي أو الشاعر ذي الخيال الجامح، لفعلتُها ويسَّرت الأمر على نفسي وعليك!

 

(3)

على أنيمطمئنٌ أنه مهما بلغ الخيال بك وبي وبالروائي المنشود والشاعر المفقود فلن نبلغوهدة الواقع الذي نحن فيه..

ها أنت ترى فيالواقع نفسه كيف انتفضت أجهزة الأمن الأردنية لاعتقال بعض الشباب الذين نهضوالمحاولة مساعدة إخوانهم في الضفة الغربية وتهريب السلاح لهم، فاتهمتهم بالإرهابوالسعي في تخريب الوطن، وسجنتهم ونشرت ما قالت إنه اعترافاتهم لتمهد بذلك حملة علىكل شيء فيه دعمٌ للمقاومة في فلسطين.. وكل ذلك باسم الوطن!

ومع أن جماعةالإخوان المسلمين سارعت بالتبرؤ من هؤلاء المتهمين وأنهم إنما فعلوا ذلك من تلقاءأنفسهم وأن الجماعة لم تكن على علم به ولا حتى تؤيده، إلا أن السلطة الأردنيةأصدرت قراراتها بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها ومحاكمة من يروج لأفكارها!

ونستطيع أننسرد طويلا طويلا طويلا طويلا مجهود النظام الأردني ودوره المهم في إقامة إسرائيلأولا، ثم في حمايتها ثانيا، ثم في تسليم الأرض لها ثالثا، ثم في قتل ومطاردة منيعمل على مقاومتها رابعا!

وهل من دليلأجلى ولا أوضح من أن يكتب نتنياهو بنفسه في مذكراته المنشورة المعلنة أن"بقاء المملكة الأردنية هو بمثابة مصلحة حيوية لإسرائيل، ولو اقتضى الأمرفسنتدخل بجيوشنا لحمايتها من السقوط"؟!!

قطعت جهيزةقول كل خطيب..

وقل مثل ذلكعن غيره من الأنظمة، لا سيما النظام المصري، الذي يتولى الحماية من الجنوب، ويقومبدوره في تكبيل الشعب المصري الهادر الهائل عن إنقاذ إخوانه أو دعمهم.. وللنظامالمصري مثل ما للأردني من التاريخ الأسود من التسبب في إقامة إسرائيل وحمايتهاوتسليم الأرض لها وقتل من يفكر في مقاومتها!!

إن حقيقة الأزمةالتي نعيشها الآن، والتي تكبل الجميع عن التفكير السليم وعن التوجيه السليم، هو فيتلك الخدعة الكبيرة التي هي "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".. هذا مايجعل الأكثرين بدايةً من العلماء أصحاب الفتاوى وحتى العامي الذي يجلس على المقهييستمع الأخبار غير قادر على فهم الواقع، ولئن فهمه فهو غير قادر على التعامل معهكما هو، إذ الخديعة العظمى تعيق فهم الكثيرين عن تصور ما يقول وعن الاستجابة له!

فلئن أنعمالله عليه بالفهم وبالنجاة من الخديعة.. فدورك أن تسعى في سحب غيرك منها، قبل أنيستجيب لهذا الداعية القائم على جهنم، فيقذفه فيها!!

 نشر في 

مجلة أنصار النبي ﷺ - مايو 2025

([1]) أحمد (18430)، والبزار (2796)، وحسنهشعيب الأرناؤوط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5).

([2]) أبو عبيد الهروي، الغريبين: غريبيالقرآن والحديث، 4/1291؛ ابن الجوزي، غريب الحديث، 2/104؛ الزمخشري، الفائق فيغريب الحديث والأثر، 2/443؛ ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/253.

([3]) الملا القاري، مرقاة المفاتيح شرحمشكاة المصابيح، 8/3376؛ عبد الحق الدهلوي، لمعات التنقيح شرح مشكاة المصابيح،8/576.

([4]) الطيالسي، (225)؛ البيهقي، السنن، (17073)؛أبو يعلى، المسند، (873)؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، (8961)؛ وضعفه الألباني فيالسلسلة الضعيفة (3055) وعلته عند الألباني اختلاط أحد رواته، وبقية رجاله ثقات،وأقرَّ أن متن الحديث –دون زيادة منكرة لم نوردها في المتن-صحيح، لشواهد صحيحة، وهذه الشواهد الصحيحة هي حديث الباب، وحديث البخاري «يستحلونالحر والحرير والخمر والمعازف».

([5]) يتكادمون تكادم الحمير: كدم الحماركدما أي عضَّ بأدنى فمه، والحديث يُصَوِّر حال جدب ومجاعة حتى تبحث الحمير فيالأرض عن أصل النبات فتعضّ عليه بأدنى أفواهها، فكأن قبض أولئك الحكام على الحكمكقبض الحمير بملء أفواهها على أصل النبات بأشد ما تملك، في حال الجدب والفقروالشدة.

([6]) صلعاء: أي ظاهرة بارزة.

([7]) الطبراني، المعجم الكبير، (11138)وهذا لفظه؛ نعيم بن حماد، الفتن، (236)؛ الحاكم (8459)، وسكت عنه الذهبي؛والهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال: رجاله ثقات؛ وصححه الألباني في السلسلةالصحيحة (3271).

([8]) الهيثمي، مجمع الزوائد، (8965)، وقال:رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم؛ وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3722). وهذاالحديث ضعفه شديد، إذ فيه عدد من المجاهيل. ولكنه –كما ترى- منسجمٌ مع التاريخ ومع بقيةالأحاديث الصحيحة.

([9]) البخاري (3411)؛ مسلم (1847).

([10]) لمزيد من التفصيل راجع كتابي: خلاصةتاريخ الإسلام، المجلد الثالث.

3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 04, 2025 11:21

April 4, 2025

قرآن الثورة والجهاد

 


ما من شهر يتعرض فيه المسلم للقرآنالكريم مثل شهر رمضان، تلاوة وسماعا ووعظا ومدارسة، وما من مسلم إلا وهو في أحسنأحواله مع القرآن عند نهاية هذا الشهر.

وهنا يأتي السؤال الكبير في الأمةالمهزومة المغلوبة؛ ما بال هذا القرآن الذي أيقظ الأمة وبعثها من رقاد وسبات أولنزوله، لا يفعل الآن فيها مثل ما فعل في أول الأمر؟!!

والأصح أن يُقال: إن القرآن هو القرآن،فما بال الأمة التي انبعث به حتى غلبت وسادت وهيمنت تبقى الآن في هذا الحال الرهيبمن الضعف والمذلة والمسكنة؟!

هذه السطور تحكي لك طرفا من أسبابالفارق الكبير.. وفيه ينطوي الحل الكبير أيضا!

 

(1)

ما كان العربي يسمع آيات من القرآنالكريم حتى يعرف من فوره أنه كتاب سياسة وقتال وحُكْمٍ ونظام، وأنه جاء لتغيير هذاالعالم، وأنه سيصطدم مع الأوضاع القائمة فيه!

ذهب عتبة بن ربيعة إلى النبي ﷺ يساومه علىهذا الدين، فيعرض عليه الرئاسة والمال والنساء، فما هو إلا أن سمع آيات من القرآنحتى عاد يقول لقومه: يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجلوبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإنتُصِبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه مُلْككم وعزّهعزكم، وكنتم أسعد الناس به.

فهذا رجلٌ سمع بعض آيات من القرآن فعرفأن نهاية الأمر مُلْك ونظام وحُكم ودولة، ونصح قومه أن يتركوا هذه المعركة، فلئنانتهى صدام محمد مع العرب إلى انتصارهم عليه فقد كسبوا أن لم يتورطوا في المعركةولم يقطعوا أرحامهم، ولئن انتهى إلى انتصار محمد فإنه في النهاية رجل من قريش،وانتصاره في ميزان قريش وتدعيمها لمكانتها وسلطانها!

وبعدها بنحو سبع سنين جلس النبي ﷺ يعرض نفسهعلى القبائل، فكان منهم بنو شيبان، وما إن سمعوا منه بعض آيات من القرآن الكريمحتى قال المثنى بن حارثة الشيباني في جملة كلامه: وإن ما جئت به يا أخا العرب مماتكرهه الملوك!

فانظر أيهاالقارئ وتأمل وتفكر، ثم أطل النظر والتأمل والتفكير، كم مسلما الآن يقرأ القرآنويفهم منه أن هذا القرآن تكرهه الملوك؟! فإن القرآن لم يتغير، والملوك لميتغيروا!

وانتبه إلى أن القائل هنا إنما كانيقصد ملوك الفرس، وهم ليسوا من العرب عبدة الأوثان والأصنام، بل كانوا على دينالمجوس عُبَّاد النار.. فاستوى في كراهة ما جاء به القرآن: عباد الأوثان وعبادالنار!

هذا الذي فهمه العربي من بضع آياتسمعها لأول مرة من القرآن الكريم هو الأمر الذي لا يشعر به الآن إلا أقل أقلالقليل من المسلمين. ولو أننا أجرينا استفتاءا بين المسلمين بعد انقضاء شهر رمضان:ماذا استفدت من القرآن في رمضان، فاسرح بخيالك وتوقَّع كم واحدًا من هؤلاء سيقول:إن هذا القرآن هو انتفاضة وحربٌ على الأوضاع الباطلة، وهو حركة ثورة وجهاد في عالمالسياسة؟!

تلك الفجوة الهائلة في فهم القرآن بينالعربي الجاهلي وبين المسلم المعاصر هي أصل أصول الفجوة الهائلة بين حال الأمةيومذاك وحالها الآن.. إذ كيف يمكن أن ينهض بالقرآن من لا يفهمه، ولا يعرف أشهرأصوله ومعالمه وأركانه؟!

(2)

لقد حاول المشركون أن يتخلصوا من هذاالحق القرآني الصادع الواضح الذي يصادم أحوال الجاهلية ويناقضها، ولقد ساومواالنبي على أن يفعل ذلك: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَالَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}[يونس: 15].

ولكن الله تكفل بحفظ كتابه الكريم؛ {إِنَّانَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وبهذا امتنععلى الملوك –ومن والاهم من علماء السوء- أن يغيِّروه أو يبدلِّوه أو يُحرِّفوه، كماقد وقع في الأمم الماضية، إذ كان الأحبار والرهبان { يَكْتُبُونَ الْكِتَابَبِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، وكانوا {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِلِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْعِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِالْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].

فلم يبقَ للملوك وعلماء السوء، بعد أنعجزوا عن تبديل الكلام وتحريفه، إلا أن يغيروا معانيه ويعبثوا في تأويله.

وذلك هو الذي نعانيه الآن، ترى الواحدمن أولئك الملوك ومن علماء بلاطهم يقبل المصحف الشريف ويكتبه بالذهب والفضة وينقشهعلى الجدران والقصور، ويبثه في الإذاعات والقنوات، ثم هو يُسَلِّط جهده كله لتزييفمعانيه وصرف الناس عنها، ويصب جام سطوته وسلطته على القائمين به الذين يجاهدونلتعليمه وبيان هداياته وإرشاداته!

فالآن، ها هي أمة تقرأ القرآن ولا تعرفكيف يمكن أن تحيله عملا حيا في واقع الحياة، أكثرها لا يعرف أن القرآن ثورة وحربوانتفاضة على الباطل، وأقلها يعرف ويعجز أو يعرف ويكسل أو يعرف وتغلبه شهواتالدنيا على نفسه!!

فهما إذن معضلتان عظيمتان: معضلة الفهموالوعي لهذا القرآن، ومعضلة تحويله إلى عمل وحركة، وبهاتين المعضلتيْن ترى كيف أنالقرآن الذي بعث الأمة ونقلها من رعي الغنم إلى سيادة الأمم، لم يعد يفعل فعله فيالأمة التي تسلط عليها سائر الأعداء، من صهاينة وصليبيين ووثنيين ومن لا دين لهم!

(3)

ما من سورة في القرآن الكريم إلا وهيتخاطب المسلم أن هذا الدين إنما أنزله الله ليكون نظاما وحُكْمًا وسلطانا، وأنهدين جهاد لا يقبل ببقاء الباطل والظلم، ولا يرضى بأن يكون المسلمون في ذلة وضعف!

هذه سورة البقرة قد حفلت بحديث الأمةالتي نكثت عهدها مع الله، أمة بني إسرائيل، وكيف أن الله انتزع منها هذا الشرفووضعه في أمة المسلمين، وأنزل عليهم التعاليم والتكاليف في الصيام والحج والزواجوالطلاق والقصاص والقتال والأموال!

وهذه سورة آل عمران تتلو حديث جهادالمسلمين الأوائل في بدر وأحد وكونهم خير أمة أخرجت للناس، وكونهم أولى الناسبسائر الأنبياء، فهم ورثة إبراهيم وإسرائيل وموسى وعيسى، وأن المؤمنين من أهلالكتاب هم الآن مسلمون!

وهذه سورة النساء قد حفلت بتعاليم تختصبالضعفاء من النساء والأيتام والمستضعفين، وما لهم من الحقوق في الأموال وفيالرعاية، بل وبأحكام القتال في سبيل تحرير المستضعفين، وفي إدانة من رضي بالضعفوأن يبقى في دار هوان!

وهذه سورة المائدة قد حفلت بتعاليمالعقود والأطعمة والصيد، والعلاقة مع أمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكيفيضرب الله مَثَلَهم على الانحراف عن الدين، وما صنعوه من التبديل والتحريف، وماأفضى بهم هذا إلى عصيان الله والاستكبار على أنبيائهم!

وهذه سورة الأنعام، تفتح بعد حديث طويلمتين عن الله وخلقه وقدرته واستحقاقه العبادة والحكم، تفتح مسائل الأطعمة والزروعوالثمار!

وهذه سورة الأعراف تتلو قصص الأعداء،بداية من الشيطان مع أبينا آدم، وتعرج منها على أحكام اللباس والثياب والزينة، ثمتمضي مع مواكب الأنبياء مع أقوامهم، وكيف كانت الأمم تتعامل مع أنبيائهم، ثم تتوقفالسورة وقفة ضخمة طويلة مع أمة بني إسرائيل التي حملت الرسالة فلم تقم بها ونكثتعهد الله معها، وكيف أنهم جحدوا نعمة الله حين أنقذهم من فرعون ومكنهم في الأرض ثمالتمسوا معصيته وعدم القيام به.. وهو تحذير شديد لأمة المسلمين التي أنقذها اللهمن الفرقة والخلاف والضعف، فأرسل فيهم رسولا وأنزل فيهم كتابا!

ثم تأتي سورة الأنفال ليكون حديثها كلهفي القيام بأعباء الرسالة والقتال في سبيل هذا الدين، وفي بيان أحكام الغنائم،وجملة من أحكام القتال مع الأعداء ومع الأسرى، وواجب الأمة في الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر والاتحاد في القتال!

وبعدها سورة التوبة التي نزلت بالأحكامالنهائية للقتال والحج والعلاقات الإسلامية الدولية، كما أنها فضحت المنافقينالكامنين في المجتمع المسلم، وكيف تكون أساليبهم، من بث الشائعات والاستهزاء بآياتالله والسخرية من المؤمنين والتثبيط عن القتال، بل حتى بناء المساجد يمكن أن يكونللصد عن سبيل الله!! وبينت السورة كيف يكون التعامل معهم، وكيف أن بعض الأعمالالتي يرتكبها المؤمنون قد تفضي بهم إلى النفاق كالبخل والتكاسل عن الجهاد ونحوها!

وهكذا.. ونحن لم ننظر بعد إلا في ثلثالقرآن الأول وحده.. وبقية السور على هذا النحو، أحكام في العلاقات الدوليةوالقتال، وأحكام في الطهارة والاستئذان داخل البيوت!!

(4)

لئن كان هذا شأن القرآن في توعيةالمسلمين بأن هذا الدين هو حكم ونظام وسلطان ودولة.. وهو ما يعالج المعضلة الأولى:معضلة الفهم! فإن هذا كله كان محفوفا بأمر آخر يعالج المعضلة الثانية..

لقد كانت هذه الأحكام والتعاليم محاطةومغشية من قبله وبعدها بآيات هائلة عظيمة تذكر المسلم بقدرة الله وقوته وحكمته،وبديع ما خلقه في النفس وفي السموات وفي الأرض، وبأن هذه الحياة كلها اختباروامتحان وأن المصير والأجر والنهاية ستكون في يوم القيامة!

أي أن أحكام القرآن ليست مجرد بنودقانونية تخاطب العقل والفكر.. لا، إنما هي ثمرة العبادة والخشية والمحبة لله..وأنها مهمة عظيمة لا يقوم لها إلا أفذاذ الناس الذين آمنوا بالله وتعلقوا بهوطلبوا بجهادهم الدار الآخرة!

إنه ما من قارئ يقرأ القرآن الكريمويقف متأملا بعض التأمل فيه، إلا ويخرج منه متشبعا بشأن الدار الآخرة، فهي الأمرالحاضر القريب الدائم، كما يخرج منه زاهدا بشأن الدنيا التي ستفنى والتي لطالمامرَّ عليها مواكب السابقين فلم يبق منهم سوى الأخبار والأحاديث.

إن التوقف مع سيرة الموت الذي ستذوقهكل نفس، ومع سير المُكَذّبين، ومع سير الأنبياء، ومع آيات اختلاف الليل والنهار،وانقضاء الشهور والسنين.. كل هذا يبث في النفس خاطرا دائما بأن الحياة ذاهبةوالأيام ماضية وما انقضى لن يعود وما قد جاء لن يبقى!

فمن قرأ القرآن الكريم وامتلأ من هذاالشعور انبعث بعده عاملا متحركا ساعيا باذلا قائما في الحياة بما يحب الله، راجياوجه الله والدار الآخرة، متسلحا بهذا الإيمان وهذه الخشية في وجه ما يراه منالصعوبات والتحديات والمشكلات!

لهذا ما تكاد سورة من سور القرآن، إذااستمع إليها المرء وفهمها، إلا ويراها طاقة هادرة جبارة تنزعه من الخمول والضعف،وتهيئه للمهمة العظيمة التي هو مكلف بها في واقع الحياة!

(5)

فلو كانت الأمة تتلو القرآن حق تلاوته،وكان علماؤها وواعظوها –الذين هم ورثة الأنبياء فيها- يبينونه للناس ولا يكتمونه،لكان العيد الذي يأتي على المسلمين عيدًا آخر!

كان سيكون عيد أمة منتفضة وثابة،منبعثة وهاجة، مجاهدة مقاتلة، نازعة عنها ثوب الضعف والخور والذلة والمسكنة، قائمةفي وجه أعدائها، ثائرة في وجه منافقيها!

لقد كان القرآن يُتلى على المسلمينالأوائل فكانت أعيادهم عزا ونصرا ومجدا، وكم قاتل المجاهدون في رمضان نفسه، وماذلك إلا أنهم كانوا عاملين بما يعلمون وما يقرؤون، فقد عرفوا أن حقيقة العبادة هيإقامة الدين وبناء دولته وحكمه وسلطانه وكسر أعدائه!

كذلك نرى كم قاتل المسلمون في شوال، وفيذي القعدة، وفي ذي الحجة.. ومن نظر في الغزوات والفتوحات رأى عجبا..

وإذن، فلقد كان المسلمون الأولونينتفعون من القرآن ومن رمضان ما لا ننتفع نحن الآن بمثله أو بشيء منه.. فنحن الآننصحو على أخبار غزة التي قد انفرد بها الأعداء يقطعونها تقطيعا ويمزقونها تمزيقا،بدعم ومساندة من المنافقين العملاء الحاكمين! ونصحو معها على أخبار لا تقل ألما بلتزيد في بورما وتركستان والهند والسودان وغيرها من ديار المسلمين!

إن أمامنا كفاحٌ شديد طويل لنحلّ هاتينالمعضلتيْن: معضلة فهم القرآن، ومعضلة تطبيقه وتنفيذه.. ما يليق بأمة المسلمين أنتكون أجهل بكتابها من رجل جاهلي سمع منه بعض آيات! وما يليق بأمة المسلمين أن تظنأن هذا القرآن مما يحبه الملوك! وما يليق بأمة المسلمين أن ترى القرآن يقبلالتعايش مع الباطل والظلم! وما يليق بأمة المسلمين أن تقبل بأن يكون القرآن محصورافي المساجد وأن يكون مجرد أصوات وهمهات وتنغيمات تتلى ولا أثر لها في واقع الحياة!

ليس القرآن الكريم أغنية.. وليس الذييتلوه مطربا.. وليس المسجد مسرحا.. وليست الأمة في حاجة إلى مزيد من الغناء!

هذا القرآن نظام وحكم وسلطان، وهوداعية ثورة وحرب وجهاد.. وهذه المساجد هي مصانع المجاهدين المقاتلين المناضلينالذين زهدوا في الدنيا وأقبلوا على الآخرة!

فإذا عاد هذا الحال كما كان، عادتأعيادنا أعيادا كما كانت!

نشر في مجلة أنصار النبي - إبريل 2025م

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 04, 2025 11:22

March 4, 2025

طوفان الأقصى - إطلالة على كتاب مهم

 صدر قبل أيام كتابٌ مهم، كتبه مجاهدغزيٌّ باسم: أحمد أبو صهيب، والكتاب بعنوان: "طوفان الأقصى سياقاتومآلات"، نُشِر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو كتيب صغير على أهميته لميبلغ ثمانين صفحة. ولأهمية هذا الكتاب، فقد جعلت هذا المقال تلخيصا لأهم ما فيه،وإن كان التلخيص لا يغني عن الأصل.

أراد الكاتب المجاهد، الذي يكتب من قلبالمعركة، أن يجاهد باللسان كما يجاهد بالسنان، لا سيما بعد اندلاع السؤال الكبير:هل كان طوفان الأقصى قرارا خاطئا؟

(1)

يشير المؤلف إلى أن هذا السؤال ليسنابعا في الأصل من قراءة موضوعية، بل هو مضَمَّخٌ بطعم الوحشية الدموية التي ألهبتأهل غزة بنيرانها، فكثير من الخائضين فيه هم من المستهدفين بخطة الصهاينة: كيِّالوعي!

ومن ثَمَّ فأول ما ينبغي عمله فيالإجابة عن هذا السؤال هو تذكر أصل القضية وجوهر الصراع، والنظر إلى قرار طوفانالأقصى ضمن مسار الكفاح الكبير، ليحسن فهمه، وتقييمه، ووضع اليد على ما فيه منالصواب أو الخطأ.

من ها هنا يبدأ الفصل الأول: سياقاتالطوفان

ليس أهل فلسطين بدعا من الشعوب التيوقعت تحت الاحتلال؛ وجميع تلك الشعوب التي جاهدت الاحتلال دفعت الثمن العظيم لقاءهذا التحرر، وهذا الثمن العظيم تدفعه الشعوب الضعيفة وهي تواجه الاحتلال بأكثر مماتدفعه قوات المحتل نفسه، والمنتصر هو أصبرهما، حين يوقن المحتل أنه لا يستطيع تحملهذه التكلفة فيرحل، بعد أن يكون قد أثخن في الناس كثيرا كثيرا كثيرا.

وما من شعب تحرر إلا وكان ضحاياه أكثرمن ضحايا المحتل نفسه! وكثيرا ما كان التحرر قضية أجيال لا ينتهي في جيل واحد، بلإن الجيل الذي هُزِم يورث الجيل القادم مهمة التحرر، فإن استطاع الجيل فبها ونعمتوورث جيل الأحفاد بلدا محررا، وإلا واصل جيل الأحفاد مهمتهم من جديد.

وواجب الكفاح هذا ليس قرارا تختاره فئةمن الشعب المحتل، بل هو واجب على الجميع أن يؤديه، والناكص عنه جبان أو خائن، ليسحكيما أو محايدا!!

(2)

فإذا نظرنا إلى الحال، كيف وصل قبلالطوفان، فسنرى بوضوح أن الصهاينة كانوا يتخوفون من ثلاث جهات: إيران، لبنان، غزة.وقد كانت مناوراتهم العسكرية في الفترة الأخيرة تحاكي حربا متزامنة على ثلاثةجبهات.

وإلى أن تأتي لحظته المناسبة –سياسياوعسكريا- لخوض هذه الحرب الكبيرة، فإنه تعامل مع غزة على طريقة المُسَكِّنات التيتعالج الصداع والأعراض، وأهم ما في هذه الطريقة: المضاعفة المستمرة لاحتياطاتهالأمنية برا وبحرا وجوا:

فالسياج البري العازل تتراكم طبقاتهالأمنية ومجسّاته الأرضية حتى استطاع إفشال عمليتيْن كبيرتيْن عبر أنفاق هجوميةلاتخاذ أسرى، فقُتل جميع المنفذين وبذلك أخفقت وسيلة الأنفاق الهجومية. وضاعفتعقيداته الأمنية بحريا، وضاعف من قوة منظومة القبة الحديدية جوًّا بحيث لم يعدأمام المقاومة إلا رمي 100 صاروخ دفعة واحدة لكي يفلت منها بضعة صواريخ، وهواستنزاف هائل لقدرات المقاومة.

وهذا فضلا عن تشديد الحصار –الذي يشاركفيه بهِمَّة: النظام المصري- وعن ضربات يسددها العدو بين الفينة والأخرى ليمنعتراكم القوة لدى المقاومة ويختبر ما عندها.

ووراء كل هذا: الحرب الأمنية المجنونةالتي استطاع فيها العدو كشف أمور كثيرة مهمة –بفعل تفوقه التقني وقدراته التجسسيةالهائلة- من خطط المقاومة ومقدراتها، وكان أي نجاح صغير في هذا الجانب الأمني ينسفعمل السنين الطويلة والأموال الطائلة والجهود الشاقة.

وأما المقاومة في غزة، فقد حاولتمرارا، بالأساليب السياسية والعسكرية أن تتخلص من الحصار، وأن تتخلص كذلك منمحاولات عزلها عن القضايا الجوهرية: القدس والأسرى والأرض، وأبدت من المرونةالسياسية، وكذا من العبقرية العسكرية، ما اصطدم في النهاية بواقعٍ عربي يريدإنهاءها، حتى قررت بعد 2014م ألا تخوض معركة كبرى مع الاحتلال إلا إن كان سيؤديإلى تحقيق هدف ملموس في قضية كبيرة مثل القدس والأسرى، كي لا تكون مجرد استنزاف!

(3)

انبثقت فكرة الطوفان، بالمصادفة ضمنمسيرات العودة، التي كشفت عددا من الثغرات في السياج البري، وكان لا بد من العملالسريع والسري على استغلال هذه الأمور، فإن تنبه العدو لثغرة عنده أو تسرب معلومةله قد يعني ضياع الفرصة.

كان تقدير المقاومة هو القيام بهجومواسع على مواقع العدو المحاذية للقطاع، وأن هذا الهجوم سيفشل على أغلب المواقع،غير أن الصدمة التي سيحققها، وبعض الأسرى الذين سيمكن أخذهم سيؤدي إلى ردة فعلقاسية لكنها محتملة في النهاية، وسيمكن بهؤلاء تحقيق إنجاز في قضية مثل: القدسوالأسرى.

وقد أخفق تقدير المقاومة؛ فلقد نجحهجومها نجاها باهرا لم يكن متوقعا، كما أن ردة الفعل الصهيونية الهائلة لم تكن فيالحسبان!

لقد كان الطوفان واحدًا من أعظمالعمليات العسكرية المدهشة عبر التاريخ؛ كما كانت حرب الصهاينة على غزة واحدة منأكثر الحروب توحشا ولا أخلاقية كذلك!

(4)

ثارت الكثير من الأسئلة، ولكن أهمهاثلاثة:

1.   هل كان الأفضل تأجيل الهجوم حتى نكونأكثر قوة؟

2.   هل كان ينبغي أن يكون صغيرا محدودالئلا يترتب عليه هذا العنف الهائل من العدو؟

3.   وهل قدم الهجوم ذريعة لوحشية الاحتلال؟

لو فكرنا في تأجيل الهجوم، فماذا كانسيكون؟

إن الأرض في النهاية لن تتحرر بالمعاركوالمناوشات الصغيرة، فإن لم نهاجم اليوم فسنهاجم بعد مدة، وفي هذه المدة سنكونأكثر ضعفا وسيكون العدو أكثر قوة لأن الزمن وتراكم القوة يعمل في صالحه، فنحن شعبمحاصر يزداد التضييق علينا، وهو عدو مفتوحةٌ له الأبواب والخزائن بالأموال والسلاحوالتقنيات.

ما من يومٍ إلا والميزان يميل لصالحالعدو أكثر فأكثر، ولم يكن بعيدا ذلك اليوم الذي تتطور فيه أسلحة العدو ومنظومةقبته الحديدية لتصير كل أسلحتنا وصواريخنا غير فعالة ولا قيمة لها، ولا نأمن في كليوم أن ينكشف لنا سرٌّ أو خطة أو يتمتع العدو بمزية تقنية جديدة تكشف له الأنفاقومخازن الصواريخ وأماكن قادة المقاومة، فيسدد لنا الضربة القاضية أو نعجز أن نفعلشيئا مطلقا أمام خطوة جديدة منه: سياسية أو عسكرية، وخطة الطوفان نفسها كان يمكنأن تفشل تماما لو أضيف تحسين أمني جديد بقصد أو بغير قصد على السياج العازل.

كذلك فإن الانتظار قد يعني موت القضية،فلقد كانت أن القضية تتعرض لضربات موجعة بموجة التطبيع الخليجية والتي تبعتهاحملات كبرى لتقزيم القضية والتملص منها وجعلها قضية الفلسطينيين وحدهم، كذلك هذا التهديدالمستمر للأقصى واقتحاماته المتكررة، وهذا حال المقاومة في الضفة والداخل يزدادضعفا.

فماذا لو فكرنا في تصغير الهجوم؟

إن الذي تحقق أصلا كان مفاجئا للمقاومةكما هو مفاجئ للاحتلال، فلم يكن المتوقع نجاحٌ بهذا القدر ولا أسر كل هؤلاء، ولكنلو رجع بنا الزمن فقررنا تصغير الهجوم، فماذا كان سيكون؟ معركة صغيرة جديدةكالمعارك السابقة التي تستنزف غزة وتحتاج من بعدها سنوات لتعويض ما فقدت، وعودةإلى نفس الحال. هذا مع أن رد فعل العدو ليس مضمونا كذلك، فإن هذا العدو الخالي منكل أخلاق، والذي تتقبل كل الدول جرائمه بطيب نفس، والذي يتمتع بدعم إقليمي أيضا..إن هذا العدو غير مقَيَّدٍ بشيء في ردّ فعله!

لو كان الهجوم أصغر من ذلك فنحنالخاسرون، لأن الأسرى الذين بأيدينا سيكونون أقل بكثير مما حصل فعلا، أي أن تصغيرالهجوم لن يؤدي إلا تصغير الأوراق التي معنا، دون أن نضمن صِغَر ردّ الفعل. لو كناسنندم على شيء فهو أن الهجوم لم يكن أكبر من ذلك، وأننا أسرنا فقط ما بين 250 –300، فيا ليته كان بأيدينا 2500 – 3000 أسير، ولكن ما من أحدٍ كان يتوقع أن يكونالعدو بهذه الهشاشة!!

إن التجربة مع الصهاينة تؤكد أن هذاالعدو لا يتورع عن توحشه، لأنه لا قيد عليه من أحد! لا سيما وأن استخباراتالمقاومة كانت ترصد خطط العدو لهجوم شامل مفاجئ تضرب فيه القيادات الأولىوالمفصلية، وكذلك فإن خطط الاجتياح البري لغزة كانت موجودة ومعدة وتنتظر التحسيناتالنهائية عند لحظة اتخاذ القرار، ومثلها خطط اجتياح جنوب لبنان والجولان، كل هذاكان موجودا ينتظر اللحظة المناسبة، فلم يكن العدو يتجنب المواجهة مع هذه الجبهات،بل كان يؤجلها إلى لحظة مناسبة.

لقد فاجأه الطوفان وانتزع منه زمامالمبادرة، ومعها كثير من الأسرى. لكن التوحش الذي نراه الآن كان سيحدث في كلالأحوال ولو لم يكن ثمة طوفان، لسبب بسيط: أن العدو يرى في هذا التوحش ضرورةعسكرية لصدم المقاومة وإفقادها السيطرة، لذلك فهو ينفذه كجزء من الخطة العسكرية،وبغير ضرورة عملياتية، فإن من أهداف العدو ومقصوداته: تهجير الناس وتوسيع دولته،وهذا لا يكون بغير توحش صادم وهائل! وهذه العقيدة لدى العدو حاضرة قبل الطوفانوبعده، سواء وقع الطوفان أم لم يقع.

(5)

لو أن ثمة خللا لدى المقاومة، فهوالخلل في تقدير ردّ الفعل الصهيوني، وهو الأمر الذي بُنيت عليه خطط الدفاع، وخطةالإدارة الداخلية.. ولكن من ذا يستطيع أن يلوم المقاومة إن كان هجومها قد نجحبأعلى بكثير من المتوقع؟! كما أن في محاولة علاج هذا الخلل بأثر رجعي نسيانٌ لأموروتفاصيل كثيرة كانت مراعاتها جزءا من خطة السرية التي رافقت الطوفان. إنه ما منأحد، سوى أهل المقاومة أنفسهم، يستطيعون تقدير البدائل الأفضل في حالة كهذه.

وإذن، فقد يسأل سائل: من المسؤول عماوقع؟

والجواب بوضوح: إنه لا يُسأل الذي قامبواجبه لماذا قمت بالواجب؟ بل يُسأل الذي لم يقم بواجبه لماذا لم يفعل؟.. لئن كانتغزة قد فعلت أقصى ما بوسعها بل حققت معجزة، فالسؤال ينبغي أن يُقال بعد ذلك لسائرالذين لم يقوموا بواجبهم: في فلسطين المحتلة، وفي المحيط العربي، وفي العالمالإسلامي، وفي الخارج العالمي كذلك!.. فلو أن هؤلاء جميعا قد قاموا بواجباتهم كماقد قامت به غزة، ما استطاع العدو أن ينفذ هذه المذبحة المروعة!

إن البعض يتعامل مع قضية فلسطين بمبدأ:نتمنى تحرير فلسطين، وليس بمبدأ: نريد تحرير فلسطين. فإن الإرادة تبعث عملامحموما، بل وتبعث في صاحبها روحا ووعيا يفهم بها ومعها أن الثمن اللازم لتحريرفلسطين لن يكون أقل من الثمن الذي دفعته الشعوب المحتلة، وما أعظمه! بل سيكون أكبرمن هذا الثمن لخصوصية هذه القضية وقداستها! وما دُفِع حتى هذه اللحظة ليس إلا جزءامن الثمن، ولا ندري هل ما بقي منه لا يزال هو الجزء الأكبر؟!

(6)

هل انتصرنا؟

إن الثورات وحركات التحرر لا تنتصربالضربة القاضية، بل بالضربات المتراكمة المستمرة الصبورة الدؤوبة، النصر سيكون مننصيب الأصبر الأقدر على النهوض بعد كل ضربة! من نصيب الأعلى حظا من الأمل والأكثراستمساكا بحقه!

لهذا فإن حسبة القوة المحتلة غير حسبةالواقع تحت الاحتلال، يكفي الواقع تحت الاحتلال أنه لم ينكسر ولم ينهزم، أما قوةالاحتلال فإن لم تنتصر فقد انهزمت، وإن لم تحقق أهدافها فقد خسرت! وقد تنتهي سائرالجولات على شعب لم ينتصر، لكن النهاية تكون رحيل الاحتلال الذي هو نفسه قد انتصرفي سائر الجولات الصغيرة. ولم نذهب بعيدا؟ فهذه الثورة السورية، سائر جولاتها أنهاالخاسرة، لكنها انتصرت في النهاية بعد ضربات كثيرة مؤلمة، وحين يأتي النصر تتحولالتضحيات إلى مفاخر!

ربما يقال: نحن في هذه الجولة لمتنتصر، ولكن في الأحوال جميعها نحن من سيقرر إن كنا سننهزم أم لا.. فالهزيمة قراريملكه كل أحد!

(7)

لقد أخفق العدو في استراتيجيته: تصفيرالأخطار.. لقد انتهت هذه الحرب، ولا تزال الجبهات الثلاثة: إيران ولبنان وغزةقائمة وقادرة على التهديد حتى بعد تعرضها لضربات مؤثرة، وحتى غزة التي هي أضعف هذهالجبهات والتي انصبت عليها النيران الكبرى لهذه الحرب، لم تزل المقاومة هي التيتديرها وتحكمها، وقد فشلت سائر المحاولات الإسرائيلية في تهجير أهلها –لا سيما أهلالشمال الذين أنجزوا بصمودهم أسطورة خاصة بهم- وفي حكمهم مباشرة أو عبر أجساممدنية، ولا يزال بعيدا أن تستطيع قوة ما حكم قطاع غزة دون رضا المقاومة أوبالتفاهم معها.. كذلك لا يزال بعيدا أن تقول إسرائيل بأنها قد أمنت نفسها منالتهديد الغزي.

كذلك فشلت إسرائيل في سحب القوىالدولية لتفتح جبهة إيران، وهي الجبهة التي لا تستطيع أن تفتحها بنفسها منفردة، وانتهىالحال ولا يزال التهديد الإيراني قائما.

كذلك جبهة حزب الله في لبنان، لقد فوجئالعدو بعد كل استعداداته بما لم يكن يتوقعه من استعدادات، ومع أنه نفذ ضربات جريئةجدا ليجرّ الحزب إلى حالة الحرب، بقي الحزب متمسكا بحالة جبهة الإسناد، وبقي حتىالنهاية متمسكا بضرب المواقع العسكرية فقط دون التصعيد باستهداف المدنيين! ففيالخلاصة نجح العدو في إضعاف الحزب لكن لم يقترب إطلاقا من إزالة خطره عليه.

ثم جاء النجاح المفاجئ للثورة السورية،وفي كل الأحوال فإن مآلها سيكون أنها جبهة جديدة خطرة على المشروع الصهيونية!

انتهتالمساحة المخصصة للمقال، ولم يزل ثلث الكتاب الأخير باقيا.. فلعل ما سبق يكونمحفزا لقراءة الكتاب نفسه.. والله المستعان.
نشر في مجلة أنصار النبي  - مارس 2025م
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 04, 2025 10:29

February 4, 2025

إزجاء البشرى بالعودة الكبرى.. وتحلية السيف بمناقب الضيف

 

هل غادر الكُتّاب في شأن غزة وقادتهاالشهداء من متردم؟!

ما أصعب أن يجد المرء قولاً في شأنٍكلُّ الناس يكتب فيه ويعتصر مشاهده اعتصاراً!

فكيف إن كان المشهد الذي يُراد القولفيه هو مشهد انتصار ترنو إليه أمة مستضعفة مهزومة؟ أو هو مشهد عودة ورجوع تتشوقإليه أمة مُهَجَّرة نازحة؟!

كيف إن كان المشهدُ مشهدَ قادةٍ لطالماافتقدت الأمة أمثالهم وإنجازهم وبطولاتهم؟! ألم تر إلى الأمة المهزومة المستضعفةيموت قادة جيوشها على فراشهم الوثير، كما يموت البعير، وقد تركوا أرضهم محتلة لميطلقوا نحوها رصاصة ولم يحرروا منها شبراً؟!

ماذا يقول المرءُ للظمآن الذي بدأيرتشف الماء؟ إن الظمآن الذي لقي الماء عن الكلام كله في شغل شاغل!

ماذا يُقال للشاب إذا تزوج من محبوبته،فارتوت نفسه الملتاعة من الحب، وارتوى جسده المترع بقوة الغريزة؟

كل كلام في هذا الموطن فراغ وخواءوهواء.. لا الكلام يستطيع الوصف، ولا صاحب الشأن في حالٍ يحتاج فيه إلى كلامٍ منأحد!

نعم.. تتصاغر الكلمات أمام بطولةالشهداء العِظام، ما في طاقة الألفاظ أن تحيط بالمعاني والمشاعر.. يكفي أنهم بلغواالذروة العليا من الشرف.. ذروة الشهادة في سبيل الله!!

لعله كان يسعنا السكوت واحترام اللحظةالهائلة لولا أن في الناس ناسٌ أنزل الله عليهم غضبه وسخطه، فكانوا شياطين الإنس،ينطقون عن لسان الشياطين، ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىأَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: 121]، وقد أخبرنا الله أن ﴿شَيَاطِينَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾[الأنعام: 112].

ولقد وقف هؤلاء الشياطين يريدون اغتياللحظة النصر والإنجاز والعودة المظفرة في قطاع غزة، وتدفق القائلون على محطاتالشياطين الفضائية ليتلمظوا من هذا المشهد العزيز، وليثيروا الغبار عليه، فكانواجباً علينا أن نجاهد هؤلاء بالقلم واللسان، وقد بيَّن لنا إمامنا الكبير ابنالقيم في مراتب الجهاد أن جهاد المنافقين يكون بالحجة واللسان والبيان، وأنه جهادورثة الرسل.

وهذا الجهاد باللسان يكون بقول الكلامذي الثمن، كما يقول ابن القيم: "أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المُعَارِض، مثلأن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه"، وذلك مأخوذ من قول النبي ﷺ:"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"،وقوله ﷺ: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".

وأمرٌ فوق ذلك، ومع ذلك، ودون ذلكأيضاً.. ونعم! نحن نكتب لأنفسنا قبل أن نكتب في نصرة أهل غزة.. نروي صدورنا منالمعاني العظيمة التي حُرِمنا منها.. ونتمتع بالنظر في وجوه الشهداء الكبار الذينيتألقون في الليل البهيم.. نتقوى ونتصلب بما نكتب، ننصر بواعث الخير فينا قبل أنتطمسها أثقال الحياة التافهة وركامها السخيف!

 

(1)

ما كان لأبيخالد الضيف أن يموت إلا شهيداً..

كذا، ما كانلصحبه الكرام أن يموتوا إلا هذه الميتة..

لعمرك هذا ممات الرجال .. ومن رام موتًا شريفًا فذا

إذا كنا منأمة الإسلام التي ترى العار فيها أن يموت الرجل حتف أنفه! فلا يليق بالسادة الكبارفي هذه الأمة أن يموتوا إلا شهداء، مقبلين غير مدبرين.. كذا كان الصحب الأُوَل!وكذا كان الموكب الجليل.. موكب الأنبياء والصديقين والشهداء.. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْنَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِيسَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّالصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]

نعم.. تطلب النفس كمال الحياة ونعيمها،وما في الدنيا كمال ولا نعيم!!

ومهما قال العقل: لا مناص من أن تكوننهاية العظماء عظيمة، ولا يليق بسادة المجاهدين إلا الشهادة الكريمة.. تجادل النفسعن نفسها وتقول: لعل وعسى ولربما وليت ما..

ومع أن بقاء أمثال الضيف ورجاله أحياءلا تطالهم يد إسرائيل الطويلة الممدودة بحبل الناس، في هذه الظروف الصعبة الرهيبةثلاثين سنة، لهو واحدة من الأساطير، ومن أعاجيب الانتصارات، إلا أن النفس تتمنى لوشهدوا بأنفسهم فتح بيت المقدس!!

ولقد رأى رسول الله في حياته استشهادقادته وأحبابه: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالبوغيرهم وغيرهم.. ثم رأى صحابتُه من بعده: وفاتَه هو ﷺ وكفى بها مصيبة.. ثم ساحتدماء المسلمين في أركان المعمورة كلها، ﴿فَمَاوَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَااسْتَكَانُوا﴾. وبلغت خيل المسلمين ما بين فرنسا إلى الصين.. في أعجب مشاهد الفتوحفي تاريخ البشر كله!

نعم.. هذه آية نراها الآن رأي عيْن لارأي عقل وخيال وضمير..

ها نحن أمام حركة قد جاءت الشهادةفأخذت قادتها السياسيين والعسكريين، فما شعر أحدٌ بأنهم وهنوا ولا ضعفوا ولااستكانوا، بل ظلوا حتى اليوم الأخير يقاتلون العدو قتال الأبطال في مناطق الشمالالتي طُحِنت حتى سُوِّيت بالأرض!!

وقد ظلوا في ساحة التفاوض ثابتين فمااستطاع أحدٌ أن ينتزع منهم شيئاً سوى ما قبلوا به قبل استشهاد هؤلاء القادة:السياسيين والعسكريين.. كأن القادة أنفسهم في مكانهم لم يبرحوه! بلى، بل كان الجندفي مكانهم ما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا!

ثم جاءت مشاهد تسليم الأسرى التي غيظلها العدو وفقد لها أعصابه وطار فيها صوابه، فكأنما هؤلاء قومٌ لم يحاربوا ولميذهب قادتهم.. ما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا!

طارت قلوب العدا من خوفهم فرقا .. فما تفرق بين البَهْم والبُهُم

وكفى بهذا المشهد دليلاً على أصالة هذهالحركة وعظمتها وثباتها..

إن موتهم وإن كانت مصيبة لنا، وطعنة فيصميم قلوبنا، إلا أنها جائزة لهم بل هي أسمهم أمانيهم، وتلك هي الميتة اللائقةبهم!! ولو أنصفنا، لكان الذي هو أحبُّ إليهم أحبَّ إلينا.. ولكن: كيف تدرك نفوسالقاعدين المتثاقلين همم الأرواح العلية التي تطوف حول منازل الشهداء؟!

 

(2)

"غبة من السبع، ولا النذلكله"

كتبت الروائية نردين أبو بنعة روايتها"قد شغفها حباً"، عن الشهيدة زوج الشهيد؛ عن وداد عصفور زوجة القائدمحمد الضيف!

كان أبو خالد الضيف قد حُرِم الأبناءمن زوجته الأولى، ومع ما بُذِل من تدخلات طبية لم ينتهِ الأمر إلى شيء. فكان يطلبزوجة أخرى.. ولما تردد الكلام في جلسة نسائية، قالت امرأة: لو كان عندي ابنةلزوَّجته إياها!

ما كان عند تلك المرأة من بنات يصلحنللزواج، إلا ابنة حديثة العهد باستشهاد زوجها، فقد صارت أرملته!

فتأمل –أيها القارئ- في أسطورة جديدةمن أساطير ذلك الشعب الصلب.. شعب فلسطين! هذه امرأة ترشح ابنتها لواحد من أخطرالرجال في العالم.. رجل ينتظره الموت في كل لحظة، حرفياً، بلا مبالغة!!

وقد اختصرت المرأةُ العظيمةُ الحكيمةُفلسفتَها في الحياة والزواج والحب بهذه الكلمة المختزلة المختصرة المعتصرة:"غَبَّة من السبع ولا النذل كله"! ومعناها: رشفة من الرجل الأسد، خير منالظفر بكل الرجل النذل!!.. أو بمعنى أوضح: لحظات مع رجل أسد، خير من حياة معالنذل!!

وهكذا أعطت المرأة ابنتها للرجل الأسد:محمد الضيف!!

وصدق الله تعالى ﴿وَٱلطَّیِّبَـٰتُلِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَـٰتِۚ﴾ [النور: 25].. لقد كان الأسدلائقاً بهذه المرأة وابنتها.. وكانت المرأة وابنتها لائقتيْن بالأسد!!

وأما في حياة الشعوب المدجنة المضطهدةالمذبوحة التي حُرِمت نعمة الكفاح والنضال.. فاسرح بعينيك وتأمل كيف خربت البيوتوكيف تخرب، لكثرة الأنذال والحمقاوات.. بيوت تخرب من أجل "اهتمام لايُطلب" أو "رفاهية لا تتوفر" أو "فُسْحَة تتأجل".. أوغيرها من اهتمامات الفارغين في البيوت الخاوية!!

ها قد ذهب السبع.. فيا لسعادة من رشفمنه رشفة!!

 

(3)

ذلك الرجل السبع.. كيف لا تتآمر عليهالضباع؟!

نعم، كيف لا تتآمر الأنظمة العميلة وجيوشهاعلى حركات المقاومة؟!! كيف ووجودها يحرجهم ويفضحهم ويجلِّلهم بالعار والشنار؟!!

كيف ولن تجد قائدَ جيشٍ عربيٍ انتصرولو نصرًا واحدًا وحيدًا في حياته.. وإنما حياته كلها كلها هزائم في هزائم.. بل كممنهم من مُزِّق جيشه ومُرِّغ أنفه أمام حركات مسلحة لم تبلغ أن تكون جيشا؟!!

كيف والقائد في تلك الجيوش يعيش فيالحياة رغداً، يسمن من المال الحرام المنهوب من الشعوب، ثم يموت على فراشه الوثير،حتف أنفه كما يموت البعير.. قلب في صفحات التاريخ ومنصات الانترنت وابحث في قادةجيوش هذه الأنظمة العربية منذ وقعت النكبة حتى الآن.. هل ترى واحدًا منهم مات فيالمعركة؟! فهل ترى واحدًا منهم حرَّر شيئاً من أرضه؟!

هذا مع أنه لا تكاد تجد نظاماً من هذهالأنظمة إلا وله أرض محتلة يطالب بها، بمن في ذلك من يزعم أنه حرر كل أرضه.. لاتصدق هؤلاء، فإنما لهم أرض محتلة ولكنهم قرروا أن يتنازلوا عنها فنسوها!

كيف لا يتآمر الضباع على السبع الذيتجرأ على إسرائيل.. إسرائيل التي التهمت جيوش العرب في ساعات وأيام، مع ما كانتمدججة به من السلاح والدبابات والمدرعات والطيران.. فإذا بهذا السبع الرابض فيالقطاع المحاصر يفاجئها بالصفعة المدوية الأعظم في تاريخها، ويشن عليها حرباً لايمكن أن يفهمها ولا أن يستوعبها عقلُ واحدٍ منهم!!

كيف لا يتآمرون عليهم كما تتآمرالعاهرات على المرأة العفيفة التي لم تفرط في نفسها؟!!

من يشتري منا جيوشنا وقادتها ورؤساءأركانها، ومعهم أكوام نياشينهم وأوسمتهم، ويعطينا بديلاً عنها: حركة من تلكالحركات العظيمة التي تركع أمامها إسرائيل المدججة والممدودة بحبل حلفائها؟!!

يا رب الطف بقلوبنا، وبلغنا مما يرضيكآمالنا!

(4)

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِيسَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:154]

يا عجباً للسادة الشهداء.. حياتهمقدوة، وموتهم حياة.. واسمع هذا الكلام النفيس البديع للشهيد سيد قطب في تفسير هذهالآية:

"هنالك قتلى سيخرون شهداء فيمعركة الحق. شهداء في سبيل الله. قتلى أعزاء أحباء. قتلى كراماً أزكياء -فالذينيخرجون في سبيل الله، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوبوأزكى الأرواح وأطهر النفوس- هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً. إنهمأحياء. فلا يجوز أن يقال عنهم: أموات. لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحسوالشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان. إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه.فهم لا بد أحياء.

إنهم قُتِلوا في ظاهر الأمر، وحسبماترى العين. ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحيةالظاهرة.. إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد. وسمة الموت الأولىهي السلبية والخمود والانقطاع.. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم فينصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتويبدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد. فهم ما يزالون عنصراًفعالاً دافعاً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهمأحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس.

ثم هم أحياء عند ربهم، إما بهذاالاعتبار، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه. وحسبنا إخبار الله تعالى به: ﴿أَحْيَاءٌوَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود.ولكنهم أحياء.

أحياء. ومن ثم لا يُغسلون كما يُغسلالموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها. فالغسلُ تطهير للجسد الميت وهمأطهار بما فيهم من حياة. وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء.

أحياء. فلا يشق قتلهم على الأهلوالأحباء والأصدقاء. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء فلايصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهولنها عظمالفداء".

وها نحن بعد السنين الطويلة نتذكربالفخر والاعتزاز، وتحيا القلوب بذكرى الشهداء، ومن في الناس لا يتذكر أمثال ياسينوالرنتيسي وصلاح شحادة، ومن قبلهم حسن البنا وسيد قطب، ومن قبلهم عز الدين القسام،ومن قبلهم عمر المختار، ومن قبلهم طابور طويل مديد وموكب جليل فريد يمتد حتى يصلإلى النبيين والصديقيين..

ولقد عرف العرب في جاهليتهم أن خلودالمرء لا يكون بطول الحياة بل بخوض المعارك والقتل فيها، فالمرء مهما عاش مات،ولكنه إذا قُتِل في سبيل المجد خلد ذكره! ولذا قال قائلهم:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد .. لنفسي حياة مثل أن أتقدما

وتتابع الشعراء على مثل هذا القول،وهذا أبو فراس الحمداني ينشد قائلاً:

يقولون لي: بعتَ السلامة بالردى .. فقلتُ: أما والله ما نالني خُسْرُ

وهل يتجافى عني الموتُ ساعةً .. إذا ما تجافى عني الأسر والضُرُّ؟

هو الموت فاختر ما علا لك ذكره .. فلم يمت الإنسان ما حيي الذِّكْرُ

وإن مت فالإنسان لا بد ميتٌ .. وإن طالت الأيام وانفسح العمرُ

سيذكرني قومي إذا جدَّ جدُّهم .. وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ

وإن قصيدة أبي فراس هذه ما أجدر بها أنتكون وصفاً لحالة أبي خالد الضيف رحمه الله.. ولقد وصف فيها نفسه وهو يُصَبِّحالقرية الحصينة المنيعة التي أَمِنَت أن تقتحم، فما أشبه ذلك بصباح السابع منأكتوبر المجيد! ووصف نفسه كيف يملك الأسرى من المقاتلين فما أشبهه بإسقاط فرقة غزةفي ذلك اليوم! ووصف نفسه ببذل النفس في طلب المعالي، فما أشبه ذلك باستشهاد أبيخالد. فاسمع وتأمل:

فيا رُبَّ دارٍ -لم تَخَفْني- منيعة .. طلعتُ عليها بالردى أنا والفجرُ

وحيٍّ رددتُ الخيل حتى ملكته .. هزيما وردَّتني البراقعُ والخُمْرُ

ونحن أناس لا توسط عندنا .. لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا .. ومن يطلب الحسناء لم يغلها المهر

أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العلا .. وأكرم من فوق التراب ولا فخر

(5)

لقد بقيت كلمة لا بد من قولها في مشهد العودةإلى شمال غزة، وهي بإذن الله البشرى بالعودة الكبرى..

لقد أغاظ هذا المشهد أعداء الله منالصهاينة، كما أغاظ أولياءهم وحلفاءهم في القنوات والصحف والمنصات التابعة للأنظمةالعربية.. وإن غيظ الصهاينة مفهوم.. وإن غيظ أوليائهم مفهوم أيضا، فذلك أمر مستقيملا عوج فيه ولا استغراب منه!

إن أصل مشكلة فلسطين منذ كانت هي مشكلةالأنظمة العربية، وما كان أهل فلسطين ليخرجوا من أرضهم، ولا كانت إسرائيل لتنشأوتستقر حتى تجاوز السبعين سنة لولا مجهود الأنظمة العربية في حمايتها وتثبيتوجودها!

هذه الحقيقة التي تبدو غريبة، هي أبسطالحقائق وأسطعها إذا قرأنا تاريخ قضية فلسطين. وما من أحد قرأ هذا التاريخ إلاوتمنى لو لم تكن ثمة أنظمة عربية ولا أنها تدخلت في القضية، إذن لكان الحال غيرالحال!

وذلك مشهد ومسلسل مستمر، وها أنت ترىوتسمع كيف أن ترمب يُصَرِّح علنا بما يكتمه السياسيون عادةً من التفكير في توسيعخريطة إسرائيل، ويتصل بالأنظمة لتستعد لاستقبال المهجَّرين الفلسطينيين!

هل ترى الرئيس الأمريكي يمكن أن يتكلمبهذا علناً لو كان يعرف حقاً أن تهجير الفلسطينيين خطٌ أحمر لدى الأنظمة العربية؟إنه يعرف، كما يعرف الجميع، أن هذا أمرٌ متاح وممكن، ولئن كان ثمة خلاف حوله، فهوخلاف حول التوقيت والثمن والإجراءات والتدابير!

ألم ير الأمريكان والصهاينة وسائر هذاالعالم كيف وقفت هذه الأنظمة مع الصهاينة، وكان أشد ما يريدون منهم أن ينتهوا منحرب غزة بسرعة؟! لقد وفرت هذه الأنظمة لإسرائيل سائر ما أمكن أن تقوم به في سبيلتسريع إبادة المقاومة وإنهاء الحرب في غزة: طرق أصلية وطرق بديلة لتوصيل البضائع،وموانئ لاستقبال الأسلحة الذاهبة إلى الصهاينة بل وتوقيع اتفاقيات أمنية وعسكريةمع الدولة الصهيونية في خضم الحرب نفسها، وحصار وإغلاق للمعابر، واستصفاء أموالالفارين من الجحيم بمن في ذلك المرضى والجرحى (ثلث الشهداء في غزة ماتوا جراءالحصار ونقص الأغذية والأدوية والمنع من العبور للعلاج خارج غزة)، وضغط علىالمقاومة في المفاوضات. وهذا كله فضلاً عن المجهود السابق في هدم الأنفاق وتفجيرهاوزيادة السور العازل حول غزة ومضاعفة طوله وعرضه وعمقه وإغراق خندقه بالماء!!

هل هذا فعل قومٍ يرفضون التهجير حقاً،ويصرون على بقاء القضية الفلسطينية حية؟!

ألم يقل أحدهم علناً: إذا شاءت إسرائيلأن تهجّر أهل غزة فلتهجرهم إلى صحراء النقب ثم تعيدهم مرة أخرى بعد القضاء علىالمنظمات الإرهابية؟!

أهذا لسان حاكمٍ حريصٍ على فلسطينوقضيتها؟!

أين هذا من سيِّدٍ مثل أبي خالد الضيفوأصحابه؟!!

تالله مايستريب في هذا المشهد إلا من طمس الله على قلبه، واختار أن يكون مع أعداء الله!

﴿إِنَّالَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوابِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُالنَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يونس: 7، 8].

نشر في مجلة أنصار النبي

 - فبراير 2025 

انظرالتفصيل في: ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد، ط27 (بيروت – الكويت: مؤسسةالرسالة – مكتبة المنار، 1994م)، 3/5 وما بعدها.

رواه أصحابالسنن بسند صحيح.

رواهالحاكم بسند صحيح.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 04, 2025 10:35

January 3, 2025

انهيار الباب الأول في جدار حراسة إسرائيل!

 قد فاضت الأقلام، وحُقَّ لها أن تفيض،بما أنعم الله على المسلمين من إسقاط نظام بشار الأسد، وتحرير دمشق، من بعد نصفقرن مظلم كئيب كانت في سوريا ترزح في أسوأ عهودها على الإطلاق!

والحمد لله أن قيَّض لعباده من الظروفوالأحوال ما جعل هذا التحرير ممكنا على رغم قلة العدد وضعف العدة وعموم اليأسوانعدام النصير، فإن إسقاط هذا النظام آية من آيات الله، وما كان لأحد أن يتوقعسقوطه بهذه السهولة ولا بهذه السرعة! لكأنما كان سحابا وانقشع! أو سرابا يحسبهالظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا!

إن أمام القوم تحديات عديدة، نسأل اللهأن يوفقهم فيها ويهديهم إلى الرشد فيها، لكن العقبة الكأداء قد انهارت، وما بعدهاأيسر منها إن شاء الله!

وأهم ما في هذا الفتح ليس ما يتعلقبأهل سوريا وحدهم، بل ما يتعلق بالشام وبمصير المنطقة كلها.. ولقد رأى الجميع كيفسرت صعقة كهربية في سائر الإقليم العربي الإسلامي، بل وفي سائر الدنيا، فإن امتلاكالمسلمين لأمرهم في دمشق هو بمثابة قنبلة نووية في قلب النظام العالمي القائمالآن! وما هو بالأمر الذي يُسْمَح به مهما كانت التكاليف!

وما من شكٍّ عندي في أن الأمريكانوالغربيين يحاولون اختبار الوضع، واختيار البدائل، مثلما سمحوا لمحمد مرسي بأن يصلإلى رئاسة مصر وهم يظنون ويُقَدِّرون أنهم يستطيعون به إدارة الأمر على ما يحبونويرغبون، فلما كانت آثار هذا عظيمة لا تحتمل ذهبوا إلى الانقلاب العسكري عليهوتدمير الفرصة التي سبق أن سمحوا بها.

وإني سأقص عليك مختصر القصة، فإن كنت –أخيالسوري- لا تجد الوقت أو كنتَ ملولا فاذهب مباشرة إلى آخر قسم في المقال، ففيهالخلاصة.

(1)

لم يكن الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمهالله جهاديا، ولا كان في خاطره أن يقاتل الأمريكان والإسرائيليين، بل لقد ظنَّ أنتقديم الوجه الهادئ العملي التصالحي والحفاظ على مصالح هؤلاء الغربيين قد يمنحهالفرصة ليتمكن من البلاد تمكنا هادئا متدرجا، ثم يخرج من هذا التمكن بعد ذلك إلىتغيير الأوضاع!

وما عندي من المعلومات يؤكد أنالأمريكان كانوا يقبلون بهذا، لا حبا في محمد مرسي ولكن لأن هذا يلتقي مع خطة أخرىرغبوا في تنفيذها، تلك الخطة هي: أن يأتي الإسلاميون بالانتخابات النزيهة دون أنيمتلكوا حقيقة السلطة ومفاتيحها، فيعانون هم في الحكم ويعاني الناس من فشلهم فيهوضعف قدرتهم على إدارته، مع التهييج الإعلامي المستمر، والتفزيع الطائفي للأقلياتوأصحاب المصالح، والتحكم الغربي عمليا في مراكز القوة العسكرية والأمنيةوالمالية.. فيكون الرئيس في أحسن أحواله كرئيس البلدية، ويكون أقصى ما يستطيعإنجازه تحسين أحوال الطرق وتنظيم الخدمات المحلية كتوزيع الخبز والغذاء وتحسينأحوال الصحة والصرف الصحي ونحو هذه الأمور! وهذا كله لن يعني شيئا في ظل القصفالإعلامي المتواصل الذي يندب ويصرخ ويشكو من أن هذا ليس كافيا بل ليس شيئا!

فتكون النتيجة النهائية أن تأتيالانتخابات القادمة النزيهة لتُسْقِط الإسلاميين باختيار الشعب وإرادته، فتكونضربة معنوية قاصمة للإسلاميين في أنفسهم وفي أفكارهم، كما تكون ضربة قوية لأفكارالناس ليس فقط في صلاحية الإسلاميين للحكم، بل في صلاحية الإسلام للحياة!

كان يمكن لهذه الخطة أن تسير جيدا: إنأربع سنوات يراهن فيها الأمريكان على هذا المسار، هي ذاتها السنوات الأربعة التييودّ مرسي والإخوان أن تسلم لهم؛ فالإخوان مرسي لا يريدون إلا الفرصة والوقت وهميراهنون أن تمكنهم من تحسين هذه الأوضاع سيعني التفاف الشعب حولهم، وبالشعب وبمنينحاز لهم من رجال السلطة يمكنهم أن يتمكنوا من الحكم وأن يصلحوا الأحوال تدريجياوصولا إلى الغايات الكبيرة المنشودة: بداية من تحرير مصر وامتلاك قرارها وحتىتحرير الأقصى!

فإذا وقع اتفاق الإخوان والأمريكان،كلٌّ وفق رؤيته ومصالحه، على شيء.. فلماذا تعطل هذا الاتفاق؟ ولماذا جرى الانقلابالعسكري في مصر؟!

هذا هو مقصود ما أريده من هذا المقال..فأعطني سمعك وقلبك وعقلك..

(2)

لم يكن أثر وصول مرسي إلى الحكم في مصرقاصرا على مصر وحدها؛ لقد كان لهذا الوضع أصداء واسعة في العالم كله، ولا سيما فيالخليج وفي إسرائيل، وفي تركيا وإيران أيضا..

إسرائيل فقدت بانهيار حسني مبارك كنزهاالاسترايتيجي –والوصف للوزير الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر- وإن آثار الضعفوالتفكك الذي عانى منه الجهاز الأمني والعسكري وفَّر فرصة هائلة لنمو المقاومةالإسلامية في فلسطين، لا سيما في غزة التي صارت تأتيها أكداس السلاح، لقد انتعشتهريب السلاح كما وكيفا عبر المسار المصري الذي ضعفت فيه قبضة الجيش والشرطة،وصارت قوة حماس تتضخم في غزة!

وأما الخليج، تلك الممالك التي ترسخفيها الحكم الملكي والأميري، والذي يعامل الناس عمليا كعبيد لهم المأكل والمأوىولنا فيهم القرار والسلطان، فقد أصيب بصاعقة حقيقية حين نجحت الثورة المصرية، إذكيف لرئيس عتيق أن يسقط بعد ثلاثين سنة بهذه السهولة، ثمانية عشر يوما فحسب!! لقدأنعش هذا الآمال المدفونة للشعوب الخليجية لكي تشعر وتتنفس أن يكون لديها منالحرية والإرادة والرأي في النظام. وزاد في ذلك أن تأثير الثورة المصرية سرعان ما انتشرفي ليبيا وسوريا واليمن وبدت له بوادر لم تكتمل في البحرين والجزائر والمغرب.. لقدشعر ملوك الخليج أنهم في لحظة تشبه ما عاشه قبلهم ملوك أوروبا القديمة والوسيطة؛شعروا أنهم أمام ثورة لتحرير العبيد، وقطع رأس الملوك!! فكان لسان حالهم يقول: لئنكانت أمريكا تستطيع أن تصبر أربع سنوات تجرب فيها خطتها، فإن الوضع عندنا لا يحتملولا نستطيع أن نصبر! لقد رأوْا كيف أن بعض شعوبهم وضع كلمات الرئيس مرسي كنغماترنين لهواتفهم الجوالة!.. إن استمرار مرسي سيمثل سقوطا مؤكدا لأنظمة حكمهم!

حتى إيران وتركيا على رغم ما بينهم منالتضاد والخلاف، كلٌّ منهم رأى في مرسي فرصة عظيمة يتقوى بها جانبه ويشتد بهامحوره..

فأما تركيا فلقد كانت لحظة في غايةالندرة والعظمة للعثماني الجديد –كما تنعته الصحافة الغربية- لكي يجد طريقا ممكناليتمدد في العالم العربي بعد مائة عام من العزلة العلمانية الأتاتوركية، فالمتفائليقول: إنه أول استرجاع تاريخ الدولة العثمانية، والمتحفظ يقول: إنه أول الطريقلتمدد الدولة التركية واتخاذها الموضع اللائق بها في خريطة القوى الإقليمية.والإخوان ومرسي من جانبهم كانوا يرحبون أشد الترحيب بالحليف التركي، الحليف القويذي الهوى الإسلامي، في منطقة ترسخ فيها الطغاة والعلمانيون وليس لهم فيها نصير.

وأما إيران، فلقد وجدت في وصول مرسيللحكم فرصة ممتازة لتمد علاقات قوية مع مصر –أكبر الدول العربية وأهمها- بعدماسقطت العقبة الكأداء المتمثلة في حسني مبارك ذي الهوى الصهيوني والأمريكي، إنهالمنحة عظيمة في هذه اللحظة وجود إسلاميين في حكم مصر مثل الإخوان المسلمين، ليسلهم عداء عقدي جذري مع الشيعة، ولهم تطلعات تحررية من الأمريكان، ولهم عداء معالصهاينة، ويعانون من قلة النصير. ومن ثَمَّ فإقامة علاقة مع هؤلاء هو كسر ضخم فيجدار الحصار المفروض على إيران، وتوسيع حضورها، بل وفيها فوق ذلك فرصة كذلك للعملالشيعي في مصر التي هي بيئة أقرب لقبول الفكرة لما لدى أهل مصر من حب لآل البيتولما في مصر من معالمهم ومشاهدهم.

السودان أيضا رأى في فوز مرسي فرصةعظيمة للخروج من حالة الحصار التي كان فيها عمر البشير، النظام الفقير الذي أجبرقبل شهور على تنفيذ التقسيم والتخلي عن جنوب السودان بعد طول تصلب ومثابرة، وماكانت له من عقدة أشد وأكبر من العقدة المصرية، فها هي قد انفتحت، ثم ها قد جاءإليها الإخوان المسلمون أنفسهم الذين هم على ذات خط فكر الحزب الحاكم في السودان.

أمورٌ أخرى يمكن قولها، ولكنها أقلأهمية.. على أن القصد الذي يجب التركيز عليه أن التجربة المصرية كانت في بعضوجوهها تجربة اتفق أصحابها واتفق الغرب على منحهم الوقت والفرصة، كلٌّ لأغراضهالمعاكسة للآخر، لكن تأثيراتها على الجوار هي التي عصفت بها!

لقد دخلت ممالك الخليج وإسرائيل علىالخط لتتحطم هذه التجربة في أسرع وقت وأقرب فرصة ومهما كان الثمن، وفي حين كانالأمريكان يتخوفون من الفوضى لو جرى الانقلاب العسكري على مرسي، فإن إسرائيلوممالك الخليج والخونة في العسكر المصري تكفلوا لهم أن يكون الانقلاب أسهل مايكون. فما ظنَّ أحدٌ منهم أن مرسي يمكن أن يتصلب في وجه الجيش، كيف ولم يفعلهامبارك العسكري ذي الثلاثين عاما في مقعد الحكم؟ فهل يفعلها الإصلاحي التدريجيالخالي من القوة والذي لم يتمكن في مقعد الحكم؟!.. وكان مرسي قد أبدى من الضعف مايجعل الانقلاب عليه فكرة تستحق التجربة، وقد خُدِع في السيسي وسُحِر به انخداعاوسحرا يجعل نتيجة الانقلاب عليه تبدو مؤكدة السهولة!

ثم حصل ما حصل مما هو معروف..

وأنا أكتب الآن من موقع شاهد العيان،فلو كان مرسي قد أبدى جرأة وقوة وإقداما مثل الذي أبداه من تصلب وثبات بعد وقوعالكارثة لكنا نكتب تاريخا آخر. ولو كانت الجماعة قد قاومت ونزلت بثقلها بعدالكارثة لكان تاريخ آخر!

(3)

الشاهد الذي أقصده الآن، والذي أتوجهبه لإخواني في الثورة السورية.. أن الأمريكان والغربيين يمكنهم أن يحاولوا تجريبالوضع الجديد واختبار الفرص المتاحة ودراسة شخصية أحمد الشرع ومصادر قوته ونقاطضعفه، وإلى أي مدى يمكن تحقيق مصالحهم في وجوده.. مع الاستعداد لتغييره في كلالأحوال، حربا أو اغتيالا أو انقلابا ممن حوله، ولكن هذا الاستعداد الغربي يحتملالتأجيل!

أما الأنظمة العربية وإسرائيل فلا تملكالوقت ولا الصبر على ذلك، وإن اشتياقها لتدمير التجربة وتحطيمها لا يتمهل، ولئنكان القوم لم يحتملوا مرسي –على كل ما فيه من إصلاحية، وعلى كل ما لهم من نفوذداخل الأجهزة الأمنية والعسكرية في مصر- فكيف برجل مثل أحمد الشرع، ذلك القادم منمسار جهادي سلفي، وقد حمل السلاح، وفريقه ليس فيه هذا الحضور ولا النفوذ؟!

لقد أبدت أنظمة الخليج لمرسي تقبلا،ورسمت له في دهاليز العلاقات الخلفية ابتسامات وضحكات، وكانت تطعنه من الخلف (وهذاملف لم يُعرف بعدُ أكثره)، حتى لقد رأيت بنفسي في فريق مرسي من كان مطمئنا لهمغاية الاطمئنان، وكان سعيدا لما أغرقوه به من الحفاوة، ولا يتصور أن هذا قد يكونغدرا.. أقصد القول: ليس الذي يحدث الآن مع أحمد الشرع غريبا ولا هو يعني تقبلاحقيقيا لوجوده!

إن تحرير دمشق، كما تقرؤه العواصمالسياسية العربية، هو إسقاط لأخ عريق في الطغيان والتجبر، وهو دليل على أن نجاحالثورات ممكنة رغم كل المآسي والجراح، وهذا درسٌ هائل عظيم، كم أنفقوا الملياراتوالمجهودات لإثبات عكسه، حتى صارت سوريا المثال الأبرز عليه، فكان يقال للمقهورين:"احمدوا ربكم أحسن من سوريا"!

وإن تحرير دمشق، كما تقرؤه العواصمالعالمية، هو انهيار بوابة حديدية كبرى في جدار حراسة إسرائيل، بل هو انهيار ثلثالجدار، وبقي ثلثاه: مصر والأردن!.. فكيف يكون حال قومٍ خسروا في أيامٍ بابا منثلاثة أبواب تحمي مشروعهم الأثير: إسرائيل؟!.. وكيف يكون حال إسرائيل نفسها، وهيالتي لم تخرج بعد من الصفعة المدوية التي تلقتها في غزة! غزة التي لا تملك إلاالسلاح الخفيف والمتوسط، والمحاصرة منذ سبعة عشر عاما؟!

لئن كانت نافذة غزة قد تدفق منها طوفانالأقصى، فكيف يتوقعون أن يكون التدفق الذي سيأتي من باب سوريا الكبير؟!!

أسألالله تعالى أن يتم نعمته على إخواننا في سوريا، وأن يهدي قائدهم أحمد الشرع ورجالهلما فيه السداد والرشاد والخير والهدى والفلاح، وأن يجنبهم كيد الكائدين وغدرالغادرين.
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 03, 2025 01:24

December 4, 2024

لو كان عرضا قريبا!

 أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن نفسيةقومٍ لا يخوضون الجهاد لأنه بعيد الثمرة، وهذا البُعْدُ هو ما جعلهم يتثاقلونويتباطؤون ويتخلفون عن الجهاد مع النبي ﷺ. وبيَّن ربنا، وهو العليم بالنفوس البصيربما في القلوب، أن الثمرة لو كانت قريبة لكانوا قد خرجوا مجاهدين.

قال تعالى {لَوْ كَانَ عَرَضًاقَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُالشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْيُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].

ونحن نرى مصداق قول ربنا هذا في زمانناالآن، فانظر وتأمل كم واحدًا كان فرحا مسرورا فخورا بما وقع في طوفان الأقصى لماوقع، وانظر كم منهم الآن من يتحدث عن خطأ الحساب ومرارة التكاليف وقسوة الأوضاع،بعضهم يُصَرِّح وبعضهم يُلَمِّح أن قرار الطوفان كان قرارا خاطئا، وأن تكاليفهكانت شديدة وأنها كانت مغامرة غير محسوبة!

وما من شك في أن حرب غزة لو كانت قدتوقفت بعد شهرين أو ثلاثة أو ستة، لكان أكثر القائلين بهذا يقولون بغيره، بلبعكسه، ولربما جادت قرائحهم بالأقوال اليانعة في عبقرية من اتخذ قرار الطوفان بمايرفعهم عن مصاف البشر وبما يجعلهم معدن الحكمة!

فهل مثلُ هذا الحال حالٌ أدقُّ في وصفِهذه العلة: بُعْدُ الشُّقَّة؟!

فالمسألة إذن نفسية، وبحسب ما تحتملالنفس من المشقة تُكَيِّف الموضوع، وقد يتبع العقلُ النفس في هوها وتحملها، فمااحتملته كان عبقرية وحكمة، وما عجزت عن احتماله كان تهورا وخطأً!

وقد يسأل سائلٌ مستفسرًا ومستفهمًا: فكيفنُفَرِّق إذن بين جهاد محمود بعيد الشقة بعد الثمرة؟ وبين الخطأ المذموم الذي يوصفبالتهور وخطأ الحسبة وركوب الأهوال واقتحام المخاطر بغير عدة؟!

للجواب على هذا السؤال وأشباهه، كُتِبتهذه السطور..

 

(1)

إن الجهاد في غزة وفلسطين، هو جهاد دفعليس جهاد طلب، فالأصل فيه أنه قائم مشتعل لا يهدأ ولا يفتر، وقد يُقدِّر المجاهدونهدنة قصيرة أو طويلة لالتقاط الأنفاس أو لإعداد عدة، دون أن يعني هذا أن الجهاد قدتوقف وارتفع الواجب فيه.

وجهاد الدفع ليس هو الذي يُشترط فيهويلزم فيه وقوع غلبة الظن بالظفر والنصر، بل هو مطلوبٌ بما توفر وحضر من العدةوالعدد، فهو من نوع الذي يجاهد مدافعا عن نفسه وعرضه وماله، قد يخوض غمرة الموتمدافعًا دون أن يتحقق له غلبة الظن بأنه قادرٌ على الدفع والظفر! وقد شهد النبيلمن فعل ذلك بالشهادة في قوله: من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون نفسهفهو شهيد، ومن قُتِل دون عرضه فهو شهيد.

وقد قرر العلماء في جهاد الطلب جواز،وبعضهم قال باستحباب، أن يفعل المجاهد ما قد يكون فيه هلكته إن كان في فعله هذانكاية بالعدو وإرعاب له، فكيف إن كان الواقع في جهاد الدفع، وفي دفع الصائل، وهوالأمر الذي ليس بعد الإيمان بالله شيء أوجب منه؟!

وإن الناظر في واقعنا المعاصر ليعلمويرى أن من المستحيل تحققه في المدى المنظور أن يبلغ المجاهدون في العدد والعدةمثلَ الذي هو عند عدوهم، إن الواقع شاهدٌ بهذا، كيف وهم محاصرون من أنظمة الخيانةوالغدر، وعدوهم ممدود بحبل الغرب والأمريكان وأنظمة الخيانة نفسها.

إن صرف الوقت انتظارا لاكتمال العددوالعدة ليست له ثمرة إلا أن تزيد الفجوة بين ما لدى أهل الجهاد، وما لدى العدو..وهو ما يجعل المهمة تزداد في كل يوم عسرًا وعنتًا ومشقة واستحالة!

 

(2)

لقد تكرر في القرآن والسنة الثناء علىقوم قاموا بالحق حتى هلكوا فيه ولم ينتصروا..

انظر إلى أصحاب الأخدود، آمنوا باللهوكفروا بالطاغية، فحفر لهم أخدودا ملأه نارًا، ثم أحرقهم فيه.. أبادهم!

وانظر إلى سحرة فرعون، وهم يكفرونبفرعون ويؤمنون بموسى أمام الجمع الحاشد الكبير، ثم يضربون هيبة فرعون وجبروته فيمقتل حين يستخفون بتهديده وعذابه، فماذا كان؟.. أتى لهم بالجنود يعذبونهمويقطعونهم حتى أهلكهم وأبادهم!

وانظر إلى أصحاب الكهف، كيف قاموابالحق فعبدوا الله وكفروا بآلهة قومهم حتى لم يأمنوا على أنفسهم، فخرجوا يلتمسونالمأوى الآمن بعيدًا، فألقى الله عليهم النوم حتى بعثهم بعد ثلاثمائة عام.. إذانظرت إلى هذا المشهد من جهة القوم الكافرين، فكيف تراه؟!.. ترى قوما من "الإرهابيين"و"الخوارج" و"المتطرفين" هربوا من وجه القانون حتى لا ندري فيأي أودية الأرض هلكوا!

وانظر إلى امرأة فرعون وإلى ماشطةابنته كيف آمنتا بالله وكفرتا بفرعون وتحملتا العذاب، حتى لقد هلكت الماشطةوأطفالها تعذيبا وإحراقا..

ولقد أخبرنا نبينا برجليْن بلغا مرتبةواحدة: أحدهما قُتِل شهيدا وهو يُقاتل، والآخر قُتِل بعدما جهر بكلمة الحق في وجهالجبار الجائر، كلاهما بلغ مرتبة سيد الشهداء، وكلاهما لم يكن بميزان الدنيا منالمنتصرين!

وأزيدك من الشعر بيتا.. أو من التاريخقصصا..

إن الأمة المهزومة المستضعفة لا تبدأمسيرة نهضتها إلا بأفواج من الاستشهاديين، نعم، بهؤلاء ذوي النفوس الفولاذية التييبلغ إيمانها مبلغًا تنهار معه القوى المادية كلها، فيُقدم على عمل يراه الناسانتحارًا، ويكون هو البذرة الأولى في كل قصة نهوض!

ماذا كان يرجو بلالٌ من حظ الدنيا حينكان يقول في عذابه الرهيب: أحدٌ أحدٌ؟!

وماذا كان يرجو خبيب بن عدي من حظالدنيا وهو يقول على خشبة الصلب:

ولست أبالي حين أُقتل مسلما .. على أيجنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ .. يباركعلى أوصال شلو ممزع

ولا تحسبن هذا قاصرًا على أمتنا وحدها؛لا.. لقد وُجِد في الأمم كلها أمثال هؤلاء "الانتحاريين" الذين بذلوانفوسهم في سبيل تثبيت أقوامهم على عقائدهم، حتى وإن كانت باطلة.. لم يزل الإسبانحتى اليوم يُعَظِّمون قوما "انتحاريين" كانوا يأتون إلى قلب الساحةالرئيسية في قرطبة العظيمة إبان ذروتها فيتعالنون بسب النبي والقرآن والإسلام،يريدون بذلك تثبيت قومهم النصارى لما يرونه من ذوبان النصرانية وانكماشها أمام قوةالإسلام وحضارته. ولأن المشهد كان عجيبا فقد تعامل معهم قضاة المسلمين باعتبارهممجانين فلم يحكموا عليهم بالقتل غير مرة.. أولئك المجانين تراهم أمة الإسبان أولمن ثبَّت النصرانية وأول من قاوم الوجود الإسلامي.

وفي التاريخ أمثال هؤلاء مما لا يتسعله المقام.. إنما أذكرهم لأقول: لا بديل لكل أمة مستضعفة تحفظ وجودها عن"استشهاديين" يخرقون قانون القوة ومنطق العقل ليمنحوا الدين والإيمانوقودا من دمائهم المسفوكة ونورا من نفوسهم المسفوحة!.. هكذا بدأ الإسلام قصته!وهكذا بدأت كل قصة نهضة من بعد هزيمة!

 

(3)

وإذن، فهل كان قرار طوفان الأقصى قرارعملية استشهادية جماعية؟!

لست أدري.. وأغلب الظن عندي أنه لم يكنكذلك، وأن الذي اتخذ القرار لم يكن يتوقع ردًّا بهذه الدموية، ولا توقع كل هذهالخيانة من أنظمة الغدر والخيانة العربية والإسلامية!

وقد يخطئ المجاهد فيخوض معركة لا تكوننتائجها كما أَمَّل وترجى وتمنى.. فإنما المجاهد بشر، وهل كان المجاهد معصوما؟!

ما من أحد يستطيع أن يقول بأن كل معركةخرج لها النبي أو خلفاؤه الراشدون أو الفاتحون والصالحون من الأمراء والسلاطين كانتمحسومة النتيجة لصالح النصر، وإنما هو التقدير الذي قد يصيب وقد يخطئ، ولو كانالإنسان لا يقدم إلا على معركة النصر فيها محسوم لما كان ذلك منه بطولة ولا جهادا،بل هذا أقرب إلى الانتهازية وركوب المصلحة..

ما البطولة ولا الشجاعة ولا البسالةإلا الثبات في الموطن المخوف والمنزل الرعيب والاستئساد في ساحة الخوف والصلابةحين تميد الأرض وتكفهر الأجواء وتظلم الأنحاء!

ولولا ذلك ما وُصِف بطل بالبطولة، ولاشجاع بالشجاعة، ولا باسل بالبسالة!

ثم إن حسبة النتائج هذه متعذرة أصلا فيحال الدنيا وطبائعها، فما من معركة يمكن الحسم بنتيجتها قبل أن تبدأ.

وقد وقع في سيرة نبينا الأعظم ﷺ أنهُزِم جيش المسلمين، ووقع أن حاصروا مدينة ولم تفتح لهم رغم استبسالهم وجهدهم حتىتركوها ورحلوا، ولقد أرسل نبينا ﷺ سرايا في مهمات عسكرية، فمنها ما أبيد ولم يرجعمنها أحد! ومنها ما أبيد ولم يرجع منها سوى القائد وحده!! فإذا كان تقدير البشروعملهم قد مسَّ الخطأ فيه خير البشر وأولاهم بالعصمة، فكيف بمن هم دونه؟!

ولقد خاض جيش الصحابة بعد وفاة النبيفتوحا، فوقعت فيهم الهزيمة أحيانا، واستعصت عليهم المدن أحيانا، وانقلبت عليهم مدنبعد فتحها أحيانا.. فلو كان يشترط لقرار الجهاد التيقن من النصر والظفر لما قامللجهاد أحد!

وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة تعز علىالحصر، يطول تتبعها، حول مدن صمدت أمام التتار وأمام الصليبيين وأمام القشتاليينوغيرهم، واستبسلت وقاتلت وكافحت ثم سقطت، فلم يكن جهادهم هذا عيبا ولا عبثا ولاخطئا.. بل كانوا أبطالا وخلدوا في ذاكرة الأمة أبطالا، وضربوا بأنفسهم المثلوالقدوة لمن في زمانهم ولمن جاء بعدهم.

وقد تكرر في تاريخنا الحديث وفي زمانناالمعاصر هذا انتهاء حركات إسلامية مجاهدة دون أن تحقق أهدافها في النصر والتمكين،فمنهم: عبد القادر الجزائري وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وحسن البنا وسيد قطبوأمين الحسيني وغيرهم كثير.. فإن أمتنا التي لم تكف عن المقاومة، لم يتحقق فيهاالنصر والتمكين في هذا الزمان المعاصر إلا مرات معدودة، لشدة ما نحن فيه منالاستضعاف ولعظيم الفارق بيننا وبين عدونا في القوة، ولكثرة ما فينا من الخائنينوالمتخاذلين، ولعيوب أخرى ذاتية أيضا..

والقصدُ أن مرارة النتائج وقسوتها لاتبطل الأصل، فهذا الذي وقع كله لا يجعل الطريق خطأ ولا يجعل هؤلاء مخطئين، بل لقدأنزلت الأمةُ هؤلاء جميعا -وهم مهزومين، لم يبلغوا التمكين- منزلة الأبطال والكبارالذين مهدوا الطريق أو وضعوا لبنات في البناء!

فلو قد تحقق المخوف وقُضِي علىالمقاومة في غزة، فلن يكون هذا خطأ في الطريق وفي الجهاد.. فإن غاية ذلك أن يكونخطأ في التفاصيل والتقديرات، وليس هذا هو الخطأ الأعظم.. إنما الخطأ الأعظم أمرآخر أحدثك عنه بعد قليل!!

الذي أريد قوله الآن وهنا: أنه، وإنكان قرار طوفان الأقصى قرار استشهاد جماعي، فكم سبقهم إلى ذلك مجاهدون صالحون، ماكانوا يملكون إلا الصمود والصبر والدفع والدفاع، حتى أعذروا إلى ربهم وبذلوا أقصىجهدهم، ثم مضوا شهداء مخلدين، وبقي ذكرهم في التاريخ مخلدا!

 

(4)

أما الخطأ الأعظم حقا، بل الخطيئةالعظمى صدقا، فهو هذا التخلي وهذا الخذلان، بل هذه الخيانة لله ورسوله والمؤمنين.

فلو قد اتفقنا –جدلا وتنزلا- أن قيادةالمقاومة أخطأت بقرار الطوفان، فإن خطأهم في التقدير والتفاصيل لا يرفع عن الأمةوحكامها وجيوشها وأجهزة أمنها ومخابراتها وإعلامها واجب الجهاد والمساندة والدعموالنصرة لإخوانهم المذبوحين المضطهدين وإن أخطؤوا!

هذا هو الخطأ الذي ينحرف المتكلمون عنهولا يريدون الخوض فيه لأن الخوض فيه ذو تكاليف وأثمان.. فيهربون من تكاليف قولالحق في أصحاب الخطايا والخيانة لينهشوا بألسنتهم من بذل غاية جهده ثم أخطأ فيالتفاصيل وفي التقدير!

المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذلهولا يُسلمه!

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وكانصادقا في الحديث عن الأخطاء وتوزيع المسؤوليات، فأوجب الواجب وأولى الأولويات أنيشير إلى هؤلاء الذين خانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأسلموا أهل غزة وفلسطينليُذبحوا، لا بل عاونوا على ذبحهم، بحصارهم، وبإمداد عدوهم بالسلاح والمؤن، وبقهرشعوبهم ألا تنهض لنصرة غزة!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليضرببسهم في قلب الخيانة، لا أن يوجه سهامه إلى قلب المجاهد الذي وقع منه الخطأ!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلخيرا أو ليصمت!

 

(5)

وأخيرا.. هل أخطأ المجاهدون حقا أم كانتقديرهم صوابا؟

والجواب: لست أدري.. إنه ما من أحديملك جوابا شافيا على هذا غيرُ الذين اتخذوا هذا القرار، وبعضهم الآن شهيد عندربه..

لكنني أدري أمورًا أخرى قد تغيب عنحساب الذين يتحدثون عن المكاسب والخسائر.

اعلم أولا أن الشعوب، سائر الشعوب، تبعلقادتها.. فالقادة هم الذين يقدرون مصالحها وخسائرها، فيتخذون قرار الحرب وقرارالسلم دون عودة ولا استفتاء لشعوبهم.. فمن عجيب ما نحن فيه أننا ابْتُلينا بمن كانيريد من يحيى السنوار أن يستفتي أهل غزة قبل أن يقدم على قرار الطوفان!! يريد منهبذلك أن يكون أعظم ديمقراطية من تشرشل وأيزنهاور وبلير وبوش وغيرهم من قيادة الغربالديمقراطي (!!) الذين يخوضون الحروب ويسوقون شعوبهم إليها!

ما عرف التاريخ قوما يستفتيهم قائدهمفي قرار خوض الحرب قبل أن يفعلها، وإنما الذي كان ويكون وسيكون إلى يوم القيامة أنهذا القائد يقدر أن المصلحة في خوض الحرب فيحمل شعبه إليها، فإن أصاب وفاز سعدواجميعا، وإن أخفق وغُلِب دفعوا الثمن جميعا!

غير أن الذي أريد لفت الأنظار إليه هناأن حساب المصالح والمفاسد لا يكون مقصورا على لحظة الحاضر الواقع الآن، بل هو حسابيستدعي تقدير المآلات والمصائر!

دعني أقرب الصورة لك: لقد كان الأقصىمهددا بالهدم، واتخذ القوم من إجراءات التقسيم الزماني والمكاني، ومن طقوسهمالتعبدية التلمودية ما يشير إلى قرب نيتهم تنفيذ هذا الهدم.

فالآن.. تخيل أن لو لم يكن طوفانالأقصى قد حصل، ثم استيقظنا يوما على بدء عملية الهدم، بعدما اتخذت إسرائيل سائراحتياطاتها واحترازاتها السياسية والعسكرية والأمنية لتتم عملية الهدم بأهونسبيل.. ماذا كنت تحب أن يكون؟!

إن إسرائيل لا تخفي طموحها في هدمالأقصى وإقامة الهيكل مكانه! بل هذا هو مشروعها الذي تريده منذ أن نشأت، وهي تسعىإليه سعيها الحثيث، ولا يؤخرها عن فعله إلا أنها تخشى هبة وغضبة شعبية تطيح بها..

ولو أنك لم تنسَ لرأيت كيف كان موكبالتطبيع سائرا، حتى أنشأت بعض الأنظمة "الديانة الإبراهيمية" وصنعت بيتالهذه الديانة الجديدة، وافتتحت اتفاقيات سمتها الإبراهيمية لتبدأ عملية تطبيع، بلعملية صهينة محمومة للعرب والمسلمين، بلغت أن يدخل بعض اليهود إلى المدينةالمنورة، وأن ينفخ بعض حاخامتهم أبواقهم عند أطلال خيبر!

أريد أن أذكرك أن مسألة هدم الأقصىوالاستعدادات الجارية لذلك سياسيا واقتصاديا وأمنيا كانت على أشدها..

فلو كنتَ في موقع قادة المقاومة فيغزة، ورأيت هذا المآل بعين التوقع القريب، لكان قرار القيام بعملية استشهاد جماعيةإنقاذا للأقصى هو المصلحة.. بل هو المصلحة العظمى! إن إيقاف هدم الأقصى وتوغلالصهاينة إلى مكة والمدينة وخيبر ثمن يستحق أن ندفع من أجله عشرات آلاف القتلىومئات آلاف الجرحى!

دعنى أقدمها لك بصياغة أخرى: لو أنكاستيقظت يوما فوجدت الأقصى قد هُدِم، ثم قيل لك: قد كانت لدى المقاومة خطة اجتياحلغلاف غزة ولكن تقديراتها كانت أن هذا الاجتياح سيكلفها عشرآت آلاف القتلى ومئاتآلاف الجرحى، فصمتت ولم تفعل.. ماذا كنت تراك تقول أو تفعل أو تشعر؟!

ألن تشعر بأنك تحب أن تضحي بنفسك رخيصةقبل أن ترى بعينيك هدم الأقصى مسرى النبي ﷺ؟!

هذا الذي أريد أن ألفت النظر إليه: إنحساب المصالح والمفاسد، حساب المكاسب والخسائر، لا يقارن بين وضع غزة قبل الطوفانوبعده.. بل يقارن بين وضع المسلمين والصهاينة والأقصى بالطوفان وبغير الطوفان!..عندئذ يعتدل الحساب!

ثم أعود فأكرر: لست أدري ماذا كان فيرأس قادة المقاومة حين اتخذوا قرارهم.. غير أن الذين أرى منهم كل هذه الأساطيرالعجيبة في القتال والصمود لا بد لي أن أحترم عقولهم ونفوسهم وتقديراتهم، وإن لمأكن قد عرفتها ولا اطلعت عليها!

وأعرف قبل ذلك وبعده أنه لا نهضة للأمةإلا بمثل هذه الأثمان الكبيرة المدفوعة.. مثلما لم تنهض أي أمة إلا بفضل تضحياتأبنائها، بمن في ذلك الملحدون والكفار الذين لا يرجون الدار الآخرة.

هذا هو الحساب البعيد.. حسابٌ فيهالجهاد ذا ثمرة، ولكن الثمرة بعيدة.. بعيدة الشقة!

ثمرةلا يصلح لها من لا ينهض إلا لو كان الجهاد عرضا قريبا!!
نشر في مجلة أنصار النبي، ديسمبر 2024م
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 04, 2024 09:19

November 4, 2024

سنوار مان!.. حاشية على رثاء أبي إبراهيم!

 

في مؤتمر الذكرى الثالثة للهيئةالعالمية لأنصار النبي ﷺ، أنشد شاعر الثورة اليمنية فؤاد الحميري أبياتا بديعة يقولفيها:

شتان بين الشك والإيمان .. وشهود زورٍأو شهيد عيانِ

سقطت بطولة هُولِيُود وسحرُها ..وعَلَت بطولة تلة السلطانِ

هم مثلُ سوبرمانهم أكذوبة .. لكننا –صدقٌ-كسِنْوَرمانِ

 

(1)

كأن الغرب يشعر نقصا فظيعا في البطولةوالأبطال، فلم تزل آلته الدعائية تنهمر علينا بالأبطال المُخترعين الزائفين؛ فكمنشأنا ودرجنا على روايات هؤلاء وأفلامهم، فإذا الأطفال والناشئة يستلهمون أمثلة:سوبر مان (الرجل الخارق)، سبَيْدر مان (الرجل العنكبوت)، وأنواعًا من الفرسان فيكل موطن وسبيل. وإذا الكبار والكهول يستهلكون أصنافا من المقاتلين والأبطال الذينفرغوا من مهمات الأرض فطفقوا يحاربون في النجوم والكواكب والعوالم الموازية أويتصدون لغزو الكائنات الفضائية لهذا العالم!

قد كثرت القصص المخترعة والخيال العلميمن بعد ما تضخم التفوق الأوروبي حتى لم يعد يرى له في هذه الأرض قرينا ولا منافسا!

وتأمل في هذا ترى صدق ما أقول؛ فأيبطولة يفخر بها المرء إذ يستطيع أن يقتل، بإلقاء القنابل وهو في طائرة تعلو آلافالأميال على قومٍ من العُزَّل الذين لا يطالونه، أو حتى يقتل وهو في مركز للتحكموقد أرسل طائرة مُسَيَّرة يتحكم فيها كما يتحكم في الألعاب الإلكترونية، يرى الناسمن حيث لا يرونه، ويفتك بهم من حيث لا يدركونه؟!.. فمن كان هذا حالُه، وقد تجرد فيمعاركه من معاني البطولة، كان لا بد لأدبائه وروائييه وأهل الدراما والسينما فيهأن يخترعوا له أعداء فوق البشر، يأتونه في الأرض أو يذهب هو إليهم في السماء ليتمّله القتال الذي فيه معنى البطولة!!

وأشدُّ ما ترى فيه هذا النقص لدىالغربي هو الأخلاق؛ فإن الغربي مجرم منافق، وذلك أمر أصيلٌ في طبعه، لا سيما منذاعتنق العلمانية، فالأخلاق عنده وسيلة وأداة لا أكثر، يستعملها وينتهكها في تمكينتفوقه، وقد يفعل هذا في نفس الوقت واللحظة.. وقد ابتكر الغرب في منظومته السياسيةوظيفة "المتحدث الرسمي"، وهذه الوظيفة يتولاها أكثر الناس مهارة فيالتعامل مع المآزق الأخلاقية؛ فإن أردت بلوغ هذه الوظيفة فكن وقحا فصيحا، وكنباردا ماهرا في تغطية المواقف اللاأخلاقية بغلالة من الشعارات الأخلاقية، كن قادراعلى إنكار الشمس!

لهذا ترى الغربي حريصا على الأخلاقشغوفا بها، وذلك في رواياته وقصصه ودراماه وسينماه فحسب، يحاول بهذا أن يغطي نقصالأخلاق في طبعه، وتجرده منها في واقعه! مَثَله في هذا كَمَثل الذي يتعاطىالمخدرات ويدمنها لأن جسده قد توقف عن إفراز مادتها، فهو شغوف بها لأنه فاقدٌ لها،متشوق لها لأنه فارغ منها، حريص عليها لأنه عاجز عن استنباتها من نفسه مثل كلالأسوياء الأصحاء!

وحال هذا يكون أشد بؤسا وأشد حقدا وأشدتغيظا حين يرى مادة البطولة كلها قد جُمِعت في عدوّه، وليس يعرف طهر الفتاةالعفيفة إلا التي ارتكست في الفاحشة وأدمنتها، وليس يتغيظ الجبان إلا إذا أبهرالناسَ الشجاع، وليس يُفتضح البخيل بمثل ما يُفتضح إذا ظهر إلى جواره الكريم!

 

(2)

والحمد لله كثيرا، فقد جُمِعت في أمتنامادة البطولة، حتى كأن أمتنا نبع من البطولة المتفجرة المتدفقة، أبناؤها يقاتلونفي الساحات قتالا غير مسبوق ولا مشهود، قتال من لا يملكون شيئا في مواجهة منيملكون كل شيء!!

ماذا يكون معنى البطولة ومعنى الشجاعةومعنى البسالة ومعنى الإقدام إذا لم يكن هو مشاهد اقتحام المقاتلين المحاصرين منذسبع عشرة سنة في القطاع المعزول لأقوى دولة مدججة بالسلاح، وإعطائها صفعة مدوية انكسرتفيها سُمْعتها الأمنية وتضعضعت فيها هيبتها العسكرية؟!

كيف يمكن أن نصف البطولة والشجاعةوالإقدام والبسالة إذا لم نستعمل لذلك مشاهد الحافي الذي يخرج من فتحة نفق ليضععبوة ناسفة على الدبابة الأكثر تسليحا وتدريعا في تاريخ المدرعات؟! أو ذلك الذيقُطِعت ذراعه فكان يرمي بذراعه الثانية قذائف الهاون على عدوه، أو ذلك الذي سقطأمامه صاحبه الأول ثم الثاني فالتقط السلاح الوحيد ليواصل المعركة المحسومة بلاتردد؟!!

كيف نصف معنى الصبر والثبات ورباطةالجأش إذا لم نستعمل مشاهد أهل غزة من الشيوخ والنساء والصبيان وهم يعيشون المصائبالكبرى التي ينهار الناس لأقل من عشر معشار معشارها؟! ولئن نسيت فلست أنسى طبيبةتابعة لمنظمة غربية جاءت إلى غزة بعد جولة حربية فدُهِشت لأنها لم تر في غزة ماتراه في الغرب من مظاهر الانهيار والصدمة بعد الحرب!! فصارت تتعجب وتستغرب وقد ضربأهل غزة عقيدتها العلمية في الصميم، فلم تعد تدري: هل هؤلاء من البشر؟ أم أن العلمالذي درسته والتجربة التي خاضتها كانت خرافة وزيفا؟!!

ثم انظر وتأمل.. كيف اجتمع المشهدانمعًا في البقعة الواحدة!!

انظر إلى الجند المدجج بالسلاح، الذييلقي بأطنان الحميم من الطائرات البعيدة، ويستعمل أحدث التقنيات ليخوض بها الحرب،ثم هو يضرب المثل في قذارة الأخلاق، وفي التمتع بقتل النساء والأطفال والحيوانات،وبهدم المساجد والمستشفيات، وإذا شكَّ في وجود عدو له في مكان نفَّذ ضربة تقتلحوله مئات من البشر، ثم إذا اقتحم بيتا استخرج ملابس نسائه فلبسها الجنودوصَوَّروا أنفسهم بها؟!! ثم انظر إلى وليِّهم الغربي كيف لا يتوقف عن إمدادهمودعمهم، وهو الذي أسال أطنانا  من الحبروأكواما من الأوراق في التنظير لحقوق الإنسان والحرب والأسرى... إلخ!

 

(3)

ولقد شاء الله تعالى أن يجتمع في مشهداستشهاد أبي إبراهيم يحيى السنوار هذا كله: البطولة الإسلامية المتدفقة حتى الرمقالأخير، والقذارة الصهيونية الصليبية الغربية المتلمظة الحقودة حتى الانتقامالأخير:

. مقاتل يقاتل فوق ظهر الأرض، بنفسه!

. أشعث أغبر باذل كل جهده، كما يحبربنا ويرضى

. وحيد بعد تفرق صحبه، أو هلاكهم معهأو دونه!

. صامد صلب حتى اللحظة الأخيرة! لم يجدإلا العصا فقذف بها يقاتل!

. ملثم حَرَمَ العدوَّ أن يتعرف عليهلئلا يُعتقل فتكون مذلة ومهانة له، وتكون مكسبا ومفخرة للعدو!

. جريح ينزف، لكنه ربط ذراعه الجريحبفمه ويده الأخرى، بحبل ليحول دون استمرار النزيف!

. لا هو في نفق (وليس عيبا لو كان) ولامتدرعا بالأسرى (وليس عيبا لو فعل)

. يصطحب عدته في القتال: سلاح.. ومعهاعدته الروحية: كتاب في الأدعية، ورقة في الأذكار، مسبحته.. وحبَّاتٌ يستعملهاالناس لتعطير الفم، فلا تدري أكانت له لذلك الغرض فتكون دليلا على نظافة وطيب، أمكانت له غذاء ضعيفا لم يجد سواه، إذ هو مقاتل محاصر؟!

وأما عدوُّ، فظهر على هذا النحو:

. مجرم يضرب بقذيفة الدبابة مقاتلاجريحا ليس بيده إلا العصا!

. جبان يتخوف من مقاتل واحد فيرسلبطائرة مسيرة تستكشف شأنه!

. مرعوب قضى يوما قبل أن يجرؤ علىاقتحام المنزل المتهدم فوق المقاتل الوحيد الذي فرغت جعبته!

. خبيث دنيئ سرق الجثة ثم هدم الدار!

وقد شاء ربك مزيد فضح لهذا العدو ومزيدبث لكرامة السنوار، إذ أذيع هذا كله على يد العدو نفسه، ولا أحد يدري، لعل الشهيدكانت له مناقب أخرى ظاهرة لكن العدو حجبها وكتمها!!

 

(4)

كان الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر قدأنشد، ربما قبل ثلاثين سنة أو يزيد، قصيدته البديعة التي يقول فيها:

وجوهكم أقنعة بالغة المرونة..

طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة..

صفق إبليس لها مندهشا وباعكم فنونه..

وقال: إني راحل.. ما عاد لي دور هنا..دوري أنا، أنتم ستلعبونه!

أكلما نام العدو بينكم رحتمتقَرِّعونه؟!

وغاية الخشونة أن تهتفوا: "قم ياصلاح الدين".. حتى اشتكى مرقده من تحته العفونة!

كم مرة في العام توقظونه؟ أيطلبالأحياء من أمواتهم معونة؟!

دعوا صلاح الدين في ترابه واحترمواسكونه..

لأنه لو قام حقا بينكم.. فسوف تقتلونه!!!

نعم.. لو كان صلاح الدين قد قام لكانمصيره كمصير السنوار، أو حازم أبو إسماعيل، أو إسماعيل هنية، أو غيرهم ممن امتلأتبهم السجون والمنافي والقبور!!

فلو أننا ذهبنا نقرأ التاريخ ونطالعسيرة صلاح الدين، ثم ارتددنا بعدها فجئنا ننقد أنفسنا وتجربتنا ونتأمل في واقعنالكان لزاما علينا أن نقول: ما بلغ صلاح الدين ما بلغ من التحرير والنصر إلا بعد أنانتهى من الخونة الذين كانوا يطعنونه في الظهر، فما استقام لصلاح الدين تحرير بيتالمقدس إلا حين كسر الأمراء الذين حكموا بلاد الشام وكانوا حلفاء للصليبيين وعقبةفي طريق التحرير!

ولقد حاول صلاح الدين أن يتجنب طريقكسرهم، وأن يتألفهم، وأن يعدهم ويمنيهم ويعظهم ويرجيهم، فما استطاع.. هذا وهوالمعروف بأنه المثال في الرحمة واللين والعفو، حتى لقد أخذ عليه بعض المؤرخينإفراطه في العفو والصفح! فلئن كان هذا المغالي في العفو والصفح قد عجز عن أن يجدطريقا لتحرير بيت المقدس قبل أن يكسر الخونة الذين ثووا في ظهره، فكيف بغيره؟!

ستظل البطولة التي تتفجر بها أمتنامحبوسة طالما بقي الخونة، فإن تفجرت وتدفقت رغما عنهم فستبقى مطاردة لتنتهي مغدورةمذبوحة!

وهذا هو الطريق..

هذا هو الطريق الذي تهدي إليه بطولةالسنوار الشهيد..

 

(5)

لما رجعت إلى البيت بعد انتهاء مؤتمرالهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، وقد كنتُ ممتلئا بأبيات فؤاد الحميري عن"السنوارمان"، وجدتني أمام قصيدة أخرى طازجة؛ فعرفت أنه بينما كانصاحبنا الشاعر اليمني في إنشاده، أخرج الشاعر الفلسطيني المعروف تميم البرغوثيقصيدته الأعظم في رثاء السنوار، وتلك قصيدة من بديع الكلام والنظم، وتحتاج وقفاتووقفات، ولا قليل عليها إذا أقيمت لها مجالس الشروح والحواشي، أتركها هنا، تحينالفرصة قادمة إن شاء الله..

قال تميم:

ألا كم كريم عده الدهر مجرما .. فلماقضى، صلى عليه وسلما

أبو القاسم المنفي عن دار أهله ..وموسى بن عمران وعيسى بن مريما

أتعرف دينا لم يُسَمَّ جريمةً .. إذاضبط القاضي بها المرءَ أُعْدِما

صليبٌ، وقتل في الفراش، وعسكر .. بمصر،وأخدود بنجران أضرما

وطفل وديع بين أحضان أمه .. يراوغ جيشافي البلاد عرمرما

وقلَّ نبيٌّ لم تلاحقه شرطة ..وأشباهها في كل دهر تصرما

فمن جوهر التوحيد نفي ألوهة الـ ..ملوك، لذا لا زال دينا محرما

وفرعون والنمرود لم يتغيرا .. بقرنيْنأو ربطات عنق تهندما

ونحن -لعمري- نحن منذ بداية الـ ..خليقة، يا أحبابنا، وهما هما

 

مُسَيَّرة في شرفة البيت صادفت ..جريحا وحيدا يكتسي شطره دما

قد انقطعت يمناه وارتض رأسه .. فشدَّضمادا دونه وتعمما

وأمسك باليسرى عصا كي يردها .. فكانتذبابا كلما ذُبَّ حَوَّما

وما أرسلت إلا لأن كتيبة .. من الجندخافت نصف بيت مهدما

وقد وجدوه جالسا في انتظاره .. أظن -ومنتأخيرهم متبرما

 

ولو صوَّرت تحت اللثام لصوَّرت .. فتىساخرا ردَّ العبوس تبسما

تلثم كي لا يعرفوه لأنهم .. إذا عرفوهفضَّلوا الأسر ربما

ولو أسروه، قايضوه بعمره .. لذاك رأىخوض المنية أحزما

 

فلم يتلثم كي يصون حياته .. ولكن لزهدفي الحياة تلثما

فقل في قناع لم يلف لسلامة .. ولكنشعارا في الحروب ومعلما

وقل في جموع أحجمت خوف واحد .. وفيجالس نحو المشاة تقدما

 

أتى كل شيء كي يسوء عدوه .. ولم يأتشيئا في الحياة ليسلما

رمى بالعصا جيش العدو وصية .. لمن عندهغير العصي وما رمى

رمى بالعصا لم يبق في اليد غيرها ..ومن في يديه العسكر المجر أحجما

غدا مضرب الأمثال منذ رمى بها .. لكلفتى يحمي سواه وما احتمى

جلوسا على الكرسي مثل خليفة .. يبايعهأهلوه في الأرض والسما

فذلك عرش يرتضيه ذو النهى .. وذاك إمامقبلة السعد يمّما

 

هنا يصبح الإنسان دينا مجردا .. ويصبحدين الناس شخصا مجسما

أتعرف إن الموت راوية الفتى .. يقوللحقٍّ أم لباطل انتمى

يعيشالفتى مهما تكلم ساكتا .. فإن مات أفضى موته فتكلما

الموقع الذياستشهد فيه يحيى السنوار يعرف بحي "تل السلطان" في مدينة رفح.

4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2024 09:16